عودة
عهد الملوك
عهد جديد
صداقة وحب
إلى الطريق
عند قوم ... وعودة
دهاء الوزير
صفقة، أهي رابحة؟!
مع الملك
قمة المجد
بين مرسية وإشبيلية
إلى أين؟
سحيق الهاوية
عودة
عهد الملوك
عهد جديد
صداقة وحب
إلى الطريق
عند قوم ... وعودة
دهاء الوزير
صفقة، أهي رابحة؟!
مع الملك
قمة المجد
بين مرسية وإشبيلية
إلى أين؟
سحيق الهاوية
ابن عمار
ابن عمار
تأليف
ثروت أباظة
عودة
أهكذا يعود! يا لها من آمال عراض تلك التي صحبها يوم ترك موقفه هذا منذ سنين! إنه لم ينس بعد تلك الأماني العذبة التي كانت تزحم نفسه يوم ضاق به العيش في بلدته «شلب» فنزح عنها وفي نفسه آمال، وفي قلبه أمان، وفي صدره عزم، وفي كل دمائه شعر. لقد ترك بلدته مهد ميلاده ومدرج طفولته ومغنى شبابه ليدور بشعره على الملوك يسترفد مالهم بما يرفده عليهم من شعره ولقد دار، ولقد مدح، فبالغ في المديح، ولقد كذب على الحق فأوغل في الكذب، ولقد أمات ضميره ليجعل الظالم منهم عادلا والمجنون فيهم حكيما، ولقد محا من ذاكرته كل ما يعرفه عن هؤلاء الملوك من شر، ولقد أنمى بشاعريته كل ما كان يعرفه عنهم من خير، ثم هو زاد عليه، ثم هو أنشأ لهم الخير، ثم هو قلب مقابحهم أفضالا ثم مدح ثم مد يده وثناها. ألا ما أبخس ثمن الضمير في رحاب الملوك! إنه ليفكر أنال كفء ما أعطى؟ أكانت تساوي هذه الدريهمات خروجه ودورانه وكذبه واختلاقه؟ بل أتعدل هذه الدريهمات أن يترك بلده الحبيب؟ إن يكن ضاق به فها هي ذي الدنيا جمعاء تضيق به، ولكن أضاقت الدنيا أو ضاقت «شلب» به هو أم إنها ضاقت ببضاعته؟ وكيف تضيق؟ إنه يبيع شعرا، إنه يهب لمادحه فكرا انتظم فصار شعرا، أهذا قليل؟! ما شأن ممدوحه إن خالج هذا الفكر شعور أو لم يخالجه؟ ألم ينظم شعرا؟ ألم يحسن ما نظم؟! فما هذه الدريهمات الضئيلة التي يصيبها؟! فأين هذا العدل الذي يزعمون وجوده في الدنيا؟! وأي دنيا تلك التي تجعل الشاعر العبقري يتمسح بأبواب الجهلة من الملوك والوزراء؟! يسكب عليهم شعره فلا يصيب منهم غير هاته الضحكة البلهاء التي تلتصق بشفاههم يحاولون بها إفهامه أنهم يفهمون ما يقول، ويحاولون بها أن يصدقوا هم في أنفسهم أن هذا المديح الذي يسمعون حق لا رياء فيه ولا كذب، ثم هو لا يصيب من بعد إلا هذه الدريهمات يلقونها إليه إلقاء! ولو تجسمت السعادة التي يحسونها بالمديح ولو وضعت مجسمة في كفة لما عادلها مال العالم أجمع، ولكنهم مع هذا يبخسونه حقه واهمين أن ما قاله لا يعدو الحق في شيء فهو لم يخلق جديدا، ولم يمت ضميرا، ولم ينشئ فضلا، ولم يقلب القبح حسنا، وهو لا يستحق إلا هذا القليل.
هكذا كان يفكر ابن عمار وهو واقف بأبواب «شلب» عائدا إليها من سفره هذا الطويل وقد تضاءلت آماله؛ فبعد أن كانت تهفو إلى الغنى والشهرة والجاه العريض، أصبحت تحوم حول حفنة من الغلال يقيم بها أود نفسه وأود حماره الذي أضناه السفر في تحقيق الآمال.
دخل ابن عمار «شلب» راكبا حماره الهزيل يفصله عن ظهره خرج قديم قذر كان هو كل ما يلبسه الحمار. أما هو، أما أبو بكر محمد بن عمار فقد كان يضع على نفسه بضعة أخلاق من الثياب إن اختل نظام واحدة منها وضحت من تحتها عظام الشاعر بارزة تكاد تطل من جسم صاحبها، وكان يضع على رأسه قلنسوة صغيرة يكاد شعره أن يلقي بها. دخل ابن عمار شلبا لا يقصد فيها إلى أحد فلقد ربى وشب في قرية من أعمالها، وإن كان قد تلقى علومه في شلب على «ابن الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم» إلا أن أستاذه هذا قد مات ومات معه أغلب من كان يعرفهم ابن عمار من الأساتذة، والباقي منهم لا يجرؤ ابن عمار أن يقصد إليه ليطلب فجميعهم فقير، فلم يبق أمام ابن عمار إلا أن يكافح وحده ليرد جوع نفسه وجوع حماره الذي أضناه.
سار ابن عمار يتلفت في ذلة الجائع وفي عزة الشاعر فلا يجد وسيلة إلى أحد ممن يرى، وكان الناس ينظرون إليه على حماره هذا الهزيل فتبدو على وجوه بعضهم الشفقة والإشفاق على هذا الهزال المركب، وتبدو على وجوه أخرى السخرية من تلك الأسمال التي تكاد تلتئم جنباتها جميعا من شدة هزال صاحبها، والتي كانت تبدو وكأن أحدا لا يلبسها، وإنما هي منتصبة بقدرة معجزة، وكانت السخرية تتضح وتستبين حين تنصب عين الساخر على الحمار المضنى من كثرة المشي لا من الحمل الذي يحمل فهو لا يحمل شيئا.
ولكن ابن عمار كان مشغولا عن هذا كله بجوعه وجوع حماره الذي تركه يسير لم يوجهه وجهة معينة بل ترك له حق القيادة، والحمار لا يعرف طريقا إلى بيت، ولا سبيلا إلى مرتع، وإنما هو يرى طريقا فيسير، ولقد يعوج الطريق أو يعتدل فيعوج معه ويعتدل، حتى إذا وجد طريقين عليه أن يختار بينهما، اختار دون أن يكون لعقله وازع في هذا الاختيار فهو حمار يسير لا يدري لماذا يسير ولا أين الطريق. وطال الأمر على ابن عمار والحمار؛ فالطريق طويل على من لا يعرف مقصدا، ولقد مالت الشمس للغروب وكادت أن تغيب وكاد أن يغرب معها أمل ابن عمار الأخير الذي تضاءل حتى أصبح حفنة من غلال.
وفجأة أشرق سوق الغلال في عين ابن عمار فوقف الحمار من تلقاء نفسه على مبعدة قريبة من السوق، وأخذ ابن عمار يفكر في وسيلة ينال بها أمله الأخير هذا، أيسأل تاجرا أن ينسئه حفنة غلال يرد له ثمنها عند ميسرة؟ ولكن ما الذي يدعو التاجر إلى ائتمانه وهو لا يعرفه؟ وهل هو نفسه يأتمن نفسه؟ وأين هي تلك الميسرة التي يريد أن يرد فيها الثمن؟ لا، لا فائدة من النسيئة، أيستجدى التاجر؟ لا ودون هذا موته وموت الحمار جميعا، فكر ابن عمار فأطال التفكير ثم وثب إلى ذهنه خاطر، أخذ يقلبه على أوجهه، لماذا لا يمدح هذا التاجر بشيء من الشعر! نعم إنه لم يمدح غير الملوك والسراة من القوم ولكن ما البأس في أن يمدح هذا التاجر؟ لقد كان يمدح الملوك والسراة ليصيب منهم مالا يشتري به غلالا، لقد كان الملوك والسراة طريقا له إلى هذا التاجر وأمثاله، وقد مدح هو الطريق ليصل إلى المقصد فما له لا يمدح المقصد بعد أن خذله الطريق! ولكن أيفهم التاجر الشعر؟ وحينئذ ضحك ابن عمار في نفسه فأغرقت نفسه في الضحك، وهل فهم الملوك والسراة جميعهم الشعر؟ سوف يمدح التاجر فإنه بهذا ينال ما يصبو إليه وإنه بهذا سيدخل إلى نفس التاجر فرحا لم يتوقعه في يوم من الأيام. وعزم ابن عمار وبدأ في التنفيذ، وأخرج من جيبه قرطاسا وخط عليه في سرعة بضعة أبيات، ثم هم أن يدع ظهر الحمار ويسعى إلى التاجر ولكنه عاد إلى نفسه وخجل أن يفعل؛ فهو لم يعود وقفه في السوق، وهو لم يعود أن يرى ممدوحه معه على الأرض، بل كان يراه دائما على ذروة عرشه. فكر ابن عمار في وسيلة يبلغ بها قرطاسه إلى التاجر، وبينما هو حائر، مر به غلام استوقفه ابن عمار، وطلب إليه أن يبلغ ورقته وفيها شعره إلى التاجر الذي استوجهه ابن عمار، وكان الغلام طيعا فأخذ الورقة وقصد بها إلى التاجر، فأخذها وألقى إليها نظرة كانت كافية لأن يغمر السرور وجهه فلقد أصبح ممدوحا يقال فيه الشعر ويرجى لديه النوال، ولم يفهم التاجر من الشعر شيئا غير أنه شعر وغير أن هذا الشعر لا يمدح به غير الملوك والسراة. ولما كان التاجر واثقا أنه ليس ملكا فلا بد إذن أن يكون من السراة وهكذا أسرع إلى مخلاة لديه وأراد أن يملأها برا
1
ولكن غريزة التاجر فيه ردت يده في سرعة وألقت بها إلى الشعير فملأ المخلاة منه وأعطاه إلى الغلام، ثم التفت إلى غلاله يجمعها، يريد أن يبلغ بيته، فيفهم زوجه التي لا تني عن إيذائه أنه أصبح ممدوحا وأنه من السراة.
وانكفأ الغلام إلى ابن عمار يحمل إليه المخلاة بحملها الجديد ففرح ابن عمار، ورأى في هذه المخلاة آماله قد تحققت، بل إن آمال حماره أيضا قد تحققت معه. ولم يبق له إلا أن يفكر في مثل هذه الآمال لغده الذي ينتظره، والذي يتربص به ليفعل به مثلما فعل الأمس، ومثلما يفعل اليوم، ومثلما يفعل كل إخوان هذا الغد من ذاهب وحاضر في ابن عمار؛ فويل لابن عمار من غده، أو ويل للغد من ابن عمار.
عهد الملوك
لم يمكث ابن عمار في شلب فقد أصبحت في عينيه مثل سائر البلدان التي مر بها في تطوافه وإن تكن في نفسه مهد طفولة ومدرج صبا ومعهد ذكريات.
كان لا بد لابن عمار أن يأكل، وكان لا بد لحماره أن يأكل معه، ولم يكن في مقدور ابن عمار أن يقصر شعره على التجار، وما كل تاجر مثل ذلك الرجل الكريم الذي وصله، وإن تكن آمال ابن عمار تضاءلت إلا أنها في البعيد البعيد من نفسه ما زالت وهي هي، وما زالت تلقي به إلى كل متجه يرجى فيه خير.
وكانت الأندلس في ذلك الحين مقسمة إلى دويلات على كل منها حاكم وقد أصر هؤلاء الحكام أن يسموا دويلاتهم ممالك حتى يتسنى لهم أن يسموا أنفسهم ملوكا، ولقد كثر بينهم التنازع ولكنهم لم يتنازعوا في هذه التسمية قط؛ فقد اعترف كل منهم للآخر بها حتى يضمن اعتراف هذا الآخر لنفسه، ولكن التاريخ أبى أن يعترف باعترافاتهم هذه ولم يقبل أن يطلق عليهم ملوكا، ثم يسكت عنهم، وإنما أطلق عليهم اسم «ملوك الطوائف»، فكانت هذه التسمية من التاريخ دليلا على أن هذا التاريخ قد يصدق في بعض الأحايين.
كان بنو عباد هم أقوى أسرة حكمت في عهد ملوك الطوائف هؤلاء، وقد كانت إشبيلية هي مقر حكمهم، وقد تحدر الملك في بني عباد حتى وصل إلى «أبي عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد». وقد ولي الحكم بعد أبيه وأطلق على نفسه اسم المعتضد، وكان أبوه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل من خيرة الملوك الذين حكموا في هذا الزمان. وقد سار المعتضد في طريق أبيه قليلا فكان يستشير ويعدل، ثم مال عن هذا الطريق فاستبد بالحكم وحده، ولم يكن عهده كله شرا فإن التاريخ ليقول عنه كثيرا من الخير، ولكنه كان سفاكا باطشا. ولعل النقائض لم تجتمع في شخص كما تجمعت في المعتضد؛ فهو قاس غليظ القلب، ولكنه في مجالسه رقيق الحاشية، حسن الذوق، شاعر محب للشعر، وقد كان مستمعا للشعر خيرا منه ناظما له.
سمع ابن عمار عن المعتضد وعن حبه للشعر، فشد إليه الحمار عساه أن يجد لنفسه متسعا في الزحام، ووقف ابن عمار إلى المعتضد وقد جلس إلى جانبه ابنه المعتمد وقد كان من أحسن شعراء عصره. وقف ابن عمار وألقى قصيدته التي أضنى ذهنه في إعدادها؛ فقد كان يعلم أن آمال المستقبل أجمع رهينة بأبياته هذه؛ قال ابن عمار:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافورة
لما استرد الليل منا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره
وشيا وقلده نداه جوهرا
أو كالغلام زها بورد رياضه
خجلا، وتاه بآسهن معذرا
روض كأن النهر فيه معصم
صاف أطل على رداء أخضرا
وتهزه ريح الصبا فتخاله
سيف ابن عباد يبدد عسكرا
عباد المخضر نائل كفه
والجو قد لبس الرداء الأغبرا
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد
ونحاه لا يردون حتى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى
وألذ في الأجفان من سنة الكرى
يختار أن يهب الخريدة كاعبا
والطرف أجرد، والحسام مجوهرا
قداح زند المجد، لا ينفك عن
نار الوغى إلا إلى نار القرى
1
لا خلق أفرى من شفار حسامه
إن كنت شبهت المواكب أسطرا
أيقنت أني من ذراه بجنة
لما سقاني من نداه الكوثرا
وعلمت حقا أن ربعي مخصب
لما سألت به الغمام الممطرا
من لا توازنه الجبال إذا احتبى
من لا تسابقه الرياح إذا جرى
ماض وكف الرمح يكهم، والظبا
تنبو، وأيدي الخيل تعثر في الثرى
من كل أبيض قد تقلد أبيضا
عضبا، وأسمر قد تأبط أسمرا
ملك يروقك خلقه أو خلقه
كالروض يحسن منظرا أو مخبرا
أقسمت باسم الفضل حتى شمته
فرأيته في بردتيه مصورا
وجهلت معنى الجود حتى زرته
فقرأته في راحتيه مفسرا
فاح الثرى متعطرا بثنائه
حتى حسبنا كل ترب عنبرا
وتتوجت بالزهر صلع هضابه
حتى ظننا كل هضب قيصرا
هصرت يدي غصن الندى من كفه
وجنت به روض السرور منورا
حسبي على الصنع الذي أولاه أن
أسعى بجد أو أموت فأعذرا
يا أيها الملك الذي حاز المنى
وحباه منه بمثل حمدي أنورا
السيف أفصح من زياد خطبة
في الحرب إن كانت يمينك منبرا
ما زلت تغني من عنا لك راجيا
نيلا، وتفني من عتا وتجبرا
حتى حللت من الرياسة محجرا
رحبا وضمت منك طرفا أحورا
شقيت بسيفك أمة لم تعتقد
إلا اليهود وإن تسمت بربرا
2
أثمرت رمحك من رءوس كماتهم
لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء ملوكهم
لما علمت الحسن يلبس أحمرا
نمقتها وشيا بذكرك مذهبا
وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا
من ذا ينافحني وذكرك صندل
أوردته من نار فكري محمرا
فلئن وجدت نسيم حمدي عاطرا
فلقد وجدت نسيم برك أعطرا
وإليكها كالروض زارته الصبا
وحنا عليه الطل حتى نورا
وإن في هذه القصيدة أبياتا تظهر في جلاء كيف تمتزج الوحشية بالجمال؛ فالرمح على سنانه الرأس هو - في رأي ابن عمار - غصن مثمر، والسيف خضبه الدم هو الحسن الذي يلبس أحمر، ولعل ابن عمار قصد إلى اجتماع القسوة والجمال في نفس المعتضد أو لعله لم يقصد، ولعله حينما أمات ضميره ومدح جاءت هذه الأبيات في زحمة المديح ورأى نفسه يمدح شخصا لأنه قتل فأراد أن يعتذر عما فعل ويعتذر للممدوح عما قتل فكانت هذه الأبيات، لعله، ولعله لم ... أيا يكن الأمر فقد ألقى ابن عمار قصيدته ثم خرج من الديوان لينتظر ما قد يجود به عليه المعتضد. ولقد انتظر ابن عمار فطال به الانتظار، حتى رأى بقاءه بعد هذا عبثا لا طائل تحته، وحاول أن يصبر نفسه ولكنه أحس أن آماله في جائزة خيال، فقام من جلسته وفي نفسه حسرة لاعجة؛ فقد كان كل مناه أن يقيم بهذه الرحاب غير نازح، وها هو ذا يخرج منها حتى بغير الجائزة التي كان ينالها من الملوك الذين لا يفهمون الشعر ولا يقدرونه. لقد علق مناه بقصيدته وكم يخذل الشعر أصحابه! ليخرج إذن من القصر فلا يقيم، بل ليخرج من غير جائزة وحسبه أنه خرج سالما إن كان في السلامة مع التشرد احتساب لمحتسب. خرج ابن عمار إلى حماره الذي تركه خارج القصر وسار إلى حيث ترك الحمار ولكن يا للمصيبة النازلة! لم يكن الحمار هناك. بحث ابن عمار حول القصر وأطال البحث فلم يهتد إلى حماره الأثير فجلس على سور القصر وفي نفسه ألم وحسرة وأخذ يفكر في حماره الذاهب. لقد صحبه منذ سنين ولقد رأى معه مر الحياة وحلوها، وماذا؟! حلوها؟! أين حلو الحياة هذا الذي ذاقه معه الحمار؟ إنه لم يعرفه، لا بأس لقد كان إذن حمارا صبورا احتمل مر الحياة وحده فلم يطالب بحلوها، ولكن أكان يستطيع أن يطالب؟ لقد كان صامتا لأنه مرغم على الصمت، ثم من أين يدري أنه سرق الآن؟ لعله هو الذي هرب وحده دون سارق، إنه هو هذا الخائن لم تكد بارقة أمل تلوح له في هذه المدينة الضخمة حتى ترك صاحبه أحوج ما يكون إليه ليبحث عن صاحب آخر، لم يكن وفيا ذلك الحمار، ولعله أيضا كان نحسا على صاحبه فإن خيرا ما لم يصب ابن عمار وهو راكبه، أكان نحسا حقا ابن عمار أم إنك تصبر نفسك على ما أصابها؟ فكر ابن عمار فأطال التفكير، وقد انتهى إلى أن هذا الحمار كان نحسا عليه، فمس قلبه طيف من الراحة لم تتركه نفسه دون أن تفسده عليه فحادثت صاحبها هازئة: «أكان الحمار نحسا أيها الشاعر؟ فانظر إذن أي خير سيصيبك من بعد ذهابه، لم تعد لك حجة في فقرك أيها الشاعر إن كان الحمار هو حجتك.» فغضب ابن عمار من نفسه هذه المتشائمة، وهب يريد أن يسير، وهم أن يبحث عما يركب ولكنه تذكر أن حماره قد سرق فعلم أن نفسه على حق في سخريتها وامتطى قدميه وهم بمسير. لم يكد ابن عمار يخطو متباعدا عن القصر حتى لحقه من ينادي به فكذب أذنيه أول أمره ولكن النداء ألح فالتفت إلى من ينادي فإذا هو خادم من القصر يسعى إليه، فانبثق في نفسه وامض أمل غشته سحابة خوف، ولكن صوت الخادم ما لبث أن علا طاغيا على هواجس نفسه طالبا إليه أن يعود إلى القصر.
