إهداء
1 - الذكرى الأولى
2 - الذكرى الثانية
3 - الذكرى الثالثة
4 - الذكرى الرابعة
5 - الذكرى الخامسة
6 - الذكرى السادسة
7 - الذكرى السابعة
8 - فتاة الجبال
9 - الذكرى الأخيرة
إهداء
1 - الذكرى الأولى
2 - الذكرى الثانية
3 - الذكرى الثالثة
4 - الذكرى الرابعة
5 - الذكرى الخامسة
6 - الذكرى السادسة
7 - الذكرى السابعة
8 - فتاة الجبال
9 - الذكرى الأخيرة
ابتسامات ودموع
ابتسامات ودموع
أو الحب الألماني
تأليف
فريدريخ مكس مولر
ترجمة
مي زيادة
إهداء
إلى العينين اللتين أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما. إلى الابتسامة التي لا أعرف منها إلا خيالها. إلى الاسم العذب الذي لا تهمس به شفتاي دون أن تملأ عيني الدموع. إلى الطفل الذي رحل إلى خالقه ويتم في عاطفة الحب الأخوي فحرمني من حنو الأخ وقبلته وابتسامته ودمعته: إلى أخي الوحيد الذي تقاسمه الأثير والثرى.
مي
مقدمة
بقلم مي
أراني راغبة في تقديم الطبعة الجديدة بكلمة تشير إلى كيفية تعريب هذا الكتاب، وتوضح السبب الذي حملني على استبدال اسمه الأصلي «الحب الألماني»
Deutsche Liebe
باسم «ابتسامات ودموع» الذي عرف به لدى قراء العربية. وأن أشرح ما يتناول هذه الطبعة من تغير يبدو في كل جملة تقريبا، ومن زيادة أتيت بها في صفحات كثيرة من أغلب الفصول.
على أني لا أكاد أذكر الترجمة الأولى إلا ويأخذ محيطي بالتلاشي، ويسقط القلم من يدي لأحدق في الصحيفة البيضاء كأنها آلة سحرية تستهوي الوسيط وتسطو عليه أسرارها. ولا يطول حتى تنتقش عليها صورة المكان الذي أظلتني يومذاك سماؤه ودوت حولي أصواته. هاك حفيف الأوراق، وتصفيق الأجنحة، وتغريد الأطيار على الغصون. ألا فاصغ إلى وقع أقدام السائرين في الطرق الحمراء الضيقة المتلوية بين أشجار الصنوبر صعودا إلى قمة أشرفت على المرتفعات والمنخفضات يسرة ويمنة، شرقا وغربا. وانظر جانبا إلى صنين وقد أثقلت ذروته ثلوج حولها انعكاس الأشعة ثغرا نورانيا يسر إلى صدر الفضاء بما توصله إليه أصداء الغبراء من شكاية وتأوه. تنبثق من جانبه سلسلة آكام تتساند مستديرة، مستطيلة، ناشزة، وتظل في انتقاص وتصاغر على انسجام وحسن دراية حتى تسجد بواقي الصخور منها على الشاطئ. كأن أعالي صنين أنفذتها برسالة إلى البحر لتعود بالجواب عليها . والبحر، آه! ترى ماذا يقول ذلك الأزرق الأفيح المائج بهدوء ودلال، كأنه أرجوحة الأثير تهزها أيادي آلهة الهواء لتنوم فيها طفلا عجيبا دهشت بجماله السماوات وافتتنت الأرضين بغرامه؟
نعم، ها أنا ذا في ظهور الشوير بلبنان، ذلك المصيف الهنيء. نحن في صميم القيظ وقد تقاطر المصطافون حتى ضاقت بهم المنازل والفنادق. والجماعات التي تباينت أفرادها علما وتهذيبا وارتقاء، وتنافرت عادات ومشارب وأطماعا، ها هي تعيش تحت سقف واحد، وتتبع في أمور جمة نظاما فردا وضع لضيوف النزل جميعا. ومن هذا الاجتماع بالغرباء، ومحاذاتهم أياما وأسابيع وشهورا، والجلوس وإياهم حول مائدة واحدة مرة بعد مرة، وحدة تنشأ وتتثبت بالتكرار، فضلا عن خبرة موفورة لدرس أخلاق الناس، وتمرين ميسور في أساليب المعاملة والإرضاء.
بيد أني بعد الأحاديث المسلية والضحك والائتناس أظل شاعرة بفراغ واسع، أظل متسائلة ماذا يعرف أولئك المتنادمون المتسامرون المغتابون، بعضهم من بعض، أظل تائقة إلى الوحدة والاختلاء تحت أشجار الحرج الصغير. لذلك سعيت في أن يبنى لي هذا الكوخ الضيق من خشب الغصون ويسقف بالأعشاب اليابسة، وليس في داخله من حطام الدنيا سوى مقعد وطاولة نضدت عليها كتب قليلة. وإنما دعي كوخي «الكوخ الأخضر» لأني جللت جدرانه من الداخل بنسيج أخضر. عدا عن أفنان مخضوضبة حنت عليه، وخضرة غضة أحدقت به من كل جانب. هنا تعرفت بمكس مولر وبكتابه الجميل. تعرفت به في الخلوة لأن الأرواح الكبيرة تنكمش في المحافل العادية ولا تتجلى إلا في العزلة لمن كان على استعداد لتلقي فيض بهائها.
كنت شرعت أدرس الألمانية في القاهرة إبان الشتاء ولم ينلني منها سوى عشرين درسا أو أكثر قليلا. ولما تزودت بالكتب قبيل الرحيل أضفت إلى حقيبتي كتابا ألمانيا لا غير، هو «الحب الألماني» هذا. وقد وقع عليه اختياري لأن السيدة البروسية التي تتلمذت لها ذكرته ممتدحة أسلوب مكس مولر المشبع فكرا ومعرفة على سهولته ورشاقته. ونسبت هذه الرشاقة وتلك السهولة إلى كون المؤلف شاعرا بفطرته ووراثته رغم اشتهاره بالعلم والبحث، وإلى كونه إنجليزيا بوالدته كما صار بعدئذ إنجليزيا بزوجته وباستيطانه إنجلترا أعواما طوالا، فكان له من إجادة اللغة الإنجليزية ومعالجتها والتأليف فيها مساعد قوي في تجريد جملته الألمانية من التطويل والصعوبة والإبهام الملازم لها غالبا عند كتاب الألمان، لا سيما العلماء والفلاسفة.
أنشأت أتصفح الكتاب في عزلة «الكوخ الأخضر» ولم أفرغ من الفصل الأول حتى تملكتني روحه الشعرية الفلسفية وأرهفت ذهني، فتمكنت من الإحاطة بالمعنى العام وإن فاتني من معنى المفردات كثير. وما أتيت عليه إلا وعدت أراجع قراءته مرات حتى ابتهجت بمحاسنه نفسي المنفردة. وعلى قصر باعي بالعربية التي كنت نشرت فيها مقالات قلائل، ومع أني لم يكن لدي معجم ألماني، استعنت بالقلم والقرطاس لأرسم بلغتي تلك الخطوط البديعة، ولو كان لي مقدرة مكس مولر الفكرية والإنشائية لما أفصحت عن حركات النفس بسواها. وقد قال لي أحد الأدباء عندما نشرت «ابتسامات ودموع» في ذيل «المحروسة» في الشتاء التالي، قال: «أسائل ذاتي ساعة أقرأ ذيل «المحروسة» أأنت ناقلة مكس مولر إلى العربية أم هو ناقلك إلى الألمانية؟» في هذه الكلمة، التي تخال تملقا للوهلة الأولى، حقيقة أولية هي كل قوة الكاتب الوجداني الذي إنما نحكم له بالتفوق لأنه أحسن التعبير، ليس عما يشعر به هو الكاتب، بل عما نشعر به نحن القراء. وكيف لا نحكم له بذلك وهو الغريب الجاهل أسرار قلوبنا قد اطلع على خفايانا وبسطها لنا وللعالمين. وكتاب «ابتسامات ودموع» من هذا القبيل آية سحر وبراعة، لا يقصر على الوصف، بل هو مهبط وحي للنفوس الحساسة. •••
كان ذلك في صيف 1911 وبي تيقظ الفتاة الأول، واستفسارها الصامت إزاء المسائل الكونية والعمرانية والروحية، وإعجابها المنتبه المتحفز للاهتمام والتحمس، وبي كذلك خجلها وحيرتها وترددها.
وكنت كئيبة. كنت أكتئب لغير سبب، وأكتئب للعوامل الدافعة بالاجتماع، الشاغلة أفراده ليلا ونهارا. حتى إذا احتميت بحمى الطبيعة وألقيت عليها اتكال روحي رافقت الكآبة حبي واتكالي. الكآبة خاتمة شعور الإنسان إزاء الجمال والقباحة، والخير والشر، والعدل والظلم، والكره والحب، والفوز والخذلان. إليها تنتهي حركات التأثر في جميع حظائر النفس كأن لا شيء وراءها سوى المبهم والمجهول والظلام الدامس. أهي ناتجة عن شعور المرء بضعفه حيال قوة العالم، وبعجزه عن تحويل الأشياء عن مجراها؟ قد يكون. ولكن الواقع أن التنهد والامتثال نهاية كل عاطفة وكل فكر، كما أن كل عمر بشري يختم بإرسال الزفرة وإسبال الجفون.
كنت قبلئذ أسير لا ألوي على شيء، إن وقعت عيني على شخص، أو طرق سمعي موضوع نظرت في هذا وذاك نظرة استخبار سطحي. أما هناك فطفقت ألقي على نفسي أسئلة منطلقة من جهلي المتعطش إلى الارتواء؛ من أنا؟ ما هو موقفي في الدنيا؟ لماذا تزعجني بعض الأحاديث، وتسخطني بعض الوجوه، في حين أرتاح لأحاديث أخرى وتجذبني وجوه غيرها؟ لماذا أحب هذه ولا أحب تلك؟ لماذا ينفث هذا في روعي وجوب احترامه فأسعد بتوجيه عاطفة جليلة إلى موضوع يليق بها، بينا ذاك الآخر لا يلهمني غير الهزء والامتهان؟ لماذا يفرحني الناس وأفرحهم؟ لماذا يؤلمني الناس وأؤلمهم؟ ومن أين لي ولهم هذه القدرة العميقة النافذة؟ أسئلة نقضي العمر ناشدين عنها أجوبة ولا نفوز قبل الموت بالجواب الشافي. وهكذا صار كوخي الأخضر سجنا اختياريا، وشرفته نافذة مفتوحة على ميدان العجائب والغرائب، وقد تسنى لي أن أستعرضها وأتفحصها بفكري سائلة عن ماهيتها دون أن يكون ثمة سامع أو مجيب.
الفكر! ما أجذب الفكر إذا هو مزج بطلاوة العاطفة وخيمت عليه أوشحة الخيال! عشت السنوات الأولى من حياتي دون تفكير، وها قد غدا الجناح الملون بألوان قوس السحاب يضرب جبهتي ليفسح له فيها، وكرا فصار كل موضوع، وكل شخص وكل مشهد طبيعي، ينفحني بتأملات زرقاء، وردية، ذهبية، فضية، رمادية تحوم حولي تارة، وطورا تجثم في متعاونة مع ما في الكتاب على إيصالي إلى روح الإنسانية، فأكاد أسمع دقات قلبها وصدى أنينها فأدرك أنها شقية بجهلها واضطرابها وهمومها، وأنه قدر على المختارين من بنيها أن يتألموا أضعافا لأنهم السابقون إلى مقاتلة المجهول، وكجميع الطلائع يتلقون ضربات المصادرة والمقاومة، فلا تضعف عزائمهم، ولا تكل أقدامهم، ويثابرون على تلمس السبيل في حالك الظلمات، ويسيرون إلى الأمام حاملين غنيمة الجهود الإنسانية والثقة بتحقيق الآمال. •••
والطبيعة! يا لاستهواء الطبيعة وقد انتشرت الأشجار والصخور على الجبال والوهاد فرقصت هناك الأشعة وانسلت هنالك الأظلال! يا لخشوعها وقد تجمعت منازل القرى حول قبة الأجراس المنتصبة كالمسلة، بل هي قامت في الوسط ككاهن مد يمينه نحو العلاء مبتهلا وجثت حوله الرعية خاضعة ضارعة! يا لبراعة الطبيعة بالتنوع في لبناني الجميل! لقد تصرفت بجميع فنون الجمال فهي منه كل يوم في حلة جديدة وهيئة طريفة. فساعة تغرق الكائنات جميعا في أوقيانس ضياء يبهر الأنظار ويذهل العقول، وساعة تزحف كتائب الضباب المتراصة من أطراف البحار وتهجم فيالق السحب المتكاثفة من أقاصي الآفاق فتكتسح ما قام أمامها وتبسط رواقها الرمادي، كأن العالم في دوره السديمي. ويعتدل النور والحرارة يوما، ويبرز روح التيقظ والكتمان فتصبح ألياف كل نبت، وكل قطرة ماء، وكل ذرة هواء، شاعرة بسر الوجود الخطير، تؤيد بحركتها اللطيفة ضرورة مساعدتها وحقيقة كيانها، ويخال الهواء حساسا كقلب الولهان داويا كالنحاس المجوف. وآنا تبدو خطوط الموجودات ونبرات الأصوات بوضوح غير عادي، وتنمو روعة الأشياء كأنها كبرت واتسعت وربضت في مجاهلها الأهوال باتفاق فجائي بين آلهة القدر، فيتولاني افتتان، به ينقلب الزمن والمسافة سائلا متحركا أو عبابا متموجا يحملني تياره إلى حيث لا أدري من عوالم الخيال؛ شأن الحياة بالإنسانية الضعيفة الساذجة، الإنسانية التي تجهل الغرض من تحركها ووجودها ولا تفتأ تذوب شوقا إلى بلوغ غاية تزعم الإحاطة بها وهي في الواقع لا تعلم ما هي!
وكم خلت القوة الحيوية غبارا ذهبيا أو سيالا أثيريا منبعثا من البحر والجبال والكائنات جميعا، وكم عبدت الطبيعة عبادة حارة خاشعة كعبادة المتدينين والشعراء والمتيمين، أولئك الذين يقدسون الحياة خارجا عن أشخاصهم ومحصورة في إله، أو رمز، أو إنسان، وكم ملأت الدموع عيني شكرا للحياة، شكرا للطبيعة، شكرا لجميع الموجودات، شكرا لهذا الكتاب الذي تتهادى بين سطوره خيالات اليأس والأمل والبكاء والابتسام والحب والموت واللانهاية.
أظنني قلت في مطلع الكلام أن القلم سقط من يدي، وكان ذلك وهما. ها هو القلم يجري على الصحائف قليلا قليلا مستحضرا تلك الساعات تباعا كما تتعاقب الصور المتحركة على غطاء المسرح، وما الألفاظ سوى رسوم إيمائية لحقيقتها. غير أن النفس تدخرها ككنوز ثمينة لأنها كبيرة الشأن في تطوري الروحي والفكري. «الحب الألماني» كلا، ليس هذا الكتاب حبا ألمانيا فقط بل هو خلاصة بسمات الإنسان وعبراته، فسميته «ابتسامات ودموع»، فإن كان ذلك تزييفا لفكرة المؤلف الواجب احترامها على كل مترجم، فهو صادق من حيث اقتناعي الخاص، أمين للصورة التي ارتسمت منه في نفسي. •••
انتشر الكتيب وكادت نسخه تنفد منذ ثلاثة أو أربعة أعوام فحال دون طبعه اعتقادي بوجوب إعادة الترجمة، لأني وإن رأيت بسرور أني ألممت بروح الكتاب إلماما يكاد يكون تاما إلا أنه كان يخجلني ويسوءني معا أني أهملت طائفة من الأفكار الجميلة والمعاني الرائقة التي لا يجوز الإغضاء عنها.
والآن أهدي إليك، أيها القارئ، هذه الطبعة الجديدة. لقد تقيدت بالأصل معنى وتعبيرا محاولة إبرازه إلى العربية بصيغته الشعرية البسيطة خاليا من الاستعارة الغريبة والتنميق الشرقي. والألفاظ التي أكثر المؤلف من استعمالها مثل «حاولت» و«خيل إلي» و«ظننت» و«روحي» و«نفسي» و«قلبي»، جميع هذه الألفاظ وغيرها وضعتها في أماكنها لأنها ضرورية للغة التذكار.
وستحب هذا الكتاب سواء أكنت معلما أو متعلما، فيلسوفا أو شاعرا، سياسيا أو تاجرا، سعيدا أو شقيا، كبيرا أو صغيرا. ستحيا فيه وبه كما حييت. ستنمو به وتتوحد وإياه حينا فينتزعك من ميدان المزاحمة والمنافسة والحقد والتهكم والحسد والإجهاد. ستتوحد وإياه مستدعيا ماضيك، أو مفكرا في حاضرك، أو مترقبا مستقبلك. أو هو يمثل لك فصولا من ماضيك وحاضرك ومستقبلك جميعا في آن واحد، كائنا عمرك ما كان، لأن العواطف لا تفنى والقلب لا تدركه الشيخوخة. بل يسير جامعا من يأسه وآلامه وانتصاره واندحاره خبرة وقوة توصلانه إلى سبل جديدة ومعارف مطلوبة. وحسبه أن ينبه فيك الذكريات الحلوة المرة من مباغتات الحب والحياة والموت والابتسامات والدموع، وهي إرث بني الإنسان أجمعين.
العلامة اللغوي مكس مولر
المقتطف
عدد تشرين الثاني /نوفمبر، سنة 1900
فريدريخ مكس مولر.
كان «مكس مولر» عالما من شيوخ العلماء وأستاذا جليل الشأن طبقت شهرته الخافقين وكان له اليد الطولى في وضع علم اللغات وتسهيل الاطلاع على عقائد الأمم الشرقية. وهو ألماني المولد إنكليزي الموطن ولد بدساو من دوقية انهلت سنة 1823 وأبوه شاعر ألماني أورثه قريحته ومخيلته فامتاز من صغره بالذكاء وسرعة الخاطر وقوة الخيال حتى يكاد نثره يكون شعرا لما فيه من الصور الخيالية. وقد قال في هذا الصدد: «إني ابن شاعر وقد بذلت جهدي العمر كله لكي لا أكون شاعرا.» لكن الطبيعة لا تغلب ولله در من قال:
وأسرع مفعول فعلت تغيرا
تكلف شيء في طباعك ضده
وكيف تغلب وقد ربي على ما ينميها ويقويها فقد كان بيت أبيه ناديا لرجال الأدب من الشعراء والمغنين حتى إنه علق صناعة الغناء وصار غرضه الأكبر أن يصير من كبار الموسيقيين وبقي على حبه لها العمر كله. درس في ليبسك وبرلين وباريس وامتاز وهو في كلية برلين بالاجتهاد وسرعة التحصيل وذهب مذهب «كنت» الفيلسوف الألماني ولم يمل عنه. ثم مال إلى درس اللغات الشرقية فنال منها النصيب الأوفر وبرع في السنسكريتية والفارسية وترجم الهيتوبادسا (كتاب قصص الهنود) من السنسكريتية ونشرها وهو في العشرين من عمره. ثم انتقل إلى باريس ودرس على العلامة المستشرق الأستاذ «إيجن برنوف» ولم يكن على سعة من العيش لكن كان من حسن بخته أن صادقه البارون «بنصن» العالم الكبير فمد إليه يد المساعدة وكتب عنه إلى الأرتشديكن كارل الإنكليزي يقول:
لقد أوصاني بعض ذوي المقامات العليا بشاب عمره اثنتان وعشرون سنة له مقام كبير في عيني شلنغ (فيلسوف ألماني) أشهر نفسه بترجمته الهيتوبادسا من السنسكريت، وهو واسع الاطلاع بارع في كل شيء، ويود أن يقيم في إنكلترا بضع سنوات، وهو ابن الشاعر اللغوي المشهور «وليم مولر» الذي أعلمه من أمره أنه رائع الآداب رزين العقل.
ويقال إن أعظم اكتشاف اكتشفه البارون «بنصن» لفائدة اللغات الشرقية هو اكتشافه «مكس مولر». وقد ساعده البارون «بنصن» والأستاذ «ولسن » على الشروع في العمل الذي بقي عاكفا عليه إلى أن أدركته الوفاة فوكلت إليه شركة الهند الشرقية ترجمة «الرغ فيدا» كتاب ترانيم البراهمة وهو أساس الآداب السنسكريتية. وقال له «بنصن» حينئذ: «لقد وكلت بعمل يكفيك العمر كله قطعة كبيرة لا تنحت ولا تصقل إلا في سنوات كثيرة، لكن لا بد لك من أن تعطينا نتفا منها من وقت إلى آخر.» فجعلت هذه النتف تنهال من قلمه كالمطر. وبقى عشرين سنة في تحرير «الرغ فيدا» لكنه لم يقتصر عليه بل اشتغل بمواضيع كثيرة وبرع فيها كلها، فدرس اللغة الإنكليزية وصار من البلغاء فيها كلاما وإنشاء، وله الخطب الرنانة التي كان الناس يتقاطرون لاستماعها، ولو كانت في أعوص المواضيع اللغوية والفلسفية، لبلاغة عبارتها وسهولة مأخذها. والكتب الكثيرة التي أعيد طبعها مرارا لرغبة الناس فيها. ومن هذه الكتب: «لغات دار الحرب» (أي بلاد الهند) طبعه سنة 1854، و«عقائد الأمم» طبعه سنة 1856، و«تاريخ الآداب السنسكريتية» طبعه سنة 1859، و«خطب في علم اللغات» طبعها بين سنة 1861 و1863، و«خطب في علم الدين» طبعها سنة 1870، وكتاب النتف في أربعة مجلدات طبعت بين سنة 1868 و1875، وخطب في أصل الدين ونحوه طبعت سنة 1878، ومقالات مختارة طبعت سنة 1881، ومقالات في ترجمات المشاهير من أصدقائه ومن معلمي بلاد الهند طبعت سنة 1883، وكتاب في الدين الطبيعي طبع سنة 1889. وحرر «الرغ فيدا» في ستة مجلدات كبيرة فيها ثمانية آلاف صفحة متنا وشرحا، وقد فحصه سبع مئة من البراهمة فحكموا أنه أفضل نسخة وأصلحوا نسخهم عليه. وحرر كتب المشرق الدينية وهي خمسون مجلدا. وله غير ذلك من الكتب والمقالات ومن آخر مقالاته مقالة في أديان أهالي الصين نشرت في جزء شهر (نوفمبر سنة 1900) من مجلة القرن التاسع عشر.
