Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

Muhammad Abu Zahra d. 1394 AH

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

ابن حنبل

حياته وعصره - آراؤهُ وفقههُ

تأليف

محمَّد أبو زهرة

أستاذ الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول


الناشر

دار الفكر العربى

1

ابن حنبل

حياته وعصره - آراؤهُ وفقههُ

تأليف

محمَّد أبو زهرة

أستاذ الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول


الناشر

دار الفكر العربى

1

المَطِيعَة النَموذَجِيَة ٦ الشابوري الحلمية الجديدة

2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد فإن دروسي هذا العام بقسم الشريعة من أقسام الدراسات العليا بكلية الحقوق - موضوعها الإمام أحمد بن حنبل، إمام دار السلام، وهذا الكتاب الذي أقدمه للملأ من الأمة الإسلامية هو خلاصتها، وفيه لبابها.

ولقد اتجهت في دراسة ذلك الإمام التقي الورع إلى دراسة حياته أولاً، تتبعته منذ نشأته الأولى طفلاً ثم يافعاً، وشاباً، وكهلاً، وكلها يتجه به نحو الإمامة في السنة وبها كانت إمامته في الفقه.

ولقد عنيت في أثناء دراسة حياته ببيان المحنة التي نزلت به، وأسبابها وأدوارها وكيف أعلت منزلته، ورفعت درجته، فسارت الركبان بذكره، وصار ورعه وزهده حديث الناس في كل البلدان الإسلامية.

حتى إذا أتممت دراسة حياته، اتجهت إلى دراسة موجزة لعصره، بينت فيها المجاوبة النفسية التي كانت بينه وبين معاصريه، والآراء الدينية التي كانت سائدة بين علماء الحديث والفقهاء، والأفكار التي كانت تتورد على العقل الإسلامي، ومحاولة بعض الأمراء والخلفاء أن يسوغوا آراء لدى الفقهاء والمحدثين، ولا يكادون يسيغونها، وأن المحاولة أنتجت مقاومة، وأن المقاومة انتهت بالاستمساك الشديد بما كان عليه السلف في نظر أولئك العلماء.

ولما بلغت من ذلك البيان الغاية التي أبتغي بيانها، اتجهت إلى النتيجة التي كانت هذه مقدماتها، وهي آراؤه في أصول الدين، وقيامه بحق السنة النبوية، وفقهه. أما آراؤه في أصول الدين فقد بينتها ببعض البيان؛ لأنها تصور آراء السلفيين في عصره أصدق تصوير، وهي صدى المقاومة العلمية الأثرية للمشارات الفكرية التي أثارها الذين نظروا في الحقائق الإسلامية نظرات فلسفية.

3

وبعد بيان ذلك بينت عمله في السنة، وعكوفه طول حياته على إذاعتها بين المسلمين، وعمله المسند، وأثر المسند، وقوة أحاديثه، وغرضه من جمعه، ثم اتجهت إلى فقهه، فبينت أنه ثمرة ناضجة لدراسته السنة، وتتبعه لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم، وأقضية الصحابة، وفتاويهم، وفتاوى الصفوة الممتازة من التابعين، وأنه كان إن لم يجد أثراً يعتمد عليه في فتواه قاس على هذه الآثار، وقارب منها ولم يباعد، حتى كان يصدر عن مشكاتها دائماً رضي الله عنه، ففقهه آثار مروية، أو شبيهة بالآثار المروية.

ولقد بينت كيف روي فقهه، وكشفت طرائق روايته، وبينت صدقها، ووثائق قبولها.

ثم بينت الأصول الفقهية التي بنى عليها، والأدوار التي مر بها ذلك المذهب الجليل، وطرائق نموه، وأساليب التخريج فيه، وضبط قواعده، وجمع فروعه، حتى صار مذهباً نامياً حياً متسعاً مرناً فيه صلاح، وفيه إصلاح.

ولولا فضل الله وتوفيقه وعونه، ما وصلنا في بحثنا إلى ما وصلنا، إنه نعم المولى ونعم النصير،

محمد أبو زهرة

صفر سنة ١٣٦٧ - ديسمبر سنة ١٩٤٧

4

تمهيـــــد

١ - قال أبو ثور في أحمد بن حنبل: «لو أن رجلاً قال إن أحمد بن حنبل من أهل الجنة ما عنف على ذلك، وذلك أنه لو قصد رجل خراسان ونواحيها لقالوا: أحمد بن حنبل رجل صالح، وكذلك لو قصد الشام ونواحيها لقالوا: أحمد بن حنبل رجل صالح، وكذلك لو قصد العراق ونواحيها لقالوا: أحمد بن حنبل رجل صالح، فهذا إجماع، ولو عنف هذا على قوله بطل الإجماع(١)».

هذا قول فقيه محدث معاصر لأحمد فيه، وهو فوق أنه يكشف عن منزلة أحمد في نفسه، يبين منزلته في نفوس كل معاصريه؛ انعقد إجماع أهل الأقطار الإسلامية المتنائية على أنه رجل صالح، وتسايرت الركبان بذكر صلاحه، وتقواه، وورعه، وقوة إيمانه، وزهده، وإذا كان الإجماع حجة فقد قامت الحجة على صلاح أحمد، ليس في ذلك من ريب، ولا مجال للشك فيه.

