فاتحة خير
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
فاتحة خير
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
إبليس
إبليس
تأليف
عباس محمود العقاد
فاتحة خير
يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير.
وهي كلمة رائقة معجبة تروع المسامع وتستحق في بعض الأذواق أن تقال، ولو تسامح القائلون والسامعون في بعض الحقيقة طلبا لبلاغة المجاز.
ولكنها في الواقع هي الحقيقة في بساطتها الصادقة التي لا مجاز في لفظها ولا في معناها، ولا تسامح في مدلولها عند سامع ولا قائل، بل هي من قبيل الحقائق الرياضية التي تثبت بكل برهان، وتقوم الشواهد عليها في كل مكان.
فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده ونياته.
كان ظلام لا تمييز فيه بين طيب وخبيث، ولا بين حسن وقبيح، فلما ميز الإنسان النور عرف الظلام، ولما استطاع إدراك الصباح استطاع أن يعارضه بالليل، وبالمساء.
كانت الدنيا أهلا لكل عمل يصدر منها، ولم يكن بين أعمالها الحسان وأعمالها القباح من فارق إلا أن هذا يسر وهذا يسوء، وإلا أن هذا يؤمن وهذا يخاف، أما أن هذا جائز وهذا غير جائز في ميزان الأخلاق، فلم يكن له مدلول في الكلام، ولم يكن له - من باب أولى - مدلول في الذهن والوجدان.
وكانت القدرة هي كل شيء.
فلما عرف الإنسان كيف يذم القدرة ويعيبها عرف القدرة التي تجمل بالرب المعبود، والقدرة التي لا تنسب إليه، ولكنها تنسب إلى ضده ونقيضه.
وهو الشيطان.
وكانت فاتحة خير لا شك فيه.
كانت فاتحة خير بغير مجاز وبغير تسامح في التعبير.
وكانت للإنسان عين يعرف بها الظلام؛ لأنها عرفت النور وخرجت من غيابة الظلمات التي كانت مطبقة عليه.
فتاريخ الإنسان في أخلاقه الحية لا ينفصل من تاريخ الشيطان.
وأوله هذا التمييز بين الخير والشر.
ولكنه الأول في طريق طويل لم يبلغ نهاية مطافه.
فبعد التمييز بين الخير والشر خطوة أخرى ألزم من تلك الخطوة الأولى في تاريخ الأخلاق الحية.
وتلك هي معرفة الخير في الصميم.
فقد كان على الإنسان أن يعرف حقيقة الخير ليعمله على علم وبصيرة.
فليس الخير خلوا من الشر وكفى.
وليس الخير ابتعادا من الشر وكفى.
وليس الخير عجزا عن الشر وكفى.
وليس الخير مخالفة للشر وكفى.
كلا، بل الخير شيء قائم بذاته، وليس قصاراه أنه امتناع من شيء سواه.
الخير هو القدرة على الحسن مع القدرة على القبيح، وهو الاختيار المطلوب بعد التمييز بين القدرتين.
ولهذا عرفنا من تاريخ الشيطان أنه سقط؛ لأنه أنف من تفضيل آدم عليه وعلى الجان والملائكة أجمعين.
وإنما فضل آدم عليه؛ لأنه عرضة للخير والشر، ولأنه مطالب بالخيرات وهو ممتحن بالشرور.
فضل على الملائكة الذين لا يصنعون الشر لأنهم بمنجاة من غوايته، وفضل على الجان الذين لا يختارون بين نقيضين.
ومن تلك الآونة عرفت وظيفة الشيطان في هذا العالم، وعرفت معها فضيلة الإنسان.
فإنما وظيفة الشيطان أن يثبت عجز الإنسان أمام الغواية والفتنة، وأن يمتحن مشيئته وهو يتردد بين الخير والشر، والمباح والحرام.
وإنما فضيلة الإنسان أن يصنع خيرا وللشر عنده غواية وله في نفسه فتنة، ولولا ذلك لما كان له فضل على الملائكة ولا على الجان.
لا جرم كان تاريخ الشيطان تاريخا للأخلاق الحية في وجدان آدم وبنيه. •••
وتمتحن الأخلاق الحية بمحنة المعرفة والجهل كما تمتحن بمحنة الخير والشر، والفضيلة والرذيلة.
فمهما نتخيل من مخلوق قابل لأن يعرف بعد جهل، ويدرك بعد قصور، فليس غير الإنسان مصداق لذلك المخلوق.
ليست الملائكة ولا الجان في صورتها الحية مخلوقات نامية في معرفتها، عالمة ما تعلمه بعد جهله، متقدمة من الطفولة إلى الرشد إلى غاية المدى المقدور لكل مخلوق.
ولكنها في صورتها تعلم ما تعلمه كأنه من خصائص معدنها التي لا تفارقها، فلا اجتهاد لها فيما تعلم، ولا فوات على اجتهادها فيما تجهل، وكل ما أوتيته من علم فلا حيلة لها ولا حول فيه؛ كلمعان النور، ووهجان النار ، ولألاء الجوهر الصافي، وجريان الماء، وخفقان الهواء.
ولا كذلك سليل التراب، إنه ليعلم حتى لتعجب كيف علم، وإنه ليجهل حتى لتعجب كيف جهل، ومن كان قابلا لأن يأتي بالعجب في علمه وجهله فهو مسئول عن هذا وذاك.
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون .
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون .
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
فليست القداسة أن تكون نورا وأنت نور، وليس الفخار أن تكون نارا وأنت نار.
وإنما القداسة والفخار أن تكون نورا ونارا وأنت تراب، وأن تسبح وتقدس وأنت قادر على الفساد والعدوان.
وكلما ذكرت الأخلاق الحية فقد ذكر تاريخ الشيطان في ثوب الحياة، وقد ذكر تاريخ الغواية والحرية في المطاوعة والاعتصام، وتلك هي الأخلاق الحية كما تعيش في اللحم والدم، وفي القيم والمزايا، فأما الأخلاق في صفحات الورق وفي مصطلحات الباحثين فهي كلمات وحروف وأصداء.
ولم يوجد النوع البشري بصفاته وأخلاقه ليكتبها سطورا على صفحات، ويجمعها أطروحة في قاعة درس، أو سفرا على الرف إلى جانب أسفار.
ولكنه وجد بصفاته وأخلاقه ليحياها ويعيش بين حقائقها، ويعطيها الأسماء التي تدله على تلك الحقائق كما يستقبلها بحسه وشعوره، ويواجهها برجائه وخوفه، وبإقباله ونفوره، وينادى بالاسم من هذه الأسماء فلا يفهمه كما تفهم الكلمة عند المراجعة في القواميس، بل يفهمها حبا وبغضا، وغبطة وندما، ورضوانا وسخطا، وحركة تنبض بها العروق، وسرا يختلج في الأعماق.
وهكذا ينطبع الحي على صفاته وأخلاقه، وهكذا تتعارف عليها الأمم وهي تحيا وتعتلج بالحياة، وهكذا تضطرب بين الأكوان التي لا تحصرها الأوراق ، ولا تحدها الحروف، ولا تحتويها العقول، بل تجيء العقول طارئا عليها، وضيفا في رحابها، وقد مضى عليها في مكانها أدهار بعد أدهار، وأسماء بعد أسماء، ولغات بعد لغات.
الشيطان!
أي مجموعة من الأسفار تؤدي للضمير ما تؤديه هذه الكلمة بقارعة واحدة تنفذ من الآذان إلى الأعماق.
وإلى اليوم يكتب الباحثون ألف مذهب ومذهب، ويلحقون بها ألف «لوجي ولوجي» على غرار السيكولوجي، والبيولوجي، والميثولوجي، وغيرها من اللواحق في الأواخر على اختلاف الصيغ واللغات.
إلى اليوم يفرقون بين الصفات والأخلاق بهذه المصطلحات، فلا يبلغون بها في الحس ولا في الذهن ما بلغه المتكلمون بلغة الحياة ولغة الفطرة ولغة «الهيروغليفية» التي تسبق كل كتابة، وتلحق بكل كتابة إلى آخر الزمان.
