يصاول القرن أو يخاتله
جلدا أريبا بعيدة سربه
كالليث في بأسه وآونة
مثل الشجاع الخفي منسربه
وقال في الجنود الأتراك:
ترى شبه الآساد فيهم مبينا
ولكنهم أدهى دهاء وأنكر
وقد صدقت في هذه المدائح فطنة ابن الرومي إلى صفة عصره، والخلق الذي لا بد منه للمتقدمين فيه من ندماء، أو كتاب، أو قادة، أو وزراء أو جنود، فلم يكن لواحد من هؤلاء غنى عن الكيد والختل والدهاء، ولم تكن للعصر كله صفة بارزة بروز هذه الصفة التي اشتدت الحاجة إليها بين القلاقل والدسائس والاضطرار الدائم إلى اتقاء الشر، ومداراة الأقوياء، والحيطة لما تأتي به طوارئ الأحداث، وأحجى أن تشتد الحاجة إليها حيث تعشش الفتنة وتبيض وتفرخ بين رجال الدولة ومن يعاشرهم ويلحق بهم من الشعراء والندماء، ومغتنمي الفرص من صعود هذا وهبوط ذاك، وإقبال هذه الدولة وإدبار تلك، فقد كان هذا هو عمل كل يوم وشاغل كل ساعة في البيئة التي عاش فيها ابن الرومي خاصة، فما كانت أيامهم تنقضي على غير خليفة يعزل أو يدبر له العزل، وولي عهد يخلع أو يدبر له الخلع، ووزير يكاد له أو يكاد لخصمه، وصاحب مال يستصفي أو يسعى لاستصفاء مال غيره. وهذا وأشباهه شغل يفتقر من يزاوله ويعيش في بيئته إلى الدهاء افتقاره إلى أداة المعيشة الأولى، وسلاح الحرب الألزم له من كل سلاح. •••
في ذلك العصر عاش ابن الرومي وهو أعزل لم يستعد له بعدة، ولم يحسن قط أن يتداهى على أحد، ولا أن يحترس من دهاء أحد، وراح يتقلب فيه بإحساس طوع الحوادث ولسان طوع الإحساس! فكان نقيض الرجل الذي يصلح لمثل زمنه، إذا كان ألزم ما يلزم ذلك الرجل أن يملك إحساسه ولا يطيعه، وأن يجعل بين إحساسه ولسانه سدا منيعا من الرياء يستتر خلفه، فأخطر ما يجر الخطر على المرء في عصور القلق أن يرسل نفسه، وأن يطلق لسانه، وأن يلهو بما بين يديه عما حوله، كما كان يفعل ابن الرومي ومن طبعوا على غراره، وما نظنه كان يكرر صفة الدهاء في ممدوحيه إلا وهو يشعر بخلوه منه وحاجته إليه، غير أن الشعور بالحاجة إلى الدهاء لا يعطيه الدهاء كما أن شعور المريض بالحاجة إلى القوة لا يعطيه القوة، وغاية ما يستطيعه أن يأسى ويتكلف ما ليس في خلقه، فلا يفيده الأسى ولا التكلف إلا أن يبدي من ضعفه ما هو أولى بإخفائه. •••
ذلك أول الفشل أو ذلك أوجز ما يقال في إجمال أسبابه.
Unknown page