ورجع ابن عمار إلى القصر الذي ترك فيه رماد أمل ضخم من آماله ولكن ما لبث هناك أن رأى هذا الرماد من الأمل قد تجسم فصار الأمل حقيقة واقعة يكاد لا يصدقها لطول عهده بالآمال المحترقة ولا يستطيع أن يكذبها لأنها قائمة أمامه وهو يقظان غير نائم، وهو مفيق غير مخمور بغير هذه النشوة التي انسابت في إحساسه لأول مرة في حياته، لقد تحقق أمل. أمر المعتضد أن يكافأ ابن عمار فتجزل له المكافأة وأمر له بملبس فخم وبمركب فاخر. جعل ابن عمار يلعن حماره وأيامه النكدة، وكل هذه الأعطيات لا تساوي شيئا في نظر ابن عمار إذا قاسها بالأمر الأخير الذي قضى بأن يكتب اسمه ضمن شعراء القصر.
أصبح ابن عمار إذن من شعراء القصر، لقد آن للشريد في أقطار الأرض أن يراح إلى ملجأ وأن يهدأ إلى مستقر. يتلقى ابن عمار ذلك الخير ويهم بأن يذهب إلى الحجرة التي خصصت به، لكن خادما يأتي إليه ويخبره أن مولاه المعتمد يطلبه فيجف قلبه! وكيف لا؟ المعتمد شاعر رقيق غزل لم يقل الشعر في يوم تكلفا ولم يقله محتاجا وإنما أحسه فقاله وابن عمار لم يقل الشعر إلا صناعة! وكيف لا؟ وهو قد تلقى هذا الخير جميعه ولا بد لشر أن يلحق بالخير، ولا بد للمعتمد أن ينتقد، ونقد الأمير شتيمة قد تصل إلى ما هو أدهى.
يذهب ابن عمار إلى حيت يدله الخادم فإذا هو يجد ثلة من القوم ليس بينهم من هو أفضل من الآخر وقد افترشوا جميعا وسائد على الأرض، ويبحث بينهم عن المعتمد الذي رآه في مجلس أبيه فلا يجده فيلتفت إلى الخادم يسأله عن المعتمد ولكن الخادم كان قد انصرف، فيعيد وجهه إلى القوم فإذا هم مشرئبون إليه وإذا واحد منهم كان قد رآه حين أنشد قصيدته يقوم إليه ويقدمه إلى الجالسين ويفهمهم أنه أصبح منهم، فيعلم ابن عمار أن هؤلاء هم شعراء القصر فلا يحتشم منهم شيئا؛ فقد كان يعلم أنه خير منهم صناعة وأنه أكبر منهم نفسا، يجلس إليهم فيقولون ويقول، ويسمرون فيسمر، فإذا هو أكثرهم دعابة وإذا دعاباته تنطلق على طبيعة مواتية لا أثر فيها للكلفة فقد رأى كثيرا وتعلم، ولقد اختلط بأقوام كثيرين وعلم أن المرح هو خير عون له بعد الشعر وعرف أيضا أن هذا المرح إن شابه تكلف أو صناعة أصبح ثقلا لا يحتمله أحد، كان من حسن طالعه أن روحه كانت صافية بطبيعته؛ فهو ينطلق على سجيته، فيجد الجالسين يميلون إليه بحديثهم، ويؤثرونه بالتفاتهم، وإذا هو روح المجلس المنطلقة الجميلة.
وبينا ابن عمار منطلق في دعاباته، إذا بالمجلس قد غشيه الوقار فجأة، وإذا بالمنطرحين إلى الأرض قد نفروا جميعا وقوفا، فيعجب ابن عمار عجبا يقطعه صوت جديد عليه يلقي السلام إلى من بالحجرة، ويلتفت ابن عمار فيجد المعتمد داخلا إليهم من باب لم يكن ظاهرا فيرى ابن عمار تلك الأبواب السرية التي كان يسمع عنها وإن كان لم ير داعيا لهذا التخفي الذي اتخذه المعتمد وهو يدخل إليهم. يدخل المعتمد وعينه على ابن عمار ثم هو يطلب من الشعراء أن يتخذوا مجالسهم، فيتخذوها متوقرين ويلتئم الجمع حول المعتمد، فيلتفت إلى ابن عمار ويقول له: هيه يا ابن عمار! لو أن الشعراء فعلوا ما فعلت اليوم ما ربح أحد منهم شيئا، أتمشي أيها الرجل قبل أن تنال جائزتك؟
فيقص ابن عمار على المعتمد كل ما لاقاه في يومه هذا من آمال خابت وحمار سرق ثم يكمل القصة بهذا الخير الذي سكب عليه، وكان ابن عمار يقص في انطلاقة لم يعهدها المعتمد فيمن يحادثه وفي مرح طرب له المجلس وعلى رأسه المعتمد، وابن عمار جذلان بما يلاقي كلامه من استحسان يشجعه على المضي في حديثه؛ علمه أن الأمير يشتهي دائما أن يسمع الحديث عبيطا لا أثر فيه لتنميق لكثرة ما يسمع من التنميق، ويشجعه من قبل ذلك الضحك الذي يستقبل به. وهكذا عرف ابن عمار كيف ينفذ إلى المعتمد فيصل إلى نفسه من الطريق القريب وهو طريق الطبيعة العارية التي لا تحب التعمل ولا التكلف، وهو الطريق الذي عمي عنه كل من صاحب المعتمد من قبل؛ فإن أقرب الطرق دائما هي أبعدها عن الذهن المحدود.
سر المعتمد بالشاعر الجديد وقربه إلى مجلسه ثم حادثه عن قصيدته التي ألقاها في أول الليل فإذا هو معجب بها فيجيب ابن عمار: وأين هذا يا مولاي من قصيدتك التي تقول فيها:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
ماذا يعيد عليك البث والحذر؟
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها
واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبر
وإن يكن قدر قد عاق عن وطر
فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن كبوة في الدهر واحدة
فكم غزوت ومن أشياعك الظفر
كم زفرة في شغاف القلب صاعدة
وعبرة من شئون العين تنحدر
واصبر فإنك من قوم أولي جلد
إذا أصابتهم مكروهة صبروا
لم أوت من زمني شيئا أسر به
فلست أعهد ما كأس وما وتر
ولا تملكني دل ولا خفر
ولا سبى خلدي غنج ولا حور
رضاك راحة نفسي - لا فجعت به
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
لا زلت ذا عزة قعساء شامخة
لا يبلغ الوهم أدناها ولا البصر
قال ابن عمار هذه الأبيات وهو يترنم بها ترنم المعجب المخمور بما ينشد والمعتمد يستمع وعلى وجهه تتوالى موجات من السخط والرضى، فليس يدري أيها أولى بالظهور وأيها أدعى إلى الاستخفاء، حتى إذا انتهى ابن عمار من الأبيات التي يحفظها تغلب السخط على الرضى في نفس المعتمد وإن السخط لغالب دائما في نفس الملوك، انتفض المعتمد صارخا: أتذكرني بموقعة هزمت فيها وباعتذار عن خذلان! لبئس ما اخترت لي يا ابن عمار ولبئس ما شاء لك حظك. - بل نعم ما اخترت لك ونعم ما اختار لي حظي أيها الشاعر، أنا لا أعرفك في موقعة وأنا لا أعرفك أميرا وإنما أنا أعرف فيك الشاعر الرقيق وأعرف فيك المعتمد بمجده الذي أنشأه هو بقلمه لا بمجده الذي أنشأه له أبوه وأجداده.
وفكر المعتمد قليلا ثم هز رأسه وقد أعجبه الكلام فكل جديد جميل وقال لابن عمار: لقد أجبت أيها الشاعر فأحسنت. - بل ليس بعد يا مولاي فإن لي مأخذا على شعرك هذا الذي ذكرت.
وبهت المعتمد فهو لم يسمع كلمة المأخذ هذه لاحقة بكلام يقوله أبدا ولكن ابن عمار لم يحفل دهشة المعتمد وأكمل ما يقول. - لقد قلت في بيتك الثاني: وازجر جفونك لا ترضى البكاء لها. إنك لتخاطب أباك في قصيدتك تعتذر له عن هزيمتك، وأنا لا أظن أن أباك بكى، بل لو كان بكى لكان عليك أنت أن تكتم الأمر فلا تبين عنه، أما أن تقوله شعرا فهذا ما لا أرضاه لك شاعرا أبدا.
سمع المعتمد الحديث ووعاه وأصابته وخزة النقد ولكنه وجد لها مسا رقيقا حلوا لم يعهده من قبل في المديح الذي يسمع، لقد أحس صدقا في حديث ابن عمار وهو لم يعهد الصدق في كل من يخاطبونه، بل كان يشعر بفراغ ضخم من الناس؛ فقد كانوا جميعا يتملقونه فهم في عينه لا يملئون الفراغ الذي أتاحه الله لهم في الدنيا، بل إنهم يزيدون هذا الفراغ فراغا. سمع المعتمد وفرح بما يسمع ثم هب في الجالسين: أسمعتم أيها الشعراء؟ إن في العالم صدقا، لقد مكثتم السنين تستمعون وتعجبون! ألم أقل شيئا ينتقد في يوم من الأيام؟ ومن أنا أيها الشعراء؟ أكنت الله يرسله تنزيلا؟ ولكن صدقا انبثق في القصر، فأهلا، أهلا بالصديق الذي طال عنه البحث.
مال المعتمد إلى ابن عمار يذاكره شعره وابن عمار يمدح في تحفظ وينقد في أدب ووضوح ، وحين يجد المعتمد معجبا بنفسه يشجعه على إعجابه، فهو يلاينه ويشعره أنه يقسو عليه، وهو يمدحه ويجعله يحس أنه ينقده، حتى انتهى الليل ودارت الرءوس تهفو إلى النوم فانفض السامر وافترق الشاعران الصديقان وقد اعتزما لقاء في يومهما التالي، بل لقد اعتزما لقاء في كل أيامهما التالية، فهلمي أيتها الأيام وأرينا ما الذي تخفينه لصداقة جديدة وعهد جديد.
عهد جديد
انصرف ابن عمار إلى غرفته معجبا بنفسه؛ فقد سارت الخطة في الطريق الذي رسمه لها، ولقد ظفر بالمعتمد وقد عرف من أين يذهب إليه، وقد لاقاه وأمسى أو هو أصبح وقد حقق لنفسه من الأمنيات ما ظن أنه لن يتحقق في يوم من الأيام؛ فلقد أصبح شاعر الملك المعتضد وقد أصبح قريبا إلى نفس المعتمد ولي العهد الشاعر الذي يحب الشعراء. ويفكر ابن عمار فيما كان بينه وبين المعتمد حين أفهمه أنه ينقده وأنه مخلص له، فكر ابن عمار في هذه الخطة التي رسمها لنفسه يوم كان فقيرا ويوم كانت آماله تصبو إلى يومه هذا؛ فقد كان حينذاك يفكر فيما يلقاه هؤلاء الأمراء من تزلف وتمليق، وكان يفكر في غباء هؤلاء المتملقين المتزلفين كيف يفوت عليهم أن الأذكياء من الأمراء يضيقون أحيانا بكثرة المديح كما يضيقون من كثرة النقد، وكان يفكر كيف يجب أن يضع المتقربون إلى الأمراء مدحهم في قالب من النقد حتى يخيل للأمراء أنهم يستمعون إلى صادق. إنه لم ينقد المعتمد اعتباطا، ولم تكن سرعة خاطر ولا حدة بادرة، وإنما هي خطة نظمها في نفسه منذ آماد بعيدة غاية في البعد ورأى الفرصة أمامه فاهتبلها، ولقد نجحت الخطة وقفز وثبا إلى الهدف الذي تقطعت أنفاس الكثيرين ممن يحيطون بالمعتمد ليصلوا إليه فما بلغوا مما بلغ ابن عمار شيئا.
وأغفى ابن عمار يؤرقه شوقه إلى الغد بعد أن كان يؤرقه خوفه من هذا الغد، وهكذا ذاق حلو الحياة ابن عمار حليف البؤس وأخو الطريق.
حتى إذا أقبل الصبح وكاد أن يغدو ظهرا دلف إلى حجرة ابن عمار خادم من القصر يوقظه، وما أسرع ما تيقظ وما أجمل ما سمع! فقد جاء الخادم يدعوه إلى المعتمد.
ووضع ابن عمار على نفسه تلك الحلة الجديدة التي أنعم عليه بها المعتضد في ليلته الذهبية ثم نظر إلى المرآة فوجد شيئا، ولم يكن قد نظر إلى المرآة منذ كان طفلا، وما كان بحاجة لينظر إليها، وما كانت حاجته إلى هذه النظرة؟! أما وجهه فهو يعلمه، وأما الأسمال التي كانت عليه فهو ضيق بها يريد أن تغرب عن وجهه فهو يدعو الله أن يعفيه منها أو يعفيها منه. أما اليوم فهو ينظر إلى المرآة ويجد شيئا، يجد إنسانا في وجهه حمرة من أثر الفرح، وفي عينيه حمرة من أثر السهر، وفي ملبسه فخامة من عند الملك.
سعى ابن عمار إلى المعتمد ومكثا معا وتحادثا، وكانا كلما فعلا اقترب ابن عمار إلى نفس المعتمد، فهو يقص عليه ما رأى وما سمع، ويقص عليه ما أصابه به الدهر، حتى إذا حس ابن عمار نفسه وكأنه يكلم شخصا يعرفه منذ زمن بعيد تجرأ فسأل المعتمد عن دخوله بالأمس من باب سري وأوشك أن يأخذ هذا على المعتمد ولكنه لم يكد؛ فإن المعتمد أسكته وطلب إليه أن ينتظر حتى يقبل المساء.
وأقبل المساء والأمير والشاعر متلازمان، وسأل ابن عمار الأمير أن يجيب عن سؤاله الذي أبداه في صدر النهار، فإذا الأمير يقف ويأخذ بيد ابن عمار إلى حجرة ليس بها من شيء غريب؛ فهي حجرة ذات باب وبها بعض الستائر تزين جدرانها، ولكن الأمير يزيح ستارا منها فيرى ابن عمار من خلفه ثقبا في الحائط ويسأل الأمير عنه، فيطلب إليه الأمير أن ينظر من الثقب، فيفعل فيرى مجلس الشعراء الذي كان فيه بالأمس وقد التأم لا ينقصه غير نفسه وغير المعتمد، ويستوضح الأمير فيخبره أنه يريد أن يرى الشعراء وهم جالسون في الغرفة الأخرى دون أن يحسوا به فيتاح له أن يراهم في مباذلهم من غير هذه الكلفة التي يصطنعونها في مجلسه؛ فلقد ضاق بهم أمام الأمير وأراد أن يراهم أمام أنفسهم، فيسأل ابن عمار: فإذا مسك أحدهم بما لا تحب. - إن أحدا منهم لا يجرؤ؛ فكلهم عين على كلهم، وهم يخشون على أنفسهم من أنفسهم. - فلماذا أريتني هذه الحجرة؟ - لأنني أحسست فيك الصدق، ولقد رأيتك بالأمس من هذا الثقب وأنت لا تعلم، ثم رأيتك تتكلم أمامي فما رأيت اختلافا بين الحديث والحديث، بل رأيتك في كل مجالسك تطلق نفسك على سجيتها، فهذا الثقب لا أحتاج إليه معك. - والباب لماذا جعلته مختفيا؟ - حتى لا يحاول واحد منهم فتحه ليعرف أن وراءه حجرة. إنهم يظنون حين أدخل منه أنه مفض إلى دهليز من دهاليز القصر.
وهكذا تكشفت الحقيقة لابن عمار وهي في تكشفها جعلته يحس أنه صار أقرب الناس إلى المعتمد، ويفتح المعتمد الباب المختفي ويمضي إلى المجلس ومن خلفه ابن عمار.
ويرى الجالسون ابن عمار مصاحبا للأمير فتشتعل نفوسهم غيرة، ولكن النار التي بقلوبهم ما تلبث أن تنقلب تملقا لابن عمار وتوسيعا له في المجلس وفي الحديث؛ فقد صار القريب إلى المعتمد، وناهيك بقريب إلى المعتمد. ومرت الأيام فكان الشاعر يلازم الأمير لا يفارقه، بل إن الأمير لم يعد يطيق أن يفارق الشاعر لحظة من حياته؛ فهو معه طول يومه وليله لا يفارقه إلا لهجعة في أصيل، أو نومة في مساء، بل لعله كان يلازمه عند الأصيل أيضا، ويكتفي المعتمد بضجعة يتخذها ويبيح للشاعر أن يتخذ لنفسه الجلسة التي يريدها. ومرت الأيام سريعة على المعتمد بصداقته الجديدة بعد أن كانت بطيئة ثقيلة لا يحس لها جمالا ولا رواء، وهي إن كانت تسرع على المعتمد فهي تومض ومضا لابن عمار لا يكاد يحسب أنها أيام مثل تلك الأيام التي مرت به وبحماره، حتى لقد كان يخيل إليه أن الدهر قد تغير فأصبح يلد أياما جديدة لا صلة لها بتلك الأيام البائسة النكدة التي قاساها.
وانقطع المعتمد عن مجلس أبيه وفرغ لابن عمار في الصباح ثم لشعرائه جميعا منذ صدر الليل حتى يشارف نهايته وهو يخلو بعدئذ إلى ابن عمار، وهكذا حتى لم يصبح له لحظة يخلو فيها لأبيه أو لمجلسه، وأحس الوالد بانقطاعه هذا وقد كان يعلم أن ابنه شاعر وقد كان يعلم أنه يحب الشعراء ويهفو لمجلسهم، ولكنه مع هذا كان يراه خاليا إليه حينا، وإلى مجلسه أحيانا، فأحس الوالد أن ثمة جديدة في حياة ابنه استقصاها فعرف أنها ابن عمار، وأنه قد زاد على الشعراء فالتهم وقت ابنه الذي كان يبقيه له هؤلاء الشعراء، وما كان المعتضد ليسكت عن هذا؛ فهو يحب الشعر ويحب المجلس المرفه ولكنه يحب ملكه أولا، وهو يخشى أن يصر المعتمد على شعره وشعرائه فلا يصبح الملك الذي يرجوه الغد ويرنو له العرش.
لم يسكت الملك عن هذا الأمر، ولكنه خشي أن يلوي ابنه في عنف، أو يزجره في قسوة، فينفلت الزمام من يده؛ فهو يعلم أن ابنه ذو روح شاعرة طليقة لا تطيق القيد ولا ترضاه حتى ولو كان هذا القيد ملكا، فهو يدعو ابنه ويبصره في روية ويسايره في الحديث والرأي أول الأمر ليصل به إلى رأيه الذي يريده له في آخر الأمر؛ فهو يقول عن نفسه إنه شاعر وإنه يحب الشعراء ويقربهم وإنه ليترسل مع ولده في الحديث حتى ينتهي به إلى تلك الأبيات التي قالها في صدر شبابه:
قسمت زماني بين كد وراحة
فللرأي أسحار وللطيب آصال
إذا نام أقوام عن المجد ضلة
أسهد عيني أن تنام بي الحال
وإن راق أقواما من الناس منطق
يروق بدا مني مقال وأفعال
وإن المعتضد ليطلب إلى ابنه أن يقسم زمانه بين شعر وإمارة ولكن المعتمد لا يقطع برأي، بل يلف مع المقال ويدور في طاعة من الحديث وعصيان عن الوعد، والمعتضد ذكي يعلم ما يجول بخاطر ابنه، ويعلم أنه يخشى من وعد يقطعه ثم لا يطيق أن ينفذه، ويترامى الحديث ويطول فلكل إحراج من المعتضد مخرج عند المعتمد، حتى إذا أحس المعتضد أنه مفض إلى إخفاق فيما يريد صارح ابنه أنه سيوليه إمارة شلب، فيستهول الولد الخطب ويهم بأن يستقيل أباه؛ فهو شاعر لا شأن له بالإمارة، فإن تفض إليه في غد له بعيد فهو سيصاب بها مرغما لأنه لا يطيق لها دفعا، أما أن يصاب بها وأبوه على قيد حياة وهو بعد ما يزال غارقا في الشعر وابن عمار، ودون أن يرى داعيا لتلك الإصابة فهذا ما لا يطيق. ويقرأ المعتضد هذه المعاني على وجه ابنه وفي عينيه فيشير إلى ابنه أن يسكت قبل أن ينطق ثم يبدأ في حديث آخر نابع من القلب: - وبعد يا بني، أتعين الدهر علي؟ فلقد أصابني بأخيك الأكبر أرغب ما يكون في الخلافة وأعجل ما يكون إليها، حتى لقد هم بقتلي ليعتسفها مني قبل أن يتيحها له موتي، وقتلته، وقتلت به شطرا من نفسي وجانبا كان في حياتي إشراقا حين ميلاده فإذا هو السواد الحالك.
