Ibrahim Thani
إبراهيم الثاني
Genres
1
كان إبراهيم جالسا إلى مكتبه وأمامه نافذة مفتوحة. وكان وجهه إلى النافذة ولكنه لا يرى، لفرض اشتغاله بما يجول فى رأسه وذهوله به عن النظر. ثم كأنما تقشع غمام فأبصر فتاة هيفاء ممشوقة، متكئة على درابزين السلم الذى ينحدر إلى حديقة بيتها، وهى فى منامة - بيجاما - من الحرير الأبيض. وكان بناء داره هو على مقربة من الطريق، والحديقة من الخلف. فترك ما كان مشغولا به وتساءل من عسى تكون هذه الجارة؟ وقديمة هى يا ترى أم حديثة؟ إن لى هنا سنوات طويلات ومع ذلك لم تأخذ عينى إنسانا يدخل أو يخرج من هذه الفيلا حتى لقد حسبتها مهجورة.. لم أر حتى بوابا أو بستانيا، ومع ذلك.. غريب هذا.. لقد تذكرت الان فقط أن حديقتها غير مهملة.. وأتأر الفتاة بنظرة فخيل إليه أنها جميلة رشيقة، وأعجبه منها مرونة بينة على الرغم من سكون أوصالها وقلة حركتها. وراقه شعرها الذى تفرقه من الوسط وترسله على جانبى وجهها - مثل كريمة - وحدث نفسه أنها نحيفة.. نحيفة جدا.. ولكن النحافة خير من إلحاح اللحم.. ونظرتها؟ كيف هى يا ترى؟ إن عينها تبدو له من هذا البعد حوراء واسعة، وفى نظرتها لين وعذوبة .. فتنة. وأحس من نفسه شوقا إلى معرفتها. وضحك إذ خطر له أن هذا هو الحب من أول نظرة! ومط بوزه ساخرا، فما ارتجت نفسه إلا مرة واحدة من قبل. وليس حبه لتحية بالفائر الثائر، وإنه لساكن جدا، وأشبه بحب المرء لأخته. وقد نسى على كل حال مبلغ اضطرام شعوره فى البدايات - إذا كان قد اضطرم - فهو لا يذكر ولا يعرف إلا أن تحية صديقته التى لاغنى به عنها.
وظل برهة طويلة هكذا ... لا يفعل شيئا سوى أنه ينظر إلى الفتاة. والفتاة التى يتأملها قبالته معتمدة على الدرابزين. وقال لنفسه إن الجديد من الأمر يتطلب جديدا من التصرف والتدبير، فماذا يصنع؟ لو كانت له خبرة بمثل هذه المواقف، أو سبق له بها عهد لقاس حاضره على ماضيه وأجراه فى مجاريه. وغريب أن ينقضى شبابه وهو جاهل بهذه الشئون؟ ثم يشارف الكهولة ويقف على بابها ويأخذ الأبيض يختلط بالأسود، ويبدأ الزمن يرسم خطوطه فإذا هو يشتهى أن يفعل ما يفعل الشبان. وارتفعت يده إلى وجهه متحسسة، وإلى شعر رأسه كأنما يحاول باللمس أن يعرف كيف وخط الشيب لمته. وهل هذا إيذان باندلاع نار المشيب ذات الوقود؟ وتلفت ولكن غرفة المكتب ليس بها مراة.. وخطر له وهو يفعل ذلك أنه لا يذكر أنه عنى مرة بالنظر فى المراة.
وألقى القلم - فقد كان يكتب - واضطجع. وقال يناجى نفسه وهو يضحك ساخرا: «هل أصنع كما يصنعون فى الروايات الكثيرة التى قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك ماذا ترى أبطال هذه الروايات يصنعون فى حالات كهذه؟ لقد نسيت والله. فكأنى ما قرأتها، ولا وقعت عينى عليها. وهبنى كنت ذاكرا فهل يصح من دنيا الحقيقة ما يصف الخيال».
واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست، ولا يمكن أن تكون خيالا بحتا، أو شيئا يخلقه الإنسان من لا شىء ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة. وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق من لا شىء. وذهب إلى أن كل ما يسعه هو التوليد، وهو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، ويكون الشخصيات من أشتات ما عرف، ثم تعمل الفطنة الطبيعية واللب العبقرى فعلهما بعد ذلك. فليست القصص خيالا ولا ما تصفه محالا. اذن يكون تقليدها ميسورا. أو دع كونه ميسورا أو غير ميسور، وقل إنه لا يكون شططا.
