Ibrahim Thani
إبراهيم الثاني
Genres
وآن أن ينصرفوا. وكان صادق يود لو لبثوا ساعة أخرى، ولكن ميمى ألقت إليه نظرة رقيقة فيها من الأسف والتوسل والاعتذار معان، وقالت: «أنت تعرف خالتك»، فهز رأسه وهو مطرق، ثم التفت إلى إبراهيم وقال: «لا داعى لركوب القطار فإن معى السيارة. والطريق جميل».
فقال إبراهيم: «ونرمى فلوسنا؟» وأخرج من جيبه التذكرتين.
ووقفوا أمام السيارة. ودار إبراهيم حولها معجبا بها، متمنيا لو كان له مثلها، فعرض عليه صادق أن يتولى عنه قيادتها فأبى وقال: «لا يا سيدى، فإنى أخشى أن أتلفها، ثم إنى، إذا قدت هذه، لا أحسبنى أرضى بعدها عن سيارتى الحقيرة. فاصنع معروفا ودعنى قانعا بما أملك».
وخيل إلى صادق أنه يبالغ فى إعجابه بالسيارة، والغض من سيارته هو لأمر ما، فقال - لا يدرى لماذا -: «إنها سيارة الوالد المحترم، ولم أشترها أنا بمال لى».
ولم يسر ميمى أن تسمع عبارة (الوالد المحترم)، فقد أذكرتها بما كان من أمره معها فى طريق الإسكندرية، وهى تجربة لا تمحى ذكراها ولا تحمد، لشدة ما يختلط فيها الحلو بالمر، والأمل بالخوف، والوهم بالحقيقة.
وسمعت إبراهيم يقول، وهو يفتح الباب ويشير إليها أن تركب: «أحسب أن بلادنا هى الوحيدة التى يجتمع فيها هذا العدد الضخم من السيارات الفخمة من كل طراز أوروبى وأمريكى. أو لعل الأصح أن أقول بلادنا ونظائرها من البلدان التى لا تصنع السيارات، وإنما تقتنيها. ولا أعد هذا مظهر غنى، أو اية رخاء، وانما هو عندى مظهر غفلة، أوآية تخلف. والمثل العامى يقول (رزق العبط على المجانين) ونحن الأمم المتخلفة فى ركب الحضارة العالمية، المجانين الذين تجد أوروبا وأمريكا رزقهما عندهم».
واتخذ صادق مقعد القيادة، وإلى يمينه تلميذته. واحتل إبراهيم وميمى المقعد الخلفى. ودارت السيارة، ومضت على مهل. وكان القمر فى ليلة السواء، والطريق على جانبيه الشجر، وجله وريق منتشر الأغصان، ملتبس بعضها ببعض فوق الرءوس، والقليل منه أمرد انجرد من الورق، والأرض دنانير رقاصة.
وكان صادق متمهلا، ولكن إبراهيم مع ذلك لا يطمئن. وكان لا ينفك يدفع قدميه كأنما يحاول أن (يربط)، وتلك آفة من يحسنون قيادة السيارات حين يتولى غيرهم قيادها. وأكثر من يفعلون ذلك من ذوى المزاج العصبى. وكانت عين إبراهيم على الطريق لا تتحول عنه. وكان لا يفتأ يحرك رأسه يمنة ويسرة ليستبين فلم يكن باله، من أجل ذلك، إلى جارته. ولا كان يستطيع الكلام أو الإصغاء. بل ما كان ينعم بجمال الطريق وسحره فى هذه الليلة المقمرة الساجية لفرط اشتغاله بالطريق وما يصنع صادق. على أنه على قلقه كان يتقى أن ينبه صادقا أو يحذره، مخافة أن يحدث له اضطرابا، فإن كثيرين يرتبكون إذا صحت بهم فجأة. وكان شر ما يزعجه أن الحقول على يمين الطريق أوطأ وأدنى، فهو يخاف أن تنقلب السيارة، ويود لو توسط صادق ونأى عن الحافة. ولم تكن كثرة الشجر تطمئنه وتنفى ما يحاذر من الانقلاب، فإن المسافة ما بين الشجرة والشجرة غير قصيرة.
ولكنهم بلغوا مصر القديمة فى سلام ومن غير أن يقع لهم حادث. وكان حق إبراهيم أن يتشهد ولكنه لم يفعل. وقال لنفسه إن شوارع المدينة غاصة بالترام والمركبات والسيارات، والناس الذين يسيرون وكأنهم يتنزهون فى حدائق بيوتهم. وهم مرات أن يستأذن ويركب الترام، فإنه آمن فيما كان يحس، غير أنه استحى وطال تردده فضاعت الفرصة.
وصاروا فى ميدان الإسماعيلية. ولم يكن نظام المرور فى ذلك الوقت وافيا بالحاجة بل لم يكن ثم نظام ما، فكان كل سائق يمضى على هواه، إلى حيث يشاء وهو آمن أو مجازف. وكاد إبراهيم، والسيارة تقتحم هذا الميدان المضطرب، يثب من السيارة إلى الأرض من فرط الجزع، ولكن صادقا كان حاذقا فمر كالسهم، بسلام، من بين قطارى ترام، فاضطجع إبراهيم، ومسح العرق المتصبب بكفه، ونظرت إليه ميمى فأدركت ما به وقالت بابتسام: «خائف؟»
Unknown page