ثم صرت أنت الأكبر والأمل، فإذا أنت أزهد ما تكون في الخلافة وأقعد ما تكون عنها، فلا والله لن يصاب ملك في ملكه وأولاده كما أصاب، فبالله إلا أعنتني على الدهر وأعيذك أن تكون عونا له.
واغرورقت عينا المعتضد بالدمع وهمت أن تفيض به لولا أن أمسكه عزة الملك وقبول الابن.
صداقة وحب
شلب إذن هي الإمارة التي اختارها المعتضد لابنه المعتمد، بلد ابن عمار ومهبط رأسه، ومكان تعلمه، ومغنى شبابه، ومصدر فقره، وأيام شقائه، لقد علم ابن عمار أن المعتمد راحل إلى شلب ليكون بها أميرا، هو يعلم أن المعتمد لم يعد يطيق الحياة من غيره، فهو إذن راحل مع المعتمد وما أطيب هذا! سوف يدخل شلبا هذه المرة وهو الصديق الأول لأميرها، ومن يعلم أي غد ينتظره هناك؟ فقد أصبح الغد ينتظره دائما بالخير.
وسافر المعتمد إلى شلب، وسافر في صحبته ابن عمار، وأقبل المعتمد على إمارته كارها، وحاول أن يصرف أمورها، ولكن أي أمور تلك التي يراد به أن يراودها؟ إنه شاعر، لماذا لا يريدون أن يفهموا هذا؟ إنه شاعر يحب شعره أما الإمارة فإنها مشقة سوف يتحملها في حينها. إن أحدا لا يريد أن يفهم عنه هذا إلا صديقه الأثير ابن عمار، هو وحده الذي يعلم ما يعتمل بنفسه. وهكذا يقبل المعتمد على شئون الإمارة إقبالا خيرا منه الإحجام، فما يكاد يقطع في أمر حتى يهرع إلى ابن عمار ويتناشدان، ثم هو يضيق بتلك الفترة الوجيزة التي يبت فيها في أمور الحكم، فهو يطلب إلى ابن عمار أن يجلس معه حين تعرض عليه الأمور فيفعل ابن عمار متثاقلا أو مظهرا للتثاقل، مخفيا للرغبة العنيفة في هذه الجلسة، متحرقا شوقا إليها في بعيد نفسه. ويجلس ابن عمار وتعرض الأمور فيسكت بعض الحين، ولكن المعتمد لا يريد أن يراه ساكتا فهو يلتفت إليه ليشركه في الحديث إشراك المجاملة؛ فما كان ليدري عنه خبرة في غير الشعر. يلتفت المعتمد إلى ابن عمار يطلب منه رأيا عابرا فإذا ابن عمار ينبثق متفجرا، وإذا هو ثاقب النظرة خبير بدقائق ما يقول؛ فإنها بلدته وإنه ابن عمار ذلك الرجل الذي دار على قصور الملوك فرأى وفهم ما رأى، ثم هو حليف الطريق الطويل فما أكثر ما خلا به وبحماره هذا الطريق، فكان يفكر ويمحص ويتعمق الأمور حتى يبلغ أعماقها، وهو يقرأ فيصل إلى أغوار ما يقرأ؛ فما هو إذن بالشاعر الهاذر الذي يمد يده ليثنيها إلى فمه فلا يفكر في غير مد وانثناء، وما هو بالذي يغبى عن فهم الأمور الجلائل فقد عاصرها مشاهدا، وإن تكن الحياة النكدة لم تتح له أن يعاصرها عنصرا فيها، فها هو ذا المعتمد ينتقم له من تلك الحياة ويوسع لخبرته بالتفاتته تلك، وها هو ذا يتدفق في تبصر ويرشد في خبرة ويهدي في مران، والمعتمد يستمع عاجبا معجبا وقد وسع ما بين هدبيه، فما دار له بخلد أن ابن عمار يفهم شيئا غير الشعر وغير تلك الأحاديث الطلية التي كان يترسل فيها، ولكن ها هو ذا يتضح عن رجل مارس السياسة ومارسته، فليكن صديق الشعر هو هو صديق السياسة، وما أجمل أن يكون هذا الصديق الدائم ابن عمار!
ولكن ابن عمار الذي سعى إلى صداقة المعتمد وإلى مجالس شعره لا يطيب له أن يشارك هذا المعتمد في الإمارة، وقد كان يعلم أن إبعاد المعتمد عن شئون الإمارة أمر ما أيسره، ولكنه يتعجل ولا يطيق الانتظار أكثر مما انتظر.
لا يطول التفكير بابن عمار فهو يعلم أن المعتمد عازف عن شئون الإمارة وهو يعلم أنه يحب الشعر ومجالس النساء، فما أسرع ما يعقد ابن عمار هذه المجالس وما أجمل ما ينضدها! فيقبل عليها المعتمد لا يفيق، ويتظاهر ابن عمار أنه مقبل معه، وتملأ هذه المجالس وقت المعتمد فهو يترك شئون الإمارة شيئا فشيئا لابن عمار حتى يستقل بها لا يشاركه في ذلك المعتمد، بل إن المعتمد ليغتبط بهذا التوفيق الذي هيأه الله له في ابن عمار فجعل منه شاعرا فذا ومنظما عبقريا للجلسات الممتعة، ثم شاء تبارك وتعالى أن يتوج هذا كله بخبرة نابغة في السياسة وشئون الحكم.
وتسير الحياة طيبة للصديقين، فأما الأمير فيمرح مع الشعراء والحسان، وأما الشاعر فيصرف شئون الإمارة وينظر في كل شئونها كبر هذا الشأن أو صغر، ولكنه مع هذا يفكر في أمره وأمر المعتمد فيجد نفسه هو السيد بغير لقب وبغير وظيفة رسمية؛ فإن وظيفة شاعر الأمير لم تكن في يوم من الأيام منفذا إلى شئون الحكم، لا بد إذن من وظيفة، ولم لا وقد أصبح المعتمد خطرة منه؟ ولم يكن من دأب ابن عمار أن يقف تفكيره عند التفكير أبدا، بل إنه دائما يتبع الفكر بعمل.
وجلس ابن عمار إلى المعتمد وامتلك ابن عمار عنان الحديث ودار به ولاب، حتى انتهى إلى الإمارة فهو يذكر للمعتمد ما يشقى به فيها، ثم هو يتكلم مترسلا مظهرا للمعتمد أنه لا يقصد إلى غير الترسل في الكلام، فيعرض إلى المخالفات التي تقع من صغار الموظفين وكيف أنه لا يملك أن يردهم عنها، ويفهم المعتمد مرمى الحديث وهدفه فلا يصبح الصباح إلا وابن عمار قد أصبح وزير المعتمد في إمارة شلب.
هكذا أصبح ابن عمار في بلدته، بلدته تلك التي لفظته شابا ، ثم أقفلت أبوابها دونه كلما حاول أن يلجأ إليها، لقد صار فيها وزيرا، وزيرها الذي يحمل وحده عبئها فلا يعرف أميرها من أمرها أمرا، غير أن ابن عمار هو المتصرف فيها.
هيه ابن عمار! ما أحسب أيامك الخالية أتاحت لك أن تتخيل هذا الذي تمرح فيه اليوم من سعادة، فهل تقف بك آمالك ابن عمار عند حد تنتهي إليه؟ أم رأيت من الأيام لينا فأنت توغل غير ناكص؟ شأنك والأيام ابن عمار، شأنك وإياها.
ظلت هكذا حياة الأمير ووزيره الشاعر، ولم يكن المعتمد رغم ما هيأه له ابن عمار من حسان وشعراء ليستطيع أن يتخلى عن جلسات صديقه؛ فهو يتوق إليه منفردا يتطارحان الشعر أو يجيزانه، فإن ضاقا بالقصر وشلب خرجا متنكرين إلى إشبيلية يمرحان فيها ما وسعهما المرح، وقد كانت المدينة مهيأة لهذا المرح أحسن تهيئة، حتى إذا ضاقا بصخبها خرجا إلى «مرج القطة» على ضفاف الوادي الكبير، فيجلس ابن عمار إلى المعتمد في هذا المنفسح العريض من الخضرة يحف به نهر صاف يكمل الجمال الذي يشيع في الروض.
جلس المعتمد إلى ابن عمار وقد اقتعدا السندس يرنوان إلى ذلك النهر تمسه نسمات من الهواء فتجري مياهه في تموج رجراج كأنه شعر غانية ترسله، وإن الشاعرين لينعمان بتلك النسمات تنفح وجهيهما بهواء لين كأنما هو القبلات الرقيقة تغمر بها الحبيبة وجه من تحب، وإذا الشاعران يصمتان تائهين تيه المخلوق أمام روعة الخالق، ولكن المعتمد كان أسبق من ابن عمار في التخلص من إنسانيته ليرف إلى شاعريته، فهو يتكلم دون أن يلتفت إلى ابن عمار، وإنما هو ناظر إلى النهر لا يريم، يقول المعتمد: أجز يا ابن عمار.
ترقرق الماء بهفهاف النسيم واطرد
يا لوحة أبدعها بفنه الفرد الصمد
ولكن ابن عمار يغرق في صمته وتخشعه ويهم بأن يسأل المعتمد أن يعفيه من إكمال الأبيات، ويهم بأن يعتذر بروعة المنظر المسكتة عن عجز فهو يعرف أن أي كلام مهما يكن شعره هو أو شعر المعتمد لن يحيط بهذه الفتنة التي تحيط بهما، يهم ابن عمار أن يفعل، ولكن صوتا رقيقا عذبا ينساب من قريب يخاله الشاعر نسيما من النسيم، أو خفقة من النهر، أو صوتا للكون الطروب حولهما قد انبعث يكمل البيتين ببيتين، ويلتفتان إلى الصوت فيجدان حورية قد جلست منهما غير بعيد رانية إلى النهر غير ملتفتة إلى الصاحبين، وإنما هي تنشد شعرها وكأنما تنشده لنفسها، وينظران إلى جانب وجهها فيريان جمالا لم يرياه من قبل وهما المعتمد وابن عمار، ثم يسمعان شعرا لم يسمعاه من امرأة قبل وهما المعتمد وابن عمار، قالت الفتاة:
أجمل بها يوم الوغى
لو أن ذا الماء جمد
تخالها منسوجة
من حلق ومن زرد
ويقفز الشاعران من مكانيهما ويهفوان إلى تلك الحورية التي انبعثت لا يدريان من أين، ويسرع المعتمد إليها فيضع يده على جسمها؛ فقد خشي أن يكون الخيال قد خلق ما يريان ولكن الحورية تلتفت إليه وفي فمها ضحكة، وفي وجهها بشر، وفي عينيها وميض، ثم هي تقول: بل هي حقيقة أيها الأمير، بل هي حقيقة.
ويضطرب المعتمد من ذلك الجمال الذي شع في عينيه فهو يقول: وتعرفينني؟ - ومن لا يعرف الأمير الشاعر وصاحبه الوزير؟ - فمن أنت إذن؟ - أنا روميكا. - أشاعرة أنت؟ - بل جارية. - بل أميرة، دونك والقصر.
وتذهب روميكا إلى القصر ويشتريها المعتمد من صاحبها ويتزوجها ويبدأ حب في قصر المعتمد هو حبه الأول والأخير؛ فقد عرف النساء من قبل جواري ولكنه لم يعرفهن حبيبات ولا شاعرات.
ويغير المعتمد اسم روميكا فيصير «إعتماد». وابن عمار يرى هذا فيفرح به؛ فقد سقط عن كاهله تدبير المجالس والنساء وفرغ للإمارة وحدها لا يشغله عنها إلا أن يجلس أحيانا إلى المعتمد، فلا يسمع من المعتمد إلا عن إعتماد إن كان شعرا فشعر أو يكن حديثا فحديث، وابن عمار في الحالين يشجع المعتمد أن يسير في حبه فما الشباب إلا حب وما الشعر إلا خفقة القلب صيغت، والمعتمد يقبل على هذا الحديث إقباله على حب إعتماد، والإمارة بين حديث ابن عمار وفراش إعتماد ضائعة لا تعرف أميرا غير وزيرها، فالوزير منفرد بالأمر، ولم يكن الوزير ذا ضمير مرهف، ولم يكن ذا مال، ولا هو بذي قناعة، وقد عرفت يده كيف تمتد بعد شعر المديح يقوله لسانه فهي اليوم تعرف كيف تمتد بعد شعر المديح تسمعه أذنه، وإن لم يكن لهذا سعى إلى الوزارة، فلماذا؟ فما هو بالوطني الصادق الوطنية لوجه الشرف، ولا هو بالوفي الخالص الوفاء لآل عباد، إن ابن عمار لم يكن صادق الوفاء ولا خالص السعي إلا لابن عمار وحده، وبهذا المبدأ الواقعي سار ابن عمار في وزارته وسارت به الأيام حتى إذا فاض المال لديه علا رنينه، وللمال الحرام رنين ضخم لو أن آذان المعتمد خلت لحظة لصكها، ولكن من أين لها وهي تمتلئ بحديث الحب في المساء وبالحديث عن الحب في الصباح؟ ولكن الرنين يعلو وتتواكب أصداؤه حتى تبلغ آذان المعتضد ذاته في إشبيلية فيثور.
ويصبح المعتمد ذات صباح فيقصد إلى الإيوان ويرسل في طلب ابن عمار، ولكن الحاجب يستأنيه حتى يرى رسول أبيه، ويدخل الرسول فإذا هو يحمل ورقة يأمره أبوه فيها أن ينفي ابن عمار من شلب، ويسأل الرسول تفسيرا لما يحمل فما يحير الرسول بجواب؛ فهو لا يعرف ماذا يحمل، ويعود الأمير إلى الورقة فيجد الأمر قاطعا أبكم لا يبين بغير الأمر وحده، فتدمع عين المعتمد، ويعود إلى طلب ابن عمار فيأتي الوزير ويهم بأن يفسح للحديث ما كان يفسح ولكن المعتمد مقطب الوجه مغرورق العينين مكروب النفس، فلا يسأله ابن عمار عما به فقد تعود أن تتهدى إليه نفس المعتمد دون أن يسعى إليها، ولا يطول الصمت بالمعتمد بل هو يفضي لابن عمار بما حمله الرسول، فيخفف ابن عمار عن المعتمد وإن يكن الخبر قد أكربه إلا أنه يعلم من أين يلج إلى النفوس، ويعلم أنه لو أثار المعتمد على أبيه فإنه قد يثور لحظة ثم تمسك به بنوة ويهبط به إيثار لسلامة، فهو إذن يحاور المعتمد ويسوق إليه أن أباه لم يرد إلا خيره، وأنه إنما أمر ليتيح للمعتمد أن يقوم بأمر الإمارة وحده بغير معين حتى يمرن على الحكم ويحسن الدربة. ويصل هذا الحديث إلى نفس المعتمد فيخفف مما يحس ثم هو يلتفت إلى ابن عمار ليقول له: أنا أعلم أنك احتملت عبء الوزارة فلم تصب منه مالا فحتى تجهز أمرك أكون قد دبرت لك ما يعينك في غربتك، وإني سأظل على وصلك ما دمت بعيدا حتى يقضي الله أمرا وألقى أبي فأترضاه وتعود الأيام صافيات كما كن.
وقد استطاع ابن عمار وهو يسمع هذا الحديث أن يحدر دمعتين بدتا نابعتين من القلب وإن يكن ابن عمار نفسه قد عجب كيف بدرتا من العين.
وخرج ابن عمار يستهدف أقاصي الأندلس وحاول من تركهم في «شلب» أن يفضحوا أمره للمعتمد فراحوا يتحسسون نفس المعتمد ليروا أي اللونين تقبل، أهو مديح ابن عمار أم هجاؤه، فرأوا المعتمد باكي النفس على فراقه دامع القلب لهذا الأمر الأصم الذي صكه من أبيه، فإذا هم يحيدون بما كانوا ينتوونه من ذم واغل إلى مديح مفرط لابن عمار يتقربون به إلى المعتمد، فتنفتح آذان المعتمد لهذا المديح ويزيد حبه له إن كان ثمة مكان لزيادة، وهكذا يظل ابن عمار في نفسه هو الصديق المخلص وهو الوزير الأمين وهو كل شيء في حياته ما خلا إعتماد.
إلى الطريق
إلى الطريق عاد صديقه، ولكن أي عودة؟ لقد تركه على حمار متهالك لا يجد قوته ثم عاد إليه يمتطي صهوة حصان صافن أصيل أجرد شبعان، وقد تركه وهو أشعث أغبر لا يستر جسده إلا أخلاق بالية مركبة عليه تركيبا وهو يعود إليه أنيقا وضيئا ملبسه من ثمين الخز ورقيق الحرير وقد فصل عليه تفصيلا، وقد تركه وهو شاعر خامل لا يكاد يحس به حماره الذي يحتمله وعاد إليه الوزير الفذ والشاعر الضخم صديق الملوك ورفيق المعتمد، ابن عمار.
عودة ميمونة تلك التي يعودها ابن عمار إلى الطريق؛ فهو اليوم مليء الجيب آمن عوادي الطريق والتواءات الملوك وارتفاع الأنوف؛ فلقد أصبح هو نفسه ممن يسمعون شعر المديح فيلوون رءوسهم من الكبر، وترتفع أنوفهم من العظمة، فليعد إذن ولكن وزيرا يعود.
ذهب ابن عمار إلى أقصى الأندلس ومن هناك أرسل شعره إلى المعتمد ليصل مستقبله بمستقبل أمير اليوم وملك الغد، وليعرف المعتمد أين استقر بشاعره المقام فيصله إن أراد وصله أو يطلبه إن عفا عنه أبوه، أرسل إليه قصيدة من خير قصائده يقول فيها:
علي وإلا ما بكاء الغمائم؟
وفي وإلا ما نواح الحمائم؟
وعني أثار الرعد صرخة طالب
لثأر وهز البرق صفحة صارم
وما لبست زهر النجوم حدادها
لغر ولا قامت له في مآتم
ثم هو يميل إلى المعتضد يمدحه وإن له في مدحه لمذاهب، فهو يترضاه وهو يظهر للمعتمد خضوعه مهما يفعل به المعتضد، وهو يمدح الأب لابنه عالما أن مدح الجريح لجارحه يعلي من شأن المادح، فهو يتقرب من نفس الابن ويرضي فيه حبه لأبيه ويبدي مشاركته له في هذا الحب؛ يقول ابن عمار عن المعتضد:
أبى أن يراه الله إلا مقلدا
حميلة سيف أو حمالة غارم
وتصل القصيدة إلى المعتمد فيبكي مع الغمائم الباكية ويكاد ينوح مع الحمائم لولا الرجولة والشهود، ويعلم من الرسول أين مكان ابن عمار فيصل بكل ما يستطيع أمير صديق أن يصل، ويعود الرسول يحمل إلى ابن عمار المال خير دليل على حب مقيم وصداقة ما زالت أصيلة الجذور في نفس المعتمد، يعلم الله وحده مدى ما تأدت إليه في نفس ابن عمار. ويعود ابن عمار فيكتب شعرا جديدا يبدؤه بغزل رائع ويرسل بالقصيدة:
جاء الهوى فاستشعروه عاره
ونعيمه فاستعذبوه أواره
لا تطلبوا في الحب عزا، إنما
عبدانه في حكمه أحراره
قالوا أضر بك الهوى فأجبتهم
يا حبذاه وحبذا أضراره
قلبي هو اختار السقام لجسمه
زيا فخلوه وما يختاره
عيرتموني بالنحول وإنما
شرف المهند أن ترق شفاره
وشمتم لفراق من آلفته
ولربما حجب الهلال سراره
أحسبتم السلوان هب نسيمه
أو أن ذاك النوم عاد غراره
إن كان أعيا القلب من حر الجوى
خذلته من دمعي إذن أنصاره
والقصيدة بعد ذلك مفضية إلى مدح المعتضد، وما يكاد المعتمد يقرؤها حتى يجن بها ويرتاح إلى هذه الخطة التي انتهجها ابن عمار في مدح أبيه، ويمتد أمله إلى صفح أبيه عن ابن عمار إن هو قرأ هذا الشعر؛ فهو يعلم أن أباه يطرب للشعر الجميل ويرتاح إليه. ويدعو المعتمد رسولا يهم أن يبعث به إلى أبيه حاملا القصيدة، ولكنه ما يكاد حتى يسمع ضجيجا عاليا وصخبا يقترب من حجرته إلى أن يبلغها، ويفتح الباب ويدخل رسول من عند المعتضد يلهث يخبر المعتمد أن أباه قد اشتد به المرض وأنه يدعوه، فيقوم المعتمد من مجلسه إلى حصانه فلا يتزود بشيء حتى ولا بنظرة من إعتماد. ويغمز المعتمد الحصان ويصل إلى أبيه فيجده ينتزع أنفاسه الأخيرة فيمثل أمامه فيوصي الأب ابنه بما يوصي به الملك خليفته. ويموت الملك المعتضد ويصير الملك إلى الملك أبي القاسم محمد بن عباد المعتمد آخر ملوك بني عباد.
