ويدل على أصالة الإيمان بالأرواح في بديهة الإنسان أنها وجدت في كل سلالة بشرية من السلالات التي نشأت في القارات المتقاربة، فتعلم بعضها من بعض في مسائل الدنيا والدين، أو من السلالات التي وجدت في الأمريكتين منعزلة منذ أدهار لا تعرف لها بداءة، فهي لم تتعلم تلك العقائد من غيرها، ولم ترجع بها إلى مصدر معروف في العالم القديم.
ووجدت هذه العقيدة على أكثرها في الجزر الأسترالية المتباعدة، كما وجدت عند حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية، أو وجدت في أفريقية الجنوبية أو الشرقية التي يقال إنها مهد الجنس البشري قبل سائر القارات، ويقال مع ذلك إنها تلقت أفواج المهاجرين من الجنس القفقازي قبل فجر التاريخ.
والمهم في هذا الشيوع أنه أصيل في البداهة الإنسانية، وأنه لم يكن من تدجيل الكهان والسحرة كما يخطر لمن يسهل عليهم أن يفسروا كل شيء بالدجل والخداع.
ويكاد الشبه بين الأرواح في القارات المتباعدة أن يكون أقرب من الشبه بين الآدميين أنفسهم في تلك القارات، فالكائن الروحي في الجزر الأسترالية أشبه بالكائن الروحي في أمريكا الجنوبية من الأمريكيين الأصلاء والأستراليين الأصلاء، وليس بين روح وروح في الأقطار المتنائية ذلك الاختلاف الذي يعتري الألوان والأشكال من فعل الجو والتربة والماء والهواء، فإنك قد تنقل الأسترالي من الجزر إلى أمريكا الجنوبية فيشعر فيها بالغربة، ويريبه من قومها ما يريبه من الغرباء، ولكنك إذا نقلت روحا من هناك إلى هنا أو من هنا إلى هناك لم تجده على غرابة في عالم الأرواح، ولم تكن بينه وبين العالم الذي انتقل إليه فجوة من الجنس واللون واللغة أبعد من الفجوة التي بينه وبين سائر الأرواح في وطنه الأصيل، وإنها لظاهرة جديرة بالتنبه لها والتوقف عندها في علم المقارنة بين الأديان؛ لأنها قد تفضي بنا إلى الوقوف على سليقة دينية شديدة التقارب بين الأجناس والأقوام، وليس مصدرها من الخيال وحده؛ لأن مخلوقات الخيال وحده بعيدة الفوارق بين أساطير الأمم في الإقليم الواحد، فضلا عن شتى الأقاليم.
وقد كتب الرحالون والبحاثون عن القبائل الفطرية التي وجدوها في القارات الخمس خلال رحلاتهم إليها منذ أوائل القرن الثامن عشر، الذي نشأت فيه علوم المقابلة بين العقائد والسلالات، فإذا قدرنا أنها تغيرت مع الزمن منذ النشأة الأولى قبل عشرات الألوف من السنين، ورأينا بعد هذا التغيير مقدار التشابه بينها في العصر الحاضر، كان هذا التشابه حقا أجدر شيء من الباحثين بالالتفات إليه؛ لأنه دليل على أن وحدة السليقة الدينية أقرب جدا من وحدة القريحة والخيال؛ إذ ليست أساطير الفنون على درجة من التشابه تقارب ذلك التشابه بين الأرواح والأطياف في الأديان والمعتقدات.
إن الدين أعمق في كيان الإنسان من الخيال الذي يولد الأساطير، ويخلق أشباح الفنون، وقد يكون التقارب بين الأصلاء من الأفريقيين والأمريكيين والأوروبيين والأستراليين ملحوظا في تقارب الأوصاف بين الأرواح والأطياف؛ حيث لا يلحظ التقارب بين المصنوعات اليدوية نفسها من الأدوات وآنية الفخار، وهي المصنوعات التي تقاس بها طبقات العصور، ويحسبها الكثيرون على مثال واحد في كل عصر من العصور الحجرية، أو عصور المرعى، أو العصور النحاسية، ولكنها على كونها محسوسة يحكمها النظر واللمس، وتوحي بها المنفعة والحاجة المتكررة، لم تبلغ من التقارب والتشابه ما قد بلغته ملامح الأرواح والأطياف.
وقد تخصص لكل إقليم من أقاليم القارات رحالون مستقلون في دراساتهم للأحياء، وتنقيبهم عن الآثار، فيكتب عن الجزر الأسترالية أناس غير الذين يكتبون عن القارة الأفريقية، ويكتب عن سهوب آسيا الشمالية طائفة غير هؤلاء، فهم لا ينقلون بعضهم من بعض، ولا يرجع بعضهم إلى بعض في تسجيل المشاهدات وإثبات الكشوف التاريخية، ولكنهم يعرفون المشابهة بين العقائد حين يرجعون إلى المقارنة والمقابلة، ويستخلصون منها ما يستخلصون من وحدة الأصول.
ولهذه المشابهات يقرأ القارئ عن «أرواح» إقليم من الأقاليم فلا يضيره كثيرا أن يخطئ فيحسبها أرواح إقليم آخر؛ لأنها بمثابة النبات الذي يصح زرعه على طول السنة في جميع الأرضين، فيزرع في هذا الموسم أو ذاك، وفي هذه البقعة أو تلك، بغير اختلاف كبير في طريقة الفلاحة والحصاد.
يقول باريندر “Parrinder”
في كتابه عن النحل التقليدية في أفريقية: «إن الأرواح يمكن أن تتخذ مساكنها في كل شيء من أشياء الطبيعة؛ على كل قمة، وفي ظل كل شجرة خضراء، وأن التلال والصخور البارزة أحرى أن تكون مأوى للأرواح القوية ...
Unknown page