وفي الحق إن أحمد قد ابتلي، فأحسن البلاء، وصقلت نفسه، وفتن بالشديدة والكريهة، خرج منها كما يخرج الذهب من الكير، وقد نقي وطهر من كل فِلزّ غريب عنه، واختبر أحمد بالدنيا وزينتها فصدف عنها، وإن كانت له نفس تطلب طيبات الحياة، ولكنه قدعها عن شهواتها؛ وفطمها عن الترف وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، طلبته الملاذ فردها، وزايلها فلم يعاق به شيء من طارف الحياة، كما لا تستمسك الأدران بالأجسام المجلوة المصقولة. اختبر أحمد بالضراء والسراء فلم تخنع الضراء قلبه، ولم تفتن السراء عقله، اختبره خلفاء أربعة، خرج من الاختبار رجلاً صالحاً، وقد تنوعت طرائق الاختبار؛ اختبره المأمون بالقيد، فساقه إليه مقيداً مغلولاً يثقله الحديد مع بعد الشقة وعظم المشقة، واختبره المعتصم بالحبس والضرب، واختبره الواثق بالمنع والتضييق، فما نهنهوا من نفسه وما يعتقد، وبعد تلك البلايا

(١) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص١٢٤.

5

ابتلى بالبلاء الأكبر، فساق إليه المتوكل النعم، فردها وهو عيوف النفس، وكان يشد على بطنه من الجوع، ولا يتناول مما يشك في حله أو يتورع عنه، ثم ابتلى أحمد بعد كل هذا بأعظم بلاء ينزل بالنفس البشرية، وهو إعجاب الناس، فقد ابتلى بعد أن انتصر على كل أنواع الرزايا بإعجاب الناس، فما أورثه ذلك عجبًا ولا دله بغرور، بل كان المؤمن المحتسب المتواضع لعزة الله وجلاله، الذي لم يأخذه الثناء، وبذلك نجح في أعظم البلاء، فإن الشيطان قد يعجز عن الغواية في الشديدة والكريهة، ويعجز عن الغواية في الملاذ والمناعم، وينجح في غوايته عند الثناء يبث العجب والغرور والخيلاء، ولكن أحمد سد كل منافذ الشيطان، حتى هذا السبيل، فما استولى عليه حب المحمدة وجره إلى مهاوي الغرور، بل كان ينفر من الثناء، ويفر منه عالمًا بأنه أشد بلاء. وكان رحمه الله يقول: ((لو وجدت السبيل لخرجت، حتى لا يكون لي ذكر))، ويقول: ((أريد أن أكون في بعض الشعاب بمكة، حتى لا أعرف: قد بليت بالشهرة، إني لأتمنى الموت، صباح مساء)).

٢ - كان أحمد رجلًا صالحًا ، تلك هي الكلمة الصادقة التي رددتها الأقطار الإسلامية، وأحمد حي، ثم سجلها التاريخ بعد ذلك للأجيال، وهي التي توارثها الناس من بعده مكشوفة غير مستورة، وهي المفتاح الذي يكشف صورة أحمد، فهو المحدث، لأنه الرجل الصالح، وهو الفقيه الذي غلب وصفه بالصلاح وصفه بالفقه، بل إن صلاحه كان يمنعه من السير في فقهه إلى أقصى مداه، فكان يتوقف حيث يسير غيره، ويتردد حيث يجزم سواه، يحمجم بالمعنى حيث ينطق غيره، ويسكت عن الفتيا حيث يسارع سواه.

ولذلك طغت على فقهه نزعته إلى التحديث، ووقوفه عند الأثر، حتى لقد حسبه بعض العلماء السابقين محدثًا، وليس فقيهًا، فنرى ابن جرير الطبري لم يذكر مذهبه في اختلاف الفقهاء، وكان يقول عنه إنه رجل حديث، لا رجل فقه، وامتحن لذلك، ولم يذكره بعض الفقهاء الذين كانوا يدرسون الخلافيات،

(١) ترجمة الإمام من تاريخ الإسلام، الحافظ الذهبي، طبع المعارف، في مقدمة المسند ص ٧٤

6

كالطحاوي، والدبوسي، والنسفي، والأصيلي المالكي، والغزالي، في الفقهاء الذين يعتد بخلافهم، ولم يذكره ابن قتيبة في كتابه المعارف في ضمن الفقهاء، وذكره المقدسي في أحسن التقاسيم في أصحاب الحديث.