عند قوم
عاد ابن عمار إلى الملك المعتمد وقد أمن الدهر وعواديه واطمأن إلى المقام في إشبيلية عاصمة الملك، وعادت الليالي وضاء كما كن، وأصبح ابن عمار وزير دولة بني عباد أجمع، وقد أراد ابن عمار أن يفعل شيئا عقب توليه الوزارة فزين للمعتمد أن يفتح قرطبة ففتحها، فكان هذا بداية رائعة لعهد حافل بالأحداث.
ويرى الوزير الجليل أن القصر لم يصبح بالمكان الذي يليق به في منصبه الجديد؛ فقد كان هذا القصر يصلح حين كان شاعر المعتضد أو صديق المعتمد أو وزير شلب، أما وهو وزير الدولة المدلل فلا بد للوزير من بيت؛ فقد أصبح الوزير ذا عائلة وأولاد أنجبهم من الجواري اللواتي أنعم بهن عليه المعتمد، فلا بد إذن من بيت ولا بد لبيت الوزير أن يكون ضخما شاهقا متسع الجنبات؛ فإنه الوزير.
وقد اتخذ الوزير مسكنا وسمي باسمه، وأحس ابن عمار بحلاوة الجرس الذي لم يسمعه قط؛ فقد أصبح الناس يقولون «بيت الوزير» أو «بيت ابن عمار»، وقد كان كل مناه أن يسمع اسم الحجرة يضاف إلى اسمه، إنه لم يسمع «حجرة ابن عمار» إلا حينما تعلق بصلة من القصر، ثم ها هو ذا أصبح لا يرضيه قولهم «حجرة» ولا قولهم «جناح ابن عمار» فأصبح له بيت بأكمله ذو حجرات وأجنحة.
إن يكن الوزير قد ابتنى بيتا فأصبح بيت ابن عمار إلا أن ابن عمار لم يكن يلم ببيته هذا إلا إلمامة العاجل التي لا ريث بها ولا هدوء؛ فأغلب أوقات صباحه بين الديوان ومجلس المعتمد وهو في أغلب لياليه مع المعتمد يقضيها سمرا ولهوا أو يقضيها نوما في القصر، هو لم يطلب البيت لمبيت وإنما طلبه ليتصل اسمه ببيت وقد اتصل.
وأقبل المعتمد يوما على ابن عمار وطلب إليه أن يعد له ليلة من ليالي شلب، تلك التي كانت قبل أن يعرف إعتماد، ويذعن ابن عمار ويعد الليلة في خبرة ودربة ومران، ويقبل المعتمد على المرح فيشيع السرور في الجلسة ويغبط المعتمد نفسه بما أنعم به الله عليه من حب وفي هو إعتماد، ومن صداقة مخلصة حكيمة هي ابن عمار، ويشيد المعتمد بقدرة ابن عمار النابغة في السياسة وفي الشعر وحتى في تهيئة الليلة الأنيسة، ويبالغ المعتمد في تلك الإشادة ويقرب ابن عمار أكثر مما تعود أن يفعل وكلما دارت الخمر برأسه رفع من شأن ابن عمار حتى أذن الليل بزوال، فإذا المعتمد وقد أصبح ثملا وإذا هو قد أبلغ ابن عمار ذروة السها، وينفض المجلس ويوشك ابن عمار أن ينصرف إلى بيته ولكن المعتمد يمسك به ويقسم أيمانا مغلظة أن يبيت ابن عمار معه على وسادة واحدة، ويتحرج ابن عمار أول الأمر لكنه لا يملك من أمر نفسه أمرا فهو يتبع المعتمد فرحان جذلان إلى حجرة أعدت للنوم. ويستلقي المعتمد ويطلب إلى ابن عمار أن يستلقي إلى جانبه على أن يضع رأسه معه على وسادة واحدة، ويهمان بحديث ولكن السهر والخمر والتعب ما لبثت أن عقدت أجفانهما. نام ابن عمار يكاد صدره يتفجر بالسرور ازدحم به، وإن تكن اليقظة قد هيأت له هذا السرور إلا أن النوم أبى أن يسكت عنه؛ فإن الأحلام لتتواكب أمام ابن عمار ثم تنشق عن رجل أشيب جليل ناصع الإشراق يومئ إلى ابن عمار ويتحدث في هدوء فيقول زائر الحلم: هيه يا ابن عمار! هل أمنت كيد الملوك؟ استراح بك المقام ووثقت من المعتمد فأنت إذن تمرح في سرور مطمئن ونشوة صافية. أفق أيها المخمور، لذ بنفسك إن المعتمد سيقتلك، نعم هذا الصديق الحبيب، نعم هذا الذي انتشلك من على ظهر الحمار إلى دست الوزارة، هو نفسه سيقتلك.
وفزع ابن عمار من نومه وقد أرسى في نفسه إنذار الحلم وقد شعشعت في رأسه خمر أمس فهو يتسلل من الغرفة خائفا ويمشي في دهاليز القصر قاصدا إلى الباب الخارجي، ولكنه ما يلبث أن يقف باهتا حين يقرع صوت المعتمد أذنيه.
تقلب المعتمد في فراشه، ووضع يده حيث طلب من ابن عمار أن يلقي بنفسه ولكنه لم يجد ابن عمار فقام من فوره ونادى بالخدم وسألهم عنه فما علم أحد عنه شيئا فطلب مصباحا وخرج إلى دهاليز القصر يتوكأ على سيفه يبحث عن ابن عمار ومن خلفه حاشيته أجمع، وطال بهم التطواف بغير جدوى فوقف المعتمد يتساءل فيدير خدمه رءوسهم ويضربون أكفهم بأكفهم، وبينما هم كذلك إذا بحصير يتزحزح من مكانه فانعقدت ألسنتهم واتجهت رءوسهم إلى حيث كان الحصير قد وقف وامتنعت أكفهم عن ضرب نفسها وامتلأت نفوسهم بالذعر، إلا أن المعتمد قد كره أن يظنوا به خوفا وما هو بالجبان فهو يقصد إلى الحصير ويرمي السيف من يده ويطبق على الحصير فيجد بداخله أعضاء آدمي ما يلبث أن يصيح «عفوك يا مولاي» فيصيح به المعتمد: من؟
فيتخلص صاحب الحصير منه وإذا هو ابن عمار عاريا لا يكسوه غير فضلة من ثياب، فيصيح المعتمد مرة أخرى صيحة داهشة عاجبة: من ذلك الذي آثر الحصير على فراش الملك؟ - ابن عمار. - نعم مولاي ابن عمار.
فلا يملك المعتمد من نفسه إلا أن يضحك لصديقه ويفرح أن وجده فكأنما هو عائد من سفر بعيد ثم يسأل ابن عمار في غبطة: ما الذي فعلت بنفسك؟ - عفوك يا مولاي؛ فقد زارني في النوم طائف حذرني منك وقال إنك قاتلي، فقلت أهرب وكفاني ما لاقيته عندك من الخير ومن أيام إن جعلتها زاد حياتي من السعادة كنت أسعد من ولد ومن هو في مطوي الغيب سعيد. لقد رأيت منك الرضى وأخشى أن أرى الغضب، ولقد بلغت عندك الذروة وليس بعد الذروة إلا المنحدر، والملوك مولاي لا يستقرون على حال؛ فلو أنك انتقمت مني للسعادة التي أشهدتنيها لكان انتقامك فوق الشدة.
فتترقرق الدمعة في عين المعتمد ويربت كتف ابن عمار، ويهدأ روعه، ويقول له في صوت متهدج بالبكاء: يا أبا بكر، إنك أخو شبابي ومجلى شعري وشقيق حياتي وخدن حاضري، عرفتك وأنا بعد في زهرة الشباب وصحبتك منذ عرفتك حتى بلغت الكهولة أو كدت، أأقتلك؟! أرأيت شخصا يقتل شبابه وشعره وماضيه وحاضره؟ أفق ابن عمار إنها لآثار نوم وخمار؛ فوالله لو شهدت هذا الزائر الذي بث إليك الخوف لقتلته أن أقلق منك مضجعا وخوف منك آمنا.
ثم يلتفت إلى حاشيته يأمرهم أن يحضروا قسطا من اللبن فيحضرون، ويسقيه لابن عمار ويذهب به إلى الوسادة وينامان.
نومة لم تكن هادئة تلك التي أصابها ابن عمار فقد أصبح من نومه ولا هم له إلا أن يباعد بينه وبين المعتمد قليلا حتى يطمئن ما أثير بنفسه، ويهدأ ما اضطرب من خاطره، ولكنه لم يستطع أن يسوق إلى المعتمد ما يعتمل بنفسه في صباحه هذا، فتريث حتى نسي المعتمد ما كان من أمر الحلم والهاتف ثم تقدم متوددا وقال له: مولاي، بقيت، فإني لأطلب منك الكثير وأنت تجيب حتى لقد غدوت أخشى الإثقال عليك. - ألا إن من وراء قولك لمطلبا. - هو ذاك يا مولاي. - فقله. - حتى تقسم. - بصداقتنا. - أريد ولاية شلب.
فيألم المعتمد لهذا الطلب ويبادر ابن عمار: أملالة يا أبا بكر. - لا عشت إذن، ولكنني يا مولاي شهدت نفسي بشلب هذه وأنا فقير وربيت بها وأنا لا أملك شيئا حتى لقد تركتها وخرجت أطوف بالملوك أمدحهم فما أصبت من ذلك شيئا ثم عدت إليها عودة لا كانت. لقد شهدت نفسي هناك جائعا على حمار جائع عريان، على حمار متهالك، حتى لقد أسمحت لي نفسي أن أمدح تاجرا لأصيب منه حفنة من شعير، ثم تعلقت أسبابي بك، وللنفس بدرات، إن نفسي لتشتهي اليوم أن تشهد نفسها هناك وفي هذا البلد واليا عليها من قبلك وإن آمالي - لا عدمتك - تظل آمالا حتى تلقى بين يديك فإذا هي حقيقة، وإن أماني لا تزال أماني حتى تنتهي إليك فإذا هي واقع.
وهكذا غدا ابن عمار واليا على شلب مهد طفولته ومدرج حياته ومغنى شبابه، وأيام فقره فإليها إذن يعود، واليا يعود.
... وعودة
إلى شلب عاد ابن عمار، لم يعد الشاعر الطريد، ولا راكب الحمار المتهالك، ولا مادحا ولا مستجدي القمح، وإنما عاد الأمير الخطير صديق الملك، عاد وهو صاحب الموكب الضخم يتبعه الخدم والحاشية وتنساق من قبله الطوالع والأعلام وتدق الطبول ويعلو الزمر، ووقف أهل شلب الذين نظروا إليه على حماره يسخرون أو يشفقون أو يتعجبون، وقفوا اليوم يرحبون ويكبرون ويعجبون، ولم يدر بخلد الناظرين أن صاحب الحمار هو صاحب الموكب، بل إن صاحب الحمار هذا لم يجر على ذاكرتهم فهم لم ينعموا النظر في الحمار أو راكبه وإنما كانوا يعبرونه بنظرتهم أو يعبرهم هو بحماره فما أدركوا من ملامحه شيئا. ولو أن واحدا منهم كان قد أنعم النظر ثم أنعمه حتى عرف ملامح ابن عمار أجمع فإن هذا الواحد لا يجرؤ بحال أن يذكر ابن عمار والحمار في هذا الموكب الضخم. وأين ذلك النضو القميء من هذا الأمير العظيم؟ وأين ذلك الحمار المتهالك من هذا الموكب الضخم؟ وأين هذا الطيف الذي مر رهوا لا يحس به أحد من هذا الذي أقام المدينة وما زالت قائمة؟ لا، لا صلة بين الشخوص ولا نسب.
إن يكن أهل شلب جهلوا الصلة بين صاحب الحمار وصاحب الموكب فإن ابن عمار يدرك هذه الصلة تماما، وهو إن يكن اليوم في هذا الموكب الضخم الأنيق من الطبول والزمور فهو لم ينس هذا الموكب الضخم الحقير من الفقر والعوز الذي تسلل به إلى شلب وكل أمانيه أن تعمى العيون حوله وأن يصيب حفنة من غلال. لم ينس ابن عمار الحمار والتاجر والشعر والصبي والشعير، بل إنه أخذ نفسه أن تذكر هذا الذي كان فيه حتى يحمد ما هو اليوم فيه، فهو يحمل معه ذلك الكيس الذي أنقذه وأنقذ حماره من جوع بما حمله من شعير، هو يحمل الكيس معه لم يفقده في كل مناصبه التي تولاها ولم يفقده في الذروة التي اقتعدها وإنما أبقى عليه ليشكر به من أنقذ؛ فما يكاد يجلس على كرسي الإمارة حتى يرسل من يبحث عن التاجر فيجده ويعلم ابن عمار أن الخشية قد تولت هذا التاجر حين علم أن الأمير يبحث عنه، فيشفق عليه أن يستقدمه ويكتفي بأن يرسل إليه الكيس وقد ملأه فضة وأوصى من يحمل الكيس إلى التاجر أن يقول له: «لو كنت ملأته برا لملأناه تبرا.»
وتشيع قصة الكيس بين أهل شلب فيكبرون ابن عمار ويرون فيه رجلا لم يتنكر حاضره لماضيه ولم تزهه الإمارة أن يذكر ذلك الماضي العريق في هذا البلد، وكان أهل الأندلس في ذلك الحين قوما ذوي حس مرهف يقدرون اللفتة الكريمة، ويكبرون النفس العالية، ويعجبون بالخلق المكتمل، وقد كان ابن عمار يعرف فيهم هذا وكان يعرف تماما أخلاق أهل شلب خاصة؛ فهو خبير بما يرضيهم عالم بما يجلب له السمعة الطيبة والاسم الكريم، وهو إن كان قد نال من مالهم حين كان وزير المعتمد لديهم إلا أن الأمر قد اختلف اليوم تمام الاختلاف؛ فابن عمار الوزير كان يعمل باسم المعتمد فما أيسر أن يلصق بالمعتمد التهم أما ابن عمار والي شلب فلا يحمل غير اسم نفسه، فإن أساء فهو إنما يسيء إلى هذا الاسم وحده، وقد كان ابن عمار يحب ألا يسيء إلى هذا الاسم، وابن عمار الوزير كان فقيرا أو هو في الحق جديد على الغنى يحب أن يستكثر من المال خشية من الغد وقد كان محقا في تفكيره هذا؛ إذ سرعان ما حققته الأيام وأمر به المعتضد فنفي. أما ابن عمار والي شلب فغني قديم في الغنى أمن الغد وما بعده من أيام مهما يشتد بها السواد. وابن عمار الوزير جديد في المنصب الكبير لا يهمه أن تصل السمعة السيئة إلى اسمه فهو حتى ذلك الحين لم يكن يحمل اسما، أما ابن عمار والي شلب فذو اسم وذو ماض يهمه أن ينفي السيئ منه فلا يبقى غير الحسن، فهو يأمل أن يحسن السيرة في شلب عساه أن يجعل عارفيه في الوزارة يحسنون به الظن. وهكذا سار ابن عمار في طريقه على خير ما يسير وال في ولايته فهو عادل أمين حصيف عالم بدقائق الأمور.
وقد تحادث الناس بسيرة الوالي الجديد وتسامعوا عنه خيرا وارتقت سيرته إلى المعتمد ففرح بصديقه وبما يبنيه لنفسه من مجد، ولم يهمه أن الوالي الجديد كان يقوم بأمر ولايته دون أن يرجع إليه في جلائل الأمور، ولم يهمه أنه استقل بالأمر وحده وأصدر الأوامر باسمه، لم يهمه هذا لأنه كان يحب ابن عمار ويثق به مطمئنا أنه مهما يستقل بالأعمال فإنه لن يستقل بعواطفه وسيظل هو هو الصديق الوفي والأخ الحبيب.
لم يهمه شيء من هذا ولكن شوقه إلى ابن عمار ولياليه هو الذي يهمه فهو يضيق بإشبيلية من غير ابن عمار حتى ليرسل إليه الشعر يخفف من بعض شوقه، أرسل إليه يوما قصيدة يقول فيها:
ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر
1
وسلهن هل عهد الوصال كما أدري؟
وسلم على قصر الشراجيب
2
عن فتى
له أبدا شوق إلى ذلك القصر
منازل آساد، وبيض نواعم
فناهيك من غيل وناهيك من خدر
وكم ليلة قد بت أنعم جنحها
بمخصبة الأرداف، مجدبة الخصر
وبيض وسمر فاعلات بمهجتي
فعال الصفاح البيض والأسل السمر
وليل بسد النهر لهوا قطعته
بذات سوار مثل منعطف البدر
نضت بردها عن غصن بان منعم
نضير كما انشق الكمام عن الزهر
وقد كان ابن عمار يستقبل هذه الأبيات جامد الحس هادئ الشعور في داخله، وكان يستقبلها في بشر عريض وفرح غامر في ظاهره.
ولم يطل الأمر بالمعتمد وشوقه، ولم يطق أن يظل البون شاسعا بينه وبين إلف روحه وشقيق فنه ابن عمار، فأرسل إليه يستقدمه فقدم إلى إشبيلية، وعوضه المعتمد عن منصبه الذي فقده خيرا فعينه كبيرا لوزراء الأندلس، فرضي نفسا ونسي ما كان من أمر الحلم القاتل، واطمأن جانبه إلى المعتمد، وعادت الأيام تصل ما انقطع وتسعى بالصديقين إلى مزيد من الصداقة للمعتمد ومزيد من ارتقاء لابن عمار.
دهاء الوزير
لم تكن الأندلس في ذلك الحين خالصة الحكم لملوكها؛ فلقد كانوا أضعف من أن يقوموا بالأمر وحدهم، وقد انتهز الإفرنج هذا الضعف فراحوا يهددونهم في ديارهم ويفرضون عليهم الجزية لقاء سكوتهم عنهم. ولقد أذعن الملوك لهذا التهديد فدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون فما كان الخلف بينهم ليترك لهم سانحة يفرغون فيها من عدوهم المشترك ولو كانوا قد تضامنوا لتغلبوا عليه. لكن من أين لهم وقد تقطعت بينهم السبل فأصبح ما بينهم وبين بعضهم خراب بلقع لن يعمره الشر الذي يحيق بهم ولن يصله العدو الذي يتنمر لهم؟
ولقد كان هذا العدو حصيفا؛ فهو لم يهجم لأنه يعلم أن جيوشه لا تكفي فهو يهدد في تبجح فتهلع نفوس الملوك فهي خائرة، وهو يطلب الجزية فتمتد بها أيدي الملوك صاغرة ذليلة.
