76

إلى أن يقول: «وثاني الشيئين المذكورين إثبات القوابل السفلية الأرضية؛ لأنهم قالوا: إن حصول الفاعل المؤثر لا يكفي وحده في حصول الأثر، بل لا بد معه من حصول القابل، ولا يكفي أيضا حصول القابل وحده، بل لا بد مع وجوده من كون الشرائط المعتبرة للقبول حاصلة والموانع زائلة؛ لأنه ربما حدث في العالم الأعلى شكل غريب صالح لإفادة آثار غريبة في مادة العالم الأسفل، فلا تكون المادة السفلية متهيئة لقبول تلك الآثار لعدم الشرط أو لوجود المانع ... فعلى هذا لو تيسرت لنا معرفة طبيعة ذلك الشكل، ومعرفة طبيعة الأمور المعتبرة في كون المادة السفلية قابلة لذلك الأثر؛ لكان يمكننا أن نهيئ تلك المادة لقبول ذلك الأثر ...»

وعلى هذا التأويل بقي سحر التنجيم بعيدا من شبهة الاتهام بطاعة الشيطان بين أهل المشرق والمغرب، حتى ظهر في كليهما من يلحقه بالوسائل الشيطانية، ويعتبر السحرة تلاميذ للشيطان في هذه الصناعة؛ لقدرته على الصعود والهبوط بين الأفلاك والعوالم السفلية، وعرفانه بخفايا العوالم السفلية ونزعاتها، وتهيؤ أحوالها للتأثر والانفعال بما فوقها.

وقد أورد صاحب الكتاب المقدم أقوالا مختلفة في التعريف بما سماه علم السحر فقال: «... اعلم أنهم اختلفوا في تعريفه لاختلاف المذاهب فيه، فعرفه صاحب (إرشاد القاصد) بأنه: علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية، وعرفه ابن العربي الفقيه المالكي بأنه: كلام مؤلف يعظم فيه غير الله عز وجل، وتنسب إليه الكائنات والمقادير، وبعضهم عرفه بأنه: ما يغير الطبع ويقلب الشيء عن حقيقته، ومنفعته عند الإسلاميين أن يعرف ليحذر منه لا ليعمل به، ولا نزاع في تحريم العمل به بتا.

وأما مجرد تعلمه ففيه خلاف بين الأئمة؛ فبعضهم منعوه وحرموه حسما للباب كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم أباحوه، وأغرب بعض النظار حيث عدوه من فروض الكفايات؛ لجواز ظهور ساحر يدعي النبوة فيكون في الأمة من يكشفه ويقطعه. وقد حكاه ابن صاعد في إرشاد القاصد. ولتعلمه فائدة أخرى وهي أن يعرف منه ما يقتل ، فيقتل فاعله به قصاصا عند من يقول بذلك.»

ثم مضى المؤلف يذكر أقسامه فقال: «إنه حقيقي وغير حقيقي، وإن الطرق فيه اختلفت على أربعة مذاهب؛ أحدها: طريقة تصفية النفس وتعليق الوهم، وهي طريقة أهل الهند؛ لأنهم يعتقدون أن تلك الآثار السحرية إنما تصدر عن النفس الناطقة، ولذلك يلازمون الرياضات الشاقة حتى تصفو نفوسهم، وتتجرد عن جميع الشواغل البدنية بحسب الطاقة البشرية. وهذا المذهب مبني على ثبوت التأثير لتوجيه النفس وتعليق الوهم.

والمذهب الثاني من المذاهب الأربعة التي للسحر طريقة النبط، وهي عمل أشياء مناسبة للغرض المطلوب مضافة إلى رقية ودخنة بعزيمة نافذة في وقت مختار، وتلك الأشياء تارة تكون تماثيل كالطلسمات، وتارة تصاوير ونقوشا كالتعاويذ، وتارة عقدا تعقد وينفث فيها، وتارة كتبا تكتب وتدفن في الأرض، أو تطرح في الماء، أو تعلق في الهواء، أو تحرق بالنار، وتلك الرقية التي يرقي بها تضرع إلى الكوكب الفاعل للغرض المطلوب على زعمهم، وتلك الدخنة منسوبة لتلك الكواكب لاعتقادهم أن هذه الآثار إنما تصدر عن أجرام الكواكب. وكتاب (سحر النبط) - نقل ابن وحشية - يشتمل على تفاصيل تلك الطريقة.

والمذهب الثالث من المذاهب الأربعة السحرية مذهب اليونانيين المتقدمين، وهو تسخير روحانية الكواكب والأفلاك، واستنزال قواها بالوقوف والتضرع إليها؛ لاعتقادهم أن هذه الآثار إنما تصدر عن روحانية الأفلاك والكواكب لا عن أجرامها. وهذا هو الفرق بينهم وبين الصابئة أهل المذهب الثاني وأهل الطلسمات. والمذهب الرابع من المذاهب الأربعة السحرية مذهب العبرانيين والقبط والعرب، وهو الاعتماد على ذكر أسماء مجهولة المعاني كأنها أقسام وعزائم بترتيب خاص، كأنهم يخاطبون بها حاضرا؛ لاعتقادهم أن هذه الآثار إنما تصدر عن الجن، ويدعون في تلك الأقسام أنها تسخر ملائكة قاهرة للجن.»

وقد أورد «الأوغنستاني» في «رسالة اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان» أمثلة في الآيات، وجملة أعدادها بحروف الجمل، وتقسيمات هذه الآيات والأعداد إلى جداول مناسبة لدعوة الملائكة الذين يسخرون الجان؛ ليعود هؤلاء فيسخروا الطبيعة والناس، في زعم أصحاب هذه الأرصاد. •••

والمفهوم من مؤلفات الأوروبيين في السحر والطلاسم أنهم نقلوا جميع هذه النفسيات، واقتدوا بالشرقيين في الحكم عليها من الوجهة الدينية، واتخذوا من عطارد كوكبا راعيا للسحر كأنه خليط من الرب اليوناني القديم والشيطان، وجعلوه وليا للشطار والخبثاء وأدعياء النظم، وأصحاب الخداع باللسن والخطابة، وانتهى بهم الأمر إلى تحريم هذه المعارف السحرية جميعا، وتقسيم المعارف كافة إلى قسمين؛ قسم حلال: وهو ما يشتغل به رجال الدين برخصة من الرؤساء، وقسم حرام: وهو كل ما عداه بلا استثناء لمذاهب الفلسفة وتجارب العلوم الحديثة.

فدخل في عداد المعارف الشيطانية والسحر الممنوع كل علم يتولاه أناس من غير رجال الدين، ولم يستثن - كذلك - كل سحر يزعم أصحابه أنه من العزائم التي يستعينون فيها بالملائكة، فقد شاع في تلك القرون أن الشيطان يتشكل بأشكال الملائكة والأرواح العلوية، كما قال بولس الرسول في رسالة كورنثوس الثانية: «لأن هؤلاء هم رسل كذبة فعلة، ماكرون، مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك النور، فليس عظيما أن كل خدامه يغيرون شكلهم كخدام للبر.»

Unknown page