وكل جماعة «سرية» ظهرت في القرون الوسطى فهي على صلة بطائفة من تلك الطوائف، ومنها الجماعة التي سميت باسم الهيكليين والحبليين، وكان هؤلاء يتقلدون حبلا قصيرا، ويلبسون قميصا يسمونه الكميسية “Camisia” . ويقال: إنهم نقلوا الاسم من جزيرة مالطة التي كانت معقلا للهيكليين، وكانت الكلمات العربية شائعة في لغتها منذ القرون الوسطى، ولا تزال كذلك إلى اليوم.
والعقيدة الغالبة بين هذه الطوائف، على تنوع مذاهبها، هي سيادة سلطان الشر على العالم الأرضي خاصة، وتنازع الكون بين القوة العليا والقوة السفلى، وضرورة «التفاهم» مع الشيطان في أمور هذه الدنيا، أو ضرورة هذا التفاهم في كل أمر من الأمور؛ لأن إله الخير على قوته وحكمته قد نفض يديه من دنيا بني آدم؛ لاعوجاجهم ودخيلة السوء في طباعهم باختيارهم لا بدسيسة عليهم من قبل الشيطان.
وقد بقيت على هذا المعتقد طائفة كبيرة من الأوروبيين الغربيين، وسيق ثلاثة وستون رجلا وامرأة إلى محكمة التفتيش في طولوز (يونية سنة 1335)، فقالت إحداهن آن ماري جيورجل: «إن الله ملك السماء، والشيطان ملك الأرض، وهما ندان متساويان سرمديان يتساجلان النصر والهزيمة، وينفرد الشيطان بالنصر البين في العصر الحاضر».
1
وينقل رودس، صاحب كتاب القداس الشيطاني، نبذا من تاريخ فرنسا للمؤرخ الكبير ميشليه “Michelet” ، يفهم منها أن هذه العبادات قد امتزجت زمنا بالثورة الاجتماعية وانحلال الأخلاق وفتور الإيمان بالدين، فقد كان القداس الأسود صلاة إلى الشيطان ينادونه فيها باسم رئيس العبيد، وتقوم فيها بوظيفة الكهانة فتاة عارية تمعن في الرقص حتى يأخذها الدوار، ثم يتصدى من الجمع أحد الرجال المندوبين للعبادة، فيتمم الصلاة باتخاذ دور الشيطان، واعتبار الفتاة محرابا حيا للمعبود.
2
وعاشت هذه النحل الشيطانية حقبة طويلة، لا شك أنها كانت أطول مما يتاح لها لو لم يكن لها سند من الحوادث غير مزاياها الخلقية أو الوجدانية، ولكنها استفادت من تنازع الكنائس، وانحلال الدولة الرومانية، وغارات الهمج وما اقترنت به من السبي والسلب والإباحة، واستفادت من مظالم المجتمع وجهالة المؤمنين بالسحر وسلطان الشيطان على المقادير الأرضية.
فلما استقرت المسيحية، وشاع الخوف والحذر من الجماعات المتسترة لاشتباك الخصومات السياسية، واتهام كل فريق من عداه باستخدام تلك الجماعات في محاربته والدس عليه، تألبت القوى على جميع تلك النحل، وأخذتها الكنيسة والدولة معا بالقمع الشديد والرقابة المتلاحقة، فلم تبق لها بقية بعد القرن السابع عشر إلا إذا صحت الإشاعات عن قصة النحلة الشيطانية التي كانت تستتر باسم الماسون، فيما رواه الصحفي الفرنسي جوكاند “Jogand” ، وأثار حوله حملته التي سماها الشيطان في القرن التاسع عشر، ولم تقم عليها البينة القاطعة بعد البحث في أسانيدها ودعاواها.
أما النحلة التي ينسبونها إلى الشيطان ولا تزال لها بقية في العصر الحاضر، فهي النحلة اليزيدية التي تقيم في شمال العراق، وينتمي أبناؤها جميعا إلى الكرد، ولا يعرف أحد على التحقيق سبب تسميتهم باليزيدية، ولا يعول على أقوال أحد من علمائهم أو جهلائهم؛ لأنهم يحرمون التعليم على عامتهم، ويجعلونه وقفا على أسرة منهم تتولى الكهانة وأمانة الأسرار في هذه الديانة، فمن كان منهم عالما بتلك الأسرار فهو لا يبوح بها، ومن كان من جهلائهم وعامتهم، فهو يتلقى ما يسمعه ويؤذن له بعلمه، وجميعهم مع ذلك يتوارثون التقاليد، ولا يفقهون خباياها، سواء منهم من أباحوا له العلم أو حرموه عليه.
ويرجع بعض الباحثين بالاسم إلى يزيد بن معاوية، ويرجع آخرون به إلى مدينة يزد الفارسية، ويرجع به غيرهم إلى اسم يزدان الإله الأقدم في الملة المجوسية، وغير بعيد أن يكون الاسم منسوبا إلى يزيد الخليفة الأموي؛ لأن النزاع بين الكرد والفرس قد فرق بين عصبياتهم في السياسة وفي الدين، فكان الكرد من غلاة السنيين، وكان الفرس من غلاة الشيعة، وربما كانت الطائفة الكردية التي تؤله «يزيد» في صورة الإله الأرضي مقابلة للطائفة الفارسية التي عرفت باسم «علي إلهي»؛ لأنها تغلو في حب الإمام علي رضي الله عنه إلى حب العبادة.
Unknown page