وقد سمعنا عن الصفات الإلهية، والصفات الملكية، والصفات الشيطانية، والصفات الإنسانية، والصفات البهيمية، والصفات السبعية، فمن لم يفهم هذه العناوين بمدلولاتها الحية فما هو بفاهم شيئا من فوارق الأخلاق يشرحها له ألف عالم، ويسجلها له ألف كتاب.
ولمن شاء أن يرفع هذه الكلمات ويضع في مواضعها كلمات الاصطلاح اللغوي أو الفلسفي من قبيل الأخلاق المثالية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق النفعية، وأخلاق التقدميين، وأخلاق المحافظين، وما أشبه هذه الكلمات والمصطلحات؛ فإنه لا يحس منها إلا أنها بطاقات معلقة على واجهات أو شواخص لا نبض فيها ولا دم ولا حراك.
ولكنه لأول وهلة يسمع الصفات الإلهية فيفهم أنها أعلى الصفات، ويحس أنه يرتفع بالاتجاه إليها والرجاء فيها إلى أعلى عليين، ويستشرف لها بقلبه، ويتفتح لها بمغاليق سريرته، ويعرفها حقيقة حية، ولا يكون قصاراه من معرفتها أنها مادة في معجم، أو عنوان على مذهب، أو إشارة مرور إلى حيث يسير أو لا يسير.
ولأول وهلة يسمع الصفات الملكية أو صفات الملائكة فيفهم أنها الطيبة والطهارة، والحب والسلامة، ويقابلها في الوقت نفسه بالحنين إليها؛ لسلامتها ووداعتها والعطف عليها؛ لخفاء الشر عليها، واحتجاب أساليب الكيد والخداع عنها.
ولأول وهلة يسمع الصفات الإنسانية فيعرف منها ما يناقض البهيمية والسبعية، ويقابل الإلهية والملكية، ويعرف في الوقت نفسه أن الإنسان قابل للطموح إلى ما يعلو عليه، والهبوط إلى ما ينحدر دونه من صفات الكائنات جمعاء.
ولأول وهلة يسمع الصفات الشيطانية فيفهم أنه في موقف احتراس وحذر، وإن لم يخل من تطلع في أحيان، ومن إعجاب في أحيان أخرى، ولا يضطر إلى مراجعة اللغة أو مراجعة الحكمة ليفهم ما يحذره من الشيطان، وما يستقبله منه بالفكر أو الوجدان؛ فإن هذه الكلمة تقع في موقعها عنده كأنها نقلت إليه الشيء نفسه محسوسا ملموسا، معقولا مدروسا، ولم تنقله منه بإشارة أو عنوان.
وقس على ذلك ما يفهمه من كلمات الصفات البهيمية أو الصفات السبعية، فإنها كذلك تنقل إليه أشياء وأحياء، ولا تنقل إليه حروفا وكلمات.
إن خالق الكون لم يرد بإعطاء الناس حياتهم أن يعطيهم قاموسا أو موسوعة من العناوين والمصطلحات، ففي وسعهم هم أن يعطوا أنفسهم هذه القواميس، وقد أعطوا أنفسهم هذه القواميس فعلا، فإذا هي أكثر الأشياء اختلافا بين قبيل وقبيل، وبين أمة وأمة، وإذا هي برج بابل يمتد على كرة الأرض ولا يزال أبدا في حاجة إلى ترجمان.
ولو كانت هذه المدلولات في اللغات هي الحقائق المقصودة لما كان للمدلول الواحد ألف كلمة في كل لسان.
ولكن هذا النوع الإنساني تلقى وجوده من خالقه حياة تجيش في ضمائره وفيما حوله بالحقائق الحية كائنا ما كانت أصداؤها في عالم الحروف والرموز والإشارات والكلمات والطلاسم، أو في «الهيروغليفية الكونية» على الإجمال.
ومن شاء فليبادل إن كانت له الجرأة!
من شاء واستطاع فليعد بالإنسان إلى أوله لينتزع من ذاكرته ووجدانه كل ما أحسه وتعلمه من كلمة الشيطان، أو كلمة الملك، أو كلمة الخطيئة، أو كلمة العصيان، وليضع في مكانها ما يقترحه في تصريف اللغة ومصطلحاتها مفسرة ميسرة، محكمة مقسمة، ولينظر ماذا صنع بالإنسان فيما مضى، وما يصنع به فيما بعد، فإنه قاتله وملقيه في مقبرة من قاموسه الجليل.
من كانت له الجرأة، وكانت لديه القدرة، فليبادل ولينظر فرق ما بين كلماته ومصطلحاته ومدلولاته، وبين هذه «الهيروغليفية» الكونية التي هي الكلام، وهي متكلموه، وهي المحسون به وفاهموه.
وليقف خاشعا مستعيذا «بالشيطان» من الغرور.
وليرجع في أمان هذه «المعوذة» إلى تاريخ الشيطان؛ ليعلم منه تاريخ الأخلاق الحية وتاريخ الإنسانية الخالدة.
فإذا كان لا يدرك تاريخ الأخلاق الإنسانية حقا وصدقا إلا من تاريخ الشيطان، فلا ينكرن هذا الاسم، ولا ينكرن وجوده من باب أولى.
إنه وجود أرسخ من وجود الإنسان.
ومن لم يكن في وسعه أن يدرك ما وراء هذه الحقيقة، فأحرى به ألا يتطفل على الوجود والعدم، والحياة والموت، والحق والباطل، والعلانية والخفاء، والظواهر والأسرار، فكل أولئك له معناه الذي لا يدركه ولا يدريه.
وسنكتب فيما يلي تاريخ الشيطان؛ لنستخرج منه تاريخ الأخلاق الإنسانية كما تشخصت في ثنية الحياة، ونركب عليها بعد ذلك ما يوافقها أو يلافقها من مصطلحات القاموس!
الفصل الأول
قبل الشيطان
قبل شيوع صورة الشيطان كانت بديهة الإنسان تملأ العالم بأشتات لا تحصى من الأرواح والأطياف.
وكان من هذه الأرواح والأطياف ما يخفى ولا يظهر لأحد، ومنها ما يخفى على أناس ويظهر لآخرين بالرقى والعزائم، ومنها ما يتلبس أحيانا بالأجسام ويظهر لكل من لقيه في مأواه.
ولم يكن الإنسان يقسم هذه الأرواح إلى ذات خير وذات شر؛ لأنه لم يميز بين الخير والشر إلا بعد معرفته بصورة الشيطان كما تقدم.
وإنما كانت هذه الأرواح تنقسم عنده إلى أرواح مصادقة أو أرواح معادية، وإلى أرواح نافعة أو أرواح ضارة، وإلى أرواح سهلة أو أرواح عصية، فلا فارق بينها عنده غير درجة الصلح والعداوة، أو درجة الفائدة والأذى، وأما طبيعة الخير وطبيعة الشر فقد جاءت بعد مراحل كثيرة في طريق الإيمان بالأرواح.
والاختلاف بين الشر والضرر بعيد.
فالشر لا يصدر منه خير بإرادته، ولكن الضرر قد يصيب أناسا ولا يصيب آخرين، وقد يأتي من عمل ولا يأتي من عمل غيره، وقد يكون الضار بهذا نافعا لذاك، فليست هناك طبيعة تسوقه إلى الشر في جميع الأحوال، بل هناك أحوال متعددة، وأعمال منوعة، وشأن الأرواح في ذلك شأن الناس من حوله بين قوم من قبيلة وقوم من أعدائها ، أو بين قوم من خاصته في القبيلة، وقوم ينفر منهم وينفرون منه لأسباب عارضة أو باقية لا ترجع إلى أصالة في الطباع.
وقد يصح تشبيه عالم الأرواح عنده بعالم الغاب أو عالم السباع والحيوان.
فالغاب فيها النمر والثعبان، وفيها البلبل والعصفور، ومن حيوانها ما يأمنه ولا يخشاه، وقد يتألفه ويستخدمه في مصالحه ويشركه في مسكنه، وقد يكون عنده الكلب الأنيس، وفي الخلاء الكلب المستوحش العقور، وقد يكون عنده الحصان الداجن، وفي الخلاء الحصان الجامح الذي لا نفع منه ولا ضرر، وجملة الفوارق بينها مسألة أحوال وأحيان، أو أحوال رياضية واستعصاء.