ولم يكن حال المعتمد خيرا من حال إخوانه وإن يكن هو أقواهم وأعزهم جانبا إلا أن أمواله كانت جميعها منزوفة على مطالب إعتماد وقد كانت لا تنتهي، والقليل الباقي لم يكن كافيا لإقامة جيش لكنه كان كافيا لأن يدفع الجزية فهو يدفعها.
وكان الأذفونش كبير ملوك الفرنجة في ذلك الحين هو الذي يتقاضى الجزية من المعتمد ومن ثم كان على صلة وثيقة بابن عمار وقد كان الأذفونش معجبا به كل الإعجاب، حتى لقد أطلق عليه اسم «رجل الجزيرة» فكان كلما مر اسم ابن عمار في حديث يسمعه الأذفونش قال عنه «هو رجل الجزيرة غير منازع.» وقد علم ابن عمار بما يقوله عنه ملك الفرنج فارتاحت نفسه إليه، وكان يخرج إليه بالجزية فعرف عاداته وعرف ما يحب وما يكره وعرف هواياته فما غفل شيئا مما يحيط به.
ولكن هذا الإعجاب الضخم الذي يكنه الأذفونش لابن عمار لم يمنعه يوما أن يأخذ الجزية كاملة بل إنه زاد على ذلك.
أحس الأذفونش أن مملكة المعتمد في حال ضعف شديد وكان هو قد تكاثر المال لديه فانتوى في نفسه أمرا ولم يسكت عند النية.
وبينما كان المعتمد في إشبيلية على حاله لا يفيق من حب إعتماد إلا ليجلس إلى ابن عمار، وبينما كانت الدولة جميعها مشغولة لإعتماد تنفذ مطالبها وتحقق رغباتها كان الأذفونش يقوم بعمل أكثر قيمة وأجل منفعة.
وفي يوم نظرت إعتماد من شرفتها فرأت فتيات يملأن الجرار فحدقت مليا ثم همت بزوجها تريد أن تراه في سريع حاسم من الأمر ويسارع الخدم ومن خلفهم الجواري يسألون عن الملك، وكان المعتمد جالسا إلى حفنة من وزرائه يبحث معهم في حاجة الدولة إلى المال ولكن هذا لم يقف بالخدم أن يقتحموا المجلس ويطلبوا إليه أن يسارع إلى إعتماد فيسارع وإذا هي تطلب إليه أن يجعل لها ما تملأ منه الجرار فقد اشتهت أن تفعل مثلما يفعل أولئك النسوة، وينشئ المعتمد معجنة من المسك ومن ماء الورد تكلف الدولة ما كانت ستبذله لتقوية الجيش فلا يبقى بالخزانة إلا القليل.
كان هذا في أندلس الإسلام حين كان الأذفونش يبذل من المال فوق ما تحتمل موارده جميعا ليقيم شيئا آخر غير معجنة المسك، وليرضي غايات أخرى غير نفس امرأة.
وفي يوم بينما المعتمد جالس إلى النافذة يرنو إلى إعتماد ترفع ذيل الثوب عن أرجل ناعمات غائصات في المسك وماء الورد، وبينما المعتمد منتش بما يرى يستخفه الفرح ويصفق قلبه بين ضلوعه كأنه طائر يحوم حول من يحب، وبينما السرور يشيع في أجواء المعتمد إذا بوزير من وزرائه يدخل فلا يحتشم من مقاصير الحريم شيئا وإنما هو يقصد إلى المعتمد لا يريم وإذا هو يصيح به: أدركنا يا مولاي.
فينتفض المعتمد فما كان بيده حينئذ أن يدرك أحدا وما كان يتوقع أن يتجاوز رجل مهما يكن وزيرا أعتاب إعتماد. انتفض المعتمد من الدهشة ومن الغضب وإذا هو يقول للوزير بصوت يخنقه كل ما يثور بنفسه من اضطراب: ماذا أبا القاسم؟ ماذا بك؟
فيجيب الوزير هالعا ملتاعا: لقد هاجمنا الأذفونش بجيش أوله هنا وآخره لم يظهر حتى الآن. - وأين هو؟ - في ظاهر المدينة. - ومتى رأيته؟ - لقد رآه من رآه في باكر الصباح وما زال يتقاطر حتى الآن. - ويحك وماذا نفعل؟ - أمرك يا مولاي. - علي بابن عمار.
وما أسرع ما يجيء ابن عمار وما أروع ما يرى من ملك مضطرب ووزير هالع فإذا هو يشرق بينهم كالأمن يشيع في النفس وإذا هو هادئ أهدأ ما يكون المرء وكأن ما يلقى إليه بشريات لا أثر فيها للحرب فالقتل فالخراب والدمار ودولة تهوي وعرش يزول، كأن شيئا من هذا لم يلق إلى ابن عمار فهو يتكلم في هدوء وهو يهدئ الروع الثائر ولكنه يقول عجبا، يقول ابن عمار: مولاي، إني مخلص الأندلس والإسلام من كل ما تخشاه، كل ما أرجوه منك أن تفعله هو شطرنج.
فيذهل المعتمد ويسأله وكأنه لم يسمعه: ماذا؟ - شطرنج. - أتقصد الشطرنج الذي يلعب به؟ - نعم أقصد الشطرنج الذي يلعب به. - أتهذي؟! - بل أجد. - وماذا أنت فاعل به؟ - هذا سري يا مولاي، فأبقه علي أبقاك الله. - وكيف تريده أن يكون؟ - أريده أفخم ما يكون الشطرنج، أريده من خالص الذهب ومن خالص الفضة وأريد أمهر الصناع أن يتركوا أعمالهم جميعا فلا يفعلوا شيئا إلا أن يتقنوا صناعة هذا الشطرنج. - يسير مطلبك يا ابن عمار، يسير مطلبك.
ويأمر المعتمد فيمتثل الصناع أمره ويفرغون للشطرنج حتى يفرغوا منه، ويخرج ابن عمار إلى خيام الأذفونش فيلتقي بقادته والمقربين إليه ويتكلم معهم حديثا جاريا لا يقصد ظاهره إلى هدف ولا يهدف في لفظه إلى غاية، يتكلم ابن عمار فإذا حديث الشطرنج وصفاته وإتقان صناعه حديث شائع بين خيام الأذفونش، وإذا القوم لا يتكلمون فيما بينهم إلا عن الشطرنج حتى يرتقي حديثهم إلى الأذفونش، وإذا الأذفونش وقد أصبح كل همه أن يرى هذا الشطرنج فهو يستدعي ابن عمار ويسأله: أصحيح ما يقال عن الشطرنج يا رجل الجزيرة؟ - وما الذي يقال يا مولاي؟ - يقولون إن الصناع قد أبدعوه إبداعا فهو ما لم ير الأوائل ولا الأواخر. - ليس السماع كالعيان يا مولاي. - فمتى أراه؟ - متى تحب. - فهاته الآن. - أحضره الآن.
ويقوم ابن عمار إلى الشطرنج فما هي إلا بعض ساعة حتى يكون الشطرنج بين يدي الأذفونش يقلبه بين يديه عاجبا معجبا مادحا كل قطعة فيه، ويرى ابن عمار إعجابه فيسكت ولكن الملك لا يطيق السكوت. - كيف السبيل إلى مثله يا رجل الجزيرة؟ - ليس إلى مثله من سبيل يا مولاي. - وكيف؟ إنني أبذل لنيله ما تشاء من المال. - إن المال لا يعوق يا مولاي، غير أن الصناع الذين قاموا بصناعته قد ماتوا جميعا ولن يقدر على إبداع مثله صناع اليوم. - فليس من سبيل إلى مثله. - إلى مثله لا سبيل، أما إليه، فلعل هناك سبيلا. - وما هو؟ - أراهنك عليه. - علام؟ - ألاعبك به فإن غلبتني فهو لك وإن كانت الغلبة لي فإن لي عندك مطلبا. - وما مطلبك؟ - لا أقوله حتى تكون الغلبة لي. - ولكنك تعلم أن أحدا لا يتقن لعب الشطرنج مثلما أتقن. - وأعلم ذاك. - ولكنك لا تبين عن مطلبك. - حتى يتم النصر لي. - لا أظنني أرضى بهذا فأنا لا أعرف مدى قدرتك في اللعب وأنا لا أعرف مطلبك وأخشى أن يكون عسيرا. - ولكنك يا مولاي تتقن اللعب إتقانا فما خشيتك؟ - إن الذي عند الملك كثير فأخشى أن يكون مطلبك كثيرا. - أمرك إذن يا مولاي. - أنظرني إلى الغد.
وخرج ابن عمار من عند الملك واجتمع بقواده المقربين إليه كل على حدة وأغراهم أن يطمعوا الملك باللعب وألقم من يمد يده ذهبا وأفهم من لا يمدها أن الملك لا يجمل به أن يتراجع وهو اللاعب الحاذق، وانتقل الإغراء إلى الملك، ألقاه إليه أصحابه مظهرين له أنهم ينصحونه وأنهم يخشون أن يتسامع الناس بتقهقره.
ويطلع الصباح فإذا الملك قد انتصح بنصح قواده، وإذا هو يرسل من يدعو ابن عمار فيجيء فيخبره الملك أنه قبل الرهان.
ويبدأ اللعب وقواد الأذفونش شهود فما يلبث ابن عمار أن يتغلب على الأذفونش غلبة واضحة لا سبيل إلى نكرانها، فيعترف الأذفونش بها ويغتصب ابتسامة يلصقها بفمه ويسأل ابن عمار: فما مطلبك يا رجل الجزيرة؟ - لا شيء إلا أن يتفضل مولاي فيأخذ جيوشه ويعود بها من حيث أقبل.
يسمع الأذفونش هذا الحديث فتصبح ابتسامته تشنجا مرتعشا ويصيح بابن عمار: ويحك أجاد فيما تقول؟! - ليس لي مطلب آخر يا مولاي.
فيعلم الأذفونش أن الوزير قد أحاط به فيلتفت إلى قواده ثائرا بهم: أرأيتم ما نصحتم به؟ أرأيتم ما أوقعنا فيه الرجل؟ ولكن لا، لا يمكن أن يصبح الهذر جدا.
فيجيب ابن عمار: إن هذر الملوك جد يا مولاي.
فيعود الملك إلى وزرائه يكاد يقتلهم من شدة غيظه فيتركه ابن عمار ثائرا هائجا ويخرج، ولكنه لا يترك الخيام قبل أن ينتظر القواد مرة أخرى فيلقمهم مالا أو يلقنهم أن كلام الملوك لا يمكن أن يتراجع فإنه كلام الملوك.
ويترك القواد ملكهم ليلتهم هذه ثم يصبحون إليه فيقولون له إنه وعد ووعد الملك تنفيذ ولا بد أن يقوم بما طلبه إليه ابن عمار إبقاء للرهان، فما يصبح اليوم التالي حتى يكون الأذفونش قد دعا ابن عمار فيذهب إليه فيقول الأذفونش: لقد أوقعتني يا ابن عمار ولن أنساها لك. - أسيئة تحتسبها لي يا مولاي أم حسنة؟ - ويحك أتريدني أن أعتدها لك حسنة. - وما لك لا تفعل يا مولاي ألم أخدم بها ملكي وبلادي؟ - ويحك قد يعتدها غيري حسنة لك يا ابن عمار أما أنا فلا، لا يا ابن عمار. - بل سوف تفعل يا مولاي حين يهدأ ثائرك. - والآن. - والآن يا مولاي. - لا أترك بلادكم حتى أنال الجزية مضاعفة هذا العام. - أمرك يا مولاي.
وينصرف ابن عمار ليعود إلى الأذفونش بالجزية مضاعفة فيأخذها الملك مزمجرا ، ولكن ابن عمار يتقدم إليه بشيء كان قد لفه فهو لا يظهر ويسأله الأذفونش: وما هذا؟ - فليزل مولاي عنه لفافته.
ويفعل الملك فيجد الشطرنج فيقول ابن عمار: هدية خالصة متواضعة من ابن عمار.
فيسر الملك من هذه اللفتة ويكاد ابن عمار أن يعود إلى سابق مكانته في نفس الأذفونش، ويعود الأذفونش إلى بلاده ويعود المعتمد إلى نافذته يرنو منها إلى إعتماد وذيل ثوبها قد رفع وقدماها قد غاصتا في المسك وماء الورد، إلا أنه في هذه المرة لم يكن وحده بل كان ابن عمار إلى جواره يرنو هو أيضا إلى جواريه يغصن بأقدامهن مع الملكة في المسك وماء الورد.
صفقة، أهي رابحة؟!
أحس ابن عمار بعد أن خلص البلاد من خطر الغزو أنه أصبح دعامة هذه البلاد وأحس أنه داهية في السياسة يتلاعب بالملوك ويرد بدهائه الجيوش عظيمة ما عظمت تلك الجيوش، ثم أحس بعد فترة من الوقت أن ذكاءه لا بد أن يجد شيئا ينشغل به فما تعود أن يراح إلى هدوء، وما كانت النساء مأربا لحياته وهو لم يصطنع الخمر والجلسات المازحة إلا إرضاء للمعتمد. ووافت ابن عمار أنباء عن مرسية المجاورة لإشبيلية والمستقلة عنها في الحكم، وكان مؤدى هذه الأنباء أن مرسية تفتقر إلى الجيش، وأن حاكمها على غناه لا يملك خيلا ولا رجلا. وكان ملك مرسية في ذلك الحين هو «أبو عبد الرحمن ابن طاهر» ينتمي إلى أصل عربي ويملك أموالا ضخمة لم تلهه عن ثقافة واسعة فكان حصيف الرأي قويم الفكرة، وكان أيضا ضعيف الجيش منكسر الشوكة.
وكان يقيم بجوار مرسية «كونت» يدعى «الكونت دي برشلونة ريمون بيرنجيه» وكان ذا قوة وأيد وكان صديقا لابن عمار. وهكذا تهيأ لابن عمار أن يدعي أنه ذاهب لزيارة هذا الكونت وكان لا بد له أن يمر بمرسية في طريقه إلى الكونت، فلم يكن غريبا إذن أن يظهر ابن عمار في مرسية، وأن يكن رأى فيها بعض من يريدون خيانتها وأن يكن قد رشاهم فقبلوا الرشوة، إلا أن هذا لم يكن إلا تحت ستار كثيف من الكتمان لم تخترقه أعين «أبي عبد الرحمن بن طاهر».
وقصد ابن عمار إلى الكونت وأجرى الحديث فجرى إلى حيث يريد، فإذا الكونت يتحدث عن مرسية وعن ضعفها وإذا ابن عمار يظهر في الحديث إغضاء يكاد في ظاهره أن يصل إلى الملالة، ثم لا يلبث أن يميل إلى الحديث رويدا ثم هو يشارك فيه ويشجع عليه، فينطلق الكونت وينطلق ابن عمار حتى إذا رأى منفذا إلى غايته نفذ فعرض على الأمير أمرا. - ما دمت يا مولاي ترى هذا الأمر فما حبسك عن أن تعتسف هذه المملكة وإنها لثمرة ما تحتاج منك لغير أصبع تمدها. - ومن أين لي المال يا ابن عمار؟ - أيمنعك المال أيها الأمير؟ - والله يا ابن عمار إن شئت الحق فإن المال وحده لم يكن ليمنعني ولكنني أخشى أن أثير في الدولة الإسلامية الأخرى حفيظة لا أريدها أن تثور. - لقد أصبت فاصلا من الأمر، ولكن ماذا تراك تقول لو أن دولة عربية إسلامية هاجمت مرسية فاحتلتها وتصيب أنت ربحا وأنت في مكانك لا تريم؟ - أكاد أفهم ما تريد. - بل إنك لتفهمه. - فزده إيضاحا. - أجيئك بالمال وتمدني بالجيش. - أليس الجيش دماء تراق فعائلة يتبدد شملها، فزوجا أيما، وابنا يتيما، وأما ثكلى؟ - ولكنه المال ... والحاكم - بعد - ينظر للمصلحة العليا فشأنه الملك، وما شأنه زوجا ولا طفلا ولا أما. - وهل الملك يا ابن عمار إلا هذه الزوجة وذلك الطفل وتلك الأم؟ - ولكنك تريد مالا. - وأريد رجالا. - الرجال كثير ولكن المال، المال. - كم تدفع؟ - كم تقبل؟ - عشرة آلاف مثقال ذهبا. - فإن كانت خمسة؟ - عشرة. - قبلت. - ومن يضمن لي أنك سترسل المبلغ؟ - ومن يضمن لي أنك سترسل الجيش؟
وحينئذ اقتحم الغرفة ابن أخي الكونت فكأنما وجد الكونت طلبته فهو يلتفت إلى ولد أخيه، ويطلب إليه أن ينتظر ريثما ينتهي حديث ويخرج الفتى ثم يلتفت إلى ابن عمار قائلا: ابن أخي. - مرحبا به. - ألا تسأل من يضمن لك إرسال الجيش؟ - أجل. - وأنا أقول ابن أخي. - ما له؟ - يضمن لك. - وكيف؟ - تأخذه رهينة. - وماذا تريد مني رهينة؟ - أريد ابن المعتمد.
وأخذ ابن عمار بهذا المطلب ولكن تردده لم يطل فقد كانت القيمة المتفق عليها حاضرة عند المعتمد، ثم ما له لا يتصرف في أولاد المعتمد وقد تصرف في المعتمد نفسه وما البأس الذي يخشاه؟ لا بأس عليه إذن ولكنه عاد يسأل: وكيف يجيء إليك؟ إن أباه لن يرضى كما تعلم، وأنا لن أخبره أن ابنه سيصبح رهينة لديك. - ألن ترسل المال في موعده؟ - بلى. - إذن فأخبر المعتمد أن ابنه سيتولى قيادة الجيش حتى يمرن على الحرب والقتال. - لقد قبلت. - وقد قبلت.
وخرج ابن عمار من عند الكونت وهو يعتقد أنه غلبه على أمره والكونت يعتقد أنه غلب ابن عمار على أمره، وشاع في نفسيهما الفرح بصفقة يعتقد كلاهما أنها الرابحة.
مع الملك
عاد ابن عمار إلى الملك يقص عليه ما قام به في رحلته تلك من أعمال والمعتمد يستمع وكله إعجاب بوزيره العظيم، وكيف لا وابن عمار لا يقص غير ما يرضي المعتمد؟ فهو لا يروي له عن الرهينة التي ستكون ولده، وهو لا يقص له غير أن عشرة الآلاف مثقالا ذهبا سوف يقدمها لريمون لينال بها ملكا جديدا، وفتحا مبينا، ونصرا مؤزرا ومجدا سامقا.
سر المعتمد بهذا الاتفاق وعاهد ابن عمار أن يجهز الجيش، وعاهده كذلك أن يؤدي المال إلى ريمون في الموعد المضروب. ولقد دهش المعتمد بعض الوقت حين وجد ابن عمار يحذره أن يتأخر في أداء هذا المال، دهش أن وجده يحذره من تأخير يوم واحد فما كان ليدري سببا لذلك ومن أين له أن يدري؟!
وحين حاول الشك أن يسري إلى نفس المعتمد مال إلى ابن عمار يسأله عما يضمن له أن «ريمون» سيوفي بوعده فأطلق ابن عمار بسمة ساخرة وقال للمعتمد: مولاي أتعتقد أن ابن عمار يفوته مثل هذا الأمر؟ - حسبتك فعلت. - بل لا يا مولاي؛ ولهذا ... - ولهذا؟ - أحضرت معي ابن شقيق ريمون رهينة عندي. - بوركت ابن عمار، بوركت.
وسد سبيل الشك في نفس المعتمد وأصبح واثقا أن الأمر سيدين له.
تلفت الملك حواليه يبحث عن قائد للجيش وما كان بحاجة لهذا التلفت فهو يعلم أين هو ولكنه أغضى، نعم هو يعلم أن ابن عمار خير من يقود الجيش ولكن كيف له أن يصبر عن بعده مدة أطول من تلك التي قضاها في السفر؟! ولكن ابن عمار يحتال وما أيسر ما يحتال ابن عمار على المعتمد ويتولى قيادة الجيش.