وحالما ظهرت مقدرته في علم اللغات اختير أستاذا فيه، في مدرسة أكسفورد الجامعة، فأقام فيها نحو خمسين سنة. ولبعض العلماء مثل هكسلي وتندل وفوستر مقدرة فائقة على بسط المواضيع العلمية وهم يخطبون فيها حتى ترى الناس يتقاطرون إلى نوادي الخطابة عن طيب نفس ولو كان الموضوع من المسائل الطبيعية العويصة، فجرى مكس مولر مجراهم وبلغ الطبقة العليا بينهم، فكان يخطب في علم اللغات وقد لا يقول شيئا جديدا أو شيئا لم يذكره أحد قبله، ولكنه كان يفصح عنه على أسلوب يختلب الألباب لم يسبقه أحد إليه حتى ذاع اسمه في البلاد الإنكليزية كلها وصارت خطبه من المواضيع التي يتحدث الناس بها في مجتمعاتهم وولائمهم وذهب كثير من أقواله أمثالا.
ولم تكن آراؤه كلها مما يقوى على النقد والتمحيص ولا لقي الطاعة العمياء من معاصريه والتسليم التام لمقدماته ونتائجه، بل لقي من علماء عصره كل منتقد عنيد كما ترى في ما ذكرناه في المجلد السادس عن رأيه في أصل اللغات وانتقاد الأستاذ «هوتني» عليه. وكذا مذهبه في اشتقاق الشعوب الأوربية من الشعوب الآرية وتولد الأوروبيين والهنود من أصل واحد ومهاجرة الأوروبيين إلى أوروبا من قلب آسيا، فإن كثيرين من نخبة العلماء يخالفونه الآن في هذا المذهب. ويقال بنوع عام إنه كان متطرفا في مذاهبه متسرعا في أحكامه، لكن لا ينكر أحد أن علم اللغات (الفيلولوجيا) الذي وضعه الأستاذ بوب سنة 1835 لم يوسعه أحد مثل تلميذه «مكس مولر». وكتابه في «عقائد الأمم» لا يخلو من آراء غير سديدة ولكنه هدى العلماء إلى مكتشفات عديدة في هذا الموضوع وأوضح كثيرا من الغوامض بذكاء عقله وقوة بداهته.
ولا شبهة عندنا في أنه وسع نطاق علم اللغات ورغب الناس في درسه وعلم الأوروبيين والمشارقة أنفسهم كثيرا مما لم يكونوا يعلمونه من تاريخ لغاتهم ومعتقداتهم، ولكننا نرتاب كثيرا في أن ذلك أفاد سكان المشرق سياسيا؛ فقد بذل جهده مدة خمسين سنة ليقنع الإنكليز أن الهنود أبناء أعمامهم، لكن هذا لم يغير رأي الإنكليز في الهنود ولا أفاد الهنود مثقال ذرة. ومن لا يقنعه قول الكتاب أن الناس كلهم من أب واحد وأم واحدة لا تقنعه آراء العلماء وأقوال الفلاسفة.
وكان رضي الأخلاق كثير الأصدقاء يقصده الزوار من أقطار المسكونة ويكاتبه الناس بلغات شتى. اختار إنكلترا وطنا له لكن حب ألمانيا وطنه الأصلي لم يهجر فؤاده، فلما نشبت الحرب بين فرنسا وألمانيا سنة 1870 نشر خمس مقالات في جريدة التيمس دافع فيها عن سياسة «بسمارك» وأقام الأدلة على أنه كان يقصد بها السلم لا الحرب. وبقي العمر كله عالما ألمانيا بين العلماء الإنكليز. وقد بذل الإنكليز جهدهم في إكرام مثواه وخلقوا له منصب أستاذية اللغات الأجنبية خلقة لكي لا يحرموا فوائده ولا يدعوه يهجر بلادهم. ثم أبدلوها بأستاذية علم اللغات (الفيلولوجيا). ولما كثرت أشغاله وود أن يعفى من هذا المنصب لأنه لم يعد قادرا على القيام به عينت المدرسة أستاذا آخر نائبا عنه يقوم بأعبائه وأبقت الأستاذية له. ولكن لما خلت كرسي أستاذ السنسكريت وترشح لها هو والأستاذ الإنكليزي «مونير وليمس» فضل المنتخبون «مونير وليمس» عليه، لا لأنه أكفى منه لهذا المنصب بل لأنه إنكليزي و«مكس مولر» ألماني، فاستاء من ذلك لكنه لم يحقد على الذين فضلوا غيره عليه. وود مرارا أن يترك أكسفورد، وأما أكسفورد فلم تتركه، وقد أكرمته كما أكرمت أشهر تلامذتها وأعظم أساتذتها، وكان الصلة المتينة بينها وبين علماء أوروبا ولا سيما علماء ألمانيا حتى إن إمبراطور ألمانيا كان يبعث إليه بتلغراف التهنئة كلما فازت أكسفورد في سباق أو نحوه.
توفي في الثامن والعشرين من أكتوبر سنة 1900 في بيته بأكسفورد على أثر مرض عقام في كبده، واحتفل بدفنه في غرة نوفمبر/تشرين الثاني وحضر الاحتفال الجنرال «غودفراي كلارك» من قبل جلالة الملكة، والهر «شلز ستينورتز» من قبل جلالة إمبراطور ألمانيا، وبعث الإمبراطور بإكليل فاخر من الأزهار البيضاء وضع على النعش وقد كتب عليه «لصديقي العزيز»، وبعث ملك اسوج إكليلا من الزنابق. وحضر الاحتفال أيضا ولي عهد سيام ونواب المدارس الجامعة والجمعيات العلمية.
مقدمة المؤلف
بقلم فريدريخ مكس مولر
الحرقة اللاذعة قلب من جلس إلى منضدة طالما اتكأ عليها صديق نام الآن في القبر ليستريح، ترى من لا يشعر بتلك الحرقة بعد فراق الحبيب؟ من ذا الذي لم يحاول ولو مرة فتح أبواب حفظت أسرار فؤاد يختفي اليوم وراء هدوء المدافن وجلالها؟
هذه رسائل أحبها كثيرا ذاك الذي أجمعنا القلوب على محبته. وهذه صور، وأشرطة، وكتب وضعت بين صفحاتها العلامات والرموز. من ذا الذي يستطيع الآن تقليبها ليستشف الغاية منها؟ وهل من يد سحرية تلم شمل هذه الوردة الممزقة الجافة وتنفث فيها من جديد روح الحياة وأريجها؟
كان اليونان يضعون موتاهم على فراش ناري فيلتهمها اللهيب. واعتاد الأقدمون إيداع النار كل عزيز لديهم، وإنما النار مستودع أمين لهاتيك الذخائر.
كذلك يقرأ الصديق الأسيف صحائف لم تقع عليها عين غير تلك التي أطبقت إلى الأبد. وإذ يتثبت من خلوها مما يعبأ به العالم يحملها بيد مرتجفة ويلقيها في النار، فيضم اللهيب وديعته هنيهة ولا يطول حتى ينقلب وإياها رمادا.
لقد نجت الصفحات التالية من مثل هذا المقدور. ولم يكن يراد في البدء سوى إذاعتها بين خلان الصديق الراحل. أما وقد وجدت أصدقاء بين الغرباء فهي جديرة بالانتشار في العالم الوسيع. وكان يود ناشرها إظهارها على صورة أتم إلا أن الأوراق بالية في الأصل لا يتيسر نشرها بحذافيرها.
الفصل الأول
الذكرى الأولى
للطفولة أسرار ومميزات ولكن من ذا الذي يستطيع وصفها! من ذا الذي يستطيع تعليلها، لقد اجتاز كل منا ذلك العمر الذي تشبه ذكراه ذكرى غابة هادئة مسحورة، وخبر يوما فيه فتح عينيه المملوءتين بدهشة السعادة على سناء الحياة الجديدة الفائضة في روحه. يومذاك لا ندري أين نحن ومن نحن: بل العالم كله يخصنا ونحن ملك العالم بأسره. حياة تخال دائمة بلا بداية ولا نهاية لا هم فيها ولا ألم. القلوب عندها صافية كسماء الربيع، عذبة كعرف البنفسج، مطمئنة قدسية كصباح أيام الأحد.
ماذا يطرأ على الطفل فيقلق فيه هذا السلام الإلهي، وكيف تنتهي تلك الحياة المشبعة سذاجة وطهارة؟ أي العوامل يحول معاني كيانه، ويميت فيه الشعور بالاتحاد والتضامن؟ أي العوامل يعلمه تمييز المفرد من الجمع، فينتبه ليجد نفسه في معترك الحياة وحيدا كئيبا؟
لا تقل، يا ذا الوجه العبوس، إن ذلك العامل هو الخطيئة! أو هل يجني الطفل إثما ويقترف ذنبا ؟ بل حري بك أن تعترف أننا لكل شيء جاهلون وإنه ما علينا سوى الاستسلام والامتثال.
أهي الخطيئة التي تنبت البذرة زهرة، وتنضج الزهرة ثمرة، ثم تفنى الثمرة وتذرها هباء؟
أهي الخطيئة التي تحول الحشرة دودة وتجنح الدودة فراشة، وتذر الفراشة هباء؟
أهي الخطيئة التي تسير الطفل رجلا، وتشعل منه الرأس بشيب الشيخوخة، ثم تهمد الشيخ جثة، ثم تذر الجثة هباء؟
وما هو هذا الهباء الذي تضيع فيه الصور؟ ألا فاعترف بأننا لكل شيء جاهلون وإنه ما علينا سوى الامتثال والاستسلام!
ولكنه يحلو التلفت إلى ربيع الحياة وإلقاء نظرة على هيكل التذكار، سواء أكنا من العمر في قيظ الصيف أو حزن الخريف، أو زمهرير الشتاء. بل لا بد من ساعات فيها يناجي القلب ذاته قائلا: «وأنا أيضا أشعر بالربيع متيقظا في!»
هذا ما أشعر به اليوم. وتراني مستلقيا على ندى العشب في الغابة العطرية لأريح جسمي المضني. أرفع بنظري إلى زرقة السماء البادية من خلال الوريقات الخضراء وأفكر: «ترى كيف كانت طفولتي؟»
أخالني ناسيا كل شيء لأن صفحات الذاكرة الأولى تشبه التوراة القديمة المحفوظة في العائلة أي أن أوراق الاستهلال منها ذابلة متجعدة ملوثة، ولا تتيسر القراءة إلا بعد صفحات وصفحات، عند السطور المحدثة عن طرد آدم وحواء من الفردوس.
طفولتي بعيدة العهد يفوتني كثير من حوادثها ولا أعي أيامها القصوى، أعود بأحلامي إليها، وأنتقل منها إلى الأبدية التي سبقتها، وتظل البداية المبهمة متراجعة أمامي كلما تتبعها فكري القاصر، لأن فجر الحياة يختفي في ظلمات الغفلة والحداثة. وأنا في ذلك كالطفل يبحث عن نقطة ارتكاز السماء على الأرض فيعدو حثيثا وتلبث السماء مجددة آفاقها، فيتعب الطفل وتكل قدماه ولا ينال من بغيته شيئا.
على أني ما زلت أذكر أول مرة رأيت النجوم وكانت النجوم تعرفني منذ زمن طويل. كنت في ذلك المساء على ركبتي والدتي، ورغم ذلك سرى البرد في جسدي واستولى علي الخوف، فانتبهت لذاتي الصغيرة انتباها غير عادي. ورفعت والدتي أصبعها مشيرة إلى النجوم اللامعة، فدهشت وفكرت «بأي لباقة صنعت أمي كل هذا!» وعادت الحرارة إلى جسدي وأظنني استسلمت للنوم.
وأذكر كيف اضطجعت مرة على العشب الأخضر وكل ما حولي يموج ويهتز ويطن ويهمهم، فاقتربت مني جماعة مخلوقات صغيرة مجنحة ذات أقدام متعددة وحلت على جبهتي قائلة: «نهارك سعيد.» فشعرت بألم في أجفاني وصرخت مناديا أمي، فجاءت وقالت: «يا بني المسكين، ها قد لسعتك البعوض.» ولم أتمكن من فتح عيني لأرى زرقة السماء. وكانت أمي تحمل طاقة بنفسج نضير فأحسست بالأريج المسكن ذي الزرقة القاتمة يخترق دماغي. ومنذ ذلك اليوم ما رأيت باكورة البنفسج إلا انتعشت تلك الذكرى في حافظتي فأغمض عيني لعل سماء ذاك العمر تخيم علي مرة أخرى.
شفيت، فانبسط أمامي عالم لم أعهده يفوق منه الجمال جمال الكواكب ويفضل منه العطر عطر البنفسج. وكان صباح عيد الفصح، فأيقظتني والدتي باكرا فوقفت أنظر إلى الكنيسة القديمة القائمة إزاء النافذة. لم تكن جميلة كنيسة طفولتي، إنما كانت شاهقة، جدرانها ذات منظر مهيب، باذخة قبتها يعلوها صليب مذهب، وتبدو أقدم جميع المنازل المجاورة.
ولطالما تمنيت تعرف من يسكنها فنظرت من شباك الباب الحديدي، وأطلت النظر مرة وكان الداخل خاويا خاليا رطبا وليس ثمة نفس واحدة، فصرت أفزع كلما مررت بها فأعدو طلبا للهرب.
ولكن في ذلك الصباح، صباح عيد الفصح، أمطرتنا السماء في الضحى رذاذا ثم بزغت الشمس في أبهى حلة من الأنوار فبهجت جدران الكنيسة القديمة وتألق سطحها المصفح الأشهب، ولمعت نوافذها الكبيرة، وسطعت القبة بسناء صليبها الذهبي سطوعا مدهشا تناول كل شيء منها وحواليها. وبدا النور السائل من النوافذ الكبيرة حيا متموجا وأبهى من أن يمكن التحديق فيه، فأغمضت عيني. إلا أن النور العجيب ما زال يفيض على روحي جاعلا جميع الأشياء لامعة عطرة ترن وتنشد.
خلت حياة جديدة تنبض في، كأن شخصي الأول تبدل بشخص آخر، وإذ سألت عن الأصوات الفخمة المتصاعدة من أعماق الكنيسة قالت والدتي: إن هذا نشيد الفصح. لم يتسن لي إلى اليوم معرفة ذلك النشيد الذي هبطت أنغامه على روحي ، ولا ريب أنه من تلك المزامير الرائعة التي تسربت إلى روح لوثر الصارمة. ولم أعد أسمعه مرة أخرى. أما الآن فعندما أصغي إلى موسيقى بيتهوفن أو مزامير مارسلو، أو أجواق هيندل، وأحيانا عندما أسمع الأغاني الساذجة في جبال اسكوتلندا والتيرول، أشعر بأن نوافذ كنيستي القديمة تسطع بنور باهر، وأن عالما جديدا ينفتح أمامي من عالم الكواكب وأعذب من عرف البنفسج.
هذا ما علق بذهني من تذكارات طفولتي يتخللها وجه أمي الحنونة وعينا أبي العميقتان، وحدائق وأشجار أعشاب مخملية الخضرة، ودالية تحمل العناقيد الناضجة، وكتاب جليل حافل بالصور الملونة، التوراة. هذا كل ما أميزه على الصفحات الأولى من ذاكرتي الذابلة.
لكن ما يعقبه واضح جلي. أرى ملامح الوجوه التي اعتدت مشاهدتها وأنادي أصحاب هذه الوجوه بأسمائهم: أبي وأمي، وأخواتي وإخوتي، والأصدقاء والمعارف والمعلمون وبعض الغرباء ...
أواه! يا لحلاوة تذكار تركه الغرباء في فؤادي! ويا لعمق موضع روحي نقشت فيه أسماؤهم!
الفصل الثاني
الذكرى الثانية
كان على مقربة من بيتنا وإزاء الكنيسة ذات الصليب المذهب بناية شاهقة تعلوها قبب كثيرة. عظمت حتى صغرت حيالها بناية الكنيسة ذاتها. وكانت قببها شهباء قديمة كقبب الكنيسة، إنما لم تظهر فوقها الصلبان المذهبة، بل قامت على الجوانح نسور حجرية وخفقت راية زرقاء على القبة العليا المطلة على المدخل، وقد امتد أمامه سلم يمنة وآخر يسرة ووقف جندي يحرس كلا منهما.
نوافذ المنزل عديدة تجللها من الداخل الحرائر القرمزية تتدلى منها الطرر الذهبية. وأشجار الليمون المنتصبة في الساحة الفيحاء تغطي الجدران بوريقاتها الغضة وتنشر على العشب أريج أزهارها.
كثيرا ما كنت أرفع عيني إلى هناك عند المساء إذ تطلق أشجار الليمون أعذب أنفاسها وترسل النوافذ أبهى أنوارها فأرى خيالات تجيء وتروح، وأسمع أنغام الموسيقى مترددة من أعالي القصر. ثم تمر المركبات إلى القصر فيرتجل الرجال والنساء ويصعدون على الدرجات وعلى وجوههم سيماء الصلاح والنبل، بينا نجوم الأوسمة تشع على صدور الرجال والورود والرياحين ترقص بين شعور النساء، فأفكر في بساطتي: «لماذا لا أذهب أنا كذلك؟»
أخذني والدي بيدي يوما وقال: «ها نحن ذاهبان إلى القصر، فتأدب. وإذا كلمتك الأميرة أجب باحتشام وقبل يدها.» وكنت في عامي السادس ففرحت فرح أهل هذا العمر. وكنت أسمع الثناء الكثير على أخلاق الأمير والأميرة صاحبي القصر وما فطرا عليه من ميل إلى الإحسان وعطف على الفقراء، فضلا عن عدل وإنصاف بهما يمثلان الله تعالى على الأرض في معاقبة الأشرار والمعتدين. فحسبتني أعرفهما، وحسبتهما نظير الصورة التي وضعتها لهما مخيلتي. بل هما كانا من معارفي القدماء لا كلفة بيننا ولا تكلف كأنهما بعض ألاعيبي وجنودي الخشبية.
صعدت في السلم وقلبي يدق بسرعة. وأخذ أبي يوصيني أن أقول «سموك» في مخاطبة الأميرة. ففتحت الأبواب ورأيت أمامي امرأة طويلة القامة ذات عينين براقتين نافذتين، تخال آتية توا إلي تمد يدها لأضع فيها يدي. ولملامحها هيئة ألفها ذهني ونصف ابتسامة محجوبة تلعب حول ثغرها بلطف، فلم أتمكن من ضبط نفسي. وفي حين ظل أبي واقفا قرب الباب ينحني (لا أدري لماذا؟) انحناء عميقا خففت أنا إلى السيدة الجميلة وقلبي يقفز إلى شفتي، ثم طوقت عنقها بذراعي وقبلتها كما أقبل والدتي، فظهر الارتياح على وجهها وداعبت شعري ضاحكة. إلا أن أبي مسك بيدي ودفعني بجفاء قائلا أني صبي شرير وأني لن أرافقه مرة أخرى. فأخذتني الحيرة وصعد الدم إلى وجنتي وشعرت بسهم يخترق فؤادي الصغير وأن أبي يظلمني. نظرت إلى الأميرة أستمد دفاعا فلم أر في محياها غير الرصانة واللطف. وأدرت ببصري في القاعة ومن فيها من رجال ونساء لعلي أجد من يشاركني في ألمي فإذا بهم جميعا يضحكون، فهطلت الدموع من عيني وسرت نحو الباب وهبطت السلم مسرعا تحت أشجار الليمون حتى وصلت المنزل والتقيت بأمي، فرميت بنفسي بين ذراعيها والشهيق يقطع صدري.
فقالت: «ماذا جرى لك يا بني؟»
قلت: «آه لو تعلمين! ذهبت إلى الأميرة فوجدتها جميلة لطيفة مثلك يا أماه فلم أتمالك أن طوقت عنقها بذراعي وقبلت وجنتيها.»
فقالت: «وكيف فعلت! هؤلاء الناس أشراف أماثل وهم غرباء عنا.»
قلت: «ماذا يهمني كونهم غرباء ؟ أليس لي أن أحب كل من نظر إلي بعينين معسولتين باسمتين؟»
قالت: «لك أن تحب من تشاء يا بني. ولكن عليك أن تكتم حبك ولا تظهر منه شيئا.»
قلت: «إن لم يكن حب الغرباء جريمة فلماذا يحظر علي إظهاره؟!»
فتنهدت أمي وقالت: «إنك لمصيب يا بني. لكن عليك أن تطيع والدك. وعندما تكبر سنا وفهما تعلم لماذا لا يجوز أن تطوق عنق كل سيدة جميلة ذات عينين جذابتين.»
وكان ذلك اليوم كئيبا. عاد أبي إلى البيت وكرر أني أسأت التصرف. وفي المساء سارت بي أمي إلى سريري فجثوت وصليت. غير أني لم أنم إلا بعد أرق طويل متسائلا: من هم الغرباء الذين لا تجوز محبتهم؟
وا لوعتاه عليك يا قلب الإنسان! إن أوراقك لتجف في ربيع أيامك والريش يتساقط عن جناحيك قبل الأوان. عندما يبزغ فجر الحياة في أفق النفس ينتشر فيه عبير الحب. نحن نتعلم السير والوقوف والكلام والقراءة لكننا لا نتعلم الحب، لأن الحب جوهر الروح وجميع قوى الروح تناديه بأصواتها المختلفة. وقوة الحب أهم أصل غرسته الطبيعة في أعماق الكيان. فكما تجذب الأجرام السماوية بعضها بعضا بالجاذبية الأبدية كذلك تجذب الأرواح المتآلفة بعضها بعضا وترتبط الواحدة بالأخرى برباط الحب الأبدي. هيهات للزهرة أن تعيش بلا شمس وللإنسان أن يحيا حياة عظيمة بلا حب.