وقال القاضي عياض في المدارك: «إنه دون الإمامة في الفقه، وجودة النظر في مأخذه». (١)

ولقد زكى نظر هؤلاء المنكرين على أحمد أن يكون فقيها أنه لم يؤثر عنه كتاب في الفقه، وأثر عنه المسند، وذلك في عصر قد سار فيه التدوين في الفقه شوطا بعيدا، فمحمد بن الحسن قد جمع فقه العراق، وأبو يوسف كتب كتبا في الفقه، والشافعي أملى مذهبه أو كتبه، وأحمد لم يكن له شيء من ذلك بإجماع المؤرخين، فكان ذلك دليلا على أنه محدث، وليس بفقيه، أو على الأقل على غلبة حديثه على فقهه، ولا شك أن من المحدثين من له رأي في مسائل في الفقه، فالبخاري له فقه؛ ومسلم كذلك، وليس ذلك بمخرجهم من جماعة المحدثين إلى جماعة الفقهاء، إذ العبرة بغلبة المنهاج، فمن غلب عليه التحديث تخصص فيه، وكان محدثا، ومن كثر إفتاؤه، وغلبت عليه الفتيا كان فقيها، ولم نجد من التقى فيه الأمران بقدر متقارب، كما وجدنا ذلك في مالك رضي الله عنه؛ فهو في ذلك نسيج وحده.

٣ - ونحن مع هذا الاعتبار نرى أن أحمد بن حنبل فقيه مع كونه محدثا؛ وإن كنا نقر بأن نزعة المحدث فيه أوضح، ونقر بأنه لم يترك أثرا مدونا له في الفقه، وترك ذلك المسند العظيم في الحديث؛ والذي صار من بعده إماما كما توقع هو له، ذلك أن الإمام أحمد قد عنى تلاميذه بجمع أقواله، وفتاويه وآرائه؛ وتكونت بذلك مجموعة فقهية منسوبة إليه، تخالفت فيها الرواية عنه أحيانا؛ واتفقت في كثير من الأحيان، وما كان لنا أن نترك تلك المجموعة التي تلقاها العلماء بالقبول لمجرد أنه اشتهر بالحديث، وأنه لم يدون كتابا في الفقه، مع غلبة التدوين في عصره، وله فيمن دونوا أسوة حسنة.

(١) تاريخ الفقه للحجوي جـ٢ ص ٢٢

7

ولقد نظر ذلك النظر ابن القيم ، فقد قال في أعلام الموقعين: وعلل ترك أحمد تدوين كتاب في الفقه بأنه كان شديد الكراهة لتصنيف الكتب في غير الحديث، ولكن الله علم حسن نيته، فجعل تلاميذه يعنون بتدوين كلامه وفتاويه؛ وقال ابن القيم في ذلك: ((جمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله، وحدث الناس بها قرنا بعد قرن، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة، على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره، ليعظمون نصوصه وفتاواه، ويعرفون حقها وقربها من النصوص، وفتاوى الصحابة. ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة، رأى مطابقة كل منهما على الأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة))(١).

٤ - وإذا كان أحمد رضي الله عنه ، لم يكتب في الفقه كتابا، بل كان ينهى عن ذلك، وينهى أصحابه عن القراءة في كتب الفقه المدونة خشية أن يستغنوا بها عن الحديث - فإن المعول في نقل فقهه كان على رواية أصحابه عنه، وقد نقلوا الفتاوى والنصوص في كتب مبسوطة بلغ بعضها نحوًا من ثلاثين سفرا. وقد اختلف النقل، لأنه مادامت الرواية أساس النقل، ولم يتول الإمام بنفسه كتابة فقهه، فلا بد أن يختلف الناقلون، وأن تختلف النقول، وأن يكون الترجيح.

ولقد وجدنا كتاب الطبقات يتكلمون في نقل بعض الأصحاب، فوجدنا ابن الفراء في طبقاته ينقل عن أبي بكر المروزي، والأثرم ومسدد، وحرب وغيرهم، وقد رووا الكثير من الفقه الحنبلي: ونسبوه إلى ذلك الإمام الجليل ويوثقهم، ثم وجدنا مع هذا بعض كتاب الأثر يقول، ((رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء جعفر بن محمد، وأحمد بن حنبل)) أما جعفر بن محمد فهو جعفر الصادق بن محمد الباقر من أئمة الشيعة، وقد نسبت إليه أقوال كثيرة دونت في فقه الإمامية، وأما أحمد فقد نسب إليه بعض الحنابلة آراء في العقائد وإن هذا بلا شك يثير بعض الريب في مقدار نسبة الفقه الحنبلي إلى أحمد، أو على الأقل في بعض هذا الفقه، لأنه إذا جرى الشك في صدق الراوي كان ذلك طعنا في صحة المروى.

(١) إعلام الموقعين جـ ١ ص ٢٢

8

٥- هذه مثارات تثار حول نسبة الفقه الحنبلي إلى الإمام أحمد، ولو أن مسلكنا في دراسة المذاهب أن ندرسها دراسة موضوعية، بأن ندرس المجموعة الفقهية التي تكون المذهب الحنبلي باعتبارها مجموعة فقهية متحدة المنهاج والنهاية، وحدّتها الفكرة والاتجاه، وإن لم توحدها النسبة - لاكتفينا بدراسة تلك المجموعة من غير بحث في نسبتها، ولكنا ندرس الإمام وفقهه، فحق علينا أن ندرس مقدار نسبة هذه المجموعة الفقهية إليه، وما يثار حولها من ظنون أو شك ندرسه، فإما أثبتناها أو نفيناها، وإما بينا مقدار قوته ومداه.

