وذكر عن الدنداني عن الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يده إلى السماء جميعا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد، وفي وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائما كما كان ثم شدوا عليه، قال المعذب لي: خاتلته يوما وأريته أني أقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل ثم مكثت قليلا، ثم دفعت الباب غفلة فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل؟ فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك أياما حتى مات.
واختلف في الذي قتل به فقيل: بطح فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلب فضرب على ظهره مثلها، فمات وهو يضرب وهم لا يعلمون، فأصبح ميتا قد التوت عنقه ونتفت لحيته، وقيل: مات بغير ضرب، وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه إلا رغيفا واحدا، وكان يأكل العنبة والعنبتين، قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد يا ابن عبد الملك! لم تقنعك النعمة والدواب الفره والدار النظيفة والكسوة الفاخرة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على نفسه، فلما كان قبل موته بيوم ذهب عنه عتاب نفسه، فكان لا يزيد على التشهد وذكر الله.» والذي روي عن التمثيل بالمذنبين - ولا سيما في أيام المعتضد - أفظع من هذا وأعنف، وكأنما كان التفظيع بهم فرجة يتفننون في ابتداع أشكالها وأساليبها؛ ليلهوا بها النظارة ويذكروها فيما يذكرون من مشاهد المجون والفكاهة!
أساس هذا الشر كله سببان غالبان؛ هما: القطيعة بين بني العباس والعرب، ونظام الإقطاع الذي تمادى فيه بنو العباس حتى انتهى إلى تصدع العالم الإسلامي وتشعبه في مدى قرنين اثنين بضع عشرة شعبة، فبنو العباس كانوا قوما موتورين طال عليهم الظلم واحتمال المكاره، وكانوا ينقمون على العرب أنهم خذلوا آل النبي في نضالهم مع بني أمية، وباعوهم بيع السماح لما استمالهم الأمويون بالعطايا والوعود، فلبثوا زمانا يسامون الذل، ويلعنون على المنابر، ويشهدون قتل رجالهم، وسبي نسائهم وهم آل النبي الذي لم يسأل قومه على الهداية أجرا إلا المودة فيهم، وابتلوا بكل محنة في دولة الأمويين، ولا من يغضب لهم أو يجنح إليهم.
ولقد كان بنو العباس شركاء بني علي في الوتر، وإن كان المصاب في معظمه مصاب هؤلاء؛ لأنهم كانوا جميعا من آل البيت، ينالهم من الذل ما ينال كل منتم إليه، ثم لما قامت لهم آخر الأمر دولة لم تقم على أيدي العرب وهم أولى الناس أن ينصروهم وتأخذهم الغيرة لهم، وإنما قامت على أيدي الفرس الذين كانوا ينقمون مثلهم على الدولة العربية، فامتلأت نفوسهم حفيظة على العرب، وانقطع ما بينهم وبينهم من صلة المودة والطمأنينة، وشعروا لهم في نفوسهم بما يشعر به المظلوم لمن ظلموه، أو أعانوا عليه ظالميه، والموتور إذا خاب ظنه في إنصاف الناس، وساء رأيه في أمانتهم وإخلاص طويتهم لم يعرف لهم حقا، ولم يرع لهم ذمة، ولم يجر الأمر بينه وبينهم إلا على المنفعة والرهبة دون الثقة والمودة. ومن هنا كانت تلك السياسة النفعية الفاتكة التي اشتهر بها أساطين بني العباس، ومضى عليها خلفاؤهم من بعدهم، وجاء اتصالهم بأجلاف الأعاجم من قبائل الترك والديلم، فنقلوا عنهم ضروبا من المثلات التي تعودها هؤلاء الأعاجم في وحشية البداوة.
قيل: إن العباسيين إنما قربوا إليهم الفرس والأعاجم واتخذوا منهم الأعوان والقواد مكافأة لهم على نصرهم إياهم ، وتأييدهم لهم على أعدائهم ... والحقيقة أن بني العباس كانوا يتوجسون من العرب قبل أن تقوم لهم دولة، وتنتظم لهم عقدة، وكان إبراهيم بن محمد بن علي، صاحب الدعوة قبل السفاح، يكتب إلى أبي مسلم: «إن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.» فهو الحذر من العرب الذي أبعد هؤلاء وأخملهم في دولة بني العباس، وليست مكافأة الفرس ومن إليهم.