أليس أن قلب الطفل يكاد ينسحق انسحاقا إذ تهب عليه من الجفاء النسمات الباردة الأولى في هذا العالم الزئبقي؟ ولكن ها إن حب والديه يظل لامعا في ألحاظهم كأنوار سماوية وأشعة إلهية.
حنين الطفل أطهر أنواع الحب وأبعدها غورا وأشملها طبيعة لأنه يحتضن العالم بأسره منسكبا على كل نظرة ودودة، ويهتز لسماع كل نغمة عذبة. هو بحر عميق زاخر لا قرار له، وهو ربيع كنوز لا تقدر وخيرات لا تحصى. وكل من اختبر الحب عرف أنه لا يقاس ولا يكال ولا يوزن ولا زيادة فيه ولا نقصان، وإن الذي يحب صادقا يحب بكلية قلبه وروحه وبمجموع قواه وأفكاره.
لكن وا حسرتاه! ما أقل ما يبقى من هذا الحب بعد الوصول إلى نصف رحلة الحياة! عندما يعلم الطفل أن في العالم «غرباء» ويفهم من هم أولئك الغرباء تنتهي أيام طفولته، فيختفي ينبوع الحب وتسحقه أقدام الأعوام والاختبار. ويوم يتلاشى لمعان العين الطاهرة فتحل محله خيالات التعب والريب ينظر الإنسان إلى أخيه نظرة الغريب إلى الغريب ويتحاشى الدنو منه في الشارع المزدحم. يمر غير مسلم خوفا أن لا ترد التحية فتتوجع روحه، لأن الإنسان ذاق مرارة الهجر من أصدقاء طالما بادلهم تحية الرءوس وابتسام الشفاه ولمس الأيدي. الريش البهي يتساقط عن جناحي النفس، وتجف وريقات الزهرة منها وتتمزق، ولا يبقى من منهل الحب سوى قطرات قلائل لإرواء غليل التائه في صحراء الحياة. تلك القطرات نظل ندعوها حبا، فأين هي من حب الطفل الفياض الجواد؟
ليس ذاك سوى حب مزج بالشك والغموم ونار الانفعال المضطرم. حب يفني ذاته بذاته كقطرات المطر على الرمال الحارة. حب يطلب دواما ولا يبذل يوما. حب يسأل «أتريد أن تكون لي؟» ولا يقول «يجب أن أكون لك.» حب يستغرق نفسه، ويذيب نفسه، ويلاشي نفسه، وهو معذب يائس. هذا هو الحب الذي تترنم بوصفه الشعراء ويتوق إليه الفتيان والفتيات. شعلة تلتهب ثم تنطفئ ولا تدفئ، وتذهب تاركة بعدها الدخان والرماد. نحن نزعم يوما أن هذه الأسهم النارية إنما هي آية الحب الدائم، ولكن كلما استعرت تلك النار وعظم لهيبها الموقوت قرب خبوها وحلكت ظلمة الليل الذي يتبعها.
وساعة يسود الأفق ويدلهم حول الواحد منا فيرى نفسه وحيدا شريدا بين السائرين يمنة ويسرة دون أن يعيروه التفافا، إذن تنهض عاطفة منسية وتتمشى في صدره ذهابا وإيابا، ولا يدري أهي عاطفة حب أو عاطفة صداقة، ويود أن يصرخ لكل من أولئك الغرباء «ألا تعرفني؟»
إذ ذاك يشعر بأن الغريب أدنى إلى الغريب من الأخ إلى أخيه ومن الأب إلى ابنه ومن الصديق إلى صديقه، ويدوي في طبقات ذاكرته صوت مجهول قائلا إن هؤلاء «الغرباء» أقرب أصدقائنا وأعزهم لدينا وأحبهم عندنا.
إذن لماذا نمر بهم صامتين ؟ ذاك سر لا يدرك وما علينا سوى الامتثال. عندما يمر قطاران وأنت في أحدهما وفي الآخر وجه يود أن يبتسم لك، حاول مد يدك لمصافحة الصديق المبتعد عنك قهرا. حاول ذلك وجربه لعلك تعلم لماذا يمر الإنسان بالإنسان صامتا.
قال فيلسوف قديم: رأيت بقايا سفينة أغرقتها العاصفة عائمة على صفحة البحر. يتلامس بعضها ويتلاقى إلى حين. ثم تهب الريح فتفرقها شرقا وغربا دون أمل في اللقاء. وذاك مصير بني الإنسان في بحر الحياة، ولكن ليس بينهم من شهد غرق السفينة.
الفصل الثالث
الذكرى الثالثة
غيوم الحزن لا تبقى طويلا في جو حياة الطفل بل تتبدد بتدفقها من عينيه دموعا. لذلك عدت بعد أيام إلى القصر فأعطتني الأميرة يدها وأتيح لي تقبيلها. وجاءتني بأولادها الأمراء والأميرات فأنشأنا نتقاسم الألعاب ونتشارك في الملاهي شأن الذين يرجع عهد تعارفهم إلى سنوات خلت. تلك أيام هنيئة لأني بعد ساعات المدرسة، وكنت بدأت أذهب إلى المدرسة، كان لي أن أتوجه إلى القصر فأجتمع برفاقي وبين أيدينا ما يشتهي قلب الطفل من لعيبات ودمى كثر ما أرتنيها والدتي وراء زجاج الحوانيت الكبيرة، قائلة: إنها باهظة الثمن قد تكفي الواحدة منها لإعالة العيلة الفقيرة أسبوعا كاملا. ومثلها كتب الصور الجميلة التي أبصرت أبي يقلبها عند أصحاب المكاتب ويقول: إنها لا تشترى لغير الأولاد الصالحين. ها هي لي الآن في القصر أقرؤها وأتمعن في صفحاتها ساعات طويلات، لأن كل ما يخص الأمراء الصغار يخصني، أو بالأحرى هذا ما أزعمه. إذ لا تقصر حريتي على استعمال ذلك المتاع الصبياني عند أصحابه. بل أنا مخير في أخذ ما أريد منه إلى البيت وفي التصرف به وإهدائه إلى أولاد آخرين. وزبدة القول أني كنت اشتراكيا بأوسع معاني الكلمة.
وكانت الأميرة تلبس يوما أفعى ذهبية التفت حول زندها التفاف الحياة والإحساس، فدفعت بها إلينا لنلهو. وعند الانصراف لويت الأفعى حول ساعدي لأرعب أمي في الظلام، فلقيت في طريقي امرأة توسلت إلي أن أريها الأفعى ففعلت، فتنهدت وقالت إنها لو ملكتها لخلص بثمنها زوجها من غيابات السجن. فلم أتردد لحظة في مساعدتها، ومضيت أعدو تاركا المرأة والسوار الذهبي بين يديها.
وحدث في الغد جلبة وضوضاء إذ جيء بالمرأة إلى القصر تبكي وتنتحب وقد اتهمت بأن اغتصبتني الأفعى، فاستشطت غضبا وصرحت بتحمس وحدة: إني وهبتها السوار ولا أروم استرداده. لا أدري ماذا جرى بعدئذ. على أني صرت منذ ذلك اليوم أعرض على الأميرة كل ما أحمله معي إلى البيت.
مر زمن قبل أن تتسع أفكاري فأدرك معنى خاصتي وخاصتك. وطال اختلاط المعنيين في ذهني كما طال عجزي دون التمييز بين اللونين الأحمر والأزرق. وآخر مرة ضحك مني أصحابي لمثل ذلك، كانت يوم أعطتني والدتي نقودا لأبتاع تفاحا. أعطتني عشرين بارة وكان ثمن التفاح نصف هذه القيمة. فقالت البائعة بصوت خلته حزينا أنها لم تبع شيئا منذ الصباح وليس لديها من النقود ما ترده إلي، وتمنت أن أشتري تفاحا بعشرين بارة، فتذكرت أن في جيبي قطعة نقود أخرى من ذوات العشر بارات، وسررت أن أحل المشكل بنقدها تلك القطعة قائلا: «الآن تستطيعين أن تردي العشر بارات الباقية.» فلم تفهمني المرأة المسكينة بل أعادت إلي قطعة العشرين بارة واستبقت لنفسها قطعة العشر بارات.
كنت أذهب كل يوم أشارك الأمراء في ألعابهم وأتعلم معهم الفرنساوية. ومنذ ذلك الحين أرى صورة ترتفع من أعماق ذاكرتي، هي صورة ابنة الأمير الكبرى الكونتس ماري التي توفيت والدتها إثر وضعها، فتزوج الأمير بعدئذ بالأميرة الحالية. تتصاعد تلك الصورة في شفق ذاكرتي بتمهل وإبهام، فهي في البدء خيال سابح في الهواء يتشكل ويتكيف قليلا قليلا مقتربا مني، حتى يقف أخيرا أمام نفسي ساطعا كالبدر يشق حجاب الغيوم بعد زوبعة شديدة ويبرز فينير وجه الليل. كانت الفتاة أبدا مريضة تتألم صامتة. ولم أرها حياتي إلا ملقاة على سرير نقال يحمله إلى غرفتنا رجلان، ويحملانه منها إذا هي تعبت وأشارت. هناك كانت ترقد بين الأنسجة البيضاء شابكة يديها على صدرها، ووجهها شاحب وإنما مليح لطيف وعيناها عميقتان لا قرار لغورهما. فأقف حيالها مشتت الفكر ، وأحدق في عينيها متسائلا ما إذا كانت هي الأخرى من «الغرباء». فتضع يدها على رأسي فتعتريني هزة وألبث جامدا صامتا بلا حركة ولا كلام، وكل قواي تطل من حدقتي على تينك العينين العميقتين اللتين لا قرار لهما.
كانت تكلمنا نادرا غير أن نظرها يرقب كافة ألعابنا. ولم تكن تتذمر مهما أفرطنا في رفع الصوت وإكثار الجلبة بل تنقل يديها إلى جبهتها العاجية وتغمض عينيها كمن يستسلم للنوم. وتشعر بتحسن صحتها في أيام أخرى فتستوي فوق مضجعها ونرى على وجنتيها نضرة الفجر الباكر، فتحدثنا الأحاديث المسلية وتقص علينا الحكايات المدهشة. لست أدري كم كانت سنها، على أنها كانت باعتلالها الطويل وضعفها شبيهة بالأطفال يداريها الجميع، ويذكرونها برفق واحترام وينعتونها «بالملك» ولم أسمع عنها يوما سوى الكلمة الطيبة. أما أنا فكنت أقف حيالها خاشعا، وعندما أراها صامتة بائسة وأفكر في أنها لن تعرف يوما لذة النهوض والسير من مكان إلى مكان بمجرد دافع الإرادة، وأنها ليس لديها من عمل تؤديه ولا من مسرة تتمتع بها، بل إن سريرها هذا في الحياة إنما هو رمز نعش يضمها في الممات، إذ ذاك أسائل نفسي لماذا جاءت هذا العالم وهي أهل لأن تذوق راحة رضية في حضن الله، أو أن تحمل على أجنحة الملائكة البيضاء على ما نراه ممثلا في الصور المقدسة. ثم أشعر بوجوب مقاسمتها آلامها لئلا تقاسي وحدها جاهلة أن قربها قلبا يتألم لها ويحتمل معها. ولكن كيف أبوح لها بما يجول في خاطري وأنا غافل عن وجوده؟ كل ما كنت أعلم أنه لا يجوز لي أن ألقي بنفسي على عنقها لئلا أسبب لها كدرا وغما، فأكتفي بالابتهال إلى الله من أعماق قلبي أن يريحها من سقامها.
أدخلت علينا في يوم حار من أيام الربيع وهي شاحبة كل الشحوب، أما عيناها فكانت أشد لمعانا وأبعد غورا، فجلست على مضجعها ونادت بنا وقالت: «اليوم تذكار مولدي. حبذا العيشة معكم طويلا، ولكن قد يدعوني الله إليه في القريب العاجل. ولما كنت راغبة في أن لا تنسوني تماما بعد رحيلي جئت كلا منكم بخاتم يلبسه الآن في السبابة ويظل ينقله إلى الأصبع المحاذي كلما مرت الأعوام حتى يستقر في الخنصر وهناك يبقى مدى الحياة.»
وعمدت إلى خواتم خمسة في أصابعها فنزعتها الواحد بعد الآخر وعلى وجهها أمارات حزن عميق يمزجه حب ولين، فأغمضت عيني كيلا أبكي، فأعطت أخاها الأكبر الخاتم الأول وقبلته، ودفعت الخاتمين الثاني والثالث إلى أختيها الأميرتين، وكان الخاتم الرابع نصيب الأمير الأصغر، وقبلتهم جميعا. وكنت أقف قربها محدقا في يدها البيضاء وفي الخاتم الوحيد الباقي في أصبعها. ثم استقلت على سريرها منهوكة القوى فتبع حركتها نظري والتقى بنظرها ففهمت بلا ريب ما يدور في خلدي وسمعت ما يهمس به قلبي لأن ألحاظ الأطفال شديدة التعبير بليغة المعنى. حزنت لإعراضها، ولو حاولت مراضاتي الآن ما رضيت أن أنال الخاتم الأخير لأن التخلف إنما يدل على أني غريب لا تخصني بإعزاز ولا تحبني محبتها لإخوتها وأخواتها. وصرت متوجعا كمن فتح أحد عروقه أو قطع بعض أعصابه، ولم أعد أدري أني أوجه نظري لأخفي كربتي.
فجلست من جديد ولمست جبهتي مرسلة في عيني نظرة استقصاء واستقراء أشعرتني بأن ما من سر في إلا اكتنهته الفتاة وما من فكر إلا قرأته. وسحبت الخاتم الأخير من يدها متمهلة وقالت: «وددت أن يصحبني هذا الخاتم يوم أفارقكم ولكن البسه أنت فذلك خير. وفكر في عندما أصير بعيدة عنكم. اقرأ الكلمات المنقوشة عليه «كما يشاء الله». أما قلبك هذا فمفعم حرارة ورقة، ألا فلتروضه الحياة وتنمه دون أن تقسيه!» ثم قبلتني كما قبلت إخوتها وأعطتني الخاتم.
ما أصعب الوصف وما أعصاه! يومذاك كنت أكاد أكون صبيا، فكيف يتفلت قلبي من سحر ذلك الملك المتألم ولطفه؟ كنت أحبها كما يحبها الصبي، والصبيان يحبون بحرارة وصدق وطهارة قل منهم من يحب بها في الشبيبة والرجولة، على أني ذكرت أنها من «الغرباء» الذين حرمت علي المجاهرة بحبهم. إنما شعرت بتقارب روحينا وبتلامسهما بأرق ما تتلامس به أرواح البشر. زالت المرارة من قلبي ولم أعد أشعر بأني وحيد في العالم، ولم أعد أشعر بأني غريب عنها تفصل بيننا هوة أو مرتبة. كنت معها، كنت قربها، وكانت روحي تلمس روحها، فحسبي.
ثم رأيت أن استبقاء الخاتم الذي ودت أخذه إلى القبر، رأيت أن استبقاءه معي حرمان لها، وتعالت في نفسي عاطفة طغت على كل عاطفة سواها فقلت مضطربا: «احتفظي بالخاتم إن شئت أن يكون نصيبي. لأن ما لك هو لي.» فأطالت النظر في وجهي دهشة متأملة، ثم تناولت الخاتم ووضعته في أصبعها وقبلت جبهتي مرة أخرى وقالت بصوتها العذب الرقيق: «أنت لا تدري ماذا تقول، أيها الفتى، فحاول أن تفهم نفسك لتسعد وتسعد الآخرين».
الفصل الرابع
الذكرى الرابعة
نجتاز من العمر أعواما يماثل تتابعها ممرا طويلا قامت على جانبيه أشجار الحور تحجب عنا استدارة الأفق فنظل جاهلين أي الأنحاء نجوب، ولا نحفظ منها سوى كئيب الذكر أننا قطعنا من الأيام مراحل وتقدمنا في السن. ونلهو في حدائقنا بمراقبة المد المنبسط من نهر الحياة فيلوح لنا المشهد واحدا وإن تغيرت منه المناظر وتجددت على الشطين، فإذا ما بلغنا شلالات الحياة، شلالات الجهاد والعناء والألم، كان عملها في نفوسنا شديد الأثر، وكلما ابتعدنا عنها زاد تعالي صخبها وهديرها وضجيجها. حتى إذا أخذنا في الدنو من أوقيانس الأبدية اجتلى في ذهننا معناها، ووضحت لنا أهميتها، فشعرنا بأن القوة التي ما فتئت تمدنا بالنشاط والفطنة والحكمة وما زالت تسوقنا إلى الأمام نحو غاية سامية إنما تلك الشلالات أصلها ومصدرها، ومنها منهلها الذي لا ينضب.
انقضت مدة دراستي ومضت معها أوقات السرور والخلو وذوى من أحلامي الجميلة كثير، على أنه بقي لي إيماني بالله وحسن ثقتي بالبشر. رأيت الحياة شديدة الاختلاف عما صورته مخيلتي، ولكن الشئون بدت لإدراكي كبيرة مهمة تزينها المعاني الرفيعة السامية. وما أشكل منها وجلب غما وألما صار في تقديري أقوى شاهد على أن يد الله تدير حركات الكون فليس لعقولنا المحدودة أن تحصر تلك الحكمة المتناهية. «لا يقع شيء إلا بإذن الله وسماحه» غدا هذا المبدأ الفلسفي موضع راحتي وتعزيتي.
عدت في عطلة الصيف إلى بلدتي. فرح العودة وفرح اللقاء، من ذا منا يشرح أسبابه؟ من ذا الذي يتفهم لذة نتذوقها في أن نرى مرة أخرى ما رأيناه من قبل، وأن نجد من جديد ما سبق وعرفناه قدما؟ يكاد يكون التذكار سر كل تمتع وكل مسرة. قد يكون ما نراه ونسمعه ونذوقه لأول مرة جميلا مرضيا لذيذا على أنه يدهشنا بجدته وغرابته فلا يتم الهناء به لأن مجهود السرور يجيء غالبا أقوى من السرور نفسه. ولكن إذا سمع المرء بعد مرور أعوام نغمة قديمة كان يزعم أنه نسي كل نبرة من نبراتها فعرفتها روحه وعانقتها كأنها صديق عزيز، أو وقف أمام صورة العذراء ناظرا في عيني طفل تحمله فتنبهت فيه عواطف اعتادها عند هذا المشهد في صغره، أو استنشق زهرة، أو ذاق طعاما لم يذكره منذ زمن الحداثة، شعر بلذة لا يدري لعمقها أهي آتية من السرور الحاضر وحده أم هي جمعت بين أطايب الساعة المارة وتذكارات عهد مضى.
كذلك يعود الطالب منا إلى وطنه بعد غياب أعوام فتخوض نفسه بحر خواطر تحمله منه الموجات المترنحة نحو شواطئ الأيام القصية، وإذ يسمع ساعة البرج يضطرب خوفا من التأخر عن ميعاد الدرس ثم يعود من رعبه جذلا بانقضاء أيام الدراسة. يرى كلبا يعبر الشارع هو الكلب الذي طالما لاعبه في الماضي، وها هو الآن قد كبر وشاخ حتى قام الفراغ مكان أنيابه. وهاك بائع السلع المتجول الذي طالما جربتنا تفاحاته وما زالت في حكمنا، رغم غبار يلتصق بها ويغلفها، أشهى صنوف التفاح في العالم. وهناك هدم منزل قديم وشيد غيره مكانه. ذاك كان منزل معلم الموسيقى. ما كان أبهج الوقوف تحت نوافذه في ليالي الصيف والإصغاء إلى ما يبتكره ارتجالا للتسلية بعد ساعات العمل الطويلة، فتنطلق الألحان كأنها بخار تجمع في نفسه خلال النهار فأنشأ يعتقه ليلقي عنه حملا ثقيلا. وهنا في هذا الزقاق الضيق الذي كنت أخاله أوسع قليلا، هنا اجتمعت ليلة بابنة الجيران الجميلة. لم أكن فيما مضى لأجرأ على محادثتها والنظر إليها. على أننا نحن الصبيان كنا نتناقل أخبارها في المدرسة ونسميها «الفتاة الحسناء»، فإن رأيتها آتية في الشارع عن بعد اغتبطت لهذه المصادفة دون أن أطلب الدنو منها. وكان أنها مرة في هذا الزقاق المؤدي إلى المقبرة اتكأت على ذراعي وسألتني أن أسير بها إلى البيت. مشينا ولم ننبس بكلمة طول الطريق. كنت صامتا وظلت هي ساكتة، ولكن سروري كان من الشدة بحيث إني الآن بعد مرور أعوام، إن ذكرت تلك البرهة تمنيت انقلاب الزمن ورجوع ما لا يرجع ليتسنى لي السير مرة أخرى صامتا سعيدا تستند على ساعدي «الفتاة الحسناء».
وهكذا تتوارد خاطرة إثر خاطرة حتى تعج موجات التذكار فوق رءوسنا، ونرسل زفرة تلفتنا إلى أن الهجس أقلق انتظام التنفس منا، فيختفي عالم الأحلام بغتة كما تتلاشى الأشباح عند صياح الديك في الضحى.
ولما مررت أمام القصر القديم المحاط بأشجار الليمون ورأيت الحراس على خيلهم عند الدرجات العاليات توافدت التذكارات متلازبة في خاطري واكتأبت لدوران الأيام. لم أدخل هذا القصر منذ أعوام عديدة. لقد توفيت الأميرة، واعتزل الأمير خدمة الحكومة وسكن منزلا منفردا في إيطاليا، وصار نجله الأكبر الذي نشأت وإياه نائبا عنه. يقيم في هذا القصر تحف به بطانة من شبان الأشراف والقواد يتمتع بحديثهم ويهنأ بعشرتهم، فكيف لا يحسب أصدقاء طفولته غرباء عنه؟ ومما رغبني في الابتعاد أنني ككل شاب ألماني عرف احتياج الشعب الألماني من جهة وخطأ الحكومة الألمانية من جهة أخرى، كنت انضممت إلى حزب الأحرار واعتنقت نظرياته المغايرة لنظريات بلاط الملوك كل المغايرة.