لذلك كان لا بد لنا من دراسة هذه الأمور المثيرة للريب؛ غير أنا نبادر، فنقرر أن مسلكنا في دراسة الأمور المقررة التي تلقاها العلماء في العصور المختلفة بالقبول هو أن نقبلها، حتى يقوم الدليل على بطلان نسبتها؛ ذلك لأن تلقى العلماء بالقبول لأمر من الأمور يجعل الظاهر يشهد له بالصدق، وصحة النسبة؛ إذ أن الأصحاب هم الذين نقلوا، والطبقة التي وليتهم هي التي تلقت كلامهم بالقبول، ثم الذين جاءوا من بعدهم صادقوا على ذلك النقل، فكان هذا التضافر مع قرب العصر شهادة لا ترد، حتى يقوم الدليل الناقض لبنيانها، المقوض لأركانها، إذ الظاهر شاهد بالصدق، ولا يرد الظاهر إلا إذا ثبت بالبرهان نقيضه، ولو أن كل ريب يبطل المقررات التي تلقاها العلماء بالقبول، ما نقل تاريخ، وما استفاد الناس من علم الأولين، وما صحت نسبة، وما قيل قول عن قائل، من أجل هذا نقبل فقه ابن حنبل على أن نسبته من المقررات، وندرس ما يثار حول هذه النسبة، فلا نقبل من هذه المثارات إلا ما يثبت بالبرهان بطلان نسبة فتوى أو قول، فلسنا نرد نسبة المذهب جملة لشك، ولا نهمل ما يقال، بل ندرس ونقابل ونقايس، ونعطي كل أمر حقه من الدراسة ومما ينتهي إليه.

ولا نقف محاجزين بين المقدمة وما تنتجه، ولا بين الدليل وما يؤدي إليه، فإن ذلك ليس من العلم في شيء.

٦ - وإننا إذ نتجه إلى دراسة الفقه الحنبلي بعد تحقيق نسبته، أو بالأحرى

9

بعد إزالة ما يثار من الشك حول هذه النسبة - سنجد فقها خصبا قويا حيا تجلى فيه عنصران، كلاهما أمده بقوة، حتى كان واسع الرحاب في باب التعامل أكثر من غيره من ضروب الفقه: (أحد العنصرين) أن فقه أحمد هو الفقه الذي يتجلى فيه الفقه الأثري بأقوى ما يكون التجلي، وأوضح ما يكون الظهور، فهو يختار آراء الصحابة، وإذا كان للصحابة رأيان، يختار من بينهما، بل يختارهما أحيانا، ويكون في المسألة عنده رأيان، وكان ذلك وقوفا عند الأثر؛ لأنه لا يرى لنفسه الحق في الترجيح بين آراء أولئك العلية الأكرمين من غير نص أو قريب منه، إذ الترجيح يقتضي بيان نقص في أحدهما، وكمالا في مقابله، وهو لا يعطي نفسه هذه الرتبة إلا بنص أو قريب منه، ولا يضعها في هذه المنزلة من غيره، وإنه لفرط تأثره طريق السلف، واقتفائه أثر الصحابة ليبدو فيما يجتهد فيه من الفتاوى التي لا نص فيها ولا أثر، أن اجتهاده فيه مسلك الصحابة، بالمشاكلة، والمشابهة؛ وإن لم يكن بالنص.

(العنصر الثاني) - أنه في باب التعامل إذا لم يكن نص ولا أثر ولا مقايسة لواحد منهما، يترك الأمر على أصل الإباحة الأصلية، ولذلك كان في العقود والشرط أوسع الفقه الإسلامي رحابا وأخصبه جنابا، لأنه جعل الشروط والعقود الأصل فيها الصحة، حتى يقوم الدليل على البطلان، فهو لا يحتاج في صحتها إلى دليل، كما سلك جمهور الفقهاء المسلمين، أو يحتاج إلى الدليل في البطلان لا في الصحة، وسنجعل لذلك مكانا من دراستنا، لتتبين خصائص ذلك المذهب الخصب القوي.

٧ - هذا وإننا إذ ندرس ذلك المذهب الجليل سندرس لا محالة أمرين: (أحدهما) - الأصول التي قام عليها الاستنباط في ذلك المذهب، وكيف استخرجت فروعه، (وثانيهما) - القواعد الضابطة لفروعه، المتقصية لأشتات المسائل، والجامعة لأكثر ثمرات الاجتهاد فيه، وإن الأصول والقواعد جميعا لم تكن كلاهما من صنع الإمام أحمد، ولم تؤثر عنه بالنقل تفصيلا، ولكنها فصلت تفصيلا من بعده، مستنبطة من الفروع بالجمع بين العناصر المؤدية واستنباطها، واستخراج أصل جامع أو قاعدة ضابطة. والفرق بين الأصل والقاعدة - على ما سنوضح في موضعه - أن الأصل هو

10

سبيل الاستنباط للفرع، فهو سابق عليه في الوجود، وإن كانت أصول أكثر الأئمة قد كشفت عنها الفروع، أما القاعدة فهي الضابط للفروع المتجانسة، ووضعها في ضمن عموم شامل، فهي متأخرة عن الفروع وجوداً، وهي تسهل طريق معرفة الفروع.