وهكذا كان عالم الأرواح في الهمجية الأولى: كان عالم فائدة وضرر، أو عالم هوادة واستعصاء، أو عالم صداقة وعداوة، فأما عالم الخير الأصيل أو عالم الشر الأصيل فلا تتمثل له صورة في بديهة الإنسان قبل انقسام الطبائع، وتباين الأقيسة والموازين بين الأعمال والأخلاق.
ويدل على أصالة الإيمان بالأرواح في بديهة الإنسان أنها وجدت في كل سلالة بشرية من السلالات التي نشأت في القارات المتقاربة، فتعلم بعضها من بعض في مسائل الدنيا والدين، أو من السلالات التي وجدت في الأمريكتين منعزلة منذ أدهار لا تعرف لها بداءة، فهي لم تتعلم تلك العقائد من غيرها، ولم ترجع بها إلى مصدر معروف في العالم القديم.
ووجدت هذه العقيدة على أكثرها في الجزر الأسترالية المتباعدة، كما وجدت عند حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية، أو وجدت في أفريقية الجنوبية أو الشرقية التي يقال إنها مهد الجنس البشري قبل سائر القارات، ويقال مع ذلك إنها تلقت أفواج المهاجرين من الجنس القفقازي قبل فجر التاريخ.
والمهم في هذا الشيوع أنه أصيل في البداهة الإنسانية، وأنه لم يكن من تدجيل الكهان والسحرة كما يخطر لمن يسهل عليهم أن يفسروا كل شيء بالدجل والخداع.
ويكاد الشبه بين الأرواح في القارات المتباعدة أن يكون أقرب من الشبه بين الآدميين أنفسهم في تلك القارات، فالكائن الروحي في الجزر الأسترالية أشبه بالكائن الروحي في أمريكا الجنوبية من الأمريكيين الأصلاء والأستراليين الأصلاء، وليس بين روح وروح في الأقطار المتنائية ذلك الاختلاف الذي يعتري الألوان والأشكال من فعل الجو والتربة والماء والهواء، فإنك قد تنقل الأسترالي من الجزر إلى أمريكا الجنوبية فيشعر فيها بالغربة، ويريبه من قومها ما يريبه من الغرباء، ولكنك إذا نقلت روحا من هناك إلى هنا أو من هنا إلى هناك لم تجده على غرابة في عالم الأرواح، ولم تكن بينه وبين العالم الذي انتقل إليه فجوة من الجنس واللون واللغة أبعد من الفجوة التي بينه وبين سائر الأرواح في وطنه الأصيل، وإنها لظاهرة جديرة بالتنبه لها والتوقف عندها في علم المقارنة بين الأديان؛ لأنها قد تفضي بنا إلى الوقوف على سليقة دينية شديدة التقارب بين الأجناس والأقوام، وليس مصدرها من الخيال وحده؛ لأن مخلوقات الخيال وحده بعيدة الفوارق بين أساطير الأمم في الإقليم الواحد، فضلا عن شتى الأقاليم.
وقد كتب الرحالون والبحاثون عن القبائل الفطرية التي وجدوها في القارات الخمس خلال رحلاتهم إليها منذ أوائل القرن الثامن عشر، الذي نشأت فيه علوم المقابلة بين العقائد والسلالات، فإذا قدرنا أنها تغيرت مع الزمن منذ النشأة الأولى قبل عشرات الألوف من السنين، ورأينا بعد هذا التغيير مقدار التشابه بينها في العصر الحاضر، كان هذا التشابه حقا أجدر شيء من الباحثين بالالتفات إليه؛ لأنه دليل على أن وحدة السليقة الدينية أقرب جدا من وحدة القريحة والخيال؛ إذ ليست أساطير الفنون على درجة من التشابه تقارب ذلك التشابه بين الأرواح والأطياف في الأديان والمعتقدات.
إن الدين أعمق في كيان الإنسان من الخيال الذي يولد الأساطير، ويخلق أشباح الفنون، وقد يكون التقارب بين الأصلاء من الأفريقيين والأمريكيين والأوروبيين والأستراليين ملحوظا في تقارب الأوصاف بين الأرواح والأطياف؛ حيث لا يلحظ التقارب بين المصنوعات اليدوية نفسها من الأدوات وآنية الفخار، وهي المصنوعات التي تقاس بها طبقات العصور، ويحسبها الكثيرون على مثال واحد في كل عصر من العصور الحجرية، أو عصور المرعى، أو العصور النحاسية، ولكنها على كونها محسوسة يحكمها النظر واللمس، وتوحي بها المنفعة والحاجة المتكررة، لم تبلغ من التقارب والتشابه ما قد بلغته ملامح الأرواح والأطياف.
وقد تخصص لكل إقليم من أقاليم القارات رحالون مستقلون في دراساتهم للأحياء، وتنقيبهم عن الآثار، فيكتب عن الجزر الأسترالية أناس غير الذين يكتبون عن القارة الأفريقية، ويكتب عن سهوب آسيا الشمالية طائفة غير هؤلاء، فهم لا ينقلون بعضهم من بعض، ولا يرجع بعضهم إلى بعض في تسجيل المشاهدات وإثبات الكشوف التاريخية، ولكنهم يعرفون المشابهة بين العقائد حين يرجعون إلى المقارنة والمقابلة، ويستخلصون منها ما يستخلصون من وحدة الأصول.
ولهذه المشابهات يقرأ القارئ عن «أرواح» إقليم من الأقاليم فلا يضيره كثيرا أن يخطئ فيحسبها أرواح إقليم آخر؛ لأنها بمثابة النبات الذي يصح زرعه على طول السنة في جميع الأرضين، فيزرع في هذا الموسم أو ذاك، وفي هذه البقعة أو تلك، بغير اختلاف كبير في طريقة الفلاحة والحصاد.
يقول باريندر “Parrinder”
في كتابه عن النحل التقليدية في أفريقية: «إن الأرواح يمكن أن تتخذ مساكنها في كل شيء من أشياء الطبيعة؛ على كل قمة، وفي ظل كل شجرة خضراء، وأن التلال والصخور البارزة أحرى أن تكون مأوى للأرواح القوية ...
إلى أن يقول: وفي الآجام المتشابكة العميقة تسكن الأرواح والأطياف ذوات الخطر والأذى ... وحيوانات الغاب - أو سكان الأرض - كثير منها حرام على هذه القبيلة أو تلك ... فإذا قتل أحدها وجبت الترضية له، أو يظل في مطاردة القاتل طيفا لا يفر منه.»
ويقول شارل واجلي “Wagley”
في كتابه عن «بلدة الأمازون» من أمريكا الجنوبية: «إن بعض القردة تخاف في أعماق الغاب، وتحسب قردة الجريبة “Guariba”
آفة سحرية وبيلة، وبعضها له قدرة على اختلاس ظل الإنسان ... وأشهر أطياف الغاب وأرواحها الكاروبيرا التي تشبه إنسانا قزما، ويقال إن أقدامها ملتفتة إلى ورائها، وهي تعيش في أعماق الغاب، ومنها تسمع صرخاتها الطويلة المزعجة، ويقال إنها مغرمة بشراب الروم والتدخين ...
ثم يقول: وطيف آخر من الأطياف الخطرة يدعى «مات تابريرا» يظهر في المدن ولا يظهر كالأطياف الأخرى في الغابات والأنهار ... وأصل الاعتقاد فيه على ما يظهر منقول من الديار الأوروبية.»
ويتكلم مالنوسكي “Malinowsky” ، علامة الدراسات الإنسانية، عن الجزر الأسترالية فيروي قصة الروح التي تسمى عندهم «بلوما»، وتذهب بعد مفارقة الجسد إلى جزيرة أخرى كأنها العالم الآخر. وهم يعتقدون أن الأشياء لها أرواح تنتقل منها إلى حيث تسكن أرواح الموتى، فيزينون جسد الميت بكل ما كان يزدان به في الحياة؛ ليجرد منه روحه ويبقى بقيته المحسوسة. وقد يظهر للميت طيف يسمى «كوسى» يخاف لقاؤه، ولكنه يداعب الناس ولا يبالغ في إيذائهم، وحيثما سمع صياحه وجبت له الترضية والمبالاة.