نعم، منذ أعوام لم أصعد على ذلك الدرج. ورغم ذلك ألفظ كل يوم اسما قطنت صاحبته في هذا القصر ومثلت صورتها في ذهني لا تبتعد عني. اعتدت فراقها الجسدي لأنها نمت خيالا جميلا وثقت من أن لا أصل له في الواقع. صارت ملكي الحارسي وذاتي الأخرى، أحادثها ساعة أحادث نفسي، وأستشيرها وأعمل بنصيحتها. لست أدري كيف تجسمت في إلى هذا الحد على قلة معرفتي بها. ولكن كما أن النظر يبدع من السحب أشكالا كذلك حفظت ذكرى طفولتي رؤياها اللطيفة وكونت من خطوط الحقيقة الضعيفة الواهية صورة كاملة بارزة. أصبح تعاقب أفكاري محاورة بيني وبينها، وما هو حسن في، وكل ما أتوق إليه، وأسعى في سبيله، وأومن به، كل ذاتي المثلى كانت تخصها، كانت مهداة إليها كما أنها آتية من روحها، من روح ملكي الحارس الأمين.
أقمت في بيتي العتيق أياما فجاءني في ذات صباح رسالة مكتوبة بالإنجليزية من الكونتس ماري، وهذا نصها:
صديقي العزيز
بلغني أنك ستقيم هنا زمنا. نحن لم نلتق منذ أعوام طويلة. فإن أرضاك أن نلتقي مرة أخرى فإني أسر كل السرور بمشاهدة صديق قديم تجدني وحدي بعد ظهر اليوم في الكوخ السويسري.
لك بإخلاص
ماري
فجاوبت فورا بالإنجليزية أني سأزورها في الموعد المضروب. ولم يكن الكوخ السويسري سوى جناح من القصر ينفتح على الحديقة ويتيسر الوصول إليه دون المرور في ساحة القصر الكبرى. ولما أزفت الساعة الخامسة اجتزت الحديقة متغلبا على انفعالي، متهيئا لمقابلة رسمية، مؤكدا «لملكي الحارس» في داخلي أن لا شأن لي مع هذه السيدة. ولكن ما معنى قلقي واضطرابي، ولماذا لا يوحي إلي «ملكي الحارس» ما أتطمن به وأرتاح إليه؟ أخيرا تشجعت هامسا لنفسي بكلمات سخرية بالحياة، وطرقت بابا كان نصف مفتوح.
وجدت في الغرفة سيدة لا أعرفها خاطبتني بالإنجليزية وقالت إن الكونتس آتية في الحال. ثم خرجت وتركتني وحيدا ولدي الوقت الكافي لألقي نظرة على ما يحيط بي.
كانت جدران الغرفة من خشب السنديان يدور حولها نقش برزت فيه وريقات اللبلاب وتصاعدت معرشة في السقف. كذلك كانت الطاولات والكراسي وأرض الغرفة من خشب السنديان وقد تحاذى فيها الحفر والنقش. وتوزع هنا وهناك كثير من أمتعة ألفتها في غرفة ألعابنا القديمة وقد أضيف إليها أمتعة جديدة، لا سيما الصور والرسوم. وكانت هي الصور بعينها التي اخترتها لتزيين غرفتي في الجامعة: ففوق البيانو صور بتهوفن وهيندل ومندلسهن، وفي إحدى الزوايا زهرة ميلو وهو في تقديري أتم وأبدع تمثال أبقته لنا المدنية القديمة. وعلى الطاولات كتب دانتي وشكسبير، ومجموعة مواعظ تولر، وكتاب «اللاهوت الألماني» وأشعار روكرت وتنسن وبورنز، وكتاب كارلايل «الماضي والحاضر»، وهي الكتب نفسها التي كنت أقلبها قبل أن أجيء إلى هذا المكان. فاجتذبت إلى دائرة التأمل، بيد أني حاولت التملص منها ووقفت أمام صورة الأميرة المتوفاة. عندئذ فتح الباب ودخل الرجلان اللذان عهدتهما في حداثتي يحملان الكونتس على سريرها.
يا لعذوبة تلك الرؤيا! كانت صامتة لا تتحرك وبقي وجهها هادئا كصفحة البحيرة حتى غادر الرجلان الغرفة. إذ ذاك حولت نحوي عينيها، تينك العينين القديمتين اللتين لا يدرك غورهما، وتألق وجهها فانقلبت كل هيئتها ابتساما. ثم قالت: «كنا صديقين ولا أظننا تغيرنا في صداقتنا. لذلك لا يمكنني أن أقول «أنتم». وحيث إن العادة لا تسمح بأن أقول «أنت» بالألمانية فلنتخاطب بالإنجليزية.
1
أليس كذلك؟»
لم أتأهب لمقابلة كهذه. رأيت أن لا تمثيل هنا، ولا مجاملة ولا رياء. هنا روح تتوق إلى روح أخرى. هذا ترحيب صديق عرف عيني صديقه وراء الوجه العارية ورغم التنكر الاتفاقي. فأخذت يدها التي مدتها إلي وقلت: من حادث الملائكة لا يقول «أنتم».
ولكن ما أعظمها قوة سبكت في قوالب الحياة واصطلاحاتها! وكم يتعذر التكلم بلغة القلب حتى مع أشبه الأرواح بأرواحنا! تعذر ذلك علينا فاضطرب حديثنا وتضعضعت أفكارنا وشعرنا بارتباك مزعج حاولت التخلص منه بما حضرني من الكلام فقلت: «لقد اعتاد الناس عيشة الأقفاص منذ الحداثة فإذا ما وجدوا نفوسهم فجأة في الهواء الطلق لا يجرءون على تحريك أجنحتهم، ويتخوفون الاصطدام بالصخور إذا هم حلقوا في الفضاء الوسيع!»
فقالت: «هو ذلك، وهو عين الصواب وليس نقيضه بالممكن. لا ريب أننا نود أحيانا أن نكون كالأطيار أحرارا نتنقل على أشجار الغابات ونلتقي فوق الأغصان ونغرد سويا ثم نفترق دون أن يعرف أحدنا الآخر. ولكن اذكر يا صديقي أن بين الأطيار غربانا يؤثر تجنبها. ولعل الحياة كالشعر: فكما يحسن الشاعر سبك المعاني الجميلة والحقائق الخالدة في أوزان معينة، كذلك على الناس صيانة حريتهم الفكرية والوجدانية رغم قيود المجتمع ودون الإيذاء بها أو التطاول عليها.»
فأجبت مستشهدا بقول الشاعر بلاتن: «أي شيء أثبت نفسه خالدا في كل مكان؟ ذاك هو الفكر الحر رغم قيود الألفاظ.»
2
فابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت: «نعم. ولكن لي من ألمي ووحدتي ما يخول لي ما ينكر علي سواي. وكم أشفق على الفتيات والشبان الذين لا يربطون فيما بينهم برابطة الصداقة والائتلاف إلا ويفكرون هم أو يفكر لهم ذووهم، بدنو الحب أو ما يسمونه حبا. الفتيات يجهلن الجمال المختفي في نفوسهن وقد يكفي لإظهاره حديث جدي مع صديق نبيل. والشبان يتعشقون فضائل الفروسية ويمرنون نفوسهم على المحامد والمكارم إذا هم شعروا بمراقبة امرأة تحوم حول جهودهم ونتائجها سرية كانت أم علنية. ولكن للأسف ذلك لا يكون. لأن الحب لا يلبث أن يقتحم الميدان. الحب أو ما يسمونه حبا: أي ضربات القلب المتسارعة المتباطئة، وعواصف اليأس والرجاء، والتلذذ بالوجه المحبوب والتصورات المرضية، وقد يرافق هذه غايات وأطماع جمة. تهجم كلها متعاونة على إقلاق ذلك البحر الهادئ العميق، بحر الصداقة، وهو صورة صادقة للحب الإنساني الطاهر.»
صمتت هنيهة فيها لاحت على وجهها أمارات الألم، ثم قالت: «حسبي اليوم كلاما فطبيبي لا يسمح لي بالإطالة. والآن أرغب في سماع تلك القطع الموسيقية لمندلسهن، النغمة المزدوجة، وكان صديقي الصغير يعزفها جميلا فيما مضى. أليس كذلك؟»
لم أحر جوابا لأنها عندما صمتت وطوت ذراعيها على صدرها كالعادة رأيت في خنصرها ذلك الخاتم الذي أعطتنيه يوما ثم رددته إليها. وكان تلاطم أفكاري يحول دون البيان، فجلست إلى البيانو وعزفت ما شاءت. ولما فرغت التفت إليها وقلت: «حبذا لو أنيل الإنسان قدرة الإفصاح بالنغمات الموسيقية من غير ألفاظ!»
فقالت: «ذلك واقع لا يحتاج إلى التمني. ولقد وعيت كل ما تهمس به هذه الألحان. غير أني لا أستطيع استماع غيرها هذه المرة لأن ضعفي يتزايد يوما فيوما. على الواحد منا أن يقبل بالآخر كما هو على علاته، ولناسكة مسكينة عليلة مثلي أن تتوقع بعض الحلم من صديق مثلك. سنجتمع مساء غد في الساعة نفسها . أليس كذلك؟»
لمست يدها وهممت بتقبيلها. ولكنها أوقفت حركة يدي وضغطت عليها قائلة: «هذا خير. إلى الملتقى!»
هوامش
الفصل الخامس
الذكرى الخامسة
يتعذر علي التعبير عن أفكاري وعواطفي بعد عودتي إلى البيت. هناك «أفكار بلا ألفاظ».
1
يعزفها الإنسان لنفسه في الساعات الخطيرة. لم أشعر بفرح ولا بحزن بل بدهشة فائقة. وصار مثل الهواجس والتصورات المخترقة ضميري كمثل النيازك الهابطة من الجو على الأرض، ما أدركت غايتها إلا بعد الانطفاء والاستحالة إلى حجارة سوداء. وكما نقول لأنفسنا في الحلم أحيانا «أنت تحلم» كذلك قلت لنفسي «أنت يقظان. وهذه هي.» ثم حاولت استجماع خواطري ولم شعث فكري بقولي: «إنها لفتاة لطيفة ذكية الجنان وقادة الذكاء.» وأخذتني منها شفقة وطفقت أحصي ساعات هنيئة سأقضيها وإياها في هذه العطلة. لكن لا، لا. لم تكن هذه سوى سوانح عبرت لباب خاطري، وذلك اللباب أن هذه الفتاة هي منتهى ما بحثت عنه، وفكرت فيه، ورجوته وآمنت به إلى الآن. هذه نفس بشرية عذبة كصباح الربيع، عطرة كشذا البنفسج، لامعة كلواحظ الكواكب. لقد تبينت منذ النظرة الأولى قيمتها المعنوية وكل ما أودعت من بهاء وسناء، ورحب كل منا برفيقه لأن الروحين تعارفا. خيل إلي أن «ملكي الحارس» مضى وتلاشى، وحاولت أن أناديه فلم تجبني نفسي إلا بما دلني على أن في العالم مكانا واحدا أجده فيه.
وبدأ لنا عيش رغيد، إذ كنا نجتمع كل مساء فشعرنا بمتانة صداقتنا ورسوخها وأضحى ضمير الجمع «أنتم» طفيليا بيننا فعمدنا بالمخاطب المفرد «أنت» نستعمله كأننا لم نفترق منذ الطفولة أصلا. لم تصف عاطفة إلا تهادى خيالها في نفسي ولم أبسط فكرة إلا أشارت مصادقة كمن يقول «هذا فكري أيضا.» كنت سمعت أعظم أساتذة الموسيقى في عصرنا يرتجل وشقيقته ألحانا على البيانو فأذهلني أن يتآلف فكر شخصين اثنين ويتوحد شعورهما فيوضحان إلهامهما الموسيقي في آن واحد على أتم انسجام لا تخونهما شاردة ولا تشد في إبداعهما واردة. أما الآن فقد اتسع فكري فأدركت. اتسع فكري فعلمت أن روحي لم تكن فارغة مدقعة قاحلة، وإنما توهمتها كذلك لاحتجاب الشمس عنها وهي كفيلة بإخراج البراعم والأزهار إلى الوجود والحياة. ورغم ذلك كان الربيع حزينا وخيمت منه فوق نفسينا أوشحة رمادية لأن شهر مايو/أيار ورونقه لم ينسنا أن الورود سريعة العطب وأن كل مساء ينزع من زهرة اجتماعنا ورقة. سبقتني هي إلى الشعور بذلك وذكرته يوما دون أن تبدي أسفا أو ألما، فانقلبت أحاديثنا جدية هادئة ينيلها كل مساء يمر رصانة وجلالا.
قمت أودعها مرة فقالت: «ظننت الموت قريبا عندما أعطيتك الخاتم، ولم أتوقع أن أعيش هذه السنوات. ولكني عشتها وتمتعت بالجمال كثيرا. كذلك تألمت شديدا. إنما المرء ينسى هذا في السعادة. والآن وقد قربت ساعة الفراق فكل دقيقة توازي كنوزا. مساء الخير. لا تبطئ غدا.»
دخلت عليها يوما وعندها مصور إيطالي. كان حديثهما بالإيطالية، ومع أن الرجل كان أقرب إلى العامل منه إلى الفنان كانت لهجتها لطيفة وديعة يخالطها شيء من الاحترام، فتجلى لدي عندئذ شرفها الحقيقي أي شرف النفس لا شرف المولد. وبعد ذهاب المصور قالت: «أريد أن أريك صورة أصلها في قصر اللوفر في باريس. قرأت وصفها فشئت أن تنقل لي.» ثم أرتني الصورة وانتظرت حكمي. وكانت تلك صورة كهل في الزي الألماني القديم، تلوح على محياه سيماء التفكر والامتثال لقوة عليا، وقد بدا في هيئته وأوضاع جسمه معنى الحياة العميق، فلم أرتب قط في أنه عاش يوما ولم تبدعه مخيلة مصور. كان اللون البني القاتم متغلبا في الصورة، على أن الجزء الخلفي استحضر مشهدا طبيعيا نيرا وظهرت في الأفق أشعة الفجر الآتي. لم يذهلني من تلك الصورة شيء إنما أوحت إلي عاطفة هادئة استطعت معها التحديق في الرسم طويلا. فقلت: «لا صدق يفوق صدق الهيئة البشرية. وإن روفائيل نفسه ليعجز عن إبداع صورة صادقة كهذه إن لم يعش صاحبها يوما.»
أجابت: «صدقت. أما الغرض من هذا الرسم فهاكه: قرأت وصفه فعلمت أن اسم راسمه مجهول كما جهل اسم الأصل الذي نقل عنه، لعله من فلاسفة القرون الوسطى، فرغبت فيه ليتم به معرض الصور في غرفتي. ولما كان مؤلف «اللاهوت الألماني» مجهولا وليس لدينا منه صورة رأيت أن صورة وضعت لشخص مجهول بريشة مصور مجهول يصح أن تنوب عن مؤلف مجهول، فإن وافقت علقتها بين ألواحي ودعوتها «اللاهوت الألماني».»
قلت: «فكرة غاية في الحسن. ولكن ربما مثلت الصورة شخصا أقوى من دكتور فرنكفورت وأعبس وجها.»
قالت: «ربما كان ذلك. ولكني أنا الفتاة المتألمة السائرة إلى الموت استقيت من هذا الكتاب قوة وتعزية، ولمؤلفه علي فضل كبير لأنه أعلن لي جوهر المسيحية في بساطته العجيبة. شمتني إزاءه حرة في أن أومن أو أن أجحد لأنه لم يرغمني على أحد هذين، وقبض علي بشدة فخيل إلي أني أدركت معنى الوحي للمرة الأولى. وأنت تعلم أنه مما يحول دون ولوج باب المسيحية الحقة أن التعاليم تبسط أمامنا كوحي علينا أن نؤمن به قبل أن يهبط الوحي على نفوسنا. وطالما قلقت لذلك: لست أعني أني شككت في حقيقة الألوهية وفي الألوهية عقيدتنا. غير أني لم أكن لأكتفي بإيمان خلعه علي الآخرون، وحسبت أن ما تعلمته وتقبلته طفلة على غير فهم واختيار لا يستطيع أن يكون خاصتي ولي. الإيمان لا يعار واليقين لا يستعار ولا يجدي التمويه نفعا. ولا بد من اقتناع شخصي نستند إليه ونتعزى به إذ لا أحد يحيا ويموت عن أخيه.»
قلت: «لا ريب أن كثيرا من المنازعات العنيفة والمناقشات الحادة ترجع إلى أن تعاليم المسيح عوضا عن أن تكتسب قلوبنا شيئا فشيئا بلا إرغام كما تملكت قلوب الرسل والمسيحيين الأولين، فإننا نجابهها منذ حداثتنا كنصوص كنيسية قوية لا تقبل ترددا ولا ترضى جدالا، وتضطرنا إلى الامتثال لأوامرها امتثالا مطلقا تسميه إيمانا، فلا بد من تولد الارتياب عاجلا أو آجلا في كل نفس تميل إلى التأمل وتجل الحقيقة. وعندما نصل إلى تلك الخطوة من السبيل فيتيسر لنا تحرير إيماننا المستعار المزعوم، تنتصب في وجهنا أشباح الشك والإلحاد والكفر وتوقف فينا نمو الحياة الجديدة.»
فقاطعتني قائلة: «قرأت حديثا في كتاب إنجليزي أن الحقيقة تتجلى بالوحي وليس الوحي يتجلى بالحقيقة. وإني لأشعر بذلك تمام الشعور لدى قراءة «اللاهوت الألماني». قرأته فشعرت بقوة حقيقته القاهرة وأرغمت على الاستسلام. أوحيت إلي الحقيقة. بل أوحيت أنا إلى نفسي، وفهمت للمرة الأولى معنى كلمة إيمان. أصبحت الحقيقة ملكي بعد أن أطالت التملص مني لأن أقوال المعلم المجهول اخترقت كياني كتشعع الضياء وأنارت خفاياي جاعلة حيرتي اقتناعا، وظنوني المبهمة إيضاحات جلية، فصممت على قراءة الأناجيل كما لو كانت هي الأخرى مكتوبة بقلم المعلم المجهول، وأبعدت عني ما استطعت كونها أوحيت من الروح القدس بأعجوبة إلى الرسل، وأنها صودق عليها من مجامع الأساقفة والأحبار فاحتضنتها الكنيسة باعتبار أنها الآية الفريدة العليا للدين المنقذ الوحيد. عندئذ بدأت أكتنه مع معنى الإيمان المسيحي معنى الوحي المسيحي.»
فقلت: «من المدهشات أن اللاهوتيين لم يفلحوا بعد في حمل البشر على جحود كل عقيدة كائنة ما كانت. ولكنهم فالحون يوما إن لم يحتج المؤمنون بعزم قائلين «لكم أن تبلغوا في شروحكم وأحكامكم هذا الحد ولا تتجاوزوه.» كل دين يحتاج إلى الدعاة، ولكن لم يقم إلى الآن دين واحد في العالم لم يزيفه الكهنة، سواء أكانوا براهمة أو لاما
2
أو كتبة وفريسيين. أولئك يتخاصمون موردين شواهدهم وحججهم بلغة لا يفهمها من أبناء ملتهم عشر واحد من عشرة أعشار. وعوضا عن أن يستوحوا الإنجيل مرشدين الآخرين إلى استيحائه ترينهم يجادلون لإثبات صحة الإنجيل وعصمته لا من حيث هو إنجيل إنما لأنه دونه قوم ملهمون. وهل يكون ذلك سوى حيلة من حيل التردد والقصور؟ بأي حجة يثبتون إلهام أولئك الأفراد إلى تلك الدرجة العجيبة إن لم ينسبوا إلى أنفسهم إلهاما أعجب وأدهش؟ لا شك أنهم فرضوا هذا الاعتراض، لذلك قصروا موهبة الإلهام على أكثرية من آباء الكنيسة المتألفة منهم هيئة المجامع. غير أن هذا التحديد لا يأتي بالجواب المطلوب. إذ كيف نتأكد أنه بين خمسين حبرا وأسقفا 26 كانوا ملهمين و24 لم يصلهم من الإلهام شيء؟ يجزم المتطرفون اليائسون أنه يكفي أن يلمس الملهم يد شخص ما لينتقل إليه الوحي والعصمة من الغلط، ويوقنون أن العصمة والوحي إنما حفظا في رأس الكنيسة (أو في رءوسها) إلى أيامنا بهذه الوسيلة. ويعتقدون أن عصمة أولئك الغرباء الذين لا نعرف منهم شيئا تقضي على كل اقتناع صميم فينا بالبطلان، وعلى كل استسلام مخلص بالفساد، وتنكر كل بحث من أبحاثنا إن لم يتفق مع بياناتها وأحكامها. ورغم كل ذلك يبقى السؤال القديم في انتظار الجواب: كيف يدري فلان أن فلانا ملهم لو لم يكن له مثل ذلك الإلهام على الأقل، هذا إن لم يحو إلهاما أوفى وأشمل؟ ألا يتحتم علينا حياز الوحي في أرواحنا لنكتشف آثاره عند الآخرين؟»
أطرقت لمحة ثم قالت: «يصعب الجواب. وطالما فكرت في كيفية استجلاء معاني الحب والتثبت من حقيقتها. كيف ندري أن شخصا يحب أو لا يحب؟ ما وجدت إشارة واحدة من إشارات الحب إلا كانت عرضة للتزوير والتقليد، فاهتديت أخيرا إلى أن المحب وحده يميز بين الصادق والكاذب من تلك العلامات وأنه إنما يثق من حب القلب الآخر لأنه واثق من حب قلبه. ولما كانت موهبة الحب شبيهة بموهبة الروح القدس (الوحي) كان الملهمون وحدهم إن هم سمعوا الرياح العاصفات حسبوها أصواتا من السماء، وإن أبصروا زهرات القرنفل زعموها ألسنة نارية. والآخرون يخافون، أو يغضبون، أو يسخرون قائلين: «كلام عتيق! أما نحن فنفوسنا ملأى بخمرة جديدة.» بيد أني أعود إلى ما أسلفت وهو أن كتاب «اللاهوت الألماني» هداني إلى إيمان استخرجته من حاجات نفسي فوجدت قوتي العظمى في ما يراه غيري خطأ وعيبا، وهو أن الأستاذ لا يبسط رأيه كقانون منظم بل ينثر أقواله كالزارع أملا أن تقع بعض البذور على أرض صالحة فتتضاعف الغلة ألوفا. كذلك أستاذنا الإلهي (المسيح) لم يحاول إثبات تعاليمه بالبرهان، لأن من حوى الحقيقة الكلية استخف بالمظاهر وأعرض عن جميع صنوف المباهاة والتعنت.»
