إن يكن الوزير قد ابتنى بيتا فأصبح بيت ابن عمار إلا أن ابن عمار لم يكن يلم ببيته هذا إلا إلمامة العاجل التي لا ريث بها ولا هدوء؛ فأغلب أوقات صباحه بين الديوان ومجلس المعتمد وهو في أغلب لياليه مع المعتمد يقضيها سمرا ولهوا أو يقضيها نوما في القصر، هو لم يطلب البيت لمبيت وإنما طلبه ليتصل اسمه ببيت وقد اتصل.
وأقبل المعتمد يوما على ابن عمار وطلب إليه أن يعد له ليلة من ليالي شلب، تلك التي كانت قبل أن يعرف إعتماد، ويذعن ابن عمار ويعد الليلة في خبرة ودربة ومران، ويقبل المعتمد على المرح فيشيع السرور في الجلسة ويغبط المعتمد نفسه بما أنعم به الله عليه من حب وفي هو إعتماد، ومن صداقة مخلصة حكيمة هي ابن عمار، ويشيد المعتمد بقدرة ابن عمار النابغة في السياسة وفي الشعر وحتى في تهيئة الليلة الأنيسة، ويبالغ المعتمد في تلك الإشادة ويقرب ابن عمار أكثر مما تعود أن يفعل وكلما دارت الخمر برأسه رفع من شأن ابن عمار حتى أذن الليل بزوال، فإذا المعتمد وقد أصبح ثملا وإذا هو قد أبلغ ابن عمار ذروة السها، وينفض المجلس ويوشك ابن عمار أن ينصرف إلى بيته ولكن المعتمد يمسك به ويقسم أيمانا مغلظة أن يبيت ابن عمار معه على وسادة واحدة، ويتحرج ابن عمار أول الأمر لكنه لا يملك من أمر نفسه أمرا فهو يتبع المعتمد فرحان جذلان إلى حجرة أعدت للنوم. ويستلقي المعتمد ويطلب إلى ابن عمار أن يستلقي إلى جانبه على أن يضع رأسه معه على وسادة واحدة، ويهمان بحديث ولكن السهر والخمر والتعب ما لبثت أن عقدت أجفانهما. نام ابن عمار يكاد صدره يتفجر بالسرور ازدحم به، وإن تكن اليقظة قد هيأت له هذا السرور إلا أن النوم أبى أن يسكت عنه؛ فإن الأحلام لتتواكب أمام ابن عمار ثم تنشق عن رجل أشيب جليل ناصع الإشراق يومئ إلى ابن عمار ويتحدث في هدوء فيقول زائر الحلم: هيه يا ابن عمار! هل أمنت كيد الملوك؟ استراح بك المقام ووثقت من المعتمد فأنت إذن تمرح في سرور مطمئن ونشوة صافية. أفق أيها المخمور، لذ بنفسك إن المعتمد سيقتلك، نعم هذا الصديق الحبيب، نعم هذا الذي انتشلك من على ظهر الحمار إلى دست الوزارة، هو نفسه سيقتلك.
وفزع ابن عمار من نومه وقد أرسى في نفسه إنذار الحلم وقد شعشعت في رأسه خمر أمس فهو يتسلل من الغرفة خائفا ويمشي في دهاليز القصر قاصدا إلى الباب الخارجي، ولكنه ما يلبث أن يقف باهتا حين يقرع صوت المعتمد أذنيه.
تقلب المعتمد في فراشه، ووضع يده حيث طلب من ابن عمار أن يلقي بنفسه ولكنه لم يجد ابن عمار فقام من فوره ونادى بالخدم وسألهم عنه فما علم أحد عنه شيئا فطلب مصباحا وخرج إلى دهاليز القصر يتوكأ على سيفه يبحث عن ابن عمار ومن خلفه حاشيته أجمع، وطال بهم التطواف بغير جدوى فوقف المعتمد يتساءل فيدير خدمه رءوسهم ويضربون أكفهم بأكفهم، وبينما هم كذلك إذا بحصير يتزحزح من مكانه فانعقدت ألسنتهم واتجهت رءوسهم إلى حيث كان الحصير قد وقف وامتنعت أكفهم عن ضرب نفسها وامتلأت نفوسهم بالذعر، إلا أن المعتمد قد كره أن يظنوا به خوفا وما هو بالجبان فهو يقصد إلى الحصير ويرمي السيف من يده ويطبق على الحصير فيجد بداخله أعضاء آدمي ما يلبث أن يصيح «عفوك يا مولاي» فيصيح به المعتمد: من؟
فيتخلص صاحب الحصير منه وإذا هو ابن عمار عاريا لا يكسوه غير فضلة من ثياب، فيصيح المعتمد مرة أخرى صيحة داهشة عاجبة: من ذلك الذي آثر الحصير على فراش الملك؟ - ابن عمار. - نعم مولاي ابن عمار.