وقد يخشى القوم هناك أطيافا أخرى لها علاقة بأرواح الموتى يتخيلونها دائما في صورة العجائز القباح، وقد يشيرون إلى عجوز حية معروفة فيقولون عنها: إنها قد أصبحت واحدة من تلك الأطياف ذات العلاقة بالموتى، وإنها تعاشرهم بقوة السحر وحيل التعاويذ.
وأفضل المراجع التي يعتمد عليها في فهم العقائد البدائية تلك الرحلات التي يكتبها طائفة من العلماء عاشوا بين القبائل، واختلطوا بها في جميع أطوار معيشتها، فعرفوا عاداتها بالمعاشرة على فطرتها، ولم يعرفوها بالسؤال والتحقيق على منوال الرحالين الذين يذهبون إليها لدراسة علم الأناس، أو تطبيقه عليها.
ومن هؤلاء العلماء الذين عاشوا زمنا بين القبائل في أفريقية الوسطى الطبيب المشهور «ألبيرت شويتزر»، صاحب جائزة نوبل منذ خمس سنوات، ويؤخذ من مذكراته أن أخوف المحظورات عندها هي التي ترتبط بأهم المراحل في حياة الإنسان؛ وهي: الولادة والمراهقة والموت، فقبل الولادة تطيف الأرواح بالأب وتلقنه في الرؤيا أو الإيحاء أسماء الأشياء التي ينبغي للوليد أن يتجنبها في حياته، وإلا أصابه الأذى من الأرواح المطيفة بالمكان، وعند المراهقة يحاط الصبية بالمراسم والعبادات التي تفرضها كل بيئة على حسبها. وأشق ما عاناه الطبيب من عادات القوم حذرهم من مقاربة أجساد الموتى، وهو محتاج في مستشفاه على الدوام إلى حمل هذه الأجساد ومواراتها.
ويؤخذ من مشاهدات هذا الطبيب في جواره أن المحظورات خاصة وعامة، فمنها ما يحرم على إنسان واحد ولا يحرم على غيره، حسبما جاءه الوحي من أبيه أو كاهنه، ومنها ما يعم القبيلة جميعا ولا يستثنى فيه أحد منها، ويقول الطبيب: إن بعض المنذورين لهذه المحرمات قد يأتي شفاؤهم من الوهم الذي غلب عليهم بعد إنذارهم بتحريم بعض المطاعم، واجتناب بعض الأدوات، فاجترءوا على مخالفة المحظور وسلموا من العاقبة، ولكنهم تخلصوا من عقيدة بعيدة، ورسخ في أخلادهم أن الروح الذي أطلقهم من عقال المحظور أقوى من الروح الذي حظره عليهم، فهو لا يستطيع أن يتعقبهم بالأذى وإن خالفوه جهرة؛ لأنهم دخلوا في حماية روح آخر أقوى وأعظم وأحرى بالمبالاة والاتباع.
وقد دخلت هذه الأرواح والمحظورات في حساب السياسة كما دخلت في حساب العلم، فقررت اللجنة البرلمانية التي أوفدتها الحكومة إلى أفريقية الشرقية لتحقيق أسباب الثورة فيها: أن «دراسة النفسية» التي تنطوي عليها عبادات جماعة الماو ضرورية لاستقصاء أسباب السخط وعوامل الثورة، وعقب الأستاذ ماكس جلكمان “Gluckman”
على هذا التقرير بفصل مجمل عن أصول العقيدة بين القبائل، فروى عنها أنها تؤمن بإله عظيم خلق العالم ثم تنحى عنه، وأنه سمع من أناس في قبيلة الباروتس “Barotse”
على نهر الزمبيزي الأعلى أن الإله تخلى عن الأرض، ولاذ بالسماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، ولم يبق لهذا الإله الآن من عمل يستطيعه مع البشر غير مجرد العلم بأخبارهم، فهم يقولون كلما سألتهم عن مكان بعيد: إن الإله نيامبي “Nyambe”
أعلم وأدرى، ويدعي زعماء القبيلة أنهم ينتمون إلى هذا الإله من ذريته التي ولدتها له بنته قبل أحد عشر جيلا، فملكت على القوم في مكانه، وهذا سر من أسرار الطاعة للزعماء، والثورة على الأجانب والمستعمرين. •••
ويرى جلكمان أن المراسم والشعائر حلت بين القبائل الأفريقية محل الصلوات المكتوبة والفرائض المسجلة؛ لانعدام الكتابة في تلك القبائل، فكل علاقة لها شعائرها ومراسمها، وكل حركة تتحركها القبيلة كلها أو بعض أفرادها طلبا للصيد، أو انتجاعا للمرعى، أو زحفا للغارة على عدوها تتطلب منها الزلفى إلى بعض الأرواح، والحذر من بعض الأرواح الأخرى، وتلجئها إلى اتخاذ المراسم والشعائر المتوارثة في أجدادها.
وكل ما يصيب الإنسان فهو من كيد روح، أو دسيسة ساحر، أو من عالم «وراء الطبيعة» على الإجمال؛ فإذا وطئ فيل إنسانا فقتله، فالأفريقي يفهم أن قوة الفيل أكبر من قوة الإنسان ولهذا استطاع قتله، ولكنه يسأل بعد ذلك: لماذا كان هذا الإنسان هو المقتول ولم يكن إنسانا غيره؟ أليس هناك سر يرجع إلى تدبير ساحر، أو نقمة روح غاضب، أو مشيئة كائن مما وراء الطبيعة؟ وهكذا تلتقي الأسباب الطبيعية المعروفة بالأسباب المجهولة مما وراء الطبيعة، ولا يحس الإنسان السلامة من الكائنات المحجوبة بحال من الأحوال.
وقد تزول العقائد بانقضاء الزمن عليها، ولا يزول السحر وأسالبيه الموافقة والمضادة التي تلجئ الأفريقي من ساحر إلى ساحر؛ ليبطل رقيته، ويفسد مكيدته، فلا ملاذ عندهم من السحر إلا إلى سحر مثله أو أشد منه، ولا تعليل عندهم لمصيبة يبتلون بها إلا أن تكون من كراهية عدو يستعين بالسحرة، ويستمد قدرته على النكاية من الأرواح.
1 •••
وقد حاول الرحالون والباحثون في الأجناس البشرية أن يرجعوا بالاعتقاد في الأرواح إلى مصدر مفهوم، فلم يتفقوا على مصدر واحد، ولم يصلوا إلى قول متفق عليه يصلح لتفسير كل حالة، وتعليل كل عقيدة.
فمنهم من يرجع بعقيدة الأرواح إلى الأطياف التي يراها الهمجي في منامه، وإلى الأحلام التي يرى فيها أنه انتقل إلى مكان بعيد وهو لم يبرح مرقده في بيته، فيخيل إليه أن الأطياف تتحرك في الظلام، وتترك الأجساد إذا هدأت حركتها لتجول هنا وهناك حيث تشاء، وأن الذي يحدث في حالة النوم يحدث في حالة الموت، فيسكن الجسد ويبلى، ويتحرك الروح الذي فارقه بفراق الحياة.
ومنهم من يرجع بهذه العقيدة إلى طبيعة الاستحياء، أي إلى الطبيعة التي تخيل إلى الهمجي أن الأشياء ذات حياة مثله، فيعاملها كما يعامل الأحياء، ويرضى عنها أو يغضب عليها كالطفل الذي يضرب الأرض إذا صدمته حين يسقط عليها، أو يشعر بالراحة حين نضرب الأرض أمامه ونعاقبها بجريرة سقوطه عليها، وإصابته من صدمتها.
وتتمكن هذه العقيدة في خيال الهمجي مع نقص اللغة، وخلطه بين الحقيقة والمجاز في تعبيراتها، فإذا سمع أن الأرض ولدت عيون الماء، وأن أباها انحدر من سحاب السماء لم تزل هذه الصورة تتجسم مع الزمن حتى تنشأ منها أسرة لها أب وأم وأبناء، ولها مشيئة يلقاها بالتوسل والرجاء، أو بالسخط والإعراض.