ولم يرض عن هذا الرأى، فقال: إن القصص يعنى فيها واضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذى يؤثره هو ويراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لى دنياى كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟
أم أستشير صديقا مجربا؟ ولكن هذا مخجل. ثم إن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة فى نفسه هو. والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذى يفعله إنسان ما، فى موقف ما، ليس من المحتم - ولا من المعقول - أن يفعله كل إنسان فى الموقف عينه. فالاستشارات عبث ولا خير فيها ولا جدوى منها إلا الفضيحة. الفضيحة؟ نعم أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك وتبيحه سرك وتكشف له عن ضعفك وتدع عينه ترى مقاتلك؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟
وأسخطه هذا السؤال وقال إنه لا داعى له فما بلغ الأمر الحب.. أى حب يا هذا؟ إن المسألة كلها أنى أرى فتاة جميلة للمرة الأولى فمن الطبيعى أن أتعجب. وإذا كنت أشعر برغبة فى معرفتها فليس هذا أيضا بمستغرب.
وبدا له من الحزامة أن يصرف نفسه عن الفتاة. فأكب على عمله ساعة ثم نهض متثاقلا. وحانت منه التفاتة إلى النافذة فلم ير الفتاة، فاستغرب، ثم ضحك، وقال متهكما: «أترانى كنت أتوقع أن تظل واقفة هنا إلى الأبد، أن تقضى حياتها كلها على رأس السلم كالتمثال؟»
وعالج أن يتشاغل فى الأيام التالية ولكن الجهد الذى أحس أنه يتكلفه فى هذه السبيل أقنعه بأنه معنى بالفتاة، وإن ما يفعله ليس سوى مكابرة. وقال لنفسه إنه لا يرى بأسا من الإقرار بأنه يؤثر أن يعرف الفتاة، بل إن معرفتها تكون أجلب لراحة نفسه. وقال يوما لنفسه، وهو يناجيها على عادته: إن فى هذا الحى بضع مئات أو بضعة الاف من الناس لو رحلوا جميعا لما حزنت عليهم ولا أسيت لهم، ولا استوحشت، ولا أحسست نقصا أو خسارة، ولا أسفت على خلو الحى وخرابه، وقعودى فيه وحدى على تله. ولكنى لو علمت أن هذه الفتاة جرح أصبعها أو أصابها زكام لبت كاسف البال - لا أقول مسهد القلب ولا أظن أن الدنيا تسود فى عينى - ولكنى كنت على التحقيق أشعر بأسف وعطف. ومع ذلك لا أعرفها.. ومن يدرى؟ لعلها مزكومة.. مسكينة! وصد نفسه بجهد عن هذه السخافة، وأمر فنقل مكتبه إلى ركن آخر فى الغرفة. ولكنه لا يفتأ ينهف ويدنو من النافذة ويحاول أن يرى من غير أن يظهر، فلا يبصر شيئا. فيعود «وينحط على الكرسى، ولا يستطيع أن يعود إلى العمل إلا بمشقة. واستغرب أن شبابيكها وأبوابها لا تكاد تفتح.. أو لا تفتح أبدا فما رآها قط إلا موصدة.. أو لا تخرج هذه الفتاة للنزهة أو السينما أو لزيارة؟ أو لا يزورها أحد؟ إنها ليست من الطراز القديم، فإن بنات الطراز القديم، لا يلبسن المنامات. وأدهشه أنها خرجت إلى الحديقة أو أطلت من رأس السلم وليس على بدنها سوى هذه المنامة، فإنها ليست مما يليق أن تبرز فيه فتاة. ولكنها صغيرة ولعلها لا تجد من يرشدها أو ينبهها. وعلى ذكر ذلك قال إنه يتكلم عنها كأنما ليس فى البيت سواها وليس هذا بمقبول. وخطرت له فكرة.. لماذا لا يزور هذا الجار؟ ولكن من المحتمل أن لا يكون فى البيت رجل.. فلمن تكون الزيارة إذن؟ هل يسأل خادما؟ واستحى أن يفعل، وماذا عسى أن يقول للخادم؟ وبماذا يسوغ السؤال؟ وسيبدو عليه التكلف ولا شك حين يلقى السؤال، وهو يحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث. وفرك عينيه بأصبعه وهو يدير هذا كله فى نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضر صورتها لذهنه كما بدت له على رأس السلم، فلم يجد عناء فى ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. وذكر قول العقاد من قصيدة مرقصة له «ذهبى الشعر ساجى الطرف حلو اللفتات ». وقال لنفسه أما أنها ذهبية الشعر فنعم. وأما سجو الطوف فأشهد أنى ما رأيت أحلى من نظرتها ولا أسحر للب فكيف إذا ابتسمت وأشرق وجهها الواضح الصبيح؟ وأما حلاوة لفتاتها فلا شك فيها، ولكنه ينقصه أن يذوق هذه الحلاوة. وراح يقطع الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والكتب وغير ذلك. وحدثته نفسه أن يركب الحياة بما يركبها به الشاب، ثم ضحك وقال: لم يكن باقيا إلا هذا: أمسح لها شعرى بكفى، أو أعبث - على مرأى منها - بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجوانى)، أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة؟ أو هو هو هو!
Unknown page