افتتحت ترجمة إسحاق
3
بالعبارة التالية:
إن النظر في الحق صعب من جهة، سهل من جهة، والدليل على ذلك أنه لم يقدر أحد من الناس على البلوغ فيه بقدر ما يستحق، ولا ذهب على الناس كلهم، لكن واحد واحد من الناس تكلم في الطبيعة، وواحد واحد منهم إما أن يكون لم يدرك من الحق شيئا، وإما أن كان أدرك شيئا منه فقد أدرك يسيرا، فإذا جمع ما أدرك منه من جميع من أدرك ما أدرك منه، كان للمجتمع من ذلك مقدار قدر، فيجب أن يكون سهلا من هذه الجهة، وهي الجهة التي من عادتنا أن نتمثل فيها بأن نقول: إنه ليس أحد يذهب عليه موضع الباب من الدار، ويدل على صعوبته أنه لم يمكن أن يدرك بأسره ولا جزء عظيم منه، وإذا كانت الصعوبة من جهتين فخليق أن يكون إنما استصعب لا من جهة الأمور بأعيانها، لكن سبب استصعابها إنما هو منا؛ وذلك أن حال العقل في النفس منا عندما هو في الطبيعة في غاية البيان - يشبه حال عيون الخفاش عند ضياء الشمس.
وقد فسر ابن رشد هذه العبارة، فقال:
لما كان هذا العلم هو الذي يفحص عن الحق بإطلاق، أخذ يعرف حال السبيل الموصلة إليه في الصعوبة والسهولة؛ إذ كان من المعروف بنفسه عند الجميع أن هاهنا سبيلا تفضي بنا إلى الحق، وأن إدراك الحق ليس بممتنع علينا في أكثر الأشياء، والدليل على ذلك أننا نعتقد اعتقاد يقين أنا قد وقفنا على الحق في كثير من الأشياء، وهذا يقع به اليقين لمن زاول علوم اليقين.
ومن الدليل أيضا على ذلك ما نحن عليه من التشوق إلى معرفة الحق، فإنه لو كان إدراك الحق ممتنعا لكان الشوق باطلا، ومن المعترف به أنه ليس هاهنا شيء يكون في أصل الجبلة والخلقة وهو باطل.
فلما كان من المعترف به - وبخاصة عند من وصل إلى هذا العلم - أن لنا سبيلا إلى معرفة الحق، أخذ يعرف حال هذه السبيل في الوعورة والسهولة، فقال: إن النظر في الحق صعب من جهة، سهل من جهة.
ثم أخذ يحتج لوجود هاتين الصفتين في هذه السبيل، فقال: «والدليل على ذلك أنه لم يقدر أحد من الناس على البلوغ منه بقدر ما يستحق ولا ذهب على الناس كلهم، والدليل: أما على صعوبته؛ فإنه لم يلف واحد من الناس وصل منه - دون مشاركة غيره له في الفحص - إلى القدر الواجب في ذلك، وأما على سهولته فالدليل عليها أنه لم يذهب على الناس كلهم؛ لأنه - ولو وجدنا كل من بلغنا زمانه لم يقف جميعهم على الحق ولا على شيء له قدر من ذلك - لكنا نرى أنه عسر ولم نقض بالامتناع لمكان طول الزمان المحتاج إلى الوقوف فيه على الحق، فكان قصر الزمان الذي وقف فيه على الحق، إما كله وإما ذو قدر منه، يؤذن بسهولته.»
ولما ذكر هذا من أحوال الناس أخذ يذكر عن حال الناس في ذلك الزمن الذي وصل إليه خبره، فقال: «لكن واحد واحد تكلم في الطبيعة، وواحد واحد منهم إما أن يكون لم يدرك من الحق شيئا، وإما إن كان أدرك شيئا منه فإنما أدرك اليسير، فإذا أدرك ما جمع منه من جميع من أدرك ما أدرك منه كان للمجتمع من ذلك مقدار ذو قدر.»
Unknown page