ومنهم من يرجع بعقيدة الأرواح إلى عبادة الأسلاف بعد الموت، وقد يحدث أن يسمى السلف باسم حيوان كالأسد أو النمر أو الثعلب أو النسر أو الصقر، فيحسب أبناؤه مع طول الزمن أنهم تحدروا من ذلك الحيوان، ويجعلون له قداسة مرعية توجب عليهم أن يحرموا قتله، وأن يتوقعوا الضرر والسقم إذا قتله أحد منهم أو من غيرهم ولم يأخذوا بثأره.
ويكاد علماء الأجناس والعادات البشرية أن يجمعوا على إيمان القبائل الفطرية بإله واحد أكبر من هذه الأرواح المتعددة، وأخفى منها في ظواهر الطبيعة.
وقد تقدم من كلام جلكمان أن القبائل في أفريقية الشرقية تؤمن بالإله نيامبي، الذي ارتقى إلى السماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، وهذه العقيدة على الأرجح من بقايا عبادة الأسلاف التي يختلط فيها التاريخ بالخرافة، وأصلها على هذا الظن متصل بوحدة القبائل في جدها الأعلى، فهو ربها جميعا حيثما اختلفت أربابها، وتعددت الأرواح المسيطرة عليها، وقد جردوه من القدرة، وتركوا له صفة العلم والدراية كأنه الأب الشيخ الذي اعتزل العمل والقتال فلا طاقة له بمنع العداوة بين ذريته من القبائل المختلفة.
ولم ينفرد جلكمان بقصة هذا الإله الواحد الذي تشترك فيه القبائل المختلفة في أفريقية الشرقية؛ فإن الرحالين جميعا متفقون على إيمان القبائل الأسترالية برب فوق الأرباب يسمى «نانا»، أو يسمى بأبي الجميع “All father”
على مثال نيامبي في القبائل الأفريقية.
ويتفق الرحالون كذلك على إيمان الأقزام الأفريقيين برب فوق الأرباب، تشترك فيه القبائل وإن تعذر عليها الوفاق فيما بينها. ولم يجد علماء الأجناس قبيلة فطرية بلغت من ارتقاء الإدراك أن تؤمن بالتوحيد على صورته المثلى، ولكنها تقترب من هذه الصورة كلما ارتقت من فوضى العقيدة إلى مرتبة أعلى وأجمع من مراتب النظام. •••
وليس الهمجي جبانا؛ فإن الجبن بين الأخطار المحدقة به أضر به من الشجاعة، وقد عودته مواجهة السباع والحياة أن يواجهها علانية، وأن يصارعها وينصب لها الأحابيل، ويستخدم السلاح المستطاع فيما يعييه أن يتغلب عليه بالمصارعة، ولكنه بين الأرواح والأطياف أمام خطر مستور لا يدري من أين يأتيه، ولا تكون الغلبة عليه بقوة البدن والسلاح، ولعله لا يريد أن يتغلب عليه؛ لأنه عنده في حكم الأب أو الرئيس المطاع، ورياضته بالحيلة أولى من التصدي له بالأسلحة والفخاخ.
ولا بد من مواجهة تلك الأرواح والأطياف بما يكف غضبها، ويدفع أذاها، ويستجلب رضاها.
ولا بد مما ليس منه بد في النهاية، فأما السكوت عنها فلا يطاق، وأما الصراع معها فلا يجدي فيه البأس، ولا تصلح له الشجاعة، فكانت حيلة السحر هي الحيلة التي انتهى إليها، ولم يكن له بد منها بحال.
وتخصص السحرة لرياضة هذه القوى التي لا ترضى بالأيدي والهراوات أو الحراب.
وظهرت البداهة الإنسانية في هذا التخصص كما تظهر عند الاضطرار إليها في توزيع جمع الأعمال.
فلم يكن السحرة المتخصصون لرياضة الأرواح والأطياف أناسا ممتلئين بالحياة، صالحين للكر والفر والصيد، واقتناء النسوة، وإنجاب الأولاد، بل كانوا على نقيض ذلك أمساخا عزلتهم الحياة، أو انعزلوا بعد اليأس من مجاراتها في مطالبها، ولاح بينهم وبين عالم الخفاء شبه مناسب يعقد بينهما العلاقات الغامضة، ويقرب لهما وسائل التفاهم، ويوقع في النفوس أثرا واحدا من التوجس والتساؤل والريب فيما وراء الظواهر والمألوفات.
وقد شهد الدكتور شويتزر “Schweitzer”
ترشيح بعض السحرة، وقال في مذكراته الأفريقية: «إن الدميم السيئ لا مطمح له في الحصول على امرأة يتزوجها، فإن كبراءه لا يشترون له امرأة لنفورهم منه، ويكون أبوه قد مات فيمتلئ بالمرارة، ويتحول إلى السحر للانتقام من قومه.»
وقالت الدكتورة روث فلتون بنديكت “Benedict” : إن بعض قبائل كليفورنيا من الهنود الحمر يتطلبون علم الغيب ممن يصابون بالصرع، ويتعرضون للغيبوبة في بعض نوباته، وأنهم يفضلون النسوة المصروعات، ولكنهم لا يقصرون الكهانة عليهن، وقد يكون الرجل المختار متأنثا بطبعه لا يصلح للزواج، ويلبس لباس النساء مدى الحياة.
2
ووصف الأب هنري كلوي “Callawey”
برنامج إعداد الساحر لوظيفته فقال: إنه قد يبدو في أول الأمر قويا سليما، ولكنه يهزل شيئا فشيئا، ويصبح في عرف القوم «ناعما»، ويعنون بذلك أنه يصبح عرضة للانفعال والتأثر، ويصوم عن بعض الأطعمة ويتأذى ببعضها، وتطرقه الأرواح والأطياف في منامه، ويهدده بعضها بالموت، ويقول العرافون: إنه يوشك أن يملكه روح تتصرف به على حكم الأرواح، وفي هذه الحالة يصاب أهل القرية بالأرق ويتساءلون عما أصابهم؛ لأن وصول الساحر إلى منزلة «الأنيانجا»، أي الملهم المكشوف عنه الحجاب، حالة لا تمر في المكان بسلام.
3
ولا تنفصل وظيفة الكاهن ووظيفة الساحر في مبدأ الأمر، فالكاهن الذي يقوم بمراسم العبادة، هو الساحر الذي يدفع أذى الأرواح والأطياف ويستجلب رضاها، ويسخرها في المآرب التي يختارها، ثم ينفصلان شيئا فشيئا، فيصبح عمل الكاهن غير عمل الساحر، أو يجمع الرجل الواحد بين الوظيفتين، ولكنهم يقصدونه لكهانته في أغراض معلومة، ويقصدونه لسحره في غير تلك الأغراض.
والغالب أن السحر يراد لمصلحة خاصة أو لإلحاق الضرر ببعض الأعداء، ويعمد فيه الساحر إلى الوسائل الخبيثة، ولا يكون عاما شامل النفع في جميع الأحوال، وتستخدم فيه أرواح منقطعة للأذى والضرر تعودت أن تتآمر على النكاية والنقمة، وأن تستجيب لمن يؤدي لها الأجر، ويتقدم لها بمراسم الشعوذة والأعمال الخفية.
ويلاحظ أن الكاهن قد يكون رئيسا للقوم وكاهنا يؤمهم في الصلاة والعبادة في وقت واحد، ولكن الساحر لا يصل إلى هذه المكانة إلا أن يكون السحر عملا مضافا إلى الكهانة، أو فرعا من فروعها التي لا ترتقي إلى مرتبة الصدارة.
ويلاحظ كذلك أن السحرة مشوهون أو مصابون بالآفات، وأن أدوار النساء العجائز بينهم شائعة غير مهملة، وكلهم بين رجال ونساء غير أهل لحياة القوة والصلابة والمتعة والظهور، وكأنما السحر لديهم عوض عن نصيب مفقود.
وليست الكهانة على الجملة من هذا القبيل، فإن الكاهن قد يكون من أقدر الناس على الجد والوجاهة والمتعة بالرغد والملذات.