تهيأ ابن عمار للخروج من إشبيلية وأوصى المعتمد أن يرسل المال بمجرد وصول رسول منه يخبره أن ريمون أوفى بوعده وأن الجيوش من قبل ريمون قد اتحدت مع جيش المعتمد. ولم ينس ابن عمار أن يحتال مرة أخرى فينال إذنا من المعتمد بأن يصحب «الراشد» ولده ليمرن على الحرب وقيادة الجيوش، وما كان المعتمد ليمنع ابنه عن ابن عمار فما تعود أن يمنع عن ابن عمار شيئا حتى وإن كان ابنه.
واتفق المعتمد مع ابن عمار أن يلاقيه في مرسية وضربا لذلك موعدا، وقال المعتمد لابن عمار إنه سيصحب ابن شقيق ريمون معه إلى مرسية ليسلمه من ثم إلى عمه.
خرج الجيش إذن وقائده الراشد بن المعتمد شكلا وأميره في الواقع هو ابن عمار، وكان ابن عمار فرحا أن وصل إلى ما قدر لنفسه أن يصل؛ فابن المعتمد معه ووعد المعتمد بأداء المبلغ وعد مؤكد موثق.
وما هي إلا أيام حتى اتحد جيش ريمون وجيش المعتمد، وأرسل ابن عمار رسوله بذلك إلى المعتمد، ووعد ريمون أن المبلغ سيصل فور عودة الرسول من إشبيلية.
وفي انتظار الرسول زحف الجيشان على ولاية «مرسية» ولكن أيام الزحف طالت، أو إن ريمون في الواقع شاء لها أن تطول فإن المال لم يكن قد وصله بعد وهو لا يريد أن يفقد المال والرجال في وقت معا.
وكان المعتمد في طريقه إلى مرسية ليلاقي ابن عمار كما اتفقا، وجاءه الرسول من ابن عمار ينبئه أن الجيشين قد اتحدا وأنه لم يبق غير أن يؤدي المعتمد المال، ولكن إخراج المال عسير في كل وقت، وما كان المعتمد ليعرف خطر تأخره رغم تحذير ابن عمار، فإن ابن عمار لم يبن لتحذيره عن غاية. تراخى المعتمد في أداء المال، ولعله أزمع في نفسه أن يؤدي هو المال بيده حين يصل إلى مرسية.
وما كانت هذه الفكرة لتصل إلى ذهن «ريمون» الذي رأى أن تأخر المال دليل على شر يبيت له، ورجح لديه أن ابن عمار خدعه، وكبر عليه أن يخدع، فما أسرع ما أمر جيشه أن ينسلخ عن جيش المعتمد، وحين حاول ابن عمار أن يستمهله أمر بالقبض عليه وعلى الراشد بن المعتمد معا، وحاول الجيش، جيش المعتمد أن يذود عن أميريه ولكنه ما لبث أن هزم.
تم هذا جميعه والمعتمد في طريقه - ما زال - إلى مرسية يبني في نفسه الآمال الكبار عن مدينة جديدة يضمها إلى ملكه سيجدها مفتحة الجوانب له ولحاشيته، ثم ما يلبث ذهنه أن يأخذ به إلى ابن عمار فيشكره في نفسه أن مهد له هذا الفتح المبين، وما أكثر ما يشكر المعتمد ابن عمار في نفسه.
وأراد المعتمد أن يطيل الأمد لهذه الفرحة التي تغمر نفسه وهو في طريقه إلى مدينته الجديدة فهو يبطئ في السير، فما يرى خميلة إلا وقف لديها وما يرى واديا إلا بات فيه ليلة أو أكثر، وما زال كذلك حتى بلغ ضفاف «الوادي اليانع»، وكان وصوله في موعد فيضان النهر فأقام لديه حتى ينحسر الفيضان فيعبر النهر.
ولكنه لم يكد يضرب الخيام حتى شق الماء إليه بقية جيشه الهزيم يصحبهما فارسان من فرسان ريمون ألقيا إليه النبأ جميعه فانشطر فؤاده حزنا على ولده الواقع في أسر، وحاول أن يخفف من بعض حزنه فوضع ابن أخي ريمون في الحديد، ولكن هيهات ما كانت نفسه لتهدأ بمثل هذا.
حينذاك فقط عرف المعتمد لماذا أوصاه ابن عمار أن يؤدي المال في الموعد وعرف لماذا اصطحب ابن عمار ولده، عرف كل شيء ولكن لات حين ... فما يغنيه اليوم أسفه وما يغنيه اليوم غضبه على ابن عمار.
يعود المعتمد إلى إشبيلية وتصيبه وجمة تظل رانية عليه عشرة أيام لا يدري من أمر نفسه أمرا، ولكن ابن عمار الذي ألف الصعاب وعركها كان سريع البديهة حاضر الذهن فما أسرع ما يلجأ إلى أحد أمراء الأندلس من أصدقائه ويرسل إليه أنه لائذ به فيتشفع هذا الأمير لدى ريمون، فيفك إسار ابن عمار ويبقي على الراشد بن المعتمد حتى يضمن وصول المال.
ويقصد ابن عمار إلى المعتمد يكاد أن يلوي به الخوف ولكنه لا يضعف إليه بل يقصد إلى إشبيلية، وحين يصل إلى أبواب القصر يعاود قلبه طائف خوف أن يكون المعتمد شديد الغضب عليه فيترك القصر إلى بيته، ومن هناك يرسل إلى المعتمد قصيدته الضخمة:
أأسلك قصدا أم أعوج عن الركب؟
فقد صرت من أمري على مركب صعب
وأصبحت لا أدري أفي البعد راحتي
فأجعله حظي أم الحظ في القرب؟
إذا انقدت في أمري مشيت مع الهوى
وإن أتعقبه نكصت على عقبي
1
على أنني أدري بأنك مؤثر - على كل حال - ما يزحزح من كربي
أهابك للحق الذي لك في دمي
وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
أيظلم في وجهي لذا قمر الدجى؟
وتنبو بكفي صفحة الصارم العضب؟
حنانيك فيمن أنت شاهد نصحه
وليس له غير انتصاحك من حسب
وما جئت شيئا فيه بغي لطالب
يضاف به رأي إلى العجز والعجب
سوى أنني أسلمتني لملمة
فللت بها حدي وكسرت من غربي
وما أغرب الأيام فيما قضت به
تريني بعدي عنك آنس من قربي
أما إنه لولا عوارفك التي
جرت جريان الماء في الغصن الرطب
لما سمت نفسي ما أسوم من الأذى
ولا قلت إن الذنب فيما جرى ذنبي
سأستمنح الرحمى لديك ضراعة
وأسأل سقيا من تجاوزك العذب
فإن نفحتني من سمائك حرجف
سأهتف يا برد النسيم على قلبي
وهكذا أنشأ ابن عمار قصيدته تتسابق فيها السياسة مع الشعر فلا تدري لأيهما السبق؛ فهو يمهد بالاعتذار والتودد والتخوف، وهو يذكر بالحب والصداقة، وهو يوحي إلى المعتمد أنه صافح مؤثر ما يزحزح كرب ابن عمار، ثم هو في لباقة معجزة يحمل المعتمد العبء فيما وقع بل هو يزيد فيعتب عتبا رقيقا فيذكره أنه أسلمه لملمة فلت سيفه وحطمت سلاحه، ولا ينسى ابن عمار أن يقول إنه لم يأت وزرا وإنه ما فعل إلا ما يظنه الخير وإنه ما جاء شيئا فيه بغي ولا ظلم، وبعد هذا الدوران السياسي البارع يعود فيستمنح الرحمى ويسأل السقيا من الصفح الجميل والمعتمد - قبل - شاعر يصل القصيد إلى قلبه أسرع ما يصل ويفهم الخافي منه على أوضح فهم؛ فهو يحس ما في قصيدة ابن عمار من خشية واعتذار وتذكير بصداقة، ويحس أيضا ما فيها من توجيه اللوم المهذب مشفوعا بالعتاب، ثم يمس قلبه بعد هذا طلب الصفح وتدمع عينه حين يعجب ابن عمار من الأيام فيما قضت به فأرته البعد عن المعتمد آنس من القرب إليه، فلا يملك نفسه أن يتناول قرطاسا ويكتب به إلى ابن عمار:
لدي لك العتبى تراح من العتب
وسعيك عندي لا يضاف إلى ذنبي
وأعزز علينا أن تصيبك وحشة
وأنسك ما ندريه فيك من الحب
فدع عنك سوء الظن بي وتعده
إلى غيره فهو الممكن في القلب
قريضك قد أبدى توحش جانب
فراجعت تأنيسا وعلمك بي حسبي
تكلفته أبغي به لك سلوة
وكيف يعاني الشعر مشترك اللب
وهكذا جاء الصفح أروع وأجمل ما يكون الصفح، بل إنه ليزيد فيعترف بالخطأ منه حتى إذا فرغ ما يجيش بنفسه نحو اعتذار ابن عمار عاد إلى حزنه المقيم، ذاكرا لابن عمار أنه لم يكتب هذا الشعر على سجية مواتية، وإنما هو يتكلفه تكلفا يبتغي به سلوة لوزيره وصديقه؛ فما كان لمشترك اللب الحيران القلق على ولده أن يكتب الشعر أو يعانيه.
يهدأ روع ابن عمار ويقصد إلى المعتمد فيلاقيه وقد بدت عليه علائم فرح يغشيه الحزن ولكن ابن عمار يسرع فيدبر الأمر والمال الذي يطلبه ريمون ويرسله إليه ليفك ابن المعتمد من أسره، ولكن ريمون يطمع فلا يقبل أن يفك الأسير بالآلاف العشرة التي انتهى إليها الاتفاق ، وإنما هو يزيدها إلى ثلاثة أضعاف فيطلب ثلاثين ألفا من خالص الذهب.
وحين يبلغ هذا الطلب مسمع المعتمد ينشق قلبه من الغيظ والإشفاق على ابنه؛ فإن هذا القدر من المال لم يكن موجودا لديه وإنما الموجود لديه هو ابن عمار رجل الملمات.
ولا يطول التفكير بابن عمار بل هو يأمر فتضرب مسكوكات جديدة مزيفة ليس فيها من الذهب إلا القليل النادر الذي يكفي ليجعل ريمون يظنها ذهبا وما هي من الذهب إلا في اسمها.
وتجوز الحيلة على ريمون فيطلق الراشد من أسره ويعود إلى أبيه فرحا أنه كان ذا أهمية غير شاعر بما كان في نفس أبيه من ألم وحسرة وخوف. ويعود ابن عمار إلى معتمده صديقين أخلص ما تكون الصداقة فرحين بحيلتهما التي خالت على ريمون يوهم كل منهما الآخر أن النصر كان في جانبهما؛ فهكذا النفس إن رامت أمرا كبيرا ولم تنل منه إلا القليل أو ما هو أقل من القليل حاولت أن تقتنع أن ما نالته كان النصر مؤزرا، وما أكثر ما تخادع نفسها النفس.
قمة المجد
لم يكن ابن عمار ليغبى عن فهم الأمر فهو على يقين أنه قد هزم ولكن لا بد له أن يظهر للمعتمد أنه انتصر حتى يهدأ طائره وتطمئن نفسه، أما ابن عمار فإنه يعلم الحق من الأمر ولكنه لم ييأس إلى الهزيمة بل إنه ليصر في بعيد نفسه أن ينال مرسية، وقد خشي ابن عمار أن يظهر إصراره هذا للمعتمد فيغضب فأخذ يعمل وحده مستخفيا مرسلا الرسل إلى مرسية متنطسا أخبارها، وقد خشي ابن عمار أن يعرف المعتمد بما يفعله فلم يجد وسيلة خيرا من الإغراق في الخمر والتظاهر بهذا الإغراق ما وسعه التظاهر حتى تناقل الناس عنه ذلك وحتى بلغته قالة الناس، فإذا هو ينظم أبياتا ثلاثة يكتبها فلا يظهرها لغير المعتمد حتى يثق المعتمد أن ابن عمار قد عاد إلى ما كان عليه من خمر وشعر بعيدا عن السياسة وطموحها:
نقمتم علي الراح أدمن شربها
وقلتم فتى راح وليس فتى مجد
ومن ذا الذي قاد الجياد إلى الوغى
سواي، ومن أعطى كثيرا ولم يكد؟
فديتكمو لم تفهموا السر إنما
قليتكمو جهدي فأبعدتكم جهدي
1
يظهر ابن عمار المعتمد على هذه الأبيات مبديا فيها كرهه للناس ولا يخشى أن يغضب عليه المعتمد لأنه بإظهارها له يستثنيه من هؤلاء الذين قلاهم فأبعدهم؛ فقد كان ابن عمار يعلم أن هذه الأبيات لا بد واقعة في يد المعتمد وخشي أن يظن نفسه ضمن هؤلاء الناس، فابن عمار يسارع بقراءتها عليه لهذا جميعه وليفتح للمعتمد بابا يقول فيه الشعر بعد أن ثاب إليه ولده فعاد إليه لبه غير مشترك فعساه إذن أن ينشغل بمعالجة الشعر عن متابعة ابن عمار.
ويفرح المعتمد بعودة ابن عمار إلى الشعر والخمر ويفرح أيضا ببغضه للناس فإنه بهذا سيفرغ له فيرتاح نفسا، ويهدأ خاطرا؛ فقد كان يخشى طموح ابن عمار فهو يعلم أن آماله لن تقف به إلى حد ينتهي إليه، وهو يعلم أن آمال ابن عمار هذه محفوفة بالأخطار فهي تمتد إلى الفتوح الجديدة وإلى الممالك بأكملها وكان لا بد لفتح الممالك من الجيوش والأموال والرجال، وكان لا بد أيضا أن يتعرض ابن عمار في هذه الفتوح إلى الأخطار المحدقة وهو لا يكتفي بأن يقدم نفسه بل هو يزيد فيحيط أبناء المعتمد أنفسهم بما يخشاه المعتمد عليهم.
كان المعتمد يعلم هذا جميعه وكان يعلم أيضا أنه لا يستطيع أن يرفض مطلبا لابن عمار فهو يخشى أن تظل هذه الآمال تداعبه فيطلب الجيوش والأموال ويضطر المعتمد إلى أداء هذه المطالب وهو كاره وإنما يؤديها حبا لابن عمار لا لشيء آخر. كان المعتمد يتمنى أن يفتح الممالك وأن تنضم إلى ملكه ولكنه يريد ذلك بغير عتاد ولا مشقة فإنما لا يزهيه من هذا الاتساع إلا أن يقول الشعر ويفخر بمجده ومجد وزيره. أما إذا كانت الفتوح تكلفه عنتا من أمره فبحسبه المجد الذي تم له وهو غني كل الغنى عن فتوح أخرى. وهكذا فرح المعتمد أن ابن عمار عاد إلى الخمر والشعر وأغضى عن آماله الواسعة.
ويحس ابن عمار بهذه المعاني التي تدور بنفس المعتمد فينكب على الشعر والخمر متحينا الفرصة ليعود إلى ما كان يطمع فيه واثقا أن المعتمد لن يخذله. ويزيد ابن عمار من إظهار ميله هذا للخمر ومجالس الغناء حتى إنه لا يكتفي بتلك المجالس التي يفسحها له المعتمد بل هو يقبل دعوة من دعاه إلى مثلها فهو يقصد إلى بيوت خاصة أصدقائه فيشرب ويسمع ويبلغ هذا المعتمد فيشتد يقينه أن ابن عمار لن يعود إلى السياسة أبدا.
وقد حدث يوما أن أرسل إليه أحد خاصته يدعوه إلى ليلة من تلك الليالي وكان هذا الصديق شاعرا فكتب إلى ابن عمار يقول:
ضمان على الأيام أن أبلغ المنى
إذا كنت في ودي مسرا ومعلنا
فلو تسأل الأيام من هو مفرد
بود ابن عمار لقلت لها أنا
فإن حالت الأيام بيني وبينه
فكيف يطيب العيش أو يحسن الغنا
ووصلت الرفعة إلى ابن عمار وهو في زاوية من بيته يتسقط أنباء مرسية من عيونه بها، فلم يستطع أن يترك هذا الأمر الجليل من أجل إتقان تظاهره فأغضى عن الدعوة وظل ليلته في شغل عنها خطير حتى إذا طلع الصبح كتب إلى هذا الصديق يقول له:
هصرت لي الآمال طيبة الجنى
وسوغتني الأحوال مقبلة الدنا
وألبستني النعمى أغض من الندى
وأجمل من وشي الربيع وأحسنا
وكم ليلة أحظيتني بحضورها
فبت سميرا للسناء وللسنا
أعلل نفسي بالمكارم والعلا
وأذني وكفي بالغناء وبالغنى
سأقرن بالتمويل
2
ذكرك كلما
تعاورت الأسماء غيرك والكنى
لأوسعتني قولا وطولا كلاهما
يطوق أعناقا، ويخرس ألسنا
وشرفتني من قطعة الروض بالتي
تناثر فيها الطبع وردا وسوسنا
وهكذا وفق ابن عمار بين التظاهر بالمجون وبين العمل الجليل الذي يقوم به، ولكنه في هذه الليلة كان قد سمع أنباء ضخاما وكان لا بد له أن يتهيأ للعمل بعد أن طال به الهجوع إلى الخمر والغناء والرقص.
كانت الأنباء تقول إن مرسية قد حان قطافها ولكن ابن عمار لم يشأ أن ينقلب فجأة أمام المعتمد من مخمور لاه إلى رجل عمل؛ فهو يتقدم إلى المعتمد ليتحدث عن ولده الأمير الراشد الذي أصبح أميرا على قرطبة، ثم هو يطيل من الحديث عنه ليثير شوق المعتمد إليه حتى إذا وصل إلى غايته قال للمعتمد إن الأمير أرسل يطلبه ليقضي عنده بعض ليلة يسري عنه فيها فيفرح المعتمد لإخلاص ابن عمار ويسأله أن يبلغ تحياته إلى ابنه.
ويذهب ابن عمار من فوره إلى الراشد بقرطبة ويجلس إليه يروي له من شعره وشعر غيره حتى إذا دارت الكأس وانتشى الراشد نظم ابن عمار أبياتا في جلسته تلك يقول:
ما ضر أن قيل إسحاق وموصله
ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق
أنت الرشيد
3
فدع ما قد سمعت به
وإن تشابه أخلاق وأعراق
لله درك، داركها مشعشعة
واحضر بساقيك ما قامت بنا ساق
تمتد الجلسة إلى الصباح والجالسون لا يحسون بليل ينحسر ونهار يشرق حتى يأتي خادم فيؤذن سيده أن الإصباح قد أقبل فإذا ابن عمار ينطلق ناظما موجها كلامه إلى الخادم والخادم مبهوت لا يفهم شيئا مما يلقى إليه:
ليلة ضمنت معاني السرور
وأضاءت بنور وجه الأمير
وغدا الليل كالضحى بمحيا
ه وبالبشر غامرا والجور
ليلة كلها صباح وضي
أين منه نور الصباح المنير
أتقول الصباح ويحك يا أح
مق إن الصباح وجه الأمير
4
وهكذا مكث ابن عمار لدى الراشد يظهر أنه يسليه وهو في الواقع يستطلع أنباء مرسية التي كانت قريبة إليه حتى إذا علم أن الوقت قد حان أرسل إلى المعتمد يخبره أن مرسية ثائرة على حاكمها «ابن طاهر» وأن زعماءها قد كتبوا إليه يريدون جيشا من المعتمد يفتحها، ويلح ابن عمار في خطابه ولا يفوته أن يذكر أن ليس ثمة رهينة ولا اتفاق فليس ثمة خشية، ومرة أخرى يصدق المعتمد أقوال ابن عمار فيرسل الجيش على أتم أهبة ويتولى ابن عمار قيادة الجيش ويأخذ سبيله إلى أقرب حصن وهو حصن «بلج» وكان زعيم الحصن رجلا يدعى «ابن رشيق» ما إن يسمع بقدوم ابن عمار حتى يخرج إليه ليستقبله ويدعوه للنزول في قصره فيقبل ابن عمار الدعوة ويفسح له الضيف مكانا رحيبا ويسكب عليه من الحفاوة والتكريم ما لم يكن ابن عمار ينتظره. وامتحن ابن عمار «ابن رشيق» فعرف أنه يستطيع أن يثق به فحادثه في أمر «مرسية» وطريق فتحها فإذا ابن رشيق على أتم معرفة بحالة مرسية وبالوسيلة التي تصل بهما إلى الفتح. وهكذا وجد ابن عمار عونا من حيث لا يحتسب وما هي إلا بعض الساعة حتى كانت حامية حصن بلج تحت قيادة ابن رشيق قد مشت مع جيش ابن عمار في طريقهما إلى مرسية.