٨- هذا وإننا بعون الله تعالى سندرس نمو المذهب الحنبلي، وطرائق التخريج فيه، كما صنعنا من قبل في الأئمة الثلاثة التي أمدنا الله بعونه في دراستهم، وإنا لنضرع إلى المولى جلت قدرته أن يمن علينا بتوفيقه، فإنه لا حول لنا ولا قوة، إلا به، وهو نعم المولى، ونعم النصير.

11

حياة أحمد بن حنبل

١٦٤-٢٤١ م

٩ - مولده ونسبه: ولد أحمد رضي الله عنه، في المشهور المعروف، في ربيع الأول من سنة ١٦٤ من الهجرة النبوية؛ وقد ذكر ذلك ابنه صالح، وحكاه ابنه عبد الله، فقد قال: سمعت أبي يقول ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة. ولم يختلف الرواة في زمن ولادته، كما اختلفوا في ولادة أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما، ذلك بأنه قد ذكر هو تاريخ هذه الولادة، وكان على علم به، ولم يترك الأمر لظن الرواة، وتخرص المؤرخين، فكان بيانه في ذاك قاطعاً، ومانعاً للشك أو الظن.

وإذا كانت ولادته قد علم تاريخها من غير ظن أو مجال للشك، فقد علم أيضاً تاريخ وفاته من غير ما شك، فقد تطابقت الأخبار على أنه توفي لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكانت جنازته يوم الجمعة، وأخرجت بعد منصرف الناس من إقامة صلاة الجمعة. ولا غرابة في أن يعرف تاريخ وفاته بالتعيين؛ فقد كان يوماً مشهوداً في تاريخ بغداد، تجاوبت بذكره الأقطار الإسلامية، لكثرة الذين شيعوا جنازته، فقد أحصوا فكانت عدتهم لا تقل عن ثمانمائة ألف، ولأنه عند ما مات كانت شهرته قد تجاوزت آفاق العراق إلى كل البقاع الإسلامية، فكانت وفاته حدثاً كبيراً تعرفه الجماعات، وتتناوله الأخبار من غير ظن ولا ريب.

١٠ - وقد ولد أحمد ببغداد، وقد جاءت أمه حاملاً به من مرو التي كان بها أبوه، وقيل إنها ولدته بمرو، ولكن الصحيح أنه ولد ببغداد، وحملت به في مرو وقد نقل عنه ذلك، فلم يعد ثمة مجال للخرص. ونسبه عربي، فهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه، أبوه شيباني، وأمه كذلك، فلم يكن أعجمياً ولا هجينا، بل كان عربياً خالصاً،

12

وشيبان قبيلة ربعية عدنانية ، تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد ابن عدنان، وفي هذه القبيلة همة وإباء، وحمية، كان منها المثنى بن حارثة الذي تولى قيادة الجيوش الإسلامية عند مهاجمة العراق في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو الذي حسن لخليفة رسول الله ذلك، وتولى بهمته أولى الحملات، فشهد له الصديق في ذلك بأحسن البلاء. ولقد اشتهرت شيبان بالهمة والصبر، وحسن البلاء، في الجاهلية والإسلامية، حتى كانت أبرز القبائل الربعية ونخرها، ولقد قيل: ((إذا كنت في ربيعة فكاثر بشيبان، وفاخر بشيبان، وحارب بشيبان))(١)، فشيبان في الجاهلية والإسلام أكثر القبائل الربعية عددا، وأعزها نفرا، وأعظمها مآثر.

وشيبان كانت منازلها بالبصرة وباديتها، وقد كانت في الجاهلية قريبة المقام من العراق، فلما بنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه البصرة مظلة على الصحراء لينزل بها العرب، يستنشقون فيها هواء الصحراء، ولا يستوخمون بهواء الريف - نزلت شيبان بتلك المدينة الحضرية الصحراوية فسكنوها، وسكنوا في باديتها.

وكانت أسرة أحمد، وأسرة أمه، تنزل بتلك المدينة، وبيدائها، إذ كان جدها عبد الملك بن سواده بن هند من وجوه بني شيبان، ينزل عليه قبائل العرب، فيضيفهم.

ولأن أسرته أصلها من البصرة عرف بأنه بصري(٢)، ويروى أن أحمد رضي الله عنه كان إذا جاء البصرة صلى في مسجد مازن، وهم من بني شيبان، فقيل له في ذلك، فقال إنه مسجد آبائي.