ويسبق إلى الظن أن السحر والكهانة كلها خداع في خداع من تلفيق السحرة والكهان، ولكنه ظن خاطئ غير معقول؛ لأن السحرة والكهان على اتصافهم بالذكاء والدهاء قد نشئوا بين أقوام توارثوا العقائد، واحتفظوا بكثير من العادات التي توهموا أنها كانت نافعة لمن قبلهم وأنها تنفعهم اليوم إذا أحاطوا بعلمها وحذقوا تجاربها، وربما لام الساحر نفسه إذا قصر في بلوغ ما يطلبونه منه، واجتهد في علاج ذلك القصور بتكرار التجربة أو سؤال الأقدمين الذين سبقوه في الصناعة، وهو بطبيعة عمله لا يستغني عن الخداع والتلبيس في معاملة قومه، ولكنه لم يكن قط خادعا في كل شيء، ولا يزال خادعا مخدوعا في جوهر السحر كله، وهو الإيمان بفعل الطلاسم وقوة الأرواح.
وكلما انفرجت المسافة بين وظيفة الدين ووظيفة السحر ترقى الإنسان الفطري من فوضى الأرواح والأرباب، ونبذ التسوية بينها، وتعود التفرقة بينها فيما يطلبه منها؛ فمنها ما يقصده للنفع كما يقصده جميع أبناء القبيلة، ومنها ما يقصده ليتواطأ معه على الإجرام والنكاية كأنه بعض الشطار الذين يعيشون اليوم بتأجير أنفسهم للنكاية والعدوان.
ويحدث في هذا الطور من التمييز بين الأرواح والأطياف أن تعرف بأسماء، وتوسم بملامح، وتتلبس «بشخصيات»، وتتخصص كل «شخصية» منها لرسالة تتجرد لها، وتقدر عليها حيث لا يقدر سواها.
وفي هذا الطور أو هذه المرحلة يتهيأ الذهن للتمييز بين عمل الإله وعمل الشيطان.
أنواع ودرجات في الحرام والمحظور
تكاد المحرمات في القبائل البدائية أن تربي على المباحات والمحللات؛ لأن المحرمات تشمل القداسة والنجاسة والعصيان والاحتقار والاستقذار، فهناك أمور محرمة لأنها عظيمة مبجلة، وأمور محرمة لأنها نجسة أو مشئومة، وأمور محرمة لأن إتيانها عصيان لرب معبود أو روح قدير، وأمور محرمة لأنها تحتقر وتعاف.
وعدد هذه المحرمات في جملتها كثير يكاد يشمل كل عمل يزاوله الإنسان الفطري، بل ربما كان المباح نفسه داخلا في التحريم على وجه من الوجوه؛ لأنه لا يباح إلا بصلوات وشعائر يعرفها الخبراء، ولا تعم معرفتها كل أحد؛ كالصيد والزرع والحصاد وما شابهها من أعمال الجماعة أو الفرد؛ فإن الخوف من الإقدام عليها بغير صلواتها ورسومها يجعلها في حساب المحظورات.
وقد ترقى الإنسان وترقت معه اللغة، ولم تزل في تعبيراته آثار للتقابل بين القداسة والنجاسة في الممنوعات، فكلمة الحرمة في اللغة العربية تدل على الشيء العزيز العظيم الذي يصان ويحمى بالأرواح والأموال، وقد يشمل الحرام كل إثم يعاب أو يعاف.
وكلمة المنيع أو الممنوع تدل على القوة والرعاية، كما تدل على الرذيلة التي يجب على المرء أن يمتنع عنها ولا يقترب منها.
وكلمة القديسين والقديسات كانت تطلق عند البابليين والكنعانيين على الذكور والإناث الذين ينصبون أنفسهم للبغاء في حرم الربة «عشتروت» أو السارية، وقد ترجمت هذه الكلمة في كتب العهد القديم بكلمة المأبونين والزانيات، وهي في الأصل من القديس أو المقدس، ويقال عن الربة نفسها: إنها كانت خليلة الأرباب ولدت منهم سبعين إلها «إيليم».
وفي القبائل البدائية ثلاثة أنواع من المحرمات المقدسة؛ وهي: «الطوطم»، والوثن أو التعويذة، والتابو أو الحرام الممنوع.
فالطوطم “Totem”
هو الحيوان الذي تحرم القبيلة قتله وصيده لاعتقادها أنها تناسلت منه، أو لأنها ترمز به إلى معبودها وأصل وجودها.
والوثن أو التعويذة - وهو الذي اصطلح علماء الأجناس على تسميته بالفتيش “Fetish” - شيء جامد مصنوع أو طبيعي يحمل في أطوائه روحا لها حق الرعاية والتوقير، ومنها يستمد المرء حماية ومنعة ما دام على شرعتها في المباحات والمحظورات. وقد يكون الوثن صورة أو حجرا أو حصاة أو قطعة من جذع شجرة، أو ألفافا من الشعر وعروق الشجر وما إليها، يصنعها السحرة أو يصنعها الكبار للصغار.
والمحظور التابي أقل درجة من الطواطم والأوثان؛ لأنه قد يتفرق ويتخصص فيكون حراما عند بعض الناس حلالا لغيرهم في البيئة الواحدة، بل قد يكون مستحبا مطلوبا لمئات من الناس ولا تحريم فيه على غير آحاد معدودين. وقد روى الدكتور شويتزر ضروبا من هذه المحظورات لا مرجع لها غير التحكم من بعض الأرواح المزعومة التي تكشف عن إرادتها قبل وضع الجنين، فتخبر أباه في الرؤيا باسم «التابو» الممنوع على الوليد.
فمن هذه المحظورات أكل بعض الطلح أو البذور، ومنها ضرب الوليد على ظهره، ومنها حمل المكنسة أو بعض الآنية. ولا تكذب النبوءات في شأن «التابو»، بل يصدقها القوم كل التصديق حتى لتقبل عقولهم أن الوليد يولد ذكرا ثم يتحول إلى أنثى إذا خولفت نبوءة أو علامة مرصودة، ويفعل الوهم هنا فعله القاتل الذي لا تجدي فيه النصيحة ولا الإقناع، ففي ناحية «سمكينا» رأى الطبيب صبيا في مدرسة البعثة أنبأه رفاقه أنه أكل من إناء طبخ فيه الطلح قبل ذلك ولم يغسل، وكان الطلح محظورا على الصبي بنبوءة آبائه، فلم يكد الصبي يسمع الخبر حتى تشنجت عضلاته ولزمه التشنج إلى أن مات بعد ساعات.
وتحيط هذه التابوات كثيرا بعلاقات الجنسين وبلوغ سن المراهقة في الذكور والإناث، فيندر بين قبائل الأرض البدائية أن ترى قبيلة خلت من مراسم المراهقة ومحظوراتها الكثيرة، فتعزل الفتاة ولا تكلم أحدا غير أمها، أو لا تكلمها إلا بصوت خفيض، ويؤخذ الصبي بعيدا من بيته ليغسل في العيون المقدسة من روائح الأنوثة التي لصقت به من مصاحبة أمه، ويجري له الكهان أو كبراء السن شعائر الفطام، ومنها في بعض قبائل الهنود الحمر أن يفارق أمه زمنا، أو يدخل الكوخ وهي مستلقية على بابه فيطأ على بطنها علامة الانفصال في موضع حمله حيث اختلط بجوف الأنثى وهو جنين.
وتدل الشعائر الموروثة منذ القدم على جهل مطبق بأسرار الجنس والولادة، وربما تبين من تلك الشعائر أنهم ينوطون نسبة الابن إلى أبيه بالمراسم والشعائر، ولا يعتقدون أن مجرد الاتصال بين ذكر وأنثى يحقق الولادة والنسبة إلى الآباء؛ ففي بعض القبائل يفرض العرف على الرجل أن يقدم زوجته لضيفه الغريب، ولا يمنعه ذلك أن ينسب أبناءها جميعا إليه؛ لأنه هو الذي جرت بينه وبينها مراسم الزواج.