ثم توالت الحوادث بما باعد الشقة بين العرب وأصحاب الدولة الجديدة، فلما كان الخلاف بين الأمين والمأمون ذهب العرب مع الأمين؛ لأن أمه عربية، وذهب الفرس مع المأمون؛ لأن أمه فارسية، وقتل الأمين وانتصر المأمون، فحفظها للعرب وأمعن في إقصائهم وتقريب الأعاجم على تعدد أجناسهم، ثم جاء المعتصم - وكانت أمة تركية - فاعتمد على جنود الترك، وكثر اختلاف الأجناس في جيش الدولة وولاة أمرها، فضلا عن اختلاف الأجناس بين نساء القصور وأمهات الأمراء، وتفاقمت أسباب الدسائس بين الملوك والأمراء والقادة والوزراء، وحاشية القصور من رجال ونساء، وبلغ من تفاقمها أن أشفق منها الجند والقواد الذين هم مساعير نيرانها، فشغب الجند على قوادهم، وتنازع القواد أمرهم فودوا جميعا لو يملكهم خليفة قوي يخيفهم، ويحسم أسباب النزاع بينهم، كما قال بغا الكبير: «نجيء بمن نهابه ونفرقه فنبقى، وإن جئنا بمن يخافنا حسد بعضنا بعضا فقتلنا أنفسنا.» ثم اشتد إشفاقهم من تحاسدهم حتى طلبوا أن يتولى القيادة أمير من بيت الخلافة، ولا يتولاها أحد منهم، ولكن أسباب الشقاق كانت أكبر وأوسع من أن يحسمها مثل هذا التدبير العاجل الذي لا يطول الاستقرار عليه.
كان أمر الدولة إذن قائما على سوء الظن والدسيسة، وقد ألف المؤرخون أن يذكروا إخلاص الفرس لبني العباس، حتى خيل إلى بعض قراء التاريخ أن بني العباس كانوا خليقين أن يطمئنوا إلى جهة واحدة على الأقل من جهات الدولة، وأن يسكنوا إلى شعب واحد من شعوبها الكثيرة، وما كان الأمر كذلك إلا في الظاهر الذي لا ينخدع به رجال من المحنكين الحذرين كرجال الدولة العباسية ، فما نظن أبا مسلم نصير الدولة الأكبر إلا كان طامعا في الخلافة متربصا بأوليائه الدائرة؛ ولهذا طمح إلى مصاهرة بيت الملك وارتقى بنسبه إلى العباس، وبدأ باسمه في مخاطبة الخليفة، وأراد أن يؤم الناس في موسم الحج، واستعد للملك استعداده الذي لا يخفى على أوليائه، وما نظن البرامكة إلا كانوا يفعلون فعل أبي مسلم في شيء من التبصر وطول الأناة.
ولم لا يطمع هؤلاء وغيرهم وما كانت تعوز العظماء في أمة الفرس أسباب الدعوة والانتقاض؟ فإن كان الأمر أمر الطمع والقوة، فها هم الفرس أصحاب القوة التي وصل بها العباسيون إلى الخلافة، وإن كان أمر الدين والغيرة على آل البيت فها هم أبناء علي عندهم، يدعون لهم إذا شاءوا، ويجدون من الناس مستمعا ومجيبا بعدما أصاب العلويين على أيدي بني العباس من قسوة وتنكيل، وما أصاب العرب في دولتهم من إهمال واطراح.
كان حكم بني العباس حكم الموتور المستريب، ولا يكون إلا هكذا حكم الموتور المستريب، وأطبق نظام الإقطاع على هذه الآفة فتمت به البلية، وتشعبت المقاصد حتى فشا سوء الظن، ولم يبق موضع لثقة بين إنسان وإنسان من العاملين في الحكومة.
نظام الإقطاع
Unknown page