هنا ذكرت شواهد أسبينوزا وأدلته في «أخلاقياته» وطالما فكرت في أن ذلك اللوذعي ما أكثر من شد خيوط شبكته الفلسفية إلا لشعوره بضعف مذهبه ووهنه، فأجبت محدثتي: «نعم ، غير أني على ما أوحاه إلي «اللاهوت الألماني» من الخواطر المفيدة لا يسعني إلا الإقرار بأني لا أشاطرك كل إعجابك بهذا الكتاب. ينقصه في نظري العاطفة الإنسانية والطلاوة الشعرية، لا سيما وأنه خلا من حرارة القلب وجحد الواقع ولم يحترمه. روحانية القرن الرابع عشر لا تصلح عندي لأن تكون أكثر من درس نظري يتحتم أن تعقبه العودة إلى الحياة العملية بعزم وجرأة، إلى تلك الحياة الواقعية التي عرفها لوثر وعالج منها المصاعب. لا غنى للإنسان عن إدراك معنى العدم، ولو مرة في عمره، ليعلم أنه ليس بشيء وأن أصوله بداية ونهاية ثابتة عريقة في أصل يتعالى عن المحسوس ويجل عن الحصر. وهذا الاتجاه نحو الله إن لم يقدنا في الحياة إلى كعبة آمالنا فهو يبقي في نفوسنا وجدا مقيما إلى مرجعنا ومستقرنا الأبدي. ولكن البون شاسع بين هذا النوع من العبادة وبين إنكار الخليقة كما يفعل الروحانيون، ولئن نشأ الإنسان من اللاشيء أي من الله وبه وحده، فهو يعجز عن العودة إلى اللاشيء بقوته الذاتية. والتلاشي الروحي الذي يكثر «تاولر» الألماني من ذكره لا يفضل «النرفانا» أو الفناء النوراني الذي يقول به البوذيون. تاولر يصرح بأنه لو استطاع حبا بالله وإظهارا لخضوعه له أن يفنى فناء لما تردد في أن يسجد أمامه تعالى ويتلاشى في عمق أعماق الهاوية، إلا أن الخالق لم يشأ فناء هذه الخليقة التي أوجدها. وقد قال القديس أغسطينوس: «إنه في اقتدار الإله أن يتجسد إنسانا وليس في مقدور الإنسان أن يستحيل إلى إله.» فلا بأس بالروحانية درسا يفيد ونظرية تنير، بها ترهف النفس وتلطف وتزداد تألقا. إنما ينبغي أن لا تبخر القوى والملكات على نحو ما تفعل النار بالماء الغالية في القدر. ومن أدرك العدم في نفسه عليه رغم ذلك أن يؤمن بأن ذاته الصغيرة إن هي إلا انعكاس الذات الإلهية الكبرى. جاء في «اللاهوت الألماني»:
ليس كل ما تدفق من منهل الكمال بالجوهر الحق وليس له من جوهر في غير الكمال. ما هو إلا حدث أو بهاء، أو مظهر محسوس. ليس هو الجوهر ولا جوهر له إلا في النار مبعث النور، شأن شعاع الشمس وضوء الشمعة.
ولئن كان ما فاض من الكيان الإلهي كلهيب النار إلا أنه لا بد أن يكون حقيقة إلهية في ذاته إذ قد يسائل المرء نفسه «وما هي النار بلا لهيب، والشمس بلا نور، والخالق بلا خليقة؟» وقيل إن الطامع في استجلاء هذه الغوامض وتفهم حكمة الله إنما رغبته هذه كرغبة آدم والشيطان.
حسبنا علما أننا نعكس الكائن الإلهي لنجتهد في صقل مواهبنا حتى يوم الكمال. يستحيل إخفاء النور الإلهي من نفوسنا تحت المكيال، فلندعه إذن يلمع ويشرق ويضيء ما يحيط بنا ويبعث فيه الحرارة، لنشعر بأن دماءنا تطهرها نار الحياة. وإذ يحل فينا معنى قدسي رفيع يقوينا على اقتحام معارك العالم، وتذكرنا أصغر الواجبات بعلاقتنا بالله، لا يلبث أن يصبح الأرضي في تقديرنا سماويا، والزمني أبديا كأن حياتنا بأكملها حياة فيه تعالى، ليس الله الراحة الدائمة بل هو الحياة الدائمة. وأنجيليوس سليزيس مخطئ بزعمه أن الله لا إرادة له، في قوله: «نحن نصلي أيها الرب إلهنا لتكن مشيئتك المقدسة! ولكن اسمع وع: أيها المبتهل، لا إرادة لله لأنه الراحة والسكون.»
كانت الفتاة تصغي إلي بهدوء وانتباه، فتأملت دقيقة ثم قالت: «القوة والصحة ضروريتان لمن كان له مثل اعتقادك، وفي الأرض نفوس متعبة تعاني رهقا شديدا وتصبر إلى الراحة والطمأنينة لأن وحدتها تثقل عليها. تود أن يضمها السبات والسكينة إلى أحضانهما فلا يخسر العالم بذهابها ولا تأسف هي لفراقه. تلك النفوس تتعزى في هذه الدنيا بالاتحاد بالله والاستغراق في ذاته الصمدانية، وهي تفعل ذلك بداهة إذ لا رباط يربطها بالعالم وليس لها من الأطماع ما يزعج ويقلق، فتتوق إلى الراحة وتراها - كما يراها الشاعر الألماني - الخير الأسمى وترى الله راحة والراحة فيه. ثم إني أجدك ظالما في نقد «اللاهوت الألماني» لأنه إن قال ببطلان الحياة الأرضية فهو لا ينادي بحذفها. ويقول في مكان آخر إن السكينة والراحة لا يلقاهما الإنسان قبل الموت، إلا أنه بارتقائه الروحي يصير شبيها بيد الله، لا يأتي أمرا بإرادته الذاتية بل بإرادة الله، كأنه عز وعلا اختاره ليسكن فيه. ويقيني أن من امتلأ بروح الله شعر بتلك الحضرة الإلهية فيه، غير أنه يكتم هذا السر الجليل في نفسه كما يكتم العاشق عن الملأ أسرار غرامه. أما أنا فطالما شعرت بأني كشجرة الحور المنتصبة أمام نافذتي. هي ساكنة في المساء لا تهتز وريقة من وريقاتها ولا يتحرك من أغصانها غصن، وعندما يمر بها نسيم الصباح فتترنح أوراقها، يظل الجذع راسخا هادئا. وإذ يعود الخريف وتتناثر أوراق كانت بالأمس مفعمة حياة فيعتريها الذبول يبقى ذلك الجذع في مكانه بلا حراك مترقبا مجيء ربيع آخر ...»
لقد ألفت الفتاة هذه الحياة الروحية فمحاولة إخراجها منها إثم. أليس إني أنا أيضا لم أفلح في التملص من هذا العالم السحري إلا بعد جهاد عنيف؟ ومن يجزم بأنه ليس هو النصيب الأفضل الذي لا يفنى وأننا لسنا بضالين نحن الذين نعدو ونكد لاقتناص منافع تحط منا الهمة وتذبل القلب وتقرض الروح؟
وهكذا كان كل اجتماع يثير مذاكرة جديدة تكشف لي وجها مجهولا من نفس لا تسبر ولا تحد. لم يكن حديثها سوى تفكر وإحساس ينسجان كلاما مسموعا بدلا من أن يتعاقبا في وحدة الوجدان. ولم تكن آراؤها آراء بل أجزاء حية منها عاشت معها أعواما لأنها كانت توردها بلا إجهاد، كبنية ملأت حجرها أزهارا وقامت تلقي بها على العشب الأخضر. كان يسوءني أن لا أفتح كتاب روحي تقرأ فيه مليا كما أقرأ في كتاب روحها، ما أندر المحتفظ منا بفطرته الأصلية في وسط أكاذيب اتفاقية نقبلها مكرهين، سمها ما شئت عادات، أو أدبا، أو تكتما، أو مراعاة، أو حكمة اجتماعية! وما أقل من يفلح في التلفت منها بين المخلصين المجاهدين! بل ما أندر من يذكر أن حركاته إنما هي وجه عارية، ونقاب سخرية أسدل على ملامح الحياة! نحن نكذب في كل شيء حتى في الحب، حتى في الحب الذي نسكته قهرا، وننكر عليه التنهد والتلوي والارتعاد ، ونحرجه إلى التواري عوضا عن التجلي في الإشارات وتقديم النفس ضحية في النظرات، نكذب في الحب الذي نسكته على أن يهمس في همهمة الشعراء. كم من مرة كدت أقول لها «أنت لا تعرفينني يا بنية» ولكني كنت أشعر بأن كلماتي لا تصدق الصدق كله، فعولت على أن أترك بين يديها مجموعة أشعار أرنولد التي وردت إلي حديثا، وسألتها أن تقرأ قصيدة الحياة الدفينة: وكان مغزاها الاعتراف بحبي. ثم جثوت قرب سريرها وقلت «مساء الخير». فردت بقولها «مساء الخير» ووضعت يدها على رأسي، فجرت في أعصابي تلك الهزة المستحبة وهب ما رقد في جوانحي من تذكارات الطفولة، ولم أعد أستطيع حراكا بل ظللت أنظر في تينك العينين اللتين لا قرار لغورهما حتى أفاض سلام روحها على روحي سلاما. ثم نهضت ومضيت صامتا، ورأيت تلك الليلة في أحلامي حورة طويلة تتلاطم الرياح حولها دون أن تهتز عليها ورقة أو يتحرك منها غصن.
الحياة الدفينة
النور يعلو ويغمر حروبنا الكلامية: انظري، ها إن عيني تراودها الدموع وأشعر بكآبة مبهمة تلتف حولي وتتمدد. أجل، نحن نعلم أننا نستطيع أن نمزح ونعلم، نعلم أننا نستطيع أن نبتسم! ولكن في مهجتي حرقة لا تلطفها كلماتك الرقيقة، ولا تسكنها منك البسمات.
أعطيني يدك واصمتي قليلا، ولتستقر على عيني نظرة عينيك الصافيتين لأقرأ فيهما، يا محبوبتي، آيات روحك!
أواه! هل يقصر الغرام دون فتح فؤادك واستماع صوته؟
هل يحظر على المتيمين إظهار ما تكن قلوبهم؟
كنت أعرف الناس يضنون بأفكارهم لئلا يتلقاها الآخرون ببرود وجفاء، كنت أعلم أنهم يحيون ويتحركون مخدوعين خادعين، متنكرين متسترين، غرباء عن البشر، غرباء عن ذواتهم! إنما القلب بعينه ينبض في كل صدر بشري!
ولكن نحن، يا محبوبتي، أيسكت ذلك النهي الوهمي قلوبنا؟ وأصواتنا؟ أيجب أن نخرس نحن أيضا؟ آه! ما أسعدنا إذا حررنا قلبنا، ولو لحظة، وحللنا قيود الشفاه لأن السر الذي أطبقها وختم عليها تقدس في أعماقنا!
القدر الذي سبق فعلم كيف يكون الرجل طفلا وكيف يكون زهوقا، وكيف تتقاذفه المطامع فيخوض ميادين الشقاق والنزاع حتى لتكاد تتحور شخصيته، فلا يتمكن من وقاية النفس الطاهرة من تلاعب الأهواء وإن أرغمها على الخضوع لناموس الكيان؛ ذلك القدر هو الذي يأمر نهر الحياة في صدرنا استطراد السير إلى الأمام.
فننسى حركة ذلك النهر الدفين وإن لازمناه وهو يجتاز عرض البحار وكنا مثله مسوقين على الدوام.
ولكن كم من مرة في ازدحام السبل.
وكم من مرة في جلبة المصارعة وضوضاء التقاتل.
يتصاعد فينا الشوق فننتبه لحياتنا الدفينة.
ويتيقظ لدينا احتياج لصرف نار قوانا التي لا تعرف السكون.
ويضنينا توق إلى البحث عن أسرار القلب النابض بعنف في أعماقنا لنعرف من أين تأتي أفكارنا وإلى أين تقصد!
كثير هم الذين يحفرون في قلوبهم وينبشون.
لكن، وا أسفاه! قل من يشغل القلب وقل من يفعمه ويكفيه!
عالجنا كل شئون الحياة فأظهرنا في كل فن حذقا ومهارة.
على أننا لم نكن كما نحن في ذاتنا القصوى ولم نسر في سبيلنا الواحدة سريعة، ولم نفصح عن عاطفة من العواطف المتضاربة في صدرنا.
وباطلا، حاولت أن تتكلم وتتحرك خلال تلك العواطف ذاتنا الخفية الصادقة!
فكانت أقوالنا وأفعالنا بليغة وحسنة، ولكن غير صحيحة!
وإذ يثقل الألم علينا وطأة الجهاد نسأل صغائر الحياة قدرتها المدهشة للوصول إلى النسيان والسلوان فتلبي طلبنا إذ نلتجئ إليها!
ولكن رغم كل مغالبة وكل قهر تنهض، الوقت بعد الوقت، من عمق أعماق الكيان كما من أرض قصية مجهولة، تنهض أصوات ملتبسة بائسة، وتنتشر أصداء طائفة سابحة فتملأ أيامنا كآبة وغما.
إنما - وهذا نادر الحدوث - عندما نضم في يدنا يدا محبوبة ونقرأ بعينين يعذبهما دخان الساعات ولهيبها، نقرأ بجلاء في عيني شخص آخر، وتداعب سمعنا الذي أصمه ضجيج العالم نبرات صوت عزيز.
إذ ذاك تنبسط الأنوار في أرجاء جناننا وتضرب من جديد نبضات العاطفة الدفينة وتستقر لواحظنا في محاجرها.
وينفتح كتاب القلب فنعني ما نقول، ونقف على ما نود معرفته، ويرقب الواحد منا فيض حياته ويسمع همسها الشيق، ويلمس حركتها المتتابعة، فيتمتع بالحقول اللامعة، ويتمتع بالشمس والنسيم. وأخيرا ، أخيرا يداهم ذلك الفيض الحار هدوء حبس فيه الخيال المراوغ المدعو بالراحة: نسمة باردة تهب على وجهه، وسكون غير مرغوب فيه يهجع في صدره.
إذ ذاك تتخيله عارفا آكاما أشرقت عليها حياته وبحرا تسير إليه أعمار الأنهار!
هوامش
الفصل السادس
الذكرى السادسة
في صباح الغد طرق بابي باكرا ودخل علي طبيب البلدة الذي كان بصلاحه وعنايته صديق كل نفس فيها. شهد تعاقب جيلين اثنين من أهلها والأطفال الذين دخلوا العالم على يده وصلوا إلى دور الأبوة والأمومة، وما زال يعاملهم جميعا معاملة الأب لأبنائه. لم يتزوج مع أنه كان حتى في شيخوخته قويا جميلا. رأيته مذ عرفته كما يقف الآن أمامي وعيناه الزرقاوان الرائقتان يلمعان تحت حاجبيه وشعره الأبيض الكثيف يتلوى جعديا، وهو يلبس الجرابات البيضاء وهذا الحذاء ذا العرى الفضية، وعلى ذراعه هذا الرداء البني الذي قضى عمره جديدا. وعصاه هذه الذهبية الرأس كان يحملها بعينها أيام طفولتي إذ يقف إلى جانب سريري ليجس نبضي ويصف لي الدواء. ولقد تعددت الأمراض في حداثتي إلا أن إيماني بقدرة هذا الرجل كان كفيلا بالشفاء، لأني لم أشك لحظة في كفاءته وسطوته على جميع العلل، فكان قول والدتي بوجوب استدعاء الطبيب يوازي عندي قولها بوجوب حضور الخياط ليفصل لي قميصا بذلة. وما كان علي إلا أن أتناول أول جرعة من الدواء لأشعر ببدء الشفاء والتحسن.
دخل الغرفة قائلا: «كيف حالك يا صديقي الصغير؟ أرى على وجهك دلائل التعب فلا تكثر من الدرس. ليس لدي وقت طويل للحديث. إنما جئت أقول لك أن تكف عن زيارة الكونتس ماري. لقد صرفت الليل قرب سريرها وأنت علة اضطرابها فامتنع عن زيارتها إذا كانت حقيقة عزيزة عليك. ستذهب هي إلى البرية قريبا وخير لك أن تسافر أنت أيضا وتغيب مدة. والآن عم صباحا وكن أبدا ولدا صالحا كما هو عهدي بك.»
قال هذه الكلمات وتناول يدي ناظرا في عيني بعطف مستفهما كمن يود سلب الوعد سلبا. ثم غادرني ليعود الأطفال المرضى.
أدهشني أن يهتدي غريب إلى أسرار نفسي قبل أن أكون على علم تام بها. غير أني لم أفكر في ذلك إلا عندما بلغ الطبيب أطراف الشارع، فجاش قلبي كالماء طال مكوثه على النار فغلى فجأة وفار وعلا حتى ضاق عليه الإناء فتدفق.
كيف لا أرى صديقتي بعد الآن وأنا لا أحيا إلا ساعة أكون قربها؟ سأقابلها هادئا لا أتحرك، وصامتا لا أتكلم، بل أكتفي بالوقوف عند النافذة وأنظر إليها وهي نائمة تحلم. كيف لا أراها؟ وكيف يمكنني أن لا أراها؟ بل كيف لا أودعها؟ هي لا تعلم، ولا تستطيع أن تعلم، أني أحبها. وأنا لا أرجو شيئا ولا طمع لي في شيء وقلبي ينبض بانتظام في حضرتها. إنما أحتاج إلى الشعور بوجودها، أحتاج إلى استنشاق روحها، وعلي أن أزورها لأنها تنتظرني. ترى أيجمعنا القدر بلا مأرب؟ ألست أنا تعزيتها، وأليس أنها موضع راحتي؟ أتدني الحياة بين روحين شأنها بذرات الرمل في الصحراء ثم تبعث بريح سموم فتتلاعب بضعفها وتذرها في الهواء غبارا؟ أليس أن نفوسا سعدت بالتقارب والتفاهم تحافظ على سعادتها، ولا تفصل بينها قوة ولو أسرفت في الدفاع والنضال وقضت في سبيل ذلك الاتصال؟ وقد تحتقرني الفتاة إن أنا جازفت بحبها وأجفلت لأول إشارة إجفال تلك الشجرة عند دوي الرعد في الفضاء.
توقفت بغتة وإذا بكلمة «حبها» تتراجع كالأصداء في جميع أنحاء قلبي مخيفة مروعة، «حبها؟» وماذا فعلت لأستحقه؟ هي لا تعرفني إلا قليلا، وإذا استطاعت أن تحبني فعلي مصارحتها بأني لست أهلا لتلك النعمة. وأخذت أفكاري وآمالي تتصاعد في جو نفسي ثم تهبط يائسة كأطيار تحاول التحليق في بعيد السماء وهي تجهل أن الأسلاك ضربت حولها سياجا محكما. إن لم تكن هذه السعادة سعادتي، فلماذا تحل على مقربة مني؟ ألا يصنع الله العجائب؟ ألا يصنعها كل يوم وكل ساعة؟ ألم يصغ إلى صلواتي مرارا أرسلتها نحو علاه فعادت إلي تحمل مساعدة للمنكوب وتعزية للمضني؟ أنا وهي لا ننشد خيرا دنيويا، إلا أن نفسينا المتفاهمتين تودان عبور هذه الحياة يدا بيد ووجها إزاء وجه ، وأن أكون أنا عضدها في آلامها وأن تكون هي تعزيتي أو حملي الغالي، وهكذا إلى نهاية العمر. ولماذا لا يمد الله بعمرها وينعم عليها من أيامها بربيع بعد أوان الربيع ويبرئ سقامها؟ آه! يا للصور العذبة تمر أمام عيني! هي تملك قصر والدتها في «التيرول». هناك نمكث فوق الآكام الخضراء في هواء الجبال النقي بين أصحاء لم تضعفهم المدنية، بعيدا عن هموم العالم وجهوده حيث لا حاسد ولا عذول. هناك ندرك بسلام غروب الحياة فتذوب أيامنا الأخيرة رويدا رويدا كاحمرار الشفق لدى هجوم الظلام ...
تراءت لي البحيرة القاتمة بأمواجها الهادئة ترجع صورة الجبال البعيدة يجلل الثلج أعاليها. وسمعت رنين أجراس القطيع وأغاني الرعاة، وخلت الشيوخ والشبان متجمعين عند المساء في مدخل القرية، وفوق هؤلاء جميعا لمحت خيال الفتاة سابحا كملك حب وسلام، ورأيتني دليلا لها وصديقا.
عندئذ صرخت بأعلى صوتي: «يا لك من غبي! يا لك من غبي! أخارت قواك وذل شممك، وبلغ بك الحمق والغرور هذا المبلغ؟ ألا تيقظ وانهض، واذكر من أنت واذكر فروقا تحول بينك وبينها! هي صالحة لطيفة تسر برؤية نفسها منعكسة على مرآة نفس أخرى. غير أن ثقتها هذه الشبيهة بثقة الأطفال، وكيفية تصرفها معك ومعاملتها لك، كلها تنم عن خلو فؤادها من عاطفة عميقة تحييك. ألم تر في ليالي الصيف المنيرة وأنت تائه وحدك بين أحراج الزان كيف يسكب البدر فضي أشعته على كل غصن وكل ورقة، ويضيء بركة الأسماء ذات المياه القاتمة فيشرق ممثلا في كل قطرة وجزء من قطرة؟ ذاك موقف الفتاة إزاء ليل هذه الحياة، ولئن نشرت في فؤادك نورا ترتسم خلاله خطوط صورتها المأنوسة فلا ترج شعاعا، لا ترج شعاعا حارا لاذعا! لا ترج عاطفة حارة تشبعك وتحييك!»
