86

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

في أيام المحنة، وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته، ولكنه في وسط ذلك المنظر المروع، وقع نظره أيضًا على بعض أصحاب الشافعي، فسأله: "أي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين"، فأثار ذلك دهشة الحاضرين، وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي دؤاد متعجبًا: "انظروا رجلًا هو ذا يقدم لضرب عنقه، فيناظر في الفقه" (١) ولكنها الإرادة القوية، والإيمان العميق، والنفس المفوضة المسلمة، لقضاء الله وقدره، وهو الصبر الجميل الذي أخذ نفسه به، حتى إنه لم يئن عند المرض، خشية ألا يكون صبره على أمر الله جميلًا.

٨٥ - وقد يتساءل القارئ عن سر هذه القوة التي جعلته يحتمل ما احتمل، ويعلو على الشدائد، وعندي أن السر في ذلك أن هذا الرجل العظيم قد اعتز بالله وحده، وتوكل عليه تعالى وحده، ولم يحس بعظمة أحد سواه، ولامتلاء نفسه بهذا الوجدان العظيم استهان بكل شيء، استهان بالشدائد، واستهان بمنزليها، واستهان بمفاخر الحياة وزينتها، ورضي من متاعها بالقليل، ولم يقنع من العمل لله بغير الكثير الوفير.

وقد أعطاه ذلك الاعتزاز علوًا عن سفساف الأمور، فلم يعلق بنفسه درن من حقد، أو حب انتقام، ولذلك كان كثير العفو عمن يسيء إليه، يروى أن رجلًا قد اغتابه، ثم قال له يا أبا عبد الله اغتبتك، فاجعلني في حل قال أنت في حل، إن لم تعد. ويروى أنه ظهر من بعض إشاراته عدم تقديره لفقه أبي حنيفة، لاختلاف منهاجهما، فقال بعض المتعصبين لأبي حنيفة: "بول أبي حنيفة أكثر من ملء الأرض مثلك"، ثم تركه مغاضبًا، ثم عاد إليه نادمًا، وقال له متعذرًا يا أبا عبد الله، إن الذي كان مني كان على غير تعمد، فأنا أحب أن تجعلني في حل، فقال أحمد العظيم في نفسه: ما زالت قدماي من مكانهما، حتى جعلتك في حل (٢).

ولاعتزازه بالله كان متواضعًا متطامنًا لعامة الناس، مقيلا لعثراتهم؛ فإن المعتز بغير الله يكون غليظ العنق مستكبرًا، والمعتز بالله يكون طيب القلب متطامنًا. ولقد حكى عنه تلميذه المروزي، فأحسن فقال: "لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله

(١) حلية الأولياء حـ ٩ ص ١٨٦

(٢) المناقب لابن الجوزي ص ١٢٣.

85