١١ - كانت أسرة أحمد من شيبان، وأصل مقامها بالبصرة كما رأيت، والآن نريد أن نذكر أباه وجده بكلمات موجزة، فأبوه محمد بن حنبل، وجده حنبل بن هلال، ومع أن مقام الأسرة بالبصرة كما نقلنا، وكما تبين من سياق سيرة أحمد، فإن أسرة أحمد لم يستمر مقامها بها، بل إن جده قد انتقل إلى خراسان، وكان واليا على

(١) تاريخ بغداد ص ٤١٥

(٢) المناقب لابن الجوزي ص ٢١

13

سرخس في العهد الأموي، ولما لاحت في الأفق الدعوة العباسية عاون دعاتها، وانضم إلى صفوفهم، حتى أوذي في هذا السبيل، وقد قال الخطيب البغدادي في ذلك: ((جده حنبل بن هلال، ولى سرخس، وكان من أبناء الدعوة، فسمعت إسحاق بن يونس صاحب ابن المبارك يقول: ضرب حنبل بن هلال، وأبا النجم إسحاق بن عيسى السعدي - المسيب بن زهير الضبي، في دسهم إلى الجند في الشغب، وحلقهما)) (١).

وأبوه محمد كان جندياً، وقد وصفه ابن الجوزي عن الأصمعي، بأنه كان قائداً، فقد قال عن أبي بكر الأعين ((سمعت الأصمعي يقول: أبو عبد الله أحمد ابن حنبل من ذهل، وكان أبوه قائداً)) (٢) وذهل هو جد شيبان الذهلي، وقد قال ابن الجزري: ((كان أبوه في زي الغزاة)) (٣).

وسواء أكان قائداً كما ذكر في المناقب لابن الجوزي، أم كان في زي الغزاة كما ذكر ابن الجزري، فقد كان جندياً، كشأن العرب في ذلك العصر، لا يكونون زراعيين ولا صناعا، بل يكونون حماة وغزاة، وكان جده قد بلغ مبلغ الولاة، فكان والياً على سرخس، حتى صار من أبناء الدعوة العباسية، وأوذي في ذلك.

ويظهر أن أسرته كانت بعد انتقالها إلى بغداد تعمل للخلافة العباسية، ولم ينقطع اتصالها بها، وإن لم يكن منها ولاة، فإنه يروى أن عم أحمد كان يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة إذا كان غائباً عنها، وكان أحمد يتورع عن المشاركة في ذلك منذ صباه، حتى أنه يروى أن بعض الولاة قال: أبطأت علي أخبار بغداد، فوجهت إلى عم أحمد ابن حنبل: لم تصل إلينا الأخبار اليوم، وكنت أريد أن أحررها وأوصلها إلى الخليفة فقال قد بعثت بها مع أحمد ابن أخي ثم أحضر أحمد، وهو غلام، فقال: أليس قد بعثت معك الأخبار، قال: نعم. قال فلأى

(١) تاريخ بغداد جـ ٤ ص ٤١٥

(٢) المناقب ص ١٤

(٣) المصعد لابن الجزري

14

شيء لم توصلها؟ قال: أنا كنت أرفع تلك الأخبار!! رميت بها في الماء، فجعل الوالي يسترجع، ويقول: ((هذا غلام يتورع، فكيف نحن (١)!

فهذه القصة تدل على أن أسرة أحمد لم تنقطع صلتها بالخلافة والولاة، ولم يكن أحمد يستحسن ذلك، تورعًا وابتعادًا عن الريب منذ صباه.

١٢ - ولد أحمد الورع التقي من هذين الأبوين العربيين الكريمين فهذه أمه

قد كان أبوها من وجوه بني شيبان، جوادًا كريمًا قد فتح بابه للعرب، تنزل عليه القبائل فيضيفها، وهذا جده ندب محتسب قوي يتولى الولاية، ثم يرى دعوة يحسبها الحق، فيناصرها، وينزل به في سبيل هذه المناصرة الأذى الشديد، فيصبر صبر الكرام، وهذا أبوه جندي يحمي الحي، ويدافع عن الحوزة وما خلع زي الغزاة، بل كان على ذلك إلى أن مات.

من هذين الأبوين الكريمين كان أحمد، وفي عروقه جرى ذلك الدم الأبي الكريم، وورث عن أسرته عزة النفس وقوة العزم، والصبر واحتمال المكاره، والإيمان الراسخ القوي، وكان ذلك كله ينمو كلما شدا وترعرع، ويتبين في سجاياه، كلما عركته الحوادث، وأصابته نيران الفتن.

١٣ - ولقد هيأ الله لهذه السجايا الموروثة أن تنمو، وأن تقوى ، إذ أمدها

بالجو النفسي الذي تتنفس فيه، وتتغذى من طيب هوائه، وصقلها بالتجارب التي جلت الصدأ الذي يعرض للنفوس بسبب سيطرة البيئات، ثم هداها إلى النزوع الفكري والنفسي الذي يوائمها، ولا يناهضها.

وذلك أنه لم يكد يرى نور الوجود، حتى رأى أنه فريد فيه، قد فقد أباه، وكلاته أمه، فإن أباه قد مات وهو طفل، ويذكر أنه لم ير أباه ولا جده، والمعروف أن أباه مات بعد ولادته، وإذا كان قد مات بعد ولادته، فلا بد أن ذلك كان وهو صغير لا يعي ولا يدرك شيئًا، بدليل أنه نفى رؤيته لأبيه وجده، وذكروا أنه مات شابًا في الثلاثين

(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢٢

15

من عمره. ولقد قامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه، ولم يتركه أباه كلا يطلب المعونة، بل ترك له ببغداد عقارًا يسكنه، وآخر يغل له غلة قليلة وهي تعطيه الكفاف من العيش، ولم تعطه رافغ العيش ولينه وبسط الرزق، ويساره، فاجتمع له بتلك الغلة الضئيلة أسباب الاستغناء عما في أيدي الناس.