مثلت صورتها أمامي مثول الحياة ليس كذكرى بل كرؤيا، فاستوقفني جمالها. ذلك لم يكن جمال الرونق الزاهي الذي تفتننا به الفتاة الحسناء لأول نظرة ثم ينقضي ويزول بزوال الربيع. بل كان جمال الانسجام والالتئام بين أجزاء كيانها، وجمال الحركة الصادقة والتعبير الروحي ، ومعنى السكون المقيم. إن جمال الشكل واللون الذي تمنحه الطبيعة بنات حواء لا يرضي إلا إذا أظهرت صاحبته أهلية له بل وتغلبا عليه. وإلا فهو يغضب ويسخط كأنه رداء ملكي تجره في المسرح ممثلة ذات فن خامل سقيم. الجمال الروحي هو الجمال الوحيد يمد الصورة الترابية الجامدة بالحياة والمعنى ويصير المنفر جذابا والقبيح مليحا.
كلما أمعنت النظر في طيف الحبيبة أدركت منها نبل الجمال وعمق الروح كأن الوحي بذلك الجمال يهبط علي بالتدريج. أواه إنها لغبطة، إنها لسعادة تلمس يدي! وما غاية الزمن من تعذيبي؟ أيريني قمة الهناء ثم يلقي بي غدرا في القفار حيث الرمال المحرقة والوحدة الموجعة؟ ما الغاية من اكتشاف كنوز تحويها أرضنا هذه؟ أليس دوام الشقاء خيرا من أن يحب المرء مرة ثم يبقى إلى الأبد وحيدا، ويرجو يوما ليسحق اليأس قلبه دواما، ويلمح النور طرفه ليصرف حياته في الظلمات كفيفا؟ هذا ألم يفوق الآلام البشرية مجموعة بتمامها.
طال تشتت أفكاري وتتابعها المشوش المختل، إلى أن هدأت عاطفة شعوري وتجمعت خواطري وانتظمت قليلا قليلا. يسمي الناس هذا الخمود تفكيرا ولكن التفكير في مثل ذلك محال وما لدينا من قوة سوى الترقب والانتظار. وما هي نتيجة هذا وذاك؟ هي تلك التي يشهدها الكيماوي بعد أن تتخذ العناصر أشكالها فيذهله أن نتائج التحليل تختلف عن مقدماته الاختلاف كله.
كذلك كانت الكلمة التي لفظتها بعد العودة من غيبوبتي هي هذه «يجب أن أسافر»! فجلست إلى مكتبي وكتبت إلى الطبيب إني سأغيب أسبوعين وإني أترك الأمر له. ثم انتحلت عذرا قدمته لأبوي وغادرت البلدة في ذلك المساء ووجهتي جبال «التيرول».
الفصل السابع
الذكرى السابعة
ما أسعده فتى ذاك الذي جال في أنحاء «التيرول» فتسلق جبالها الشاهقة وهبط أوديتها العميقة برفقة صديق محبوب: أليس أن حظا كهذا يبعث فيه نشاطا ويطيل منه العمر؟ وما أشقى ذاك الذي يجوب البراري والقفار والغابات والمدن وحده لا نديم له سوى أفكاره المؤلمة.
ترى ماذا يهمني من هاتيك الجبال المتجلية بحللها الخضراء ، ومن هذه الوهاد الغائرة السوداء، وتلك البحيرات الزرقاء، والشلالات المتدفقة تتكسر فيها خطوط الأنوار والظلمات؟ عوضا عن أن أنظر إليها ها هي تنظر إلي وبها ذهول لدلائل اليأس المرسومة على الوجه البشري الماثل أمامها، وذهولها يسحق قلبي ويثقل علي انفرادي إذ ليس في هذا العالم الواسع شخص يشتاق إلي، ويرغب في، ويؤثرني على أي أحد غيري. كنت أرقد كل مساء وأستيقظ كل صباح بهذا اللهف المبرح، كأنما هو نغمة نفذت في سمعي واحتلت ذاكرتي دون أمل في الجلاء.
دخلت ذات مساء إحدى الفنادق تعب النفس والجسد وجلست بين الحضور فتوجهت إلي أنظارهم ورأيت فيها خيال الشفقة على هذا الغريب التائه في ديارهم، فأمضتني جراح قلبي ومضيت أسعى تحت جنح الظلام حيث لا عين ترى ولا شفيق يشفق. وعدت إلى غرفتي في أواخر الليل وانطرحت على مضجعي الملتهب مهمهما لنفسي بأغنية شوبرت المعروفة «حيث لست موجودا هناك السلام والطمأنينة». ومرت الأيام وحالي في ازدياد حتى أمسيت لا أحتمل منظر المغبوطين الضاحكين ومشاهد الطبيعة البديعة الدائمة، فصرت أنام ساعات النهار بطولها وأصرف الليالي متجولا من مكان إلى مكان. إلا أن عاطفة قوية كانت تستولي علي فتحول أفكاري عن مجراها وتردني إلى مخدعي، وهي عاطفة الخوف أو إحساس الخوف، سمه ما تشاء.
نعم كنت أخاف في تلك الليالي القمراء إذ أتسلق أكتاف الأطواد في أدغال ليس بمعروف مداها ولا منتهاها بمأمون؛ فتتوتر أعصابي ويتيقظ بصري ويرهف سمعي فأرى أشباحا بعيدة مبهمة، وأتوجس أصواتا ذات همس ودوي وطنين تنبعث من كل صوب، وتتعثر قدمي في جذور انبثقت من شقوق الصخور، هذا إن لم تزلق في عطفة بلت ترابها مياه الشلال؛ فينكمش في فؤادي القانط وتهزه قشعريرة البرد وليس لديه من حرارة التذكار ما يدفئه ومن حلو الرجية ما يتعلل به. إن من أخذه مرة وجل الليل لعالم بأنه وجل يتناول النفس والجسد معا.
لا أشك أن الخوف كان أول عذاب الإنسان يوم ظن نفسه منسيا من الله. ثم تشدد وخف اضطرابه بتعاون أبناء الله فيما بينهم واتفاق كلمتهم على التكاتف والتضامن. وهو لا يعرف الوحدة الساحقة واليأس الصميم إلا عندما يعوزه الحب والمعونة فيخال له أنه إنما انقطع عن شركة الأحياء لأن الله هجره وأغفل وجوده. يسائل الطبيعة وعجائبها فيلقى من سكوتها هولا لا مواساة، وينقل خطواته على الأرض المتينة الصلبة فتترنح تحت وطئه وتتوارى كزبد البحر وموجه. وإن رفع بنظره نحو النور ينشره القمر صاعدا وراء أحراج الشربين حسب أشعته رءوس حراب تطعن مهج الصخور، وخيوطه عقارب ساعة دارت دورتها زمنا ووقفت وقوفا لا ينتهي.
النجوم تدور مسرعة في أبراجها السحيقة لا تلتفت إلى تعساء الغبراء فلا تعزية في مشهدها، بل هو يزيد النفس شعورا بالوحدة والهجران. وما من سلوى ممكنة في غير عمل الطبيعة المستطرد بدقة يشمل الموجودات بأسرها لا تشويش يزعج ذلك النظام الكامل العظيم.
هاك الشلال، يا أيها المتأمل! فإن تدفق أمواهه أنال الجلاميد على جانبيه حياة وكساها بطحلب ذي خضرة قاتمة، وفي ظل الجلاميد تختبئ تلك الزهرة النحيفة المدعوة «لا تنسني!» هذه واحدة من ملايين الزهرات المنورات قرب كل ساقية وكل جدول في كل روض من رياض الأرض. وقد نورن في أمكنتهن مرارا عديدة منذ أن نثر الكون على الخليقة ثروة حيويته التي لا نفاد لها. أحصيت جميع الخطوط في وريقات هذه الزهرة، وعددت جميع الذرات في كأسها، وضبطت جميع ألياف جذعها فليس من قوة أرضية مهما طغت وبطشت أن تزيد عليها أو تنقص منها فتيلا. وإذا استعنا بالمجهر (المكروسكوب) لتبين عمل الطبيعة واكتشاف خفاياها في أدق أنواع إنتاجها وجدنا في أحشاء البذور الهادئة، وفي البراعم والأزهار والأنسجة والخلايا، الناموس ذاته متكررا متجددا، ويظل نظام الكون في أصغر الذرات وأنحف الألياف أبديا لا يلمسه تغير ولا يلحق به تبديل. أنى توجهنا لقينا النظام الأوحد، فالنفس من هذا العالم الصوري عين أحاطت بها المرايا ففقدت ذاتها في تكرار لا حد له ولا نهاية. وفي كل كائن وكل موجود يستقر الأبد الآبد الذي يختلب ذهنك إزاء هذه الزهرة النحيفة.
وهناك في أعالي الفلك تجد النظام بعينه نافذا في الأجرام الكبرى: فالأقمار تدور حول السيارات، والسيارات حول الشموس، والشموس حول شموس أخرى وما السديم الخيالي السحيق إلا عالم عجائب وقدرة وجمال. ولا تفتأ هذه الكواكب العظيمة تدور في أبراجها لتظفر الأرض بتوالي الفصول فتتمكن الزهرة من البروز والنمو، وتنسج منها الخلايا وتنتشر الأوراق فترصع هي وأخواتها بساط الحقول. كذلك ينفذ النظام في الفراشة المتوسدة أحضان الأزهار، فإن يقظتها للوجود وتمتعها بالحياة وكيفية تنفسها ونموها لأعجب من نسيج النبات ودورة الشموس. ونحن البشر نظير كل كائن إنما يختص بنا النظام الكلي الخالد، فكم من موجود انتبه من غفلة العدم وتحرك وعاش ثم اختفى غير تارك لمروره من أثر!
فإذا كان الكل بموجوداته الكبيرة والصغيرة وما يدبرها من حكمة وقدرة، إذا كان هذا الكل بأعجوبة حياته وحياة أعاجيبه صنع كائن أحد، فلماذا أنت ترتعد وماذا تخشى؟ أليس الأحرى بك أن تخر ساجدا مدركا ضعف نفسك وعدمها ثم أن ترفع عينيك نحوه واثقا بحبه وعطفه؟ أليس أن فيك شيئا أثمن من نسيج الأزهار وأعضاء الخفافيش وأبراج السيارات؟ إذا كان ذلك ورأيت خيالك في صفحة الوجود محاطا بتألق الكائن الدائم وشعرت بحضوره فوقك وتحتك وفي داخلك وإنما بذلك الحضور الإلهي يصبح الشبح منك إنسانا، والقلق عندك راحة، والانقطاع اشتراكا، والانفراد واحدية كبرى؛ إذا كان ذلك وعرفت أنك تناجي إلهك إذ تصرخ في ليل الحياة البهيم: «أبتي، فلتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض وكذلك في!» فكيف لا تنقشع عنك إذن غيوم الأكدار ويبزغ فجر السرور حاملا معه تعزية ونورا؟ إن لك من الله يدا لا تهملك بل تظل تعضدك وتقودك عندما تهتز الراسيات وتنطفئ الشموس. حيثما حللت تكن معه ويكن معك وهو قريب إليك على الدوام. له الخليقة بورودها وأشواكها، وله الإنسان بأفراحه وأتراحه «ولا يحدث شيء إلا بإرادة الله وسماحه.»
بمثل هذه الخواطر كنت أسلي نفسي فأتقبلها تارة فرحا وطورا حزينا. لأنه إن نحن بلغنا لحظة مقر الراحة والسلام القائم في غور الروح فيتعذر علينا المكث هناك طويلا. وكثر من ينسى تلك الخلوة بعد الاهتداء إليها، وينسى حتى السبيل الفكري الممتد بين العالم وبينها.
انقضت الأسابيع ولم أتلق من فتاتي حرفا، فساورني هم جديد إذ قلت لنفسي: «ربما توفيت وهي تستريح الآن في حضن السلام الأبدي.» فأقامت هذه الكلمات تحوم حول شفتي وكلما بالغت في ازدجارها بالغت هي في إثبات معناها.
فعلام الازدجار وقد يكون حل المقدور؟ ألم يقل الطبيب إنها ضعيفة القلب وإنه يتوقع أن تفارق الحياة من إلى يوم؟ فهل أغتفر لنفسي تهاونها إذا غادرت صديقتي الدنيا دون أن أودعها وأبوح لها بحبي ولو في الساعة الأخيرة؟ ألا يتحتم علي البحث عنها الآن لأستمع منها كلمات الحب والغفران؟ لماذا يتردد الناس في قضاء الشئون ويؤجلون مخيرين غبطة تتيسر في الحال ناسين أن كل دقيقة قد تكون الأخيرة وأن ما فقد من الزمن فقد فقد من الأبدية؟
فكرت في اجتماعي والطبيب قبيل السفر فأدركت أني لم أرحل إلا لأثبت له أني قوي صلب الإرادة وقد عز علي الاعتراف بضعفي وباحتياجي إلى صديقتي، فاتضح لي الواجب في الحال وهو العودة إليها على استعداد لقبول ما تبعث به إلينا السماء من فرح وترح، وذكرت قول الطبيب بقرب ذهابها إلى البرية وقولها لي قبلئذ أنها اعتادت الاصطياف في قصرها في التيرول. أتكون إذن على مقربة مني لا يفصل بيننا سوى سفر ساعات قلائل؟ ما كاد يتضح الفكر حتى عاجلته بالتنفيذ، فغادرت المكان عند انبثاق الفجر ووجدني الغروب أمام قصرها.
وكان المساء هادئا جميلا وقد ضرب مجد الغروب فوق قمم الجبال رواقا عسجديا فسبحت الهضاب في زرقة وردية، وتصاعد من الأودية ضباب رمادي فجعل يستحيل لامعا بملامسة الهواء المنير، ثم اتجه نحو أعالي الجو كبحر ضياء متحرك. وتعدد تلك الألوان وألاعيب هاتيك الأنوار كان يعكس على صفحة البحيرة المضطربة فتبدو فيها ذرى الجبال مراقصة رءوس الأشجار وسطح الكنيسة المستدير، وكأن تلك الرسوم في الماء كانت هي بعينها الحد الفاصل بين عالمي المحسوس والخيال.
استقرت عيناي على القصر القديم حيث أرجو الاجتماع بها، ولم يكن في النوافذ نور ولا حول الجدران صوت يقلق سكون المساء. إن قلبي ليحدثني بلقياها، أيكذبني اليوم قلبي ويخونني الرجاء؟ مشيت متمهلا فاجتزت الباب الخارجي ووجدتني في ساحة القصر حيث يسير الجندي الحارس ذهابا وإيابا. بادرته بالسؤال عن الكونتس فأجاب إنها في القصر. فقرعت جرس الدخول وانتظرت، وفي تلك اللحظة دهشت لما أنا فاعل إذ قد يكون بين الخدم من يعرفني، ولا أنا أجرأ على ذكر اسمي لأني قضيت الأسابيع الماضية تائها في الجبال وقد أهملت أمر لباسي وهندامي حتى صرت أشبه بالمتسولين، فماذا أقول، وعمن أسأل؟ لم يطل هجسي لأن الباب فتح وظهر منه البواب في زي خدم الأمراء وحدق في مبهوتا.
سألت عن السيدة الإنجليزية وصيفة الكونتس فقال إنها هناك. فطلبت قرطاسا وقلما وكتبت إليها: إني قدمت للاستعلام عن صحة الكونتس.
فبعث البواب بالرسالة مع خادم سمعت وقع خطواته المتباعدة في أبهاء القصر وممراته، وما تلاشت تلك الخطوات حتى صار موقفي لا يحتمل، فأخذت أنظر إلى ما علق على الجدران من صور أفراد الأسرة الراحلين: فرسان تدججوا بالسلاح، وسيدات ارتدين الزي القديم وفي وسطهن راهبة بثوب ناصع البياض وعلى صدرها صليب أحمر. لقد رأيت هذه الصور قبل اليوم في أحوال مختلفة ولم أفكر قط أن قلوبا خفقت في هذه الصدور. وها إن ملامح هذه الوجوه تظهر اليوم كتبا ملأى بالمعاني وكأنها تقول جميعا: «لقد عشنا نحن أيضا وتألمنا مثلك.» نعم، نعم تحت هذه الأسلحة دفنت أسرار كالتي تفطر الآن حشاشتي، وفي صدر الراهبة ذات الثوب الأبيض والصليب الأحمر جاشت العواطف المتلاطمة الآن في صدري. خيل إلي أن العيون تطل علي من الرسوم مشفقة. ثم اختفت الشفقة وحل الكبرياء مكانها وقالت الصور وأهلها: «أنت لست منا» وكانت تمر الدقائق فينمو وجلي إلى أن سمعت وقع أقدام خفيفة. وإذا بالسيدة الإنجليزية تشير إلي بدخول إحدى الغرف، فنظرت إليها مستفسرا لأقف على ما تعرف مما جرى ولكن ملامحها بقيت هادئة لا يبدو عليها دهشة أو تعجب أو أي اهتمام خاص. وقالت بصوت رزين إن صحة الكونتس في تحسن وإنها ستقابلني بعد نصف ساعة.
مثلما يأمل الغريق بالنجاة بعد يأس الموت إذ يرى نفسه آمنا على الشاطئ عقب أن تقاذفته اللجج، كذلك كان وقع هذه الكلمات في نفسي. ها أنذا أدنو إذن من حقيقة جديدة وما آلامي الماضية سوى أضغاث أحلام. قليلة هي هذه اللمحات، لمحات الغبطة المتناهية، في حياة الإنسان وألوف ألوف من البشر لا يتذوقون هناءها. إنما الأم التي تناغي رضيعها لأول مرة، والوالد الذي يذهب لاستقبال وحيده عائدا من الحرب وقد أثقلت جبهته أكاليل المجد والنصر، والشاعر الذي تعترف له أمته بالعبقرية وتحييه بالهتاف والثناء، والشاب الذي يشعر بأن يد فتاته تسيل حبا في يده، أولئك وحدهم يدركون لذة الأحلام إذا هي انقلبت حقائق.
مضى الوقت المعين فجاء الخادم وسار بي خلال غرف كثيرة ثم فتح بابا فلمحت في نور الشفق الضئيل شبحا أبيض أمام نافذة عالية أطلت على البحيرة والجبال المتلظية الساطعة. - «ما أعجب تلاقى البشر بعد الفراق الطويل!» سمعت صوتها العذب يلفظ هذه الكلمات فكانت كل منها بردا على قلبي وسلاما.
فرددت كلماتها قائلا: «ما أعجب التلاقي وما أعجب الفراق!» وأمسكت بيدها فأدركت أننا معا وعلى مقربة الواحد من الآخر.
فقالت: «إذا هم افترقوا فما الذنب إلا ذنبهم.» قالت ذلك وصوتها المنسجم النبرات عادة كموسيقى سماوية، يتهدج قليلا.
فأجبت: «صحيح. ولكن قولي لي أولا كيف أنت؟ هل نستطيع التكلم؟»
فقالت باسمة: «يا صديقي العزيز، أنت تعلم أن صحتي غير جيدة؛ فإذا زعمتها متحسنة فعلت حبا بطبيبي الذي أنا مدينة لعلمه وعطفه بحياتي منذ حداثتي القصوى. وقد وقفت حركة قلبي في إحدى الليالي قبل مغادرتي المدينة فعانيت ألما شديدا وحسبت تلك الحركة واقفة دواما فراعه ذلك ولكنه أمر مضى فلماذا نذكره؟ شيء واحد يؤلمني: كنت أرجو أن يعانقني الموت بلا وجع والآن أعلم أن الأوجاع ستعذبني ساعة الرحيل وتفعم تلك الساعة مرارة.» ثم وضعت يدها على قلبها، وتابعت: «ولكن، قل أين هذه الغيبة الطويلة؟ ولماذا قطعت عني أخبارك؟ لقد أورد لي الطبيب جملة أسباب لسفرك الفجائي، فصارحته القول أني لا أصدقه في واحد منها. فذكرني أخيرا سببا هو أدنى تلك الأسباب إلى الغرابة. أتعلم ما هو؟»
فقاطعتها خوفا من أن أسمع كلمة تؤلمني وقلت: «قد يخال السبب وهميا وهو ليس بوهمي. وهذا مضى أيضا فلماذا نذكره؟»
قالت: «لماذا مضى يا صديقي؟ عندما ذكر السبب الأخير قلت له إني لا أفهم ما تعنيان؟ أنا فتاة عليلة بائسة وحياة جسدي موت بطيء، وقد أرسلت السماء صديقين يرثيان لحالي أو يحبانني - على زعم الدكتور - فأي شيء في ذلك يقلق راحتي أو راحتهما؟ كنت أقرأ قصائد شاعري المحبوب «وردسورث» قبيل محادثة الطبيب فقلت له: «يا طبيبي العزيز إن الأفكار كثيرة متنوعة والكلام المعبر عنها قليل فنرغم على تصديق ما لا نقصد ولا يفهم الآخرون ماذا نريد باستعمال كلمة واحدة فيؤلونها ما شاء الوهم والخيال. فلو سمع من يجهلنا أنني أحب صديقي الفتى وإنه هو الآخر يحبني لخالنا شبيهين بروميو وجولييت، ولو كان الأمر كذلك لوافقتك على وجوب ملاشاته. ولكن أليس إنك تحبني أنت أيضا يا طبيبي الشيخ كما أحبك؟ ولقد أحببتك أعواما طوالا ولا أدري هل بحت لك بذلك قبل الآن، فما أنا بيائسة ولا أنا بشقية. وأقول لك إنك خصصتني بمودة شديدة وإنك تغار من صديقي الفتى. ألا تأتيني كل صباح متفقدا حالي وأنت تعلم أنه لم يجد شيء؟ ألا تقدم لي أجمل أزهار حديقتك؟ ألم تحملني على إهداء صورتي إليك؟ وهناك أمر آخر قد يحسن كتمانه، ألم تدخل علي يوم الأحد الماضي فجلست قربي وأنت تحسبني مستغرقة في النوم، وحدقت في طويلا فكانت نظراتك كأشعة الشمس تلثم وجهي. ثم بكيت وأخفيت وجهك براحتيك وقلت بصوت يقطعه الشهيق «ماري! ماري»! آه، يا طبيبي العزيز! صديقنا الفتى لم يأت أمرا كهذا فلماذا أقصيته عني؟» قلت ذلك بلهجة جمعت بين الجد والمزاح كما اعتدت مخاطبته فتورد وجهه خجلا وأسفت لإيلام عواطفه. ثم أخذت كتاب وردسورث وقلت: «هذا رجل آخر أحبه بكل قلبي، أفهمه ويفهمني مع أني لم أره في حياتي. وأريد أن أتلو على مسامعك إحدى قصائده لتعلم كيف يحب البشر ويحبون وإن الحب بركة إلهية ينزلها المحب على المحبوب فيفرش طريقه بالورد والرياحين.» ثم قرأت له قصيدة «فتاة الجبال». والآن يا صديقي الصغير، أدن السراج واتل لي هذه القصيدة ذات المعاني المنعشة. إن روح الجمال الخفية تلامسها كما يلامس احمرار الشفق رءوس الجبال المكللة بالثلوج البيضاء.»
