وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ، قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثيرا ما يعرض لمن دهمه أمر من الأمور؛ إما حب، وإما خوف، وإما رجاء؛ يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا مما قد أحبه أو خافه أو طلبه؛ بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا؛ فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته؛ حتى يفنى من لم يكن، وهو المخلوقات المبعدة عمن سواه، ويبقى من لم يزل، وهو الرب - تعالى؛ والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى يضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه. كما يذكر أن رجلا ألقى نفسه في اليم، فألقى محبه نفسه خلفه. فقال: أنا وقعت فمن أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني.»
أليست تلك المقامات من حالات الفناء، هي المقامات التي يرمى فيها المتصوفة بوحدة الوجود؟
يقول ابن تيمية خصم التصوف الأكبر، وخصم محيي الدين: «فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته، ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد.»
وهل قال المتصوفة أكبر من هذا القول؟! ومن عجب أن ابن تيمية يهاجم التصوف والمتصوفة؛ لأنهم يقولون: إنهم في نشوتهم الكبرى لا يرون إلا الله، ويذهلون عما سواه، أي: نفس ما يقول ابن تيمية.
إنهم ليرون الله في كل شيء، ومع ذلك يوقنون بأنه - سبحانه - فوق كل شيء، وهذا أكمل درجات التوحيد.
ويقول ابن تيمية أيضا في مجموعة رسائله:
2
وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
فهذا إنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، هذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين؛ إذ كان قد استغرق في محبوبه، حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
Unknown page