فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل ستتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح. أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا.
قطب وجهه. وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها. كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها. ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه ويقول لها إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة! إني أترقبك منذ وقت طويل. ولكنه لم يفعل. وشعر بيأس يخنقه. أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة. وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد. مد يده فلمس يدها. لم تبد معارضة. رفعها إلى فمه وقبلها فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه. ومضى صامتا مطرق الرأس مفجوعا. ولم يطل صمته فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد. وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل ويفتح لها الباب فتدخل وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم. البيه كان مع النيابة في جناية قتل. وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده.
وقفت العربة فأيقظته من حلمه. وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا! تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره ذلك الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز. وأين يأس يمليخا وانهزامه وتحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه ؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا. هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء. أسرع، أسرع. أمامي نصف ساعة فقط أغير فيها هدومي وأذهب للاستديو.
انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها. أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج. ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها. وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينيها وتكشيرة حاجبيها التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور التي كانت تضعها على رأسها. قالت سامية دون أن يحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد. عندي صداع. لا تنسي الأسبرين على المكتب. ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا يتأمل قطع الأثاث الفخمة ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا. أو تحب الكوكا كولا يا يمليخا؟! انتزع نفسه من تأملاته وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا! ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب شاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة. قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هالو! تعال يا حسني. ليس عندي وقت للسلام والكلام. عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجه ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).
نسيت أعرفكم ببعض. حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد: مصرع العشاق. أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك. أو أقول لك، نسأل الأستاذ ميشلينيا. حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل، أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابرا حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه فخشي أن يصطدم بالسقف). أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم. أغير هدومي. لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني. لم يرفع وجهه إليه؛ فقد كان لا يزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة والإهمال البديع في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية التي نزلت كالمطر فوق رأسه، فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه. وقبل أن يفيق جاءه صوتها - صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال - يقول: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة حتة صغيرة من أهل الكهف. كان اسمها أهل الكهف، بتاعة الحكيم. أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة كرائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة. تأكد أنني أقدر المواهب، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا. أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم.»
Unknown page