سئل وهو في الحادية والعشرين أن يؤلف لبعض الطلاب موسوعة موجزة في العلوم، فألف كتاب «المجموع» وألم فيه بكل علم معروف يومئذ ما عدا الرياضيات.
ومن العلوم التي ساهم فيها مساهمة الثقات علم الهيئة والرياضيات على اختلافها. فزاد على المجسطي أشكالا ومسائل لم يسبق إليها، وأورد على إقليدس بعض الشبهات، وشك فيما ذهب إليه أرسطو من تشابه الثوابت وتساوي أبعادها واتحاد مراكزها في كرة واحدة. فقال في الشفاء: «على أني لم يتبين لي بيانا واضحا أن الكواكب الثابتة في كرة واحدة أو في كرات ينطبق بعضها على بعض، إلا بإقناعات، وعسى أن يكون ذلك واضحا لغيري ...»
ومن مقرراته أن الأرض متحركة، وأنه لا مانع من وقوف جسم في الفضاء لأنه لا بد له من مكان حيث كان. فإذا امتنع وقوفه فلا بد لذلك من سبب، وهو انجذاب الأشياء إلى مركز العالم أو مركز الكرة الأرضية.
وقرر أن النور ليس بجسم ولكنه كيفية في جسم ... «وإن كان له انتقال فذلك بالتجدد، لا أن شيئا واحدا بعينه ينتقله» ... وهو أقرب الأقوال إلى مذهب العصريين في حركة النور في غير خلاء.
وقد وكل إليه علاء الدولة تصحيح الخلل في التقاويم التي عملت بحسب الأرصاد القديمة، فأوشك أن يفرغ من تصحيحها لولا انقطاع العمل بالأسفار تلو الأسفار والأزمات في أثر الأزمات. •••
واشتغل بالطبيعيات كالظواهر الجوية وعلم طبقات الأرض وما إليه. ومن أمثلة تحقيقاته في هذه الأغراض كلامه على الزلازل في الشفاء حيث يقول: «أما الزلزلة فإنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه. والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض ويحرك الأرض إما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع كالريح كما يشق الخوابي إذا تولد في العصير، وإما جسم مائي سيال، وإما جسم هوائي، وإما جسم ناري، وإما جسم أرضي. وأما الجسم الناري لا يحدث تحت الأرض وهو نار صرفة، بل يكون لا محالة في حكم الدخان القوي وفي حكم الريح المشتعلة، والجسم الأرضي لا تعرض له الحركة أيضا إلا بسبب مثل الذي عرض لهذا الجسم الأرضي فيكون السبب الأول الفاعل للزلزلة ذلك. وأما الجسم الريحي ناريا كان أو غير ناري فإنه يجب أن يكون هو المنبعث تحت الأرض الموجب لتموج الأرض في أكثر الأمر.»
وعلى هذا النحو من التحري تقررت في كتبه - ولا سيما الشفاء - فوائد قيمة عن تكوين الجبال والمعادن والحجارة، واجتمعت له ملاحظات عن الظواهر الجوية كالرياح والسحب وقوس قزح لم يكن له في وسع معاصر له أن يزيد عليها حرفا واحدا في باب المراقبة والتسجيل.
وعرف حقيقة النظر وتكلم على زاوية الإبصار، وقد كان بعض الأقدمين يحسبون أن النظر إنما يكون بخروج شيء من العين يقع على المنظورات. •••
وعني بالموسيقى سماعا، وعني بها دراسة نظرية، فأقامها على قواعد الرياضة والملاحظات النفسية، وأصلح فيها غير قليل. •••
وانصرف زمنا إلى الفقه وتفسير سور القرآن الكريم، ولكنه كان يفسر القرآن ليستخرج منه مصاديق لآرائه الفلسفية التي لخصناها. فلا جرم كان الرجل موسوعة حية وعبقرية ملهمة، ولا جرم تغيرت العلوم والمعارف، ولا يزال ذلك العقل جديرا بأن يسمى بالعقل الفعال ... لأنه فعل في مجال الثقافة الإنسانية قصارى ما تفعله العقول.
Unknown page