ولا يعجبن أبناء هذا العصر من تلك الخرافات التي تحيط بالجنس ومراسم النسبة بين الأبناء والآباء، ففي عصرنا هذا من يعتقد أن الولد من نسل الشيطان إذا ولد من غير زواج مشروع. وقد صدرت المنشورات من رجال الدولة ورجال الدين بعد كشف أمريكا الجنوبية وشيوع الأمراض الزهرية في العائدين منها، فكان فحواها جميعا أنها عقوبة على خطايا الشيطان. ولما انتشرت عدواه بين المتزوجين والمتزوجات في أواخر القرن الخامس عشر؛ أصدر الإمبراطور مكسميليان منشورا ندد فيه بالحضارة، وأنذرهم بالتوبة أو تدوم هذه الضربة السماوية عقوبة لهم على العصيان.
4 •••
وتتفق جميع المحرمات البدائية على تفنيد مذهب المؤرخين الذين يقولون عن الديانات ومحرماتها ومباحاتها إنها حيطة اجتماعية، تهتدي إليها بديهة المجتمع لمنع الجرائم ومعاقبة المجرمين، وحماية الأبرياء من عدوان المجرم والإجرام؛ فكل هذه المحرمات إنما ترجع إلى شيء واحد؛ وهو إغضاب رب أو روح، وتخطي الحدود التي تمنعها الأرباب أو الأرواح، ولها كلها علاقة بعالم الخفايا والأسرار وما نسميه اليوم بعالم ما وراء المادة؛ لأنه لا ينحصر في المحسوسات المادية.
وأما الجرائم وعقوباتها فهي أعمال مفهومة مقصودة ترجع إلى الأسباب الطبيعية التي يحيط بها علم الإنسان كما تحيط بها إرادته، وهي تعالج بالقصاص المقدر وبالثأر والانتقام وأداء الغرامة والدية، بل يستمد الثأر قوته أحيانا من عالم الروح، كما يقال عن روح القتيل في قبائل الجاهلية العربية إنها لا تزال هائمة مقيدة بجانب القتيل تنادي العابرين بها: «اسقوني اسقوني»، حتى يؤخذ بالثأر فتشعر بالري وتستريح، فليست المحرمات الدينية هي التي تتوقف على مطالب القصاص وقوانين الجزاء، بل هذه المطالب هي التي تتوقف أحيانا على عالم الأسرار والأرواح.
وقد ثبت من أطوار المحرمات في القبائل عامة أنها تتقدم مع تقدم الإنسان في ثلاثة أدوار متشابهة.
فالطور الأول أن تترقى من الحدود المحلية إلى حدود عالمية أو كونية تشمل السماوات والأرضين، فبعد الرب الذي يسيطر على ينبوع ماء، أو شجرة في غابة، أو بقعة في جهة من جهات الإقليم، يترقى الإنسان إلى فهم الرب الذي يسيطر على السحب والأنهار وأفلاك السماء، وكلما أدرك القوانين التي تربط الطبيعة بنظام واحد ترقى إدراكه لقدرة الرب الذي يملك زمامها، ويصلي له المصلون لإجرائها في مجراها المطلوب، وتحويلها عن المجرى الذي يحذرون عقباه.
ويقترن بهذا الطور، أو يأتي بعده، طور التمييز الواضح بين عمل الدين والعبادة، وعمل السحر والطلاسم السحرية، فلا يستطيع الساحر ما يستطيعه الكاهن، ولا يقصد الكهان عامة فيما يقصد فيه السحرة عامة، وربما تولى الوظيفتين رجل واحد، ولكنه وهو كاهن إنما يتوسل إلى الآلهة ويتحرى رضاها بالصلوات التي يحسنها دون غيره، أما وهو ساحر فهو يسخر الأرواح أو يعاملها على أساس التواطؤ والتعاون على العمل الكريه، الذي ينفر منه المشتركون فيه ولا يجهرون بسره عن رضى واختيار.
وكلما اتضح التمييز بين العبادة والسحر اقترب الإنسان من الطور الآخر الذي يستقل فيه بمشيئته بين الوظيفتين.
ففي الحياة البدائية يظل الإنسان رهينا بمشيئة الأرواح التي تنفع وتضر، وتنطوي على الصداقة أو على العداء، وكلها في رأيه تعمل ما يحلو لها، ولا يحق لأحد أن يحاسبها عليه، ولكنه كلما ترقى في التمييز بينها ملك الميزان الذي يزن به أعمالها وأقدارها، فيدين بعضها ويحمد بعضها، ويعرف منها مرءوسين ورؤساء يحق لهم أن يشرفوا عليها ويحاسبوها على أعمالها، وأحس في طويته أن يطيع بعضها ضرورة وغصبا، ويطيع بعضها حبا واختيارا؛ لأنه أهل للطاعة والرجاء.
ومن هنا تصبح الأرواح نفسها مطيعة أو عاصية، وماضية على السنن القويم أو منحرفة عن هذا السنن إلى الخطة العوجاء التي ينكرها كبار الأرباب.
ومتى أتيح للإنسان مقياس يقيس به الأرواح والأرباب، ويقيس به أعمالها وحقوقها، فهو إذن أهل للمشيئة والتبعة، وأهل للتمييز بين الخير والشر، وبين سلطان الإله وسلطان الشيطان.
أنواع الشيطنة
ما هي أنواع الشيطنة في العالم؟
سؤال غريب، ولكنه يبدو طبيعيا، بل ضروريا إذا وضع في صيغة أخرى فسألنا: ما هو موقف الشر بالنسبة إلى القوة الكونية الكبرى؟
وهنا أيضا نتبين أن فكرة الشيطان أعمق جدا مما يخطر للمتعجل الذي يحسب أنه يحل كل مشكلة بكلمة الوهم أو التلفيق، أو يحل كل مشكلة بإحالتها إلى جهل الأقدمين وضلالهم في الحس والتفكير.
فهناك صور للشيطنة بمقدار ما في الذهن البشري من فكرة عن الشر في هذا الكون: هل الشر قوة أصيلة؟ هل هو قوة إيجابية عاملة؟ هل هو قوة سلبية؟ هل هو عدم الخير؟ هل هو نقص الخير؟ هل هو عقبة في طريق الخير؟ هل هو عقبة تريد وتعمل ما تريد؟ هل هو عقبة لا إرادة لها، ولكنها تضاعف جهود الخير وتستدعيه إلى مزيد من الحركة والثبات؟
كل فكرة عن الشر يمكن أن تخطر على الذهن البشري قد تمثلت في صورة من صور الشيطان، وهذا سبب من الأسباب الكثيرة التي تدعو المفكر الذي يحترم عقله أن يفهم الصور الدينية على حقيقتها، وحقيقتها أنها لغة حية تصور الوجود الحقيقي تصويرا صادقا على أسلوبها الذي يستحق الفهم والتعمق، والنظر إلى ما وراء الظواهر والألفاظ.
كان الشر أرواحا ضارة متفرقة في اعتقاد الإنسان على الفطرة الهمجية، فلما أصبح مسألة كونية عامة تمثلت صورته في حدودها الكونية على شكل معقول، وسبقت المذاهب الفلسفية بمراحل بعيدة في هذا المضمار.
كان الشر في تقدير الديانة المجوسية القديمة قوة فعالة معادلة لقوة الخير: كان في الوجود خير وشر كما فيه نهار وليل، وكان الليل حقيقة قائمة بذاتها، ولم يكن مجرد غياب النهار.
كان الليل ضد النهار كما كان النهار ضد الليل، فإذا غاب النهار فهناك ليل، وإذا غاب الليل فهناك نهار.
كان للنور دولة وللظلام دولة، وكان لهذه جنود ولتلك جنود، فهما قوتان متقابلتان متعادلتان أو كالمتعادلتين، ولكل منهما وجود قائم قابل لأن ينفرد بنفسه في معزل من القوة الأخرى؛ فلا يتوقف وجود الشر على وجود الخير، ولا يتوقف وجود الخير على وجود الشر، بل كلاهما موجود بحقه وبقدرته وبعمله كما يوجد الضدان الصالحان للحياة وللبقاء.
كان الظلام يصنع مخلوقاته كما كان للنور مخلوقاته التي يصنعها، وكل منها حسن في نظر نفسه، محمود بمقياسه لا يبالي مقياس غيره ولا يتمناه.