كانت بلدة «مولا» هي طريق المؤن إلى مرسية وليس غيرها من طريق فحاصرها ابن عمار وابن رشيق حتى وقعت في أيديهما فأصبحت مرسية في حال من الضنك شديد. وفرح ابن عمار بفتحه هذا ولم يطق صبرا، فترك ثلة قليلة من فرسانه في مولا وسارع إلى المعتمد ليزف إليه البشرى، وليمحو أثر الهزيمة الأولى، وليتقبل من مولاه التهنئات، و... ولشيء آخر يرجو مولاه أن يحققه له، أنه يريد أن يكون حاكما على مرسية إن هي وقعت له، وما كان المعتمد ليمنع عنه مرسية أو غيرها فهي له.
وتلقى ابن عمار أنباء من عونه ابن رشيق يقول فيها إن وجوه مرسية من ذوي السطوة والسلطان قد خرجوا إليه يسألونه أن يأذن لهم أن يعاونوه في فتح مرسية، وطلبوا إزاء ذلك بعض المال والهدايا. ولا ينتظر ابن عمار حتى يستأذن المعتمد بل هو يرسل إلى ابن رشيق أن اقبل ما يعرضون، ثم هو يلتفت إلى من معه فيقول «إن هو إلا يوم أو بعض يوم حتى توافينا الأنباء بفتح مرسية.»
وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى فتحت مرسية أبوابها بأيدي الخونة الذين ما لبثوا أن مدوا أيديهم هذه ليتلقوا بها الهدايا والأموال.
وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى كان ابن عمار في مرسية ومعه الكثير العديد من الهدايا الفخمة الجميلة فإن أملا ضخما في حياته قد تحقق، وما أهون ما يبذله في سبيله وإن غلا!
لم يكن ابن عمار قد تهيأ لدخول مرسية بموكب فخم فكان دخوله لها على غير انتظار من أهلها ولكنه في صباح وصوله أعد لنفسه استقبال الملوك الغزاة الفاتحين، بل إنه لبس مثل ما يلبس الملوك فوضع على رأسه تاجا كتاج المعتمد الذي يتخذه حين يجلس إلى استقبال.
وكان «ابن طاهر» حاكم مرسية المعزول قد استكان إلى كسرة من بيته يبكي ملكه الضائع، وأراد ابن عمار أن يبدو لأهل مرسية كريم النفس عف الخصومة فأرسل إلى «ابن طاهر» بضع حلل فاخرة ليختار منها ما يريد هدية خالصة من ابن عمار، ولكن «ابن طاهر» أبى أن يجود عليه ابن عمار الذي يعرفه ويعرف خرجه وحماره وأخلاق ثيابه. ولم يرد «ابن طاهر» أن يرد الثياب دون أن يخز ابن عمار وخزة تريح بعض ما في نفسه فإذا هو يقول لمن يحمل إليه الحلل: «ارجع إلى مولاك ابن عمار فقل له إن ابن طاهر لا يريد من الثياب غير جبة طويلة خلقة من خشن الصوف الناحل، وغير قلنسوة قذرة، فإن سألك مولاك عنهما فقل له إنك أنت أعلم الناس بهما.»
وعاد الرسول يحمل الحلل والرسالة، وأحس ابن عمار وخزة الحديث ولكنه لم يرد أن يفسد فرحه بمثل هذه القالة فكتمها في نفسه وقد أزمع ردها حين يفرغ إلى ابن طاهر، ثم التفت إلى أفراحه القائمة، لقد أصبح ملكا؛ فإن مرسية لم تكن مدينة فحسب كبلدته «شلب» ولكنها كانت مملكة تتبعها مدن وولايات.
إنها القمة ابن عمار، فانظر إلى قدميك واحذر، احذر؛ فما وراء القمة غير الهاوية.
بين مرسية وإشبيلية
أقام ابن عمار بمرسية حاكما مطلق اليد يأمر فأمره تنفيذ، ويشير فإشارته أمر فأصبح بعد أن لبس التاج واستبد بالسلطان لا يحس بالمعتمد في شيء، فأخذ يصدر الأوامر ويمهرها بخاتمه هو لا بخاتم المعتمد، وأمر فأنشئ جامع وأطلق عليه اسم نفسه دون المعتمد وتبلغ هذه الأنباء آذان المعتمد فيقول قول كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
ولكن ابن عمار لا يرعوي، ولا يلتوي به فضل من المعتمد يطوق عنقه، وكان ابن عمار في ذروة مجده حين نما إليه أن فئة ممن لا يزالون على ولائهم لابن طاهر يدبرون أمرا فيما بينهم، وأنهم حادثوا ابن طاهر أن يتزعمهم؛ وحينئذ تذكر ابن عمار ما كان قد نسيه من أمر ابن طاهر، وتذكر أنه اغتمزه فذكره بملبسه فأمر ابن عمار بابن طاهر فسجن بقلعة يطلق عليها قلعة «منتاجو».
وكان لابن طاهر صديق اسمه «ابن عبد العزيز» وكان حاكما على بلنسية (القريبة من مرسية)، فأرسل هذا الصديق إلى ابن عمار يرجوه أن يطلق ابن طاهر ولكن ابن عمار أبى واستكبر فقد خشي أن يخرج ابن طاهر من سجنه فيؤلب عليه الأعداء، فلما يئس ابن عبد العزيز من ابن عمار أرسل يستنجد بالمعتمد في إشبيلية وألح عليه حتى أرسل المعتمد إلى ابن عمار يأمره بإطلاق أسيره، ولكن ابن عمار لم يلتف أمر المعتمد كما لم يلتف إلى رجاء ابن عبد العزيز وأبقى على ابن طاهر في سجنه.
واغتاظ المعتمد من ذلك، وكان الذين حوله في القصر قد أوغرت صدورهم على ابن عمار، فاهتبلوا فرصة غضب المعتمد، وأخذوا يكيلون التهم لابن عمار يتزعمهم في ذلك أبو الوليد ابن زيدون ابن شاعر الأندلس الأشهر ابن زيدون، وكان آنذاك ذا نفوذ في قصر المعتمد يلي نفوذ ابن عمار، وقد أحب ألا يلي هو أحدا فينفرد وحده بجاه الملك وجبروته، فحق له إذن أن يقدح في ابن عمار ويتسقط مظاهر خروجه على المعتمد ويرويها له، مضيفا إليها ما يزيدها بشاعة حتى فاضت الكأس بالمعتمد، لكنه أراد أن يجرب تجربة أخيرة قبل أن يقطع صداقة حياته، فأراد أن يرسل إلى ابن عمار رسولا آخر يأمره أن يطلق سراح ابن طاهر، ولكن الأخبار وافته أن ابن طاهر قد تمكن أن يهرب من قلعة منتاجو، وأنه قصد إلى ابن عبد العزيز ونزل بقصره ضيفا كريما، وكانت هذه الأخبار حقا كلها، ونزلت على المعتمد بردا وسلاما فقد كفته مئونة التجربة واستراح وأوهم نفسه أن ابن عمار قبل أن تدبر هذه المؤامرة تحت عينيه فهرب الأسير بدلا من أن يطلق فيحفظ بها على نفسه كرامتها أمام من يحكمهم ويطيع في الوقت ذاته أمر المعتمد إليه.
هكذا اعتقدت نفس المعتمد الصافية، ولكن الحقيقة أن هروب ابن طاهر والتجاءه إلى ابن عبد العزيز نزل على ابن عمار نزول الصاعقة، فأصبح كالمجنون يبحث عن وسيلة ينتقم بها من ابن طاهر وابن عبد العزيز معا، حتى إذا ضاقت لجأ إلى سلاحه القديم الذي أوصله إلى ما هو عليه الآن، وأخذ يكتب القصائد الطوال في هجاء ابن عبد العزيز ولم يكن ابن عمار كريما في هجائه، بل كان ثائرا لا يدري ماذا يقول، فكتب يهجو زوجة ابن عبد العزيز ويحرض أهل بلنسية أن يثوروا بصاحبهم.
وبلغت هذه القصائد مسامع المعتمد فعرف أن حسن ظنه بابن عمار كان أوهاما، واغتاظ أن يكتب ابن عمار هذه الأبيات فيشهر للملأ أنه كان يعارض المعتمد في إطلاق ابن طاهر، وغاظه أن يتهجم ابن عمار وهو من هو على أقدار أمثال المعتمد من الملوك الكابرين. اغتاظ المعتمد وأراد أن يحارب ابن عمار بذات سلاحه فأمسك بقلم وأخذ ينظم، ماذا ينظم؟! لقد أخذ المعتمد بعد صداقة خمسة وعشرين عاما لابن عمار ينظم قصيدة في هجاء ابن عمار.
وبلغت القصيدة ابن عمار وكان في أوج مجده وكان الذين حوله يوهمونه أنه الفرد العلم فتمكنت نشوة المديح من رأسه وأنسته ماضيه وعقله وكياسته وأنسته كل ما تعلمه من تدبر للأمور، بل أنسته كل ما سكبه عليه المعتمد من فضل، بل نسي أن هذا المديح الذي يسمع هو نتيجة لفضل من أفضال المعتمد عليه، وخيل إليه أنه هو صاحب الفضل على المعتمد، وأنه هو الذي أدى إليه من الخير ما لم يستطع أحد أن يؤديه له. نسي ابن عمار كل هذا وخيل إليه أنه غدا ملكا مثل المعتمد، وقابل قصيدة الهجاء من المعتمد بقصيدة هجاء من ابن عمار ولم لا وكلاهما شاعر ؟
ولكن ابن عمار لم يكن في مثل شجاعة المعتمد فهو في عميق نفسه يحس - ما زال - بأنعمه، وهو يعرف تماما الفارق بين المفضل والمفضول فهو يلقي القصيدة فيمن ظنهم خاصته وكان من بينهم يهودي من عيون ابن عبد العزيز استطاع أن ينال ثقة ابن عمار، فما إن سمع القصيدة حتى أبدى إعجابه الضخم بها ثم طلب خمرا ليستمع إليها مرة أخرى وهو مخمور فتزداد نشوته، وجاءت الخمر فأخذ اليهودي يشرب حسوا في إقلال ورزانة بينما يعطي ابن عمار الكئوس دهاقا مليئة حتى دار رأس ابن عمار، فسرق اليهودي القصيدة منه مكتوبة بخط يمينه وأرسل رسولا إلى ابن عبد العزيز في مرسية، وما لبث هذا أن أرسلها إلى المعتمد في إشبيلية وقرأ المعتمد، ولأول مرة بعد خمسة وعشرين عاما من صداقته لابن عمار، قصيدة يهجوه فيها ابن عمار، بل إنه لم يهجه وحده وإنما زاد فهجا «إعتماد» وسخر من حب المعتمد لها، وزاد فذكر بنياته وأهل بيته بشر.
سفر العداء إذن وصرح الشر وتقطعت السبل بين الصديقين فما لإصلاح من سبيل، وملأ الغيظ قلب المعتمد فأخذ يدبر للانتقام.
ولها ابن عمار عما يدبر له والتفت إلى ما يحيط به من مجد وقد استقر لديه أن الأمور قد أسلست قيادها له.
نسي ابن عمار أن الذي فتح له مرسية يستطيع أن يثيرها عليه، نسي ابن رشيق صاحب حصن بلج الذي عاونه، نسيه وهو في أوج مجده وفي غمرة ملكه فما التفت إليه وما أناله مما كان يطمع شيئا، ويل المديح! إنه يعمي أشد الناس ذكاء عن أبسط الأمور وأقربها إلى الذهن. لقد استطاع أن يعمي حتى ابن عمار فما عاد يلتفت إلى تلك الأشياء الدقيقة التي ما كانت لتفوت عليه قبل أن يصل إلى الملك.
لقد وجد ابن رشيق أن لا غناء عند ابن عمار، وعرف بقصيدة المعتمد ثم بقصيدة ابن عمار فعرف أن المعتمد يريد الانتقام فشد إليه الرحال وعرض بين يدي الصديق الذي يريد أن ينتقم لصداقته، والزوج الذي يريد أن ينتقم لزوجه، والأب الذي يريد أن ينتقم لولده، وصاحب الفضل الضائع الذي يريد أن ينتقم لفضله، عرض بين يدي المعتمد وسيلة الانتقام.
كان ابن عمار لا يزال في بلهنيته ليس يدري بأمر أعدائه الذين ألبهم هو على نفسه، خيل إليه أن ابن عبد العزيز وابن طاهر لن يمدا إليه يدا بشر، وخيل إليه أن ابن رشيق لن يهم به فهو صديقه، وحسب ابن رشيق فخارا أن يكون صديقا لابن عمار.
خيل إليه هذا كله فانصرف إلى مادحيه، وبينما ابن عمار في هالة من صحابته إذ سمع أصوات ضجيج وصخب وصراخ تتقارب نحو قصره فقام إلى الشرفة فوجد جموعا حاشدة تدنو وما هي إلا لحظات حتى استبان صراخهم، لقد كانت الثورة به، لقد جاء الجنود يطالبون بمرتباتهم ويهددون بالويل العظيم إن هم لم ينالوا ما يريدون. أدرك ابن عمار حينئذ أنه وقع فريسة خيلائه ويهم أن يلوذ بسهم أخير فيخطب الجموع أنه سيسأل المعتمد أن يرسل إليه المال فيعطيهم رواتبهم ولكن قبل أن يفعل هتف به نائب الجنود من أسفل الشرفة: هيه ابن عمار! أحسبت أن تقطع عنا رواتبنا ونسكت عنك؟ هيهات، لقد أقسمنا فيما بيننا قسما غليظا إن لم تسلمنا حقنا سلمناك للمعتمد من فورنا، إلى المعتمد يا ابن عمار، أتعلم من هو المعتمد اليوم؟
كان القول حاسما، نعم إن ابن عمار يعلم من هو المعتمد اليوم، إنه النقمة التي كانت خيرا، وإنه الذل الذي كان مجدا، وإنه النار التي كانت ندى ورحمة وبرا. عجز ابن عمار الذي احتال على الملوك والوزراء والكابرين، عجز عن أن يحتال على ثلة ليست من الملوك ولا الوزراء والكابرين وإنما هم أصحاب حق يطالبونه به، مهما تكن الأيدي التي حركتهم قد ابتعثها الحقد والانتقام والبغض الشديد إلا أن هذا لا يغير من موقفهم شيئا، إنهم أصحاب حق يطالبونه به.
لم يبق أمام ابن عمار إلا أن يفلت بحياته فهو يتكلم لا ليدافع ولا ليطلب من القوم الريث فقد رأى منهم عزما وإصرارا، إنه يتكلم فلا يقول شيئا إلا: أيها الجند، إن هي إلا بعض الساعة حتى تكون رواتبكم بين أيديكم. ويدخل ابن عمار إلى القصر لا ليؤدي الرواتب فما كان بخزائنه شيء؛ فلقد اشترى المديح الذي تهدى إليه بكل المال الذي كان لديه، يدخل ليجمع ما يطيق أن يحمل. ومن باب سري يخرج ابن عمار من القصر فلا يراه الجنود ويظل مستخفيا حتى يخرج من مرسية جميعها إلى ... إلى الطريق.
سلام إذن يا قصر الملك، وسلام أيتها الأحلام التي ما تحققت حتى انهارت، وسلام أيها المديح الذي ما قيل حتى هوى بالممدوح، سلام على كل هذا وإلى ... إلى الطريق.
إلى أين؟
حار ابن عمار أين يولي وجهه وضاقت به السبل وطال الطريق عليه مرة أخرى فذكر حماره وذكر أيامه الأولى وما تبعها، وذكر صداقته للمعتمد ثم خيانته له، وذكر ... وذكر ... ثم أخذ يورد بذهنه كل الأصدقاء الذين أتيح له أن يعرفهم عساه أن يختار من بينهم من يلجأ إليه، فكر في ملوك الأندلس المسلمين الذين يعرفهم أجمعين ولكنه خشي أن ينصرفوا عنه، بل إنه عزف عن الالتجاء إليهم فقد كان في قصر أعظمهم شأنا وأعزهم سلطانا فعرف أنه لن يرضى بالأدنى بعد أن ترك مجد المعتمد وقصوره، وانتقل ذهنه على غير إرادة منه إلى ملوك الفرنجة في الأندلس، وفكر في ريمون صديقه ولكنه لا بد قد اكتشف زيف الذهب الذي أرسل إليه فدية، ثم فكر في الأذفونش.
أجل الأذفونش ولم لا؟ لقد ترك أعظم ملوك الأندلس العربية فما له لا يذهب إلى أعظم ملوك الأندلس الإفرنجية؟! تذكر الشطرنج ولكنه تذكر أيضا أنه أهداه للأذفونش وتذكر أن الرجل يقدره فيطلق عليه «رجل الجزيرة»، وأن قصة الشطرنج في ذاتها لدليل على ذكاء ابن عمار وإن يكن الأذفونش هو ضحيته فيها إلا أنه سيقدر الذكاء - لا شك - لأنه رجل ذكي، وسيقدر الولاء الذي عمل به ابن عمار من أجل المعتمد وسوف ينتظر نفس هذا الولاء من ابن عمار له إذا عمل به من أجله، وإن يكن ثمة غضب ما زال في نفس الأذفونش فلا شك أنه سيكون غضبا هينا غشت عليه السنون يستطيع ابن عمار ببعض كياسته أن يزيله.
واتجه ابن عمار إلى «ليون» عاصمة الأذفونش وألقى رجاءه ببابه ولكن ويح الأيام! هيه ابن عمار لقد بدأت هبوطك إلى الهاوية فلات حين صعود. لقد رفض الأذفونش إيواء ابن عمار وكان قد علم بكل ما حدث في بلنسية فبدأ ابن عمار بقوله: أنت سارق يا ابن عمار، سرقت الملك من ابن طاهر على يد ابن رشيق فليس ظلما أن يسرق منك الملك بنفس اليد التي سرقته لك.
وخرج ابن عمار من ليون ولم يبق له إلا أن يرتمي بأبواب الملوك العرب مرة أخرى، ولكنه في هذه المرة لا يعرض شعرا يقوله خامل ذكر لا يعرفه أحد وإنما هو يعرض ابن عمار بتاريخه كله الذي لا يجهله أحد، يعرض ابن عمار الوزير الداهية والسياسي البارع والقائد الصنديد.
يذهب ابن عمار إلى «سرقسطة» وهي مملكة أندلسية عربية يقوم عليها أحد ملوك الطوائف يطلق على نفسه اسم الملك «المقتدر»، وكانت هذه المملكة هينة الشأن صغيرة الرقعة ففرح صاحبها أن يكون بين رجاله وزير المعتمد الأول ومن كان صديقه الأثير. يأوي المقتدر ابن عمار ويوليه بعض شئون الدولة، ولكن هذه المملكة الصغيرة التي لا تتضاءل أمام إشبيلية فحسب بل إنها لتتضاءل أمام مرسية مملكته، هذه البلدة، سرقسطة لا تتسع له فهو لا يطيق العيش فيها، فيزعم ابن عمار للمقتدر أنه لم يعد يطيق العيش في زحمة الناس، إنه يود لو أتيح له أن يذهب إلى مملكة بعيدة منقطعة عن الناس الذين كرههم جهده والذين يريد أن يباعدهم جهده فيسأله المقتدر عن المكان الذي يريد فيجيبه ابن عمار أنه يتوق أن يذهب إلى «لاردة» التي يحكمها «المظفر» أخو «المقتدر» ويقبل المقتدر آسفا ويذهب ابن عمار إلى «لاردة» فيستقبله «المظفر» أحسن استقبال وينزله بأكرم مكان. ويفرح ابن عمار بما لقي وتعود إليه بعض ثقته بنفسه، ولكنه لا يلبث أن يضيق بهذه العزلة التي فرضها على نفسه فيرجو المظفر أن يسمح له بالعودة إلى سرقسطة، ويزعم له أنه اشتاق أن يرى أخاه «المقتدر»، ويصدق المظفر قوله كما كان المعتمد يصدق قوله ويأذن له بالذهاب ولكن ابن عمار يعرف وهو في الطريق إلى سرقسطة أن المقتدر قد مات وأن ابنه «المؤتمن» قد قام على الملك من بعده فيواصل طريقه كأن لم يسمع شيئا. إنه يريد أن يذهب إلى سرقسطة لا يهمه إن كان عليها المقتدر أو المؤتمن أو من يكون.
