113

Ibn Ḥanbal ḥayātuhu wa-ʿaṣruhu – ārāʾuhu wa-fiqhuhu

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

إذا كان راويه لا زال حيا يمكن أن يلاقيه، بل يسافر إليه ما أمكنت الرحلة، ويأخذ منه ما تنسب روايته إليه؛ ولا يكتفي برواية الحاضر، ما أمكن له أن يسافر إلى الغائب، وكان ذلك منه مبالغة في الورع في طلب الحديث والاستيثاق من صدقه.

هذه مظاهر نضج الدراسة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر أحمد رضي الله عنه، وقد أفاد من ذلك كثيرا، فكانت الطرق ممهدة لهذه الدراسة، وتعدد الرواة، وكثروا، وتخصصوا في فن الرواية، وعكفوا، وتميزت علوم الحديث عن الفقه، جاء أحمد، وطلب الأحاديث والآثار من ينابيعها. والعاكفين على دراستها، كما طلب الفقه من رجاله، وممن غلب عليهم، فكان إماما في الحديث والفقه.

١١٨ - وإذا كان ذلك العصر هو عصر التقاء الثمرات الفقهية في كل الأمصار كما نوهنا الآن فإن ذلك الالتقاء يصحبه احتكاك فكري بين العلماء ويثير مناظرات، والإخلاص يمنع أن تكون مهارات، وذلك ما كان، فإن ذلك الالتقاء الفكري، قد صحبه مناظرات يقصد بها أحيانا الوصول إلى الحق، وأحيانا يقصد بها تغليب مذهب فكري على مذهب آخر، أو تغليب رأي على رأي آخر.

فهذا الشافعي يقيم بغداد أمدا في صدر حياته، وفي أول قدمة قدمها، فيدخل في مناظرات قائمة بين فقهاء العراق، ومناصري الفقه المدني في مسألة الشاهد واليمين، وذلك أن الفقه المدني يجيز الحكم بشاهد واحد، ويمين صاحب الحق، إذا لم تكن لديه بينة كاملة، ولا يلجأ إلى يمين المدعى عليه إلا إذا لم تكن شهادة قط، ولو شهادة واحد، وينتصر الشافعي في الجدل في نظر المناصرين للمدنيين، فيسمى لذلك ناصر السنة.

وكانت تلك المجادلات تجرى أحيانا باللسان، وأحيانا بالمكاتبة، كرسالة مالك إلى الليث بن سعد، ورد مالك عليه. وكانت هذه المجادلات الفقهية تجرى في كل مكان في مكة، في موسم الحج، وفي الأمصار الإسلامية في بغداد والبصرة، والكوفة، ودمشق، والفسطاط، ومجالس الخلفاء والأمراء، حيثما سار الفقيه وجد من يناظره في سبيل الوصول إلى حل فقهي في مسألة يتفق مع الحق من الشرع الإسلامي، أو يغالبه في نصر فكرة أو رأي، مغالبة لا يريد بها للحق علوا، ولكن يبغي لنفسه علوا واستحواذا، وسلطانا.

112