تكلمت فصارت عواطفي هادئة رضية جليلة. انتهت العاصفة وانعكس طيف البنية كصفحة البدر على بحيرة حبي، بل على بحر الحب الشامل الذي يدعيه كل لنفسه بينا هو ينتشر في كل مكان لأن منه حياة بني الإنسان. الحب بحر الحياة الهادئ الثائر معا في كل قلب، المفرق بين القلوب والجامع بينها بعاطفة واحدة ووله واحد. وددت أن ألزم الصمت كالطبيعة المنبسطة أمامنا. غير أن الكونتس دفعت إلي الكتاب فقرأت.
الفصل الثامن
فتاة الجبال
يا فتاة الجبال العذبة، جمالك هو غناك الوحيد: أربعة عشر ربيعا سكبت على وجهك بهاءها فحسبك هي ثروة وجاها.
هذه الصخور الرمادية، وتلك الأشجار الشبيهة بستار أسفر عن نصف وجه السماء، وذياك الشلال المهمهم في أذن البحيرة المنصتة، وذيالك الخليج الصغير، وهذه الطريق الضيقة المؤدية إلى مسكنك، جميعها تخال مرسومة بخطوط الأحلام وألوانها. وأنا أباركك من أعماق قلبي، يا فتاة يبعث جمالها في هذا النور الأرضي نورا سماويا.
ليكن الله في عونك حتى اليوم الأخير! أنا لا أعرفك ولا أعرف ذويك على أن العبرات تجول في عيني. سأذكرك في صلواتي بخشوع بعد ذهابي لأني لم أر حتى اليوم وجها كوجهك بدت فيه الرقة في حشمة واللطف في طهر تام.
تعيشين هنا بعيدا عن البشر كبذرة قذفت بها يد الصدف، فلا ترخين أجفانك خجلا ولا ترتدي ملامحك احمرار الحياء. على جبهتك تتجلى حرية أهل الجبال وصراحتهم، وفي ابتسامتك يبسم الجود والحنان، وعطفك يتدفق تدفق خواطرك المنعتقة من ذهنك رغم قيود جهلك وعلى قلة متاعك اللفظي. قيود تشعرين بها وتجاهدين في التغلب عليها فتجيء إشارتك مفعمة نشاطا ولطفا معا. كذلك رأيت مرة أطيارا تصفق بأجنحتها لمكافحة العاصفة.
كل يد تقطف لك الأزهار، أيتها الحسناء، فيا سعد من عاش قربك في واد صغير كثيف الشجر كثير الزهر، يلبس كملابسك ويرعى الأغنام مثلك! وهناك أمنية خير من هذه، ولكن أنت موجة من البحر الإنساني العجيب. ليت لي بعض السلطة عليك وليتني من جيرانك لأتمتع بصوتك وأهنأ بمرآك! بل ليتني أخوك الأكبر أو أبوك أو أي واحد من أقاربك!
وإني لأحمد السماء التي قادتني إلى هذا المكان المنفرد حيث عرفت السرور. سأذهب حاملا معي الجزاء لأن للذاكرة ميزة كأنها ميزة النظر. فلماذا أكره الابتعاد؟
وها إني أفرح وأتألم في آن واحد لفراقك، يا فتاة الجبال الحلوة! وسأحفظ أبدا في ذاكرتي هذه المشاهد البهية حية كما أراها الآن، كوخك الحقير، والبحيرة، والخليج، والشلال لا سيما أنت الروح المحيية جسم هذا الجمال.
وكانت معاني القصيدة تهبط على روحي كقطرات الندى. وإذا بصوتها العذب يتصاعد كنغمة الأرغن تنبه المصلي من تأملاته العميقة، فقالت: «هكذا أريد أن تحبني يا صديقي، وهكذا يحبني الطبيب، وعلينا أن يحب بعضنا بعضا هذا الحب وأن يثق الواحد بالآخر هذه الثقة. وعلى قلة اختباري أظن أن العالم لا يفهم هذا الحب فجعل بنو الإنسان هذه الأرض صحراء يقطنها القحط والكآبة. لا بد أن الحال كانت على غير ما هي في غابر العصور وإلا لما حدثنا «هوميروس» عن «نوزيكا» ذات القلب الحساس؛ أحبت نوزيكا أوديسفس للنظرة الأولى فأسرت إلى صويحباتها: «حبذا الاقتران به! وليت المقام بيننا يطيب له!» ولكنها خجلت أن تسير مع غريب له هذا الجمال الباهر لئلا يقال إنها بحثت عنه. فما أبسط هذه الحكاية وأقربها إلى الواقع! وعندما قيل لها بوجوب رجوعه إلى زوجته وولده لم تتذمر ولم تشك بل امتثلت واختفت، ونحن القراء نشعر بأنها حملت أبدا في فؤادها صورة ذلك الغريب القوي الجميل. لماذا يتجاهل شعراؤنا هذا الحب الصادق وهذا الفراق الهادئ؟ أما الشاعر العصري فيخرج من نوزيكا حبيبة لفرتر لأن الحب لم يعد سوى مقدمة لمأساة الزواج. أهذا هو الحب دون سواه؟ هل جفت ينابيع السعادة الطاهرة؟ ألا يريد الناس أن يعرفوا من الحب غير الخمرة المسكرة ليتجاهلوا ينبوعه العذب الشافي الظمأ؟»
فأردت تعزيز كلامها واستشهدت بالشاعر الإنجليزي القائل: «ألا يحق لي أن أبكي لما فعل الإنسان بالإنسان؟!»
فقالت: «ما أسعد الشعراء! كلماتهم تنطق العواطف الخرساء في ألوف القلوب وتنشد الأصوات أناشيدهم لإظهار أسرار الجنان. فؤادهم يخفق في صدر الغني والفقير على السواء فيطرب معهم السعداء ويبكي التعساء لبكائهم. غير أن وردسورث أحبهم إلي، من أصدقائي من ينفي عنه الشاعرية. أما أنا فأحب منه إعراضه عن الاستعارات العادية، وتجنبه الغلو والمبالغة وما يسمونه «الطيرة الشعرية». هو صادق وأي ميزة توازي هذه؟ هو يفتح عيوننا على الجمال المنثور تحت أقدامنا نثر زهرات الأقحوان في الرياض والمروج، ويسمي الأشياء بأسمائها، ولا يحاول إذهالنا وتغريرنا بل يرغب في إظهار الموجودات يزينها جمال الطبيعة قبل أن تشوهها يد الإنسان. أليست قطرة الندى على الحشيش الأخضر أتم بهاء وأوفى ثناء من لؤلؤة ثمينة صيغت في قالب الذهب؟ أو ليس الينبوع المتدفق من صدر الأرض أجل وأبدع من مياه فرساي الاصطناعية على الإطلاق؟ أليست قصيدة «فتاة الجبال» ألطف وأصدق من «هيلانة» جوتي و«هايدي» بيرون؟ إني آسفة لعدم وجود من يماثل وردسورث في جلاء الفكر وسذاجة التعبير بين شعرائنا. قد كان يشبهه «شلر» لو أنه استوحى خفايا نفسه بمثلما استوحى تاريخ اليونان والرومان، كذلك «روكرت» قد كان يداينه لولا أنه آثر عيشة الرغد والرخاء بين ورود الشرق على سكنى وطننا الفقير. قل الجريء من الشعراء الراضي بنفسه، المقدم على إظهارها مجردة من الزوائد؛ وردسورث ذلك الشاعر. وكما نستمع برضى إلى أعاظم النوابغ حتى عندما لا يكونون أعاظم أملا في مشاركتهم في الشعاع الساطع المنزل إليهم من شمس اللانهاية كما شاركناهم في أفكارهم العادية المألوفة، كذلك أحب وردسورث نفسه حتى في القصائد التي لم تضمن فكرة مستحدثة. لا بد لكبار الشعراء من نوبة راحة يغيب فيها عنهم الوحي والبيان الخلاب؛ فقد نقرأ عند هوميروس عشرات الأبيات لا تزينها لمحة جمال، وكذلك دانتي. بينا بندرس الذي يستفز إعجابكم جميعا يضعف احتمالي وينفد صبري بدوام ذهوله وافتتانه. إني لأضحي أثمن ما لدي لأتمكن من الاصطياف على شاطئ البحيرات حيث يقيم وردسورث فأزور معه الأمكنة التي أحب ووصف، وأحيي الأشجار التي حماها من ضرب الفئوس، وأرقب قربه غياب الشمس الذي أبدع في تصويره بالألفاظ إبداع مصورنا «ترنر» في تمثيله بالألوان.»
لم يكن صوتها ليهبط شأن الأصوات الأخرى في نهاية الخطاب بل كان يرتفع ويقف على نبرة استفهام، كأنها الطفل القائل: «أليس كذلك يا أبي؟» كان ذلك الصوت يصعد نحو مخاطبها بدلا من أن يهوي عليه، تمازجه أنة توسل تجعل مخالفتها أمرا عسيرا.
فقلت: «وردسورث عزيز علي شاعرا وعزيز رجلا. الأفكار في شعره آكام صغيرة نتسلقها بلا تعب بينا هي عند غيره جبال باذخة محفوفة بالصعاب والأخطار. لم أكن أكترث له في البداية حين كان يذهلني أن يعجب به أكبر عقول إنجلترا الحديثة هذا الإعجاب العظيم، ولكني اقتنعت بالتالي أن شاعرا تنظر إليه أمته نظرة الإكبار وتنزله من تقديرها تلك المكانة لجدير بأن يدرس ويستقصى، وإنما تجاهل وجوده خسران للمتجاهل. الإعجاب فن لا يكتسب بلا دراسة وتمرين، فمن الألمان من لا يذوق راسين، ومن الإنجليز من لا يفهم جوته، ومن الفرنسيين من لا يرى في شكسبير إلا فلاحا خشنا. وما مغزى ذلك؟ مغزاه أن طفلا غريرا يفضل موسيقى الرقص على إيقاعات (Symphonics)
بتهوفن ذات الفخامة والجلال. فن الإعجاب الصميم قائم في اكتشاف أرواح الشعوب والتعمق في دراسة كتب تكبرها الأمم، ومن بحث عن الجمال عثر عليه وعلم أن الشعوب لا تعظم من نوابغها إلا من كان حقيقا بالإعجاب، وإن الفرس لم يكونوا مخدوعين في حافظهم، ولا الهنود في كاليدازا. لا يفهم الرجل العظيم من المجابهة الأولى ولا يوصلنا إلى اكتناهه غير المثابرة والنصب والعمل. ومن الغريب أن ما يرضينا لأول نظرة لا يطول استحساننا له.»
فقالت: «ولكن هناك سرا يشترك في كتمانه وإذاعته معا جميع الشعراء وجميع الفنانين وجميع أبطال العالم سواء أكانوا فرسا أو هنودا أو رومان أو ألمان وأكاد لا أدري كيف أصفه: هو فكرة اللانهاية المنبسطة أمامهم ونراها نحن خلال كلامهم وآثارهم. هم يقرءون ما لا نقرأ في كتاب الأبدية ويؤلهون الأشياء التي نزعمها صغيرة زائلة. أما سمعت غوتي ذلك الوثني الصميم منشدا كيف يؤله «السلام العذب النازل من السماء» حيث يقول:
انتشر السلام على الهضاب
وبين رءوس الأشجار الباسقات
لا أثر لهبوب النسيم
وصغار الطير نائمة في الغاب
فانتظر قليلا عما قريب
ترتاح أنت كذلك
عندما نسمع أو نقرأ هذا ألا ترى أشجار الصنوبر ووراءها المسافة الفيحاء انتشرت فيها راحة لا تستطيع الأرض أن تنيلنا إياها؟ فكرة اللانهاية تجدها أبدا في قصائد وردسورث، وذلك السر الكامن وراء الألفاظ والأسجاع والأوزان هو هو الذي يحرك القلب دون غيره. من ذا الذي فهم الجمال الأرضي أكثر من مايكل أنجلو الطلياني؟ ولكنه فهمه لأنه علم أنه انعكاس الجمال السماوي. ألا تذكر موشحه لحبيبته فيتوريا كولونا:
قوة الوجه الجميل تدفعني نحو السماء
ولا أرتاح على الأرض إلى وجه سواه
وبه أحيا متعاليا بين الأرواح المصطفاة
وهي موهبة قل أن يتمتع بها الإنسان الفاني •••
ومع المبدع الذي أبدع صنعها
وبنعمته وبمساعدته أرفع إليه خواطري
وأوقع على انسجام صنيعة أفكاري وأعمالي
لأحب بحرارة امرأة مليحة •••
وإن قصرت دون تحويل نظري
عن عينيها الجميلتين المتألقتين
بنور يدلني إلى سبيل الله
إن قصرت وأحرقني اللهيب علمت
أن تلك النار النبيلة المتأججة في قلبي
إنما هي انعكاس الشعاع السامي
الساطع أبدا في ديار المجد والخلود
بدت عليها آثار التعب فأحجمت عن الكلام فاحترمت سكوتها. إن قلوب الناس تميل إلى الصمت بعد تبادل الأفكار القيمة، ويخيل أن الملائكة ترفرف فوق رءوسهم. نعم خيل إلي أن أجنحة ملائكة الحب والسلام تخيم في تلك الغرفة. نظرت إليها فبدت بثوبها الأبيض كالرؤيا تتجلى في الشفق العابس وإنما يدها المستسلمة في يدي أثبتت لي حضورها الحسي. وأرسل الغروب المودع على محياها شعاعا باهتا ففتحت عينيها وحدقت في مدهوشة مستفسرة، فسطع نور عينيها العجيبتين كبرق خاطف بين أجفانها الوطفاء. وإذا بالبدر صاعدا بين الجبلين المقابلين يسكب ابتساماته على القرية الصغيرة والبحيرة الهادئة. لم أر حياتي مساء أبهى من ذلك المساء ووجها أجمل من ذلك الوجه؛ وجه الحبيبة كما كان في تلك الساعة، فشعرت بموجة حب تطفو فوق قلبي فقلت ثملا: «ماري! دعيني أعترف لك بحبي وأنا بهذا الفتون! ألا تشعرين معي بقربنا الآن من السماء؟ ألا فلتتحد نفسانا بقوة لا تسطو عليها قوة! دعيني أفض إليك بحبي. إني أحبك يا ماري كائنا الحب ما كان، وأشعر بأنك لي لأني لك.»
جثوت قربها ولم أجرأ على النظر إلى عينيها، فسحبت يدها من يدي متمهلة مترددة في البدء وبالتالي مسرعة مصممة، فرفعت طرفي إلى وجهها فرأيت عليه أمارات الألم. وبعد سكوت طويل تململت وزفرت زفرة عميقة وقالت: «كفى؛ لقد آلمتني، على أن الذنب ذنبي والتبعة علي. أقفل النافذة لأني أحس ببرد قارس كأن يدا غريبة لمستني. ابق معي، لكن لا، اذهب. وداعا، ونم نوما هادئا وابتهل إلى الله أن يشملنا برعايته. سنجتمع مساء غد، أليس كذلك؟»
أواه، أين ذهب الهناء وكيف ولت الطمأنينة؟ خرجت من الغرفة وبعثت بالسيدة الإنجليزية إليها وهمت في الظلام. مشيت طويلا على شط البحيرة وعيناي يرقبان نافذة الغرفة التي ضمتني وإياها منذ حين. أخيرا خبت جميع أنوار القصر وتوسط القمر كبد السماء وسقطت أشعته عاموديا على الأرض فبدت خطوط الشرفات والجدران من ذلك القصر كأنها أضيئت بفانوس سحري. وبقيت وحدي في الليل الأدهم: أفكاري موجعة، وقلبي سقيم، ونفسي منفردة لا يحبها ولا يريدها في العالم أحد. شمت الأرض نعشا والسماء كفنا يدور حولي، ولم أدر أحي أنا أم ميت قضى منذ زمن بعيد.
وإذ أطلت النظر إلى النجوم ذات المقل اللامعات، وهي تتم دورتها بانتظام حسبتها منثورة في الفضاء لتنير القلوب المظلمة وتعزي النفوس الآيسة. إذ ذاك فكرت في نجمين سماويين أشرقا من عيني الكونتس ماري على أفقي الحالك السواد وسجدت في فؤادي عاطفة الشكر والحنان لفتاتي العذبة وملكي الحارس الأمين.
الفصل التاسع
الذكرى الأخيرة
كانت الشمس مشرقة على رءوس الجبال وقد دخلت أشعتها من النافذة ساعة استيقظت من رقادي. أهذه هي الشمس التي شيعتها البارحة بنظرات الرجاء والغرام عندما انبسط قرصها كيد صديق يبارك اتحاد قلبينا، ثم هبطت وتوارت كمضمحل الآمال؟ ها هي الآن مشرقة تأتي إلي كطفل يهنئني بعيد ميمون. لقد عادت إلي حيويتي المعتادة وتنبهت في الثقة بالله وبنفسي، ترى أأنا هو ذاك الفتى الذي انطرح على الفراش منذ ساعات قلائل مضني الجسد خائر الروح؟
ما حالنا لولا سنة الكرى؟ نحن نجهل إلى أي العوالم يمضي بنا هذا الرسول الليلي حينما نستسلم له بعيون مغمضة وليس من يتكفل بفتحها في الغد ليعيدنا إلى يقظة العمر. لقد تعلق الإنسان بأهداب الشجاعة والإيمان يوم تلقاه الصديق المجهول فنومه النومة الأولى، ولولا ما فطرنا عليه من ثقة وامتثال لأبى الواحد منا، رغم التعب والنصب، أن يغمض عينيه بمحض إرادته ويدخل مملكة النوم. إنما هما الضعف والشقاء تشتد علينا وطأتهما فنلجأ إلى قوة عليا ونرضخ للنظام البديع النافذ في جميع الكائنات، فنسعد إبان الرقاد بحل الروابط التي تقيد ذاتنا الأبدية الخالدة بذاتنا الأرضية الزائلة.
كل ما جرى بالأمس وكان في ذهني مبهما كضباب المساء أصبح الساعة جليا. شعرت بتقاربنا الواحد من الآخر كأننا أخ وأخت، أو أب وابن، أو خاطب ومخطوبة، وأننا لا يحول بيننا انفصال. بحثت عن معنى ما يدعوه البشر «حبا» وودت، كالشاعر، أن أكون أخاها أو أباها أو أي قريب لها. وددت أن أهتدي إلى اسم يعرفني الناس به عندها لأن العالم ينكر من لم يحمل اسما وكنية. هي قالت إنها تحبني حبا طاهرا يكنه قلبها للنوع الإنساني بأسره وهو مصدر كل صنوف الحب. غير أنها خافت وتألمت لسماع اعترافي، وهذا الألم وذاك الخوف اللذان أتعساني البارحة هما اليوم في عيني حجة راسخة على عاطفة تخصني بها. لماذا نحن نسعى في تفهم نفوس الآخرين ونفوسنا مغلقة على بحثنا؟ ولماذا يستأسرنا ما لا نحسن تمييزه في الطبيعة والأفراد والقلوب؟ أما الأشخاص الذين نعرف منهم جميع الحركات النفسية والبواعث الفكرية فلا ننفعل بتأثيرهم ولا نعيرهم التفاتا، ولا شيء يكلح البهجة والرونق من محيا الحياة كزعم أولئك الماديين الذين يشرحون المعاني ويحللونها تحليلا علميا لينفوا عجائب النفوس وأسرار الأفئدة. إن في كل كائن غموضا يستحيل إدراكه ويتعذر تعريفه: أهو إلهام، أو قدر أو خلق؟ لا الفرد يعي معنى ذلك الغموض المستتر فيه ولا اهتدى الباحثون إلى تفسير مقنع مرضي. وهكذا كل ما حملني بالأمس على القنوط صار اليوم ينبوع أمل. وما زلت بقلبي أعلله حتى تبددت الغيوم من جو مستقبلي السعيد.
خرجت إلى الهواء الطلق وإذا برسول يحمل من الكونتس كتابا. عرفت خط يدها الجميل الرزين فرجوت في تلك اللحظة أعز ما يرجوه العاشق. ويا لسرعان ما خابت آمالي! سألتني في الرسالة أن لا أزورها بعد الظهر لأنها تنتظر ضيوفا من المدينة، ولم تخط كلمة مودة أو كلمة تطمين، وإنما أضافت حاشية معناها أن الطبيب يأتي غدا فاللقاء إلى بعد غد.
يومان يمزقان من كتاب حياتي! ويا ليتهما لم يكونا فلا أحتملهما فوق رأسي كسقف سجن مظلم. علي أن أصبر عليهما ولست مخيرا في التصدق بهما على ملك عوجل بالخلع عن عرشه، أو في التبرع لمتسول يدور حول أبواب المعابد. أطرقت وطال إطراقي، فذكرت صلاة الصبح لأن اليائس أحوج ما يكون إلى الإيمان، وكالفارس يرى الهوة أمامه فيحكم شد اللجام، قلت: «فليكن ما لا مناص منه! ولأقبلنه طائعا دون تذمر فالله لم يخلقنا للغم والمراثي.»
