ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمر ، والصبر لا يكون إلا على ما يشق، فلو قدم الصبر على المشيئة كما يفعل المحمدي، لصبر ولم يعترض؛ فإن الله قدمه في الأعلام تعليما لمحمد
صلى الله عليه وسلم ، فمن أراد أن يحصل على علم الله في خلقه، فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء؛ فيقدم ما قدم الله، ويؤخر ما أخر الله، فإن من أسمائه المقدم والمؤخر، فإذا أخرت ماقدم الله، أو قدمت ما أخره الله، فهو نزاع خفي، يورث حرمانا. قال - تعالى:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله . فأخر الاستثناء وقدمه موسى، فلم يصبر. فلو أخره لصبر.
وقد رويت في هذا المعنى حكاية عجيبة عن يهودي، أخبرني بها محمد بن موسى، قال: كان رجل بالقيروان أراد الحج، فتردد خاطره في سفره بين البر والبحر، فقال: إذا كان صبيحة غد أول رجل ألقاه أشاوره؛ فحيث يرجح لي أحكم به، فأول من لقي يهودي فتألم، ثم عزم وقال: والله، لأسألنه، فقال: يا يهودي، أشاورك في سفري هذا، هل أمشي في البر أو في البحر؟ فقال له اليهودي: يا سبحان الله! وفي مثل هذا يسأل مثلك، ألم تر أن الله - سبحانه - يقول لكم في كتابه:
هو الذي يسيركم في البر والبحر
فقدم البر على البحر، فلولا أن لله فيه سرا ما قدمه، وهو أولى بكم، إلا إذا لم يجد المسافر سبيلا إلى البر. قال: فعجبت من كلامه وسافرت في البر فلقيت خيرا كثيرا.»
وقد أنكر الإمام الغزالي هذا المقام بصفة عامة، وقال: «ليس بين الصديقية والنبوة مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة، والنبوة باب مغلق.»
ومحيي الدين لم يقل أبدا، بأن الولي يرقى مرقى النبوة؛ فلا نبوة ولا رسالة بعد أن ختما بأشرف خلق الله، بل يقول في رده على الغزالي: هذا فضل الله يهبه لمن يشاء، وليس على أفضال الله قيد، ولا لبشر أن يتحكم في عطاياه، ومن ذاق عرف، وليس لمن لم يذق حكم على من ذاق.
ومحيي الدين يقول أيضا: إن هذا المقام قد يعطي علما لا ذوقا لعلماء الرسوم، أي: علماء الفكر والاجتهاد والتبحر في المعارف، وهم يختلفون في علومهم؛ لعدم تذوقهم ولاعتمادهم على الأدلة التي تصيب وتخطئ، بخلاف الذوق عند أهل الكشف والفيض.
وهو هنا كعادته - خلافا للمتصوفة - يعلي من شأن علوم الفكر والعقل والاجتهاد، حتى ليقول بصوابهم جميعا على اختلافهم وتلاحيهم؛ وهذا ما لم يقولوه هم أنفسهم، ما دام الاختلاف والتلاحي في الفروع لا في الأصول.
Unknown page