١٤- اجتمع لأحمد بهذا النسب، وبهذه الحال التي آل إليها أمره، وهو صبي في المهد، وبما كان له من نزوع نفسي من بعد خمسة أمور لم تجتمع لشخص إلا سارت به إلى العلا، والسمو النفسي، والبعد عن سفساف الأمور، والاتجاه إلى معاليها، تلك الأمور هي: شرف النسب والحسب، واليتم الذي ينشئه منذ جر الصبا معتمدًا على نفسه وتدبيره وبلائه، وحال من الفقر غير المقدع لا تستخذي به النفس، فلا يبطرها النعيم، ولا تصاب بطراوة الترف، ولا تذلها المتربة، ولا تلقي المتربة أنفها في الرغام، ومع هذه الخصال قناعة ونزوع إلى العلا الفكري بتقوى الله سبحانه وتعالى، وعدم الشعور بقوة لسواه، والتقى كل هذا بعقل ذكي، وفكر ألمعي.

وكان في هذا كشيخه الشافعي، نسب رفيع، ويتم، وحال من الفقر الذي يجد فيه الكفاف، ولا يستخذي بالحاجة، وهمة عالية، ونفس أبية، وعقل ذكي أريب ولقد تشابهت نشأة التلميذ والأستاذ تشابهًا غريبًا، فكلاهما كان بهذه الأحوال التي ذكرناها، وكلاهما كانت له أم ترأمه وتدفعه إلى العلا، وتكنف مواهبه لتزكو وتنمو ولا تجعلها تنطفئ أو تخبو.

١٥- وإن ما قلناه هنالك في تأثير هذه الأحوال في نفس الشافعي وتربيته نقوله هنا، ولقد قلنا هنالك إن النشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل الناشئ ينشأ على خلق قويم، ومسلك كريم، إن انتفت الموانع، ولم يكن ثمة شذوذ، ذلك بأن علو النسب يجعل الناشئ منذ نعومة أظفاره يتجه إلى معالي الأمور، ويتجافى عن سفسافها، ويترفع عن الدنايا، فلا يصيب الفقر نفسه بذل، ولا يتطامن عن ضعة، ولا يرضى بالدنية، ويسعى إلى المجد بهمة وجلد؛ ليرفع خسيسة الفقر،

16

ثم إن نشأته فقيراً مع ذلك الطموح، والاحساس بشرف النسب، يجعله يحس باحساس الناس، ويندمج في أوساطهم، ويتعرف خبيئة نفوسهم، ودخائل مجتمعهم، ويشعر بشعورهم، وذلك ضروري لكل من يتصدى لعمل يتعلق بالمجتمع، وما يتصل به في معاملاته، وتنظيم أحواله، وتوثيق علائقه، وإن تفسير الشريعة، واستخراج حقائقها، والكشف عن موازينها ومقاييسها، يتقاضى الباحث ذلك. يروى أن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كان يذهب إلى الصباغين، ويسأل عن معاملاتهم، وما يجري بينهم، وما كان يفعل ذلك إلا ليكون حكمه في مسألة تتعلق بشئون الناس، وتتصل بعاداتهم أقرب إلى تلك العادات، ما لم تخالف أصلاً من أصول الشرع وأحكامه، فهذه النشأة الفقيرة مع النسب الرفيع يتهيأ بها تهذيب كامل، لا يتسامى عن العامة، فيبعد عنهم، ولا يهوى إلى مباذلهم فيصغر، فكان لنسبه علوه، ولفقره طيبته (١).

١٦ - ولقد كان لنسبه وفقره غير المدقع أثرهما، عند ما ألقيت الدنيا بين يديه، فألقاها بعيداً عن مواضع أقدامه، ونحاها عنه بنفس نزهة، وقلب تقي، كان يهدي إليه المتوكل بدر الأموال، فيردها في تواضع كريم، وكان متطامن النفس محسا بإحساس الناس، ما نزل إلى مباذل الناس، وما تسامى عليهم بنسبه الرفيع، حتى لم يلاحظ عليه قط خر بنسبه العربي، ولقد قال كتاب سيرته إنه ما رؤي الفقير عزيزاً في مجلس، كما كان في مجلس أحمد رضي الله عنه، وهذه الخصال الكريمة قد نبعت من ذلك النبع الكريم الذي امتزج فيه شرف النسب بقناعة الفقر، وبسمو الروح، وفضل التقي.

