فتنكر شاول ولبس ثيابا أخرى، وذهب هو ورجلان معه وجاءوا إلى المرأة ليلا، وقال لها: اعرفي لي بالجان، وأصعدي لي من أقول لك، فقالت له المرأة: هو ذا أنت تعلم ما فعل شاول؛ كيف قطع أصحاب الجان والتوابع من الأرض، فما بالك تضع شركا لنفسي تريد لها الموت؟! فحلف لها شاول بالإله الحي لا يلحقنها إثم من هذا الأمر، فسألته المرأة: من أصعد لك؟ فقال: أصعدي لي صمويل، فلما رأت المرأة صمويل صرخت بصوت عظيم وقالت لشاول: لماذا خدعتني وأنكرت نفسك؟ قال لها الملك: لا تخافي. ماذا رأيت؟
فقالت المرأة: رأيت آلهة يصعدون من الأرض، ثم قالت: رجل شيخ صاعد مغطى بجبة، فعلم شاول أنه صمويل فخر ساجدا على وجهه، وقال صمويل لشاول: لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟ قال شاول: قد ضاق بي الأمر غاية الضيق؛ إن الفلسطينيين يحاربونني والرب يتخلى عني، ولم يعد يجيبني لا بالأنبياء ولا بالأحلام، ودعوتك لتعلمني ماذا أصنع؟
فقال صمويل: ولماذا تسألني وقد تخلى عنك الرب وعاداك؟ لقد فعل الرب لنفسه ما أنبأني به وتكلم به على يدي، وقد شق الرب المملكة وأعطاها لقريبك داود لأنك لم تسمع لصوت الرب، ولم تنفذ غضبه في عماليق، فهو صانع لك ما صنعه اليوم، وغدا يدفع بك وبإسرائيل إلى أيدي الفلسطينيين، وغدا تلحق بي أنت وبنوك، ويدفع الرب إلى الفلسطينيين جيش إسرائيل ، فسقط شاول على الأرض وغشيه الوجل من قول صمويل، ولم تكن له قوة لأنه لم يذق طعاما نهاره كله وليله.
ثم جاءت المرأة إلى شاول ورأته مرتاعا فقالت له: لقد صدعت جاريتك بأمرك، ووضعت نفسها في كفها تلبية لكلامك، والآن تسمع أنت لصوت جاريتك وتأكل من هذا الخبز الذي أضعه أمامك. كل فتكون لك قوى على المسير في الطريق، فأبى أن يأكل، وألح عليه عبداه والمرأة فاستجاب لهم وقام من الأرض وقعد على السرير، وكان للمرأة عجل مسمن في البيت فأسرعت وذبحته، وأخذت دقيقا وعجنته، وخبزت منه فطيرا وقدمته أمام شاول وعبديه، فأكلوا وذهبوا ...»
هذه القصة كنز من كنوز البحث في مقارنة الأديان، يندر العثور على قصة مثلها فيما احتوته من شواهد المرحلة التي يبدأ فيها التمييز بين الخير والشر، والثواب والعقاب، والأمانة الدينية والكهانة السحرية، دون أن ينتهي التمييز إلى حدوده الواضحة.
فها هنا تمييز بين من يختاره الله ومن يغضب عليه؛ كالتمييز بين مقام صمويل ومقام شاول، ولكنه يجمع بين الاثنين في مكان واحد بعد الموت، فيذهب شاول إلى حيث يلحق بصمويل.
وها هنا تمييز بين الإمامة الدينية وبين السحر، ولكن السحر تنسب إليه القدرة على تحضير روح النبي بغير مشيئته.
وها هنا تمييز بين السحر الصالح والسحر الخبيث أو السحر الأسود، ولكن الساحر يستعين بالجان كما يستعين بأرواح الموتى، ولا يقال عن الجان إنهم من أعوان الخير أو من أعوان الشر؛ لأنهم في خدمة شاول وهو مغضوب عليه.
وها هنا استطلاع للغيب يطلب من النبوة، كما يطلب من القرعة، أو يطلب من صاحبات الجان والأرواح.
غير أن العبريين لم يسبقوا غيرهم في مراحل كثيرة من أطوار المسائل الغيبية والعبادات، فمن قبل هذه المرحلة تميز السحر في الحضارة القديمة، فانقسم إلى السحر الأبيض والسحر الأسود، وإلى عمل الحكمة والمعرفة وعمل الخبث والدنس، وجاء عصر السيد المسيح وقد عرف السحران بوظيفتين وقيمتين وأثرين مختلفين، فتكلمت الأناجيل عن حكماء المجوس الذين رصدوا الكوكب، وعرفوا منه مولد السيد المسيح في مهده . وظل هذا السحر وغيره من ضروب السحر الممنوع مختلفين بالاسم والعمل، فيما نقله الغربيون من حكمة المشرق وثقافته، وظلت بقاياه إلى اليوم.
Unknown page