ويصل ابن عمار إلى سرقسطة وينزله المؤتمن منزلة كريمة ويستشيره في أمور مملكته فيصرفها ابن عمار وكأنها شئون ضيعة صغيرة لا مملكة ذات ملك ووزير، ويضيق ابن عمار بتضاؤل أعماله فما هي مهما تعظم في سرقسطة بشيء يذكر إلى جانب أعماله في إشبيلية أو مرسية أو حتى شلب.
وتلوح لابن عمار فرصة يعمل فيها فيهتبلها؛ فقد جاء إلى المؤتمن من يخبره أن أحد أصحاب القلاع التابعين لسرقسطة قد خرج عن طاعة المؤتمن فيعرض ابن عمار على المؤتمن أن يذهب هو لإخضاع هذا الخارج فيقبل المؤتمن فرحا ويسأل ابن عمار: كم جنديا تريد؟ - اثنين. - أسألك كم جنديا تريد لتحارب القلعة؟ - أريد اثنين - جنديين. - ولكنك تمزح لا شك. - بل أجد.
ولكن المؤتمن لا يصدق هذا القول ويأبى إلا أن يرسل جندا كثيفا، فيصر ابن عمار على أن يكون جيشه مكونا من اثنين، حتى إذا طال النقاش وقفا عند أواسط الأمر فقبل ابن عمار أن يصحب كوكبة صغيرة من الفرسان.
ويصل ابن عمار إلى مكان قريب من القلعة فيأمر الكوكبة أن تختفي وراء الجبال ويصطحب هو جنديين يقصد بهما إلى القلعة، ثم ينادي ابن عمار على صاحبها المتمرد فيجيبه فيقول ابن عمار: هلا نزلت إلي أحدثك حديثا قصيرا؟
وينظر صاحب القلعة فلا يجد إلا ثلاثة أشخاص فلا يرهب منهم شيئا وينزل إلى ابن عمار فيستقبله خارج القلعة ويأخذ بيده ليعود به إليها، فإذا بالجنديين يطعنان الرجل طعنا متلاحقا دراكا فيسقط في مكانه وقد فارق الحياة، ويرى جنود القلعة ما حدث لقائدهم فتملك الخشية نفوسهم ويستسلمون، ويعود ابن عمار وقد نجحت حيلته ويستقبله المؤتمن والفرح يغمره فيذكر ابن عمار كيف كان يستقبله المعتمد حين كان يعود إليه بعد أن يوقع أعداءه في الأشراك فتدمع عيناه ولكن لات حين ...
وثق المؤتمن في ابن عمار بعد حيلته تلك، وكان المؤتمن يفكر أن يحقق أمنية أبيه فيستولي على قلعة «شقورة» وهي قلعة حصينة لا تتبع لسرقسطة وإن كانت قريبة منها، فطلب إلى ابن عمار أن يستولى عليها بنفس الطريقة التي استولى بها على القلعة المتمردة. ولم يكن ابن عمار يدري أن أهل هذه القلعة قوم أذاقهم هو مر العذاب في مرسية، ولم يكن يدري أن الطريق إليها وعر لا يستوي ولا يعتدل، ولكنه كان يدري أنه يريد أن يعمل وكان يدري أنه لا يطيق الخمول.
تزعم ابن عمار بضعة من الفرسان وكما فعل في المرة الأولى فعل في هذه المرة فأمر الجنود بالاختفاء واصطحب اثنين وعمد إلى القلعة لا يريم، ونادى ابن عمار فلم يجبه أحد فاقترب ونادى فلم يجبه أحد حتى أصبح ملتصقا بجدران القلعة، فإذا حبل قد أحاط بوسطه وإذا هو معلق في الهواء صاعدا إلى أعلى لا يدري من يجتذبه حتى بلغ نافذة للقلعة فأدخل منها وألقي إلى الأرض ثم عاجله القوم بالقيود فأحاطوا بها معاصمه وأقدامه.
وقع ابن عمار أسيرا في يد أعدائه وحاول من معه أن ينقذوه فحين رأوا مناعة القلعة أصبح كل همهم أن ينقلبوا إلى ذويهم سالمين فانقلبوا.
ماذا يفعل صاحب القلعة بابن عمار؟ إنه يدخل عليه فيجبهه. - ألم تر إلى نهايتك يا رجل الجزيرة؟ ماذا تريدني أن أفعل بك؟ لست من أهل السراء حتى أصطنعك لتقول في شعر المديح، ولست ذا ملك حتى أجعلك وزيرا. نعم إنك وزير حصيف، لا شك أنك بضاعة رائجة يا ابن عمار، سأعرضك في سوق الملوك فمن يغلي الثمن كنت له.
فيجيبه ابن عمار والغضب آخذ منه كل مأخذ: ألا والله ما نلتني إلا بالختل القذر، ولا والله ما كنت لأمدح مثلك وإن كنت أكبر الملوك. - أتتحدث عن الختل يا ابن عمار؟ يا لك من جريء وقح! على أنني لن أقتلك كما فعلت أنت بصاحب القلعة، بل أنا سأبيعك يا أخي إلى الملوك؛ لتعود وزيرا كما كنت، ألا تشكرني إذن؟ وخرج الرجل وترك ابن عمار.
لم تكن إجابة ابن عمار الجريئة عن شجاعة خالصة، بل إنه أدرك أن الرجل يجد فيه بضاعة رائجة، فأدرك أنه لن يمسه بسوء حتى يتمكن من بيعه بثمن كبير.
بقي ابن عمار في سجنه وانسابت إلى ذهنه الذكريات وتطلع إلى القابل من الأيام فوجد نفسه يعود إلى أسوأ مما كان في شلب يوم عاد إليها على الحمار؛ فهو اليوم يباع كعبد رقيق وهو لم يكن عبدا في يوم من الأيام، نعم كان عبدا للتملق والخداع، كان عبدا لرغباته ومطامحه، كان عبدا للمديح الذي أحاط به ولكنه لم يكن عبدا في سوق الرقيق فهو يقول دون أن يفارقه كبره:
أصبحت في السوق ينادى على
رأسي بأنواع من المال
والله ما جار على ماله
من ضمني بالثمن الغالي
ثم ينظر حوله فيجد حجرته في قلعة شقورة تلك صغيرة، ويجد القيد في يديه وقدميه فتدمع عينه وينتظم البيتان في ذهنه:
بؤسى شقورة عندي
أربى على كل بوسى
1
فقدت هارون فيها
وظلت أطلب موسى
2
سحيق الهاوية
ابن عمار في السوق سلعة لمن يغلي الثمن والمعتمد ممن عرض عليهم الشراء فمن يشتري ويغلي ثم يغلي إذا لم يكن المعتمد؟
إنه يشتري صداقة خمسة وعشرين عاما، إنه يشتري شبابه جميعا، شباب أمير شاعر ملك، إنه يشتري نفسه في أمتع فترات نفسه، وماذا للشاعر الشيخ غير شبابه وشعر شبابه؟ إن كل لحظة من شبابه لم يدر بها الفلك إلا وابن عمار قطب فيها، لماذا لا يغلي المعتمد؟ إنه يشتري في ابن عمار مرآة أنضر ملاوة
1
من حياته.
ثم يشتري من بعد أبغض فترة في حياته، يشتري الصداقة الخائنة، يشتري العهد المضاع، يشتري الأخوة الخادعة، يشتري من هدم الصروح الشوامخ من ثقته وحبه ووفائه، يشتري ذلك الذي سود الدنيا في عينيه؛ فبعد أن كانت إشراقة حب وضياء ووفاء أصبحت ظلام خيانة وليل خداع.
اشتراه المعتمد إذن وأرسل بابنه الراضي ليأتي به، وأوصى ابنه أن يحذر من خداعه، وأن يكثر عليه الأحراس.
وأخذ الراضي صديق أبيه وسار الركب حتى بدت طوالع قرطبة، فتذكر ابن عمار وما كان بحاجة إلى قرطبة ليتذكر فهو لا ينسى أبدا، لا ينسى كيف فتح قرطبة هذه في أول عهد المعتمد، ولا ينسى كيف كان يدخل قرطبة بعد ذاك تحف به المواكب الضخام وترنو إليه العيون، والسعيد السعيد من يلمس حوافر خيله والسعيد الأسعد من يلم طرف ردائه، لا ينسى ابن عمار، لا ينسى.
وبلغت طوالع موكب الأسير ظاهر قرطبة فإذا هناك حشد كبير، لم يجتمع لتحية ابن عمار، ولم يجتمع لإكرامه، وإنما جاء يشهد القمة تنحط إلى الهاوية، والمجد ينحدر إلى الحضيض.
والناس للدنيا تبع
ولمن تحالفه شيع
ونزل ابن عمار من فوق الحصان الذي كان يمتطيه ومشى إلى حيث يمشون به، يا لسخرية الأقدار! إنه سيركب حمارا، حمارا مرة أخرى. نظر ابن عمار إلى الحمار فلم يتمالك نفسه من الضحك رغم هذا الضنك الذي يحيط به، حمار؟ أبعد كل هذا السفر الطويل في مدارج المجد وعليا المراتب يعود إلى الحمار؟ ويح الأقدار! بل إن الحمار ليشبه ذلك الذي سرق أو انسل في إشبيلية عند قصر المعتضد، إنه ليكاد أن يكون هو نفسه يحمل خرجا كذلك الذي كان يحمله حمار، بل إنه ليكاد أن يكون نفس الخرج وإن كانت جنباته قد ملئت اليوم تبنا بدلا من تلك الكسرات التي كانت فيها، عود على بدئه يرجع، بل إلى شر من بدئه. لا بأس إذن فمن على ظهر الحمار صعد إلى القمة فعلى ظهر الحمار ينحدر إلى الهاوية.
لقد كان المعتمد هو الذي مهد سلم المجد لابن عمار فصعد وهو هو نفسه من يمهد له الطريق إلى الهاوية، هو الذي أوصله وها هو ذا يعيده، وعلى الحمار يعود.
ركب ابن عمار الحمار وهم بمسير ولكنه رأى عن بعد رجلا يركب حصانا يعدو إليه ناهبا الطريق نهبا، فسارع ابن عمار ومد يده إلى عمامته ورفعها عن رأسه وألقى بها إلى الأرض وكان راكب الحصان قد وصل فوقف حائرا لا يدري ماذا يفعل، فسأل ابن عمار واحد ممن يحيطون به: ماذا فعلت حتى جعلت الرجل يقف باهتا؟
فقال ابن عمار: لقد كان هذا الراكب قادما من عند المعتمد ليرفع عمامتي من على رأسي ويلقي بها إلى الأرض إمعانا في تحقيري والنيل مني فسبقته إلى ما يريد أن يفعله فبهت كما ترى.
ونظر السائل إلى راكب الحصان فإذا هو يؤيد ابن عمار فيما قال معجبا من ذكاء الوزير ودهائه، وهكذا لم تتخل الومضة النافذة عن ابن عمار حتى وهو في أحلك أوقات حياته.
سار موكب الخزي يطوف بأنحاء قرطبة، فلم يبق من أحد فيها إلا وقد رأى ابن عمار على مطيته الجديدة القديمة إلا المعتمد الذي كان في قرطبة وأبى أن يرى ابن عمار.
نعم، ابن عمار الذي كان كل ما يخشاه أن يبعد عنه لحظة من زمن، هو نفسه من يأبى رؤيته اليوم، بل يأمر المعتمد أن يسير الركب إلى إشبيلية فيدخلها ابن عمار كما دخل قرطبة ثم يلقى به في السجن، فكان ما أمر به المعتمد واستقر ابن عمار في السجن.
ومن هناك أخذ ابن عمار يستشفع بكل ذي أكرومة أن يطلب الصفح من المعتمد والمعتمد يزجر كل محاول فتتكسر على أبوابه الشفاعات حتى إذا ضاق بكثرتها نادى ابن عمار وذكره، ذكره المعتمد بملابسه القذرة التي دخل بها القصر، وذكره بليلته الأولى بين شعراء القصر، ذكره بنفسه وزيرا في شلب، ثم أميرا لشلب ثم قائدا للجيش، ثم ملكا أو شبه ملك لمرسية، ذكره فما ألفاه ناسيا، ثم ذكره بخروجه عليه في مرسية، وذكره بقصيدته التي هجاه فيها، ذكره فلم يلفه ناسيا، فهب المعتمد في وجهه: فماذا تريد إذن؟ لقد أفقدتني شبابي وهيهات أن يعود، ألا لعن الله يوما عرفتك فيه، إذن لأبقيت لنفسي ذكرياتي نقية منك.
وعاد ابن عمار إلى السجن وأخذ يكتب إلى أصحابه أن يعاودوا الشفاعة، وهو يكتب إلى أصدقائه، ينظم أنته شعرا عساها أن تريح بعضا مما يجد فيقول لأحدهم:
أدرك أخاك ولو بقافية
كالظل يوقظ نائم الزهر
فلقد تقاذفت الركاب به
في غير موماة ولا بحر
طاحت صحابته بلا سنة
وتساقطوا سكرا بلا خمر
بمعارج أدت إلى جرد
حتى من الأنواء والقطر
عال كأن الجن إذ مردت
جعلته مرقاة إلى النسر
وحش تناكدت الوجوه له
حتى استربت بصفحة البدر
متحير سال الوقار على
عطفيه من كبر ومن كبر
ملكت عنان الريح راحته
فجيادها من تحتها تجري
مأوى العزيز وقد نصحت فإن
يهمل فقد أبليت في العذر
واصلت خدمة قاطع سببي
وأطعت أمر مضيع أمري
دع ذا وصلنا غير مؤتمر
مستأثر بالحمد والشكر
وهكذا يبلغ البؤس بابن عمار حتى إنه ليبحث عمن يحادثه أي حديث ولو كان هذا الحديث مكتوبا.
ويلح ابن عمار في رجائه ويرسل به إلى شتى الناس فيضيق المعتمد بكثرة الشفعاء فيه فيأمر أن تمنع عنه الأوراق فتمنع، ثم يزيد المعتمد قسوة عليه فيخرجه في الحفلات التي كانت تقام في القصر ويجعل منه سخرية للجواري والخدم فيبصقون في وجهه ويفتنون في اهانته وابن عمار صامت ذاهل لا يدري أفي حلم بشع هو، أم في حقيقة ملموسة؟ هذه الطنافس، هذه المقاعد، تلك البسط، هاته الثريات، هذه الأقداح، هؤلاء السقاة، أولئكن النسوة، إنه يعرف جميع هذا، ويعرف أنه كان ريحانة هذا المكان، أهكذا يفعل الدهر بأعدائه؟ ويل لأعداء الدهر! ويعود ابن عمار إلى سجنه شر ما يعود عائد إلى السجن.
وفي يوم يطلب ابن عمار ورقا ويلح في الرجاء ويسأل الخدم المعتمد فيأذن في ورقتين لا تزيدان ورقة، ويأخذهما ابن عمار ثم ينشئ قصيدته الخالدة:
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح
وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية
فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
حنانيك في أخذي برأيك لا تطع
عداتي وإن أثنوا علي وأفصحوا
2
وماذا عسى الأعداء أن يتزايدوا
سوى أن ذنبي واضح متصحح
نعم لي ذنب! غير أن لحلمه
صفاة يزل الذنب عنها فيصفح
وإن رجائي أن عندك غير ما
يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح
ولم لا وقد أسلفت ودا وخدمة
يكران في ليل الخطايا فيصبح
وهبني قد أعقبت أعمال مفسد
أما تفسد الأعمال ثمت تصلح
أقلني بما بيني وبينك من رضا
له نحو روح الله باب مفتح
وعف على آثار جرم جنيته
بهبة رحمى منك تمحو وتصفح
ولا تلتفت رأي الوشاة وقولهم
فكل إناء بالذي فيه يرشح
وما ذاك إلا ما علمت فإنني
إذا ثبت لا أنفك آسو وأجرح
وقالوا سيجزيه فلان بفعله
فقلت وقد يعفو فلان ويصفح
ألا إن بطشا للمؤيد يتقى
ولكن حلما للمؤيد أرجح
وبين ضلوعي من هواه تميمة
ستنفع لو أن الحمام مجلح
3
سلام عليه كيف دار به الهوى
إلي فيدنو أو علي فينزح
ويهنيه إن مت السلو فإنني
أموت ولي شوق إليه مبرح
ويرسل ابن عمار بخالدته إلى المعتمد فيقرؤها فيطرب، ثم ينشدها على الجالسين مترنما وقد هملت عبراته وكان بين السامعين أبو الوليد ابن زيدون فحاول جهده أن يجد لنفسه مأخذا إلى القصيدة فتأبت عليه ولكنه استطاع آخر الأمر أن يقول: ما أتفه قول الخائن:
وبين ضلوعي من هواه تميمة
ستنفع لو أن الحمام يجلح
وما يهمنا نحن بما بين ضلوعه؟ ولماذا لم يرع لهذه التميمة حرمة ولكن المعتمد عاجله: بل إنه والله لم يفقد الذكاء وحسن الإشارة، إنه ابن عمار وإن خان، لقد قصد إلى بيت الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وهكذا استعصت القصيدة حتى عن ذم الكارهين، وحركت في نفس المعتمد ذكريات قديمة، وكان قد تهيأ لجلسة خمر فأرسل إلى ابن عمار أن يأتي وطلب ممن أرسله ألا يراه أحد وهو قادم بابن عمار، وأخلى المعتمد القاعة وانفض القوم وهم لا يعلمون بما أسره للخادم، ويجيء الصديق الشاعر ويجلس إلى المعتمد ويتذاكران ويتناشدان حتى لتكاد النفوس أن تصفو ويشرق الصباح فيقول المعتمد لابن عمار: إياك، إياك ابن عمار أن تقول لأحد عن جلستنا تلك، إياك ابن عمار وإلا ...
ولا يكمل فقد كان ابن عمار يعرف تماما ما بعدها، وينصرف المعتمد إلى جناح نومه ويعاد ابن عمار إلى السجن والفرحة تكاد تنفجر من فؤاده فلا يملك نفسه أن يمسك الورقة الثانية الباقية لديه، ويكتب إلى الراضي بن المعتمد يخبره أن أباه قد صفح.
وتصل الورقة إلى الراضي وهو جالس بين صحاب فيهم من يبغض ابن عمار ويحقد عليه ولا يكتم الراضي ما جاء به الخطاب بل هو يذيعه.
ويصحو المعتمد فإذا سر الأمس هو حديث اليوم فيذهب إلى ابن عمار في سجنه: أأذعت ما حذرتك أن تذيع؟ - بل لا و... - وحقي. - ... وحقك. - إذن فأين الورقة الثانية. - أي ورقة؟ - لقد أرسلت إليك ورقتين كتبت في إحداهما القصيدة فأين الثانية؟ - لقد ... لقد ... لقد سودت بها القصيدة. - فهات التسويدة.
وتنغلق الطرق على ابن عمار، فيبلغ الغيظ أقصاه بالمعتمد، فيمسك بقطعة من حديد ذات مقبض كان قد أعدها، ويهوي بها على رأس ابن عمار، ثم لا يزال يضرب ويضرب حتى يموت ابن عمار بيد المعتمد، بيد صداقة خمسة وعشرين عاما، بيد المجد الذي اقتعده، بيد القمة التي ساورها.
Unknown page