١٧ - تربيته : نشأ الإمام أحمد رضي الله عنه ببغداد، وتربى بها تربيته الأولى، وقد كانت تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم، وتخالفت مآربهم، وزخرت بأنواع المعارف والفنون، فيها القراء والمحدثون، والمتصوفة، وعلماء اللغة، والفلاسفة الحكماء، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي، وقد توافر فيها ما توافر في حواضر

(١) كتاب الشافعي ص ١٨

(٢)

17

العالم، من تنوع المسالك، وتعدد السبل، وتنازع المشارب، ومختلف العلوم، وقد اختارت أسرة أحمد له منذ صباه أن يكون رجل الدين الذي يتوافر له، يعكف عليه، ويتخذ له كل العلوم الممهدة له من علم باللغة، والحديث، والقرآن، ومآثر الصحابة والتابعين وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة أوليائه الأقربين الذين اختصوا بطول الصحبة، وفقه الدين، ولب اليقين، وقد اتفقت هذه التربية، أو هذا التوجيه، مع نزوعه النفسي، وما كانت تصبو إليه همته من غايات، لقد وجهته أسرته إلى القرآن الكريم منذ نشأته الأولى، فاستحفظه، وظهرت عليه الألمعية مع الأمانة والتقى، فكان الغلام التقي بين الغلمان، كما صار من بعد الشاب التقي، ثم الكهل الذي أبلى البلاء الأكبر في الإسلام، واحتمل المكاره في سبيل ما يعتقد، أو ما يراه تهجماً فيما ليس له به علم.

حتى إذا أتم حفظ القرآن، وعلم اللغة، اتجه إلى الديوان ليمرن على التحرير والكتابة، ولقد قال في ذلك: ((كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان، وأنا ابن أربع عشرة سنة)).

وكان وهو صبي محل ثقة الذين يعرفونه من الرجال والنساء، حتى إنه ليروى أن الرشيد، وهو بالرقة مع جنده، كان أولئك الجند يكتبون إلى نسائهم بأحوالهم، فلا يجد النساء اللاتي يعرفن أحمد غيره يقرأ لهن ما كتب به إليهن، ويكتب لهن الردود، ولا يكتب ما يراه منكراً من القول.

ولقد كان نجبه واستقامته أثرين ملاحظين لكل أترابه، وآبائهم، يتخذه الآباء قدوة لأبنائهم، حتى لقد قال بعض الآباء: ((أنا أنفق على ولدي وأجلبهم بالمؤدبين، على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم!! انظروا كيف، وجعل يعجب من أدبه، وحسن طريقته (١))).

١٨ - إذا كان الطفل الصغير، هو سر الرجل الكبير، والنواة الصغيرة في مطويها الشجرة الكبيرة، فكذلك كان ذلك الغلام اليتيم أحمد بن محمد بن حنبل، الذى

(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢١

18

كان يمتنع عن كتابة مايوجب الورع ألا يكتبه، ويمتنع عن إرسال كتاب لعمه يرى أن الصلاح لا يوجبه، أو ليس رضا الله فيه خالصا، بل رضا السلطان هو المقصود الأول، كما رأيت في امتناعه عن توصيل كتاب عمه إلى الوالي، لتوصيل الأخبار إلى الخليفة، فكان ذلك الغلام هو الذي يطوي في نفسه سجايا ذلك الإمام.

اشتهر الغلام أحمد بين الأقران بالتقوى والعناية بعمله، والصبر والجد، واحتمال ما يكره، فلم يكن الغلام الذي تستغرقه ميعة الصبا، ورعونة الصبيان، بل كان الرجل الكامل، وإن كانت السن سن الصبيان، ولعل ذلك من فرط اعتماده على نفسه صغيراً، وإحساسه بالاستقلال النفسي منذ طفولته، ولقد استرعت هذه الصفات نظر العلماء الذين اتصل بهم في ذلك العقد، حتى لقد قال فيه الهيثم بن جميل: ((إن عاش هذا الفتى، فسيكون حجة على أهل زمانه))(١).

ويظهر أن هذه النبوءة قد تحققت، فقد عاش الفتى، حتى اكتملت رجولته، ووصل إلى السابعة والسبعين، وكان نورا لأهل زمانه، بعلمه، وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل ما يعتقد.

١٩ - شب أحمد عن الطوق وكان يتجه إلى العلم، وجهته أسرته إليه، واستقام ذلك التوجيه مع نزوعه الخاص، وبذلك تلاقت ميوله مع الوجهة التي وجه إليها، وكانت بغداد فيها علوم الدين، واللغة، والرياضة، والفلسفة، والتصوف، وكل هذه الأشجار قطوفها دانية، فكان لابد أن يقتطف أحمد منها، وإن الذي يتفق مع النشأة الأولى هي علوم الدين لا ريب في ذلك، وما تمهد إليه، لذلك علم علوم اللغة باعتبارها طريق علوم الدين، كما كان الشأن في ذلك العصر، وكما هو المعقول في ذاته.

وإذا كان بين يديه أن يختار من علوم الشريعة، فهو إما أن يختار مسلك الفقهاء، وإما أن يختار أن يكون راويا من رواة الحديث، وحافظا من حفاظه، فقد ابتدأت الطريقتان تتميزان في عصره، وابتدأ العلمان ينفصلان، علم الفقه، واستخراج الفتاوى، والأقضية، وعلم الرواية، وتمييز الرواة، وإعداد المادة للفقهاء لتكون بين

(١) تاريخ الحافظ الذهبي في ترجمة أحمد بن حنبل.

19