فلا يملك المعتمد من نفسه إلا أن يضحك لصديقه ويفرح أن وجده فكأنما هو عائد من سفر بعيد ثم يسأل ابن عمار في غبطة: ما الذي فعلت بنفسك؟ - عفوك يا مولاي؛ فقد زارني في النوم طائف حذرني منك وقال إنك قاتلي، فقلت أهرب وكفاني ما لاقيته عندك من الخير ومن أيام إن جعلتها زاد حياتي من السعادة كنت أسعد من ولد ومن هو في مطوي الغيب سعيد. لقد رأيت منك الرضى وأخشى أن أرى الغضب، ولقد بلغت عندك الذروة وليس بعد الذروة إلا المنحدر، والملوك مولاي لا يستقرون على حال؛ فلو أنك انتقمت مني للسعادة التي أشهدتنيها لكان انتقامك فوق الشدة.
فتترقرق الدمعة في عين المعتمد ويربت كتف ابن عمار، ويهدأ روعه، ويقول له في صوت متهدج بالبكاء: يا أبا بكر، إنك أخو شبابي ومجلى شعري وشقيق حياتي وخدن حاضري، عرفتك وأنا بعد في زهرة الشباب وصحبتك منذ عرفتك حتى بلغت الكهولة أو كدت، أأقتلك؟! أرأيت شخصا يقتل شبابه وشعره وماضيه وحاضره؟ أفق ابن عمار إنها لآثار نوم وخمار؛ فوالله لو شهدت هذا الزائر الذي بث إليك الخوف لقتلته أن أقلق منك مضجعا وخوف منك آمنا.
ثم يلتفت إلى حاشيته يأمرهم أن يحضروا قسطا من اللبن فيحضرون، ويسقيه لابن عمار ويذهب به إلى الوسادة وينامان.
نومة لم تكن هادئة تلك التي أصابها ابن عمار فقد أصبح من نومه ولا هم له إلا أن يباعد بينه وبين المعتمد قليلا حتى يطمئن ما أثير بنفسه، ويهدأ ما اضطرب من خاطره، ولكنه لم يستطع أن يسوق إلى المعتمد ما يعتمل بنفسه في صباحه هذا، فتريث حتى نسي المعتمد ما كان من أمر الحلم والهاتف ثم تقدم متوددا وقال له: مولاي، بقيت، فإني لأطلب منك الكثير وأنت تجيب حتى لقد غدوت أخشى الإثقال عليك. - ألا إن من وراء قولك لمطلبا. - هو ذاك يا مولاي. - فقله. - حتى تقسم. - بصداقتنا. - أريد ولاية شلب.
فيألم المعتمد لهذا الطلب ويبادر ابن عمار: أملالة يا أبا بكر. - لا عشت إذن، ولكنني يا مولاي شهدت نفسي بشلب هذه وأنا فقير وربيت بها وأنا لا أملك شيئا حتى لقد تركتها وخرجت أطوف بالملوك أمدحهم فما أصبت من ذلك شيئا ثم عدت إليها عودة لا كانت. لقد شهدت نفسي هناك جائعا على حمار جائع عريان، على حمار متهالك، حتى لقد أسمحت لي نفسي أن أمدح تاجرا لأصيب منه حفنة من شعير، ثم تعلقت أسبابي بك، وللنفس بدرات، إن نفسي لتشتهي اليوم أن تشهد نفسها هناك وفي هذا البلد واليا عليها من قبلك وإن آمالي - لا عدمتك - تظل آمالا حتى تلقى بين يديك فإذا هي حقيقة، وإن أماني لا تزال أماني حتى تنتهي إليك فإذا هي واقع.
Unknown page