ولماذا لا أتعزى بهذه السطور التي خطتها يدها؟ ولماذا لا أتعزى بأمل الاجتماع القريب؟ سل من عالج السباحة يشر بوجوب رفع رأسك فوق الأمواج، وإلا فاغطس ولا تدع من فمك وعينيك للماء سبيلا. إن لم ترضنا الحياة كواجب فلنقبلها ونعالجها كفن. كلنا هنا أطفال، ولكن ما أغباه طفلا يستسلم للغضب أو يركن إلى العبوس كلما شعر بألم أو حبط له مسعى! وما أحبه طفلا إن بكى ظلت شمس السرور مشرقة في عينيه شروق الزهرة الناضرة وراء غيث نيسان، فلا يطول حتى تنفتح أوراقها ويفوح طيبها لأن حرارة الشمس تمتص عنها قطرات المطر.
وعادت إلي خاطرة فبدأت أنفذها: ذاك أني طالما تمنيت تدوين كل كلمة سمعتها منها وإثبات ما ائتمنتني عليه من جميل الآراء. وها قد حان الوقت الملائم، فصرفت اليومين مستحضرا ساعات اللقاء محييا آثارها. وكنت قريبا منها شاعرا بحبها كأني ممسك بيدها.
وما أغلى تلك الصفحات لدي! كم من مرة قرأتها وأعدت قراءتها! هذه شهود سعادتي الغابرة، يطل من بين سطورها علي وجه معروف وينظر إلي صامتا وسكوته أفصح من الفصاحة. يتلو علي ذكريات الأسى والهناء فيرجعني إلى الماضي وأنطرح على مجموعة حوادثه كالأم على ضريح ولدها الميت منذ أعوام ولا رجاء لها بضمه إلى صدرها مرة أخرى، هذه العاطفة نسميها حزنا، ولكن في الحزن غبطة يعرفها الذين أحبوا كثيرا وتألموا كثيرا.
سل الوالدة عما تشعر به عندما تسدل على وجه ابنتها العروس نقابا لبسته يوم زواجها، مفكرة في زوجها الذي أخذته المنية فحرمتها منه. سل الشاب عما يشعر به إزاء وردة ذابلة جاءته من حبيبته المتوفية وكان أهداها إليها قبل أن يفرق بينهما العالم. كلاهما يبكي وليست دموعهما دموع فرح ولا دموع ترح، بل هي دموع ضحية قدمت آلامها إلى الله بخورا بعد فناء الآمال، وقنعت بالإيمان والثقة بحكمته غير المتناهية.
ولنعد إلى التذكارات التي تجعل الماضي حاضرا: انقضى اليومان وجوانحي تختلج حبورا كلما ولت ساعة فآذنت بقرب اللقاء. وقد كثرت المركبات في اليوم الأول وجاء الفرسان من المدينة فامتلأ القصر بالضيوف والزائرين وخفقت فوق قببه الألوية وصدحت الموسيقى في ساحاته. وعندما أرخى الظلام سدوله ازدحمت الزوارق والقوارب في البحيرة وترددت على صفحة الماء أصداء الأناشيد والأغاني، فأطلت الإصغاء لعلمي أنها هي الأخرى مصغية من نافذتها. وظلت الحركة والجلبة في القصر إلى ما بعد ظهر اليوم التالي حيث عاد الضيوف أدراجهم، وآخر مركبة عادت في المساء إلى المدينة كانت مركبة الطبيب.
عندئذ ضاق صبري وفكرت «ها هي وحدها، أشعر أنها تفكر في وتتمنى وجودي معها. أأترك ليلة أخرى تمر دون أن ألمس يدها فرحا بانتهاء الفراق وابتداء التلاقي الجديد؟ أرى في نافذتها نورا فهل أدعها هناك بلا رفيق؟ ألا يصح أن أتمتع ولو هنية بحضورها العذب؟» وجدتني فجأة أمام بابها وقد ارتفعت يدي لقرع الجرس، فتوقفت قائلا: «ألا سحقا للضعف والتبذل! إن أنا دخلت عليها الآن وقفت أمامها خجلا كسارق يتوارى بالظلام. سآتي إليها صباح غد، سأعود إليها كبطل استحق أن تضفر لجبينه إكليل الحب.»
جاء الصباح وذهبت إليها. أواه! لا تقولوا، أيها الروحيون، إن الروح تحيا بلا جسد! الحياة الحقيقة والسعادة التامة لا يجتمعان إلا حيث يتوحد الروح والجسد فيصيران روحا جسدية وجسدا روحيا. الروح بلا جسد شبح، والجسد بلا روح جثة. وهل تخلو زهرة الحقل من الروح؟ أليس إنها تبرز بقدرة الفكر الباري الذي ينيلها الحياة والجمال؟ ذلك الفكر هو روحها ولكنه أبكم فيها بينا هو ناطق في الإنسان. الحياة الحقيقية حياة الروح والجسد معا، والاجتماع الحقيقي اجتماع الأرواح الأجساد جميعا. أما العالم الذي عشت فيه سعيدا يومين كاملين فقد اضمحل الآن كالخيال، أو كتنهد العدم، لأني الساعة أراها بالروح والجسد.
تمنيت أن أضع يدي على جبهتها وألمس أجفانها لأتثبت من وجودها بالذات وليس بالصورة الحائمة حول روحي ليل نهار، بل كشخص غير شخصي يحبني ويتوق إلي، شخص أثق به ثقتي بنفسي، بعيد عني إنما أقرب إلي من نفسي وبدونه ليست حياتي بالحياة، ولا موتي بالموت، وما أنا سوى لهاث ضائع في الفضاء غير المتناهي.
استقرت عليها طويلا أنظاري وأفكاري فشعرت بتكامل الحياة في ولم يعد يرهبني الموت لأنه لا يقوى على إفناء هذا الحب العظيم إنما هو يكسبه متانة ونبلا.
ما أعذب السكوت قربها وقد تجلت نفسها في وضع أعضائها ومجموع هيئتها وتتابعت السرائر في عينيها! بقيت صامتا وشيء في يصغي كأني سمعتها تهمس في قلبها: «إنك تؤلمني.» ثم بعد هنيهة: «هل اجتمعنا مرة أخرى؟ كن هادئا ولا تيأس ، لا تسل ولا تستفهم، إني أرحب بك فلا تسخط علي.» كل هذا قرأته في عينيها ولكنها لم تتلفظ بكلمة منه. وفتحت شفتيها أخيرا وقالت بصوت متهدج: «ألم يصلك كتاب من الطبيب؟»
أجبت: «كلا.»
فقالت: «الأفضل إذن أن تسمع الخبر مني. اعلم يا صديقي أننا نلتقي اليوم للمرة الأخيرة، فلنفترق بلا تذمر. لقد أسأت إليك عن جهل إذ كيف أعلم أن للنسيم العليل من القوة ما يسقط عن الزهرة وريقاتها! كنت قليلة الخبرة فلم أتوقع أن توحي إليك فتاة بائسة نظيري سوى عواطف الرحمة والإشفاق. ولقد أنزلتك على الرحب والسعة لأنك صديقي منذ أعوام طويلة، وسعدت بلقياك، لماذا أخفي الحقيقة؟ لأني كنت أحبك. إنما المجتمع لا يفهم هذا الحب ولا يسمح به. لقد فتح الطبيب عيني وأخبرني أن حكايتنا شائعة تتفكه بتفاصيلها أندية المدينة، وكتب إلي أخي الأمير يسألني أن أقطع كل علاقة بيني وبينك. إن أسفي لألمك شديد. ولكن قل إنك تعفو عني، ولنفترق صديقين كما التقينا.»
قالت هذا وأسبلت أجفانها لتخفي عني دموعها. فأجبت: «لي يا ماري حياة واحدة وهي قربك، وإرادة واحدة وهي إرادتك. أحبك بحرارة الحب وحرقته، ولكني لست أهلا لك. أنت أرفع مني مقاما وشرفا وطهرا فكيف أرجو أن أدعوك يوما زوجتي؟ وليس ثمة من وسيلة أخرى لنسير معا في سبيل الحياة. ماري، أنت حرة ولا أريد أن تضحي لأجلي شيئا ما. العالم واسع وإن أردت الفراق فلن نجتمع. ولكن إذا شعرت بحب لي وبأنك خاصتي فأعرضي عن المجتمع وانسي أحكامه البلهاء، ودعيني أحملك على ذراعي إلى الهيكل فأجثو هناك وأقسم أن أكون لك في الحياة والموت.»
فأجابت متمهلة: «تمني المستحيل حرام يا صديقي. لو شاء الله أن يجمع بيننا لما بعث إلي بهذه الأوجاع التي تجعلني طفلة عاجزة بائسة. لا تنس أن ما ندعوه قضاء وقدرا، أو ظروفا، أو فروقا اجتماعية إنما هو في الحقيقة إرادة الله، ومن طمع في التغلب عليها فقد عصى الله وكان غرا داعيا إن لم يكن شاذا أثيما. إنما الناس على الأرض كالكواكب في عرض الفضاء يسلكون سبيلا خطتها يد الله فإن تواجه فيها اثنان فذاك إلى حين ثم يفترقان مسيرين. وباطلا يحتجان ويقاومان فنظام الكون باق على ما هو إلى الأبد. أنا لا أرى موضع الخطأ في حبي لك. غير أن الآخرين يرونه فحسبي يا صديقي. ولنمتثل بتواضع وإيمان.»
كان صوتها هادئا يئن فيه الألم العميق، ولم أشأ أن أتخلى عن الجهاد منذ الخطوة الأولى، فضبطت انفعالي ما أمكن لئلا أتهور مجازفا بكلمة تزيد في ألمها وقلت: «تقولين إن هذه مقابلتنا الأخيرة فدعيني أعلم لمن نضحي ذواتنا. لو خالف حبنا نظاما علويا لامتثلت معك بتواضع وإيمان. ولكن الحب هو إرادة الروح السامية وتسخير تلك الإرادة هو إنكار إرادة الله. طالما حاول الإنسان مخادعة الله كأن دهاءه كفيل بتضليل الحكمة الربانية. وهذا محض جنون، نصيب من اقتحمه نصيب قزم يبارز جبارا فليس أمامه من عاقبة سوى أن يسحق ويتلاشى. لا شيء يقوم في وجه حبنا غير التقول والافتراء، فما هو التقول والافتراء؟ أنا أحترم أنظمة المجتمع، أحترمها حتى في تشعبها وارتباكها الحالي لأن الجسم العليل لا يشفى بغير العلاج المركب. وبدون الفروق الاجتماعية والاصطلاحات والعادات التي كثيرا ما نضحك منها يستحيل ترابط البشر فيما بينهم والتعاون لبلوغ غاية وجدنا على الأرض لننتهي إليها، فيتحتم إذن تضحية الشيء الكثير لتلك الآلهة الكاذبة، وكأهل أثينا الذي كانوا يرسلون كل عام سفينة مشحونة بالشبان والفتيات يقدمونهم قربانا، علينا أن ننحر الضحايا على هيكل الحيوان المسيطر على تركيب نظامنا الاجتماعي. ولكن ثقي أنه ليس من قلب حساس رقيق إلا تعذب وتفطر، ولا من رجل ذي إدراك وشعور إلا وأرغم على إطباق جناحي حبه ليسجنه في القفص الاتفاقي الضيق وذلك حادث أبدا قديم جديد. أنت لا تعرفين المجتمع. ولكني لو قصرت الكلام على أصحابي لأسمعتك من المفجعات ما يملأ أسفارا: أحب أحدهم فتاة فأحبته هي كذلك. ولكنه كان فقيرا وكانت هي غنية، فتخاصم الأهل والمعارف وتقاذفوا السباب والشتائم وكانت النتيجة انسحاق القلبين. لماذا؟ لأن المجتمع يرى منتهى الحطة والذل في أن ترتدي السيدة ثوبا مصنوعا من صوف النبات الأمريكي وليس من نسيج الدودة الصينية.
أحب آخر فتاة فأحبته أيضا. ولكنه كان بروتستانيا وكانت هي كاثوليكية، فقامت عليهما قيامة الكهنة والأمهات وانسحق القلبان. لماذا؟ لأنه حصلت مناورات سياسية بين تشارلس الخامس وفرنسيس الأول وهنري الثامن منذ ثلاثة قرون.
وأحب غيره فتاة فأحبته هي أيضا. ولكنه كان شريفا ولم تكن هي ذات حسب، فتصلبت كبرياء أخوته وألهبت الغيرة أخواتها وانسحق القلبان. لماذا؟ لأن جنديا قتل آخر كان يتهدد حياة الملك وعرشه منذ عشرات أو مئات الأعوام فأغدق عليه مولاه الألقاب والرتب، وها إن حفيده اليوم يكفر عن ذلك الدم المسفوك بخلق نخره الفساد وصحة ترعى فيها العلل.
يقول علماء الإحصاء إن عدد القلوب المتفطرة يوازي عدد الساعات. وأنا أميل إلى التصديق، لماذا؟ لأن المجتمع ينكر كل حب بين غريبين إن لم يرتبطا برباط الزواج، فإن أحبت فتاتان رجلا ضحيت إحداهما، وإن أحب رجلان امرأة تحتم أن يضحي أحدهما أو أن يضحيا معا. لماذا؟ لماذا يحظر على رجل حب فتاة ليس له أن يقترن بها. أكل الحب في أن يهرب الرجل بالمرأة كأنها غنيمة حربية؟ أراك تغمضين عينيك فأدرك أني أطلت الكلام. لقد دنس المجتمع أقدس معاني الحياة، فاسمعي يا ماري، فلنستعمل لغة العالم عندما نكون فيه متكلمين ممثلين فاعلين. ولكن فلنحفظ بعيدا عنه محرابا طاهرا يختلي فيه قلبان صادقان ليتكلما بلغة الحب والإخلاص دون أن يتأثرا بغضبه أو يكترثا لصواعقه. والمجتمع يكبر هذه المقاومة العنيفة من قلب أدرك حقوقه وعرف عظمته فآثر على الأحكام البلهاء. لا بأس بالاصطلاحات والعادات في حل اعتدالها لأنه حسن أن تعرش «اللبلابا» بألوف الأغصان والحبال على الجدار القوي. ولكن حذار من الإفراط لئلا يجد النبت الطفيلي منفذا إلى داخل البنيان فيفسد إحكام أجزائه ويهدم متانة أركانه. إن حبنا لا يضر بشرا ولا يؤذي أحدا بل يسعد نفسينا ويرفعنا إلى عرش مبدعنا. فاتبعي مشورة قلبك واصغي إلى صوت ضميرك ثم أجيبي. ماري، كوني لي! اعلمي أن الكلمة المرتعشة الآن على شفتيك إنما هي حكم علي وعليك بالسعادة أو بالشقاء.
صمت وضغطت على يدها فضغطت على يدي بأنامل ملتهبة وقد بدا التأثر في وجهها وحركاتها. والسماء الزرقاء المنشورة فوق رأسي لم أرها حياتي على جمال ظهرت فيه الآن وقد هددتها الزوبعة وأنفذت إليها الغيوم واحدة بعد أخرى.
ثم قالت كمن يتعمد تأجيل القرار النهائي: «ولماذا تحبني؟»
أجبت: بل سلي الطفل لماذا ولد، والشجرة لماذا أزهرت، وسلي الشمس لماذا بزغت فأنارت الكون! لماذا أحبك يا بنية، لأنه يجب أن أحبك. وإن شئت إسهابا فدعي الكتاب الذي تحبين يتكلم لأجلي:
أفضل الناس يجب أن يكون أعز الناس إلينا دون أن نعبأ بما يلحقنا بسببه من ربح وخسارة، أو مساعدة وإهمال، أو شرف وذل، أو ثناء ومذمة، أو أي أمر من الأمور. أحسن الأشياء وأشرفها يجب أن يكون أعزها إلينا لا لسبب آخر سوى أنه الأحسن والأشرف. وعلى هذا المبدأ ينظم المرء حياته الداخلية والخارجية لأن بين الأشخاص تغايرا فيكون هذا خيرا من ذاك وفقا لمقدار ما يظهر فيه من الخير الأسمى الذي يتجلى في أفراد أكثر منه في غيرها. والفرد الذي يكثر فيه تجلي الخير الأسمى هو الأحسن، والذي يقل فيه ذلك التجلي هو الأقل حسنا، فعلينا أن ننتبه لهذا الاختلاف بين الناس حتى إذا اهتدينا إلى خيرهم أحببناه وأعززناه والتصقنا به طلبا للاتحاد الدائم.
وأنت، يا ماري، خير من عرفت لذلك أحبك وأنت عزيزة علي. وكلانا يحب الآخر. فقولي الكلمة الواحدة التي تكبر وتحيا فيك؛ قولي إنك لي! لا تخوني قلبك ولا تخدعي عواطفك. أعطاك الله حياة معذبة ثم أرسلني إليك لأخففها عنك، فألمك ألمي، وسنحمل هذه الآلام معا بشجاعة كما تخترق البحر السفينة العظيمة رغم عواصف الحياة وأعاصيرها حاملة الأثقال الباهظة وتوصلها إلى الشط الأمين. تكلمي يا بنية وضعي رأسك على ساعدي.
فهدأ روعها وخضب الاحمرار وجنتيها كما تخضب حمرة الشفق رءوس الجبال؛ ثم فتحت عينيها البراقتين كشموس منيرة وقالت: «أنا لك. أنا خاصتك لأن تلك مشيئة الله. اقبلني كما أنا: فسأظل لك ما حييت وليجمعنا الله في حياة أبهج من هذه وليكافئك خير مكافأة!»
وضعت قلبي قرب قلبها ليخفقا سوية، وأوقفت شفتاي الكلام على الشفتين اللتين نطقتا بدوام سعادتي كما أوقف الزمان دورته، وتلاشى العالم حولنا ولم يمكث فيه غيرنا برهة خلتها دهرا؛ دهر غرام وهناء. ثم زفرت زفرة عميقة هامسة: «اغتفر لي يا ربي كل هذه السعادة! والآن اذهب ودعني وحدي لعلنا نلتقي مرة أخرى، يا صديقي ومحبوبي ومستودع غبطتي!» •••
هذه آخر كلمات سمعتها منها. عدت إلى غرفتي ونمت نوما طويلا مثقلا بالأحلام المزعجة. وبعد انتصاف الليل دخل علي الطبيب وقال: «لقد انتقلت ملكنا الطاهر إلى حضن خالقها. وهذه وديعة منها إليك.»
فضضت الكتاب فوجدت فيه ذلك الخاتم المنقوش عليه «كما يشاء الله» وكانت أعطتنيه في طفولتي ثم رددته إليها، وكان ملفوفا بورقة كتبت عليها الكلمات التي فهمت بها ساعتئذ: «كل ما لك هو لي. خاصتك ماري.»
جلست وجلس الطبيب وغرقنا في بحران عقل يعرفه كل من فوجئ بيأس لا رجاء بعده. أخيرا نهض الشيخ ومسك بيدي قائلا: «نحن نلتقي اليوم للمرة الأخيرة: أما أنت فعليك أن تغادر المكان، وأما أنا فأيامي معدودة. غير أني أود أن أبوح لك بسر حملته دفينا في صدري طول الحياة ولم أطلع عليه أحدا، والآن بي حاجة ماسة إلى إفشائه، فاصغ إلي. إن الروح التي فارقتنا روح شريفة طاهرة والقلب الذي غادرنا قلب صادق عميق. عرفت قلبا آخر كهذا وروحا كهذه الروح، بل أبهى منها، هي روح والدتها. عرفت والدة هذه الفتاة قبل زواجها فأحببتها وأحبتني. كنا فقيرين فأنشأت أجد وأكد لأنتشلها من مخالب العوز والفاقة ولأصل إلى مكانة اجتماعية تليق بي وبها. وقبل أن أدرك غايتي اجتمع بها الأمير الشاب وأحبها. ولما رأيت أمير بلادي مولعا بها يبذل ما في وسعه ليعلي شأنها ويرفعها، هي اليتيمة البائسة، إلى مرتبة الإمارة، شعرت بوجوب تضحية سعادتي لأجلها لأن حبي لها كان أقوى من حبي لنفسي، فغادرت البلدة وتركت لها خطابا فيه حللتها من وعودها. ولم أرها بعد ذلك إلا وهي على فراش الموت عقب ولادة ابنتها هذه. يمكنك بعد هذا الإقرار أن تدرك مقدار حبي لحبيبتك وإني إنما كنت أحاول إطالة عمرها يوما فيوما لأنها كانت الشخص الوحيد الذي يربط قلبي بالأرض. والآن! سر في طريقك يا بني واحتمل الحياة كما احتملتها، ولا تصرف يوما واحدا في الغم العقيم. ساعد ما استطعت المحتاجين من إخوانك البشر، وأحببهم جميعا، واشكر الله الذي أنعم عليك في هذه الحياة الجرداء بقلب كقلبها، وحب كحبها، وروح كروحها، وإن فقدتها»!
فقلت ممتثلا: «كما يشاء الله.» وافترقنا افتراقا لم يكن بعده من لقاء. •••
لقد مرت الأيام والأسابيع والشهور والأعوام سابحة في بحر الأبدية. وطني صار لي أرضا غريبة وبلاد الغرباء أصبحت وطني. لكن حب فتاتي لا يزال حيا في. وكما تسقط دمعة القلب على مياه البحار كذلك غرق حبي لها في بحر حبي للإنسانية بأسرها؛ حبي الذي يشمل ملايين من أولئك الغرباء الذين لا يعرفونني وقد شغفت بهم منذ حداثتي. •••
إنما في أيام الصيف الساكنة الحارة كهذا اليوم، عندما أخلو بالغابة الخضراء في حضن أمي الطبيعة، وتتوه بي أفكاري فلا أعود أدري ما إذا كان في العالم أناس غيري أم أنا وجدت وحدي على الأرض، ذاك تحدث حركة في مقبرة حافظتي وتنهض الذكريات السحيقة من مدافنها، وترجع قوة الحب القديم قابضة على فؤادي بشدة، فأنادي تلك الفتاة الجميلة، فتأتي إلي وتحدق في مرة أخرى بعينيها العميقتين اللتين لا قرار لهما. عندئذ يتجمع حبي للإنسانية ويتجسم في حبي لشخصها، لشخص ملكي الحارس، فتخرس أفكاري وتجثو عواطفي أمام سر الأسرار الغامض، سر الحب المتناهي وغير المتناهي.
Unknown page