يقول الإمام الغزالي: «كنت في مبدأ أمري منكرا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله - تعالى - في المنام، فقال لي: يا أبا حامد. فقلت: أوالشيطان يكلمني؟ قال: لا؛ بل أنا الله المحيط بجهاتك الست. ثم قال: يا أبا حامد، زر مساطرك واصحب أقواما جعلتهم في أرضي محل نظري، هم الذين باعوا الدارين بحبي. قلت: بعزتك ألا أذقتني برد حسن الظن بهم. قال: قد فعلت. والقاطع بينك وبينهم: تشاغلك بحب الدنيا؛ فاخرج منها مختارا قبل أن تخرج منها صاغرا، فقد أفضت عليك أنوارا من جوار قدسي. فاستيقظت فرحا مسرورا، وجئت إلى شيخي يوسف النساج، فقصصت عليه الرؤيا فتبسم، وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد حتى ترى العرش ومن حوله، ثم لا ترضى بذلك، حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار؛ فتصفو من الأكدار طبيعتك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله - تعالى - كموسى:
إني أنا الله رب العالمين .»
ويقول الإمام الغزالي؛ متحدثا ومدافعا عن النهج الصوفي: «وماذا يقول القائلون في طريقة أول شروطها: تطهير القلب عما سوى الله - تعالى، ومفتاحها: استغراق القلب بالكلية في ذكر الله، وآخرها: الفناء بالكلية في الله.
وأول هذه الطريقة: المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.»
وعلى هذا الضوء، نستطيع أن نعرف سر العلم لدى المتصوفة، وعلى هذا الضوء نستطيع أن نتدبر وندرس ذلك التراث العظيم الذي تركه محيي الدين للفكر الإسلامي والمعارف العالمية، من جولات في عوالم الأرواح والقلوب، وكشوف لدنية في أسرار الشريعة ومعارفها، وفيوضات كالبحار الزواخر في الآيات الكونية والنظم الإلهية والأسرار الربانية، المستمدة جميعها من خزائن القرآن وفيوضات العلم اللدني، الذي قوامه الذكر والفكر، والإشراق والرضا.
العلم اللدني
الكشف الباطني والفيض الرباني ، هما سر الحياة في محيي الدين، فقد تدفقت معارفه من هذا النبع، وصيغت علومه من ذلك الفيض، وتميز بين رجال الفكر الإسلامي، بل العالمي، بأنه صاحب النصيب الأكبر والحظ الأوفر من هذا العلم اللدني، أو الحكمة الربانية التي يؤتيها الله من يشاء من عباده. يقول محيي الدين: «إن المؤمن المتأدب بآداب ربه، المحافظ على شريعته، إذا لزم الخلوة والذكر، وفرغ فكره مما سواه، وقعد فقيرا لا شيء له عند باب ربه؛ حينئذ يمنحه الله - تعالى - ويعطيه من العلوم والأسرار الإلهية، والمعارف الربانية، التي من بها - سبحانه - على عبده الخضر، فقال - تعالى:
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، وقال - تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله ، وقال:
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ، وقال - سبحانه:
Unknown page