ثم تراجحت الكفتان فرجحت كفة النور على كفة الظلام، وظل المعسكران متقابلين، ولكن إلى حين ينتهي آخر الأمر بهزيمة الظلام وغلبة النور، ثم يبقى الظلام شيئا يلوذ به أنصاره فيختفون فيه ولا يظهرون للأبصار، وإنما هزيمتهم اختفاء، وليست بالفناء ولا بالزوال.
وعظم التفاوت بين القوتين شيئا فشيئا حتى أصبحت قوة الشر كقوة الأمير التابع مع السلطان المتبوع، فهو يستطيع شيئا إلى جانب سلطانه، ولكنه لا يستطيع جميع الأشياء، ولا طاقة له على طول المدى أن يجاريه في كل شيء.
ومن إلهين متعادلين تحول الخير والشر إلى إله كبير وإله صغير، وقد تظل الحرب بينهما سجالا؛ فينتصر الإله الصغير وينهزم الإله الكبير، وقد يئول الأمر بينهما إلى معركة حاسمة، أو يظل العراك بينهما سجالا إلى أن تزول الأرض والسماء.
ثم آمن الناس بإله واحد هو الخالق المبدع القائم بذاته، لا وجود معه للشر إلا بمشيئته وتقديره، فلا يقوم الشر في هذه الدنيا بذاته مستقلا عن الله.
وفي هذه الصورة ظهر الشيطان في ديانات الأمم الكبرى، ثم ظهر في الديانات الكتابية بمختلف الأسماء، وكلها تدل على التعطيل والتشويه والإفساد، ولا تدل على الخلق والتكوين ... كلها قوة سالبة ناقصة، وليست بقوة موجبة كاملة تبتدئ بمشيئتها عملا من الأعمال.
هذه القوة الشيطانية تحول الخير عن موضعه، أو تملي للنقص في عيوبه، أو تقف في طريق الكمال عقبة تصد الساعين إليه، أو تزيف «العملة» الإلهية فتجعل الزائف منها كالصحيح في رأي المضلل المخدوع.
ولكنها في جميع أحوالها قوة سالبة، وليست بالقوة الموجبة الموجدة بأية حال.
وقد يتمرد الشر على الخير ويعصيه.
وقد يخرج الشيطان على أمر الله، وقد يشوه الخلق وينتقصه، ويستر محاسنه، ويبدي عوراته، ويحول دون رضوان الله على مخلوقاته، ولكنه يعمل تابعا ولا يعمل مستقلا في كون من الأكوان غير الكون الذي خلقه الله.
وفي هذه المراحل جميعا يدل اسم الشيطان على موقفه من القوة الكونية الكبرى، فهو المتمرد، أو هو «الضد»، أو هو الواشي النمام، أو هو الساعي بالفتنة والمغري بالفساد والموغر للصدور.
وما من اسم للشيطان بين هذه الأسماء إلا وهو يحمل في دلالته معنى الإفساد والمنع والتشويه، فليست له قدرة على الخلق والإنشاء إلى جانب قدرة الله. •••
ولما تقررت المقاييس الإلهية في الأخلاق والأعمال تقررت المقاييس الشيطانية تبعا لها وبالنسبة إليها، فكان الجديد فيها أنها معالم شخصية ذات ملامح معلومة لا ترتسم اعتباطا في الواقع أو في الخيال.
وقد عالج الشراح الدينيون أن يلخصوا «الشيطنة» في صفة واحدة تجمع عنصرها، ويقوم بها كيانها، فذكروا الكبرياء، وذكروا العصيان، وذكروا الحسد، وذكروا الكراهية، وذكروا الباطل والخداع. وكلها صفات لا تحسب من لوازم الشيطان إلا بعد علم بوجود الإله المتصرف في المقادير والأكوان.
فالكبرياء افتئات على مقام الإله، والعصيان خروج على شريعته، والحسد إنكار لنعمته واعتراض على تقديره، والكراهية صفة قد يتصف بها الأبرار حينا بعد حين إذا كانت الكراهية لهذا العمل البغيض، أو لذلك المخلوق الذميم، ولكنها إذا كانت قوام الطبيعة كلها فهي صفة هادمة غاشمة تناقض الصفة الإلهية في الصميم، وهي الحب ولوازمه من البر والإنعام. أما الباطل والخداع فهما نقيض الحق ونقيض الاستقامة، ونقيض الخلق على الصدق والسواء.
على أن الأرواح الأولى في جاهلية الإنسان قد تطورت في اتجاه آخر مع هذا الاتجاه في مجال الخير والشر، وعالم النفس الإنسانية بما يعرض له من صلاح وفساد.
ذلك الاتجاه الآخر هو تطورها فيما يتعلق بقوى الطبيعة وظواهر السماوات والأرضين.
فهنا أرواح من الجان الخفي لها عمل غير علاج النفس الإنسانية وفسادها، ولها قدرة خاضعة لسلطان الإله ومن يصطفيه من عباده، وينسب إليها كل مجهود عظيم تقصر عنه طاقة الإنسان.
وليست قدرتها هذه لأنها تعلمت ما لم يتعلمه الإنسان، ولا لأنها ذات عقول أكبر من عقله وأصلح منه للفهم والتفكير.
ولكنها قدرة تأتيها من عالم الأسرار الذي تعيش فيه، فهي تسخر القوى الطبيعية لأنها تعيش بين أسرارها، وتحسب منها أو في حكمها، وإذا فطنت للمعنى الدقيق الذي لم يفطن له الإنسان، فإنما تأتي فطنتها كذلك من اطلاعها على الدقائق والخفايا، ونفاذها إلى العالم الذي يطرقه حس الإنسان ولا يتسلل إليه عقله.
وهذه هي شياطين الفنون والصناعات، تبني الصروح، وترفع الصخور، وتنهض بالأثقال التي تعيا بها كواهل الإنسان وتنوء تحتها أدواته وصناعاته، وتدخل في ثنايا الخفاء فتلهم الشاعر ما يدق عن سائر بني آدم من غير الشعراء، ولا جرم يكون لهؤلاء الشعراء وأمثالهم من أصحاب الفنون حال كمس الجان وغيبوبة المخبولين؛ لأنهم يخاطبون الجان ويفقهون عنها، ويلحنون منها أسرار لغاها وإشارات وحيها.
وتلك هي أنواع الشيطنة من جانبيها: في اتجاه الضمير، وفي اتجاه الذهن والقريحة.
في اتجاه الضمير ترتبط «الشيطنة» بالصلاح والفساد، والخير والشر، ومساعي الإنسان نحو الكمال والرشاد.
وفي اتجاه الذهن والقريحة ترتبط «الشيطنة» بالأسرار والبواطن، وبالوحي الخفي وغرائب العبارة، سواء كانت عبارة لغة أو عبارة شكل وإشارة.
وسيكون لكل نوع من هذه الأنواع نصيبه فيما يلي من الصفحات.
الفصل الثاني
أسماء الشيطان الأكبر
تمثلت قوة الشر «العالمية» في شخصيات مرسومة الملامح، معروفة الأسماء، اشتهرت بها في كل لغة من لغات الحضارة الكبرى التي سبقت ظهور الديانات الكتابية، وسنذكر هذه الشخصيات بملامحها وأسمائها عند الكلام على أهم تلك الحضارات التي لها علاقة بصورة الشيطان كما تخلفت في الأعصر الحديثة، ولكننا نتقدم قبل ذلك بخلاصة عاجلة لأسماء الشيطان الأكبر التي بقيت إلى اليوم لورودها في الديانات الكتابية؛ ولأنها قد أصبحت ذات مدلول لغوي إلى جانب مدلولها الديني، فإن حضور هذه الأسماء في الذهن يبرز معالم الطريق إلى الوجهة التي انتهت إليها سوابق التاريخ ومقدراته، منذ ظهرت «شخصيات» الشيطان الأكبر في الحضارات الغابرة، إلى أن ظهرت شخصيات هذا لشيطان في كل ديانة من الديانات الكتابية التي أسلفنا أن اسم الشيطان فيها قد أصبحت له دلالته اللