96

أما الشيطان الذي يلي شخصية إبليس في الفردوس المفقود، فهو شيطان رواية فاوست التي ألفها شاعر الألمان الأكبر جيتي (1749-1832)، وجعل فيها للشيطان مفستوفليس دورا بين الأرض والسماء، وبين الخالق والمخلوقات، غير الدور الذي تقدم في رواية مارلو؛ فإن مفستوفليس في رواية جيتي هو بعلزبوب نفسه، وليس زميلا أو تلميذا من تلاميذه، ودوره في هذه الرواية يعم ظواهر الوجود كله، ولا تحده المهمة التي يندبه لها فاوست وأمثاله.

وهو يصف نفسه مرة بأنه «جزء من القوة التي امتزجت بالسوء قديما، ولكنها لا تفتأ تصنع الخير».

ويصف نفسه مرة أخرى بأنه القوة النافية التي تقول «لا» أمام كل إيجاب.

ويوصف في جميع الأحوال كأنه المفسد الذي يتخلل مفاتيح المعزف بالزوائد والعوائق كلما انتظمت عليها نغمة من نغمات النظام.

ويقول مفستوفليس للدكتور فاوست: إن الوجود كله عبث، وإنه كان من الخير ألا يوجد، فيقول فاوست: والآن علمت ما تريد ... إنك لم تستطع أن تعدمه جملة، فأنت تشيع العدم فيه بالتجزئة، أو تبيعه بالمفرق!

وقد وضعت قصة فاوست على غرار قصة أيوب في العهد القديم، وظهر الشيطان في أولها يقول لله: إنك خلقت العقل للإنسان لتميزه على البهائم، ولكنه يستخدمه ليصبح دونها في الشر والجهالة، وإنني لا أبالي أن أشقي بني آدم؛ فإنهم متكفلون دوني بإشقاء أنفسهم، ثم يقع الرهان على روح العالم فاوست الذي يئس من البحث والعلم، وآب إلى البؤسى التي لم يستطعم معها مذاقا للحياة، فيتفق الشيطان والعالم على شروط كالشروط التي تقدمت في رواية مارلو، ويأخذه الشيطان إلى وكر الساحرة لتعيده بإشرافه - أي إشراف الشيطان - إلى الشباب، فيعاف العالم ذلك الوكر ويسأل مفستوفليس: أما من وسيلة غير هذا السحر القبيح لتجديد الشباب؟ فيجيبه مفستوفليس: بلى! هناك وسيلة أهديك إليها؛ تذهب إلى الغيط وتحرث وتكرث، وتأكل اللقمة التي تجدها، وتحصر الحياة في أضيق حدودها، وتأتي عليك الثمانون وأنت في غرارة الشباب.

قال فاوست: لست بهذا ... قال مفستوفليس: إذن لا مناص من السحر والساحرة، وسأله فاوست: ولم الساحرة؟ فأجابه الشيطان: إنها صناعة صبر طويل لا أطيقه، ولا بد لكل صناعة من أحكام.

وتبدأ الغواية برؤية الفتاة مرجريت عائدة من كرسي الاعتراف، فيشتهيها فاوست، ويروضها له الشيطان، ويتواعدان على اللقاء بعد أن تنام أمها بجرعة مخدرة، فتموت الأم بالجرعة، وتحمل مرجريت ثم تلد فتقتل وليدها، وفي خلال ذلك يأتي أخوها الجندي فيطلع على سر هذه الفاجعة، ويذهب إلى فاوست ليقتله، فيقتله فاوست في مبارزة بينهما، ثم يغلبه الحنين فيعود إلى مرجريت، ويعلم أنها سجينة، وييسر لها وسائل الخلاص من السجن فتأبى، وتتقبل العقوبة المنتظرة للتكفير عن جريمتها، ثم تصعد روحها إلى السماء فيقول القائلون: لقد هلكت، وتهتف الملائكة: لقد نجت بإذن الله!

ويمضي فاوست في تجربة أخرى غير تجربة العشق والغواية، فيرتفع في عيني الملك، وينال ما يرضيه من السلطان بالحظوة لديه، ويطمعه الشيطان في المزيد من الجاه والملك، فيعاوده الحنين إلى العشق وغواياته، ويسوم شيطانه هذه المرة أن يبعث له الفاتنة «هيلينا» من الأموات، فيبعثها ويأتي بها إليه، ولكنها تراوغه إذ يضمها إلى ذراعيه، فلا يجد منها غير جلبابها في يديه!

وكان فاوست بعد مصرع مرجريت قد آلى على نفسه ليذوقن كل ألم يبتلى به بنو آدم لينسى جنايته على الفتاة البريئة، وعلى أمها وأخيها، ويخشى الشيطان عاقبة هذا الندم فيشغله عنه بدسائس القصر وضجته، ويوشك أن ينسيه الندم لولا سآمة ترين على صدر العالم الحكيم فيزهد في كل ما احتواه، ويربأ بعقله وحكمته عن هذه الصغائر التي تلهيه ويسأل: أين هي السعادة؟ فيعلم أنه لم يجدها قط في لهوه الأول، ولا في لهوه الأخير، ثم يلوح له أن يستخدم علمه في تعمير الخراب، وإصلاح البوار، ومعونة الضعفاء، وإنه لكذلك إذ تحين ساعته وتخرج روحه، فيهم الشيطان بقبضها للهبوط بها إلى الجحيم، وتتنزل الملائكة من السماء فتنازعه عليها وتقول له: إنه قد خسر الرهان؛ لأن فاوست على ما اقترف من جريمة ورذيلة قد عاش وهو يتجه بعينيه إلى النور، ومات وهو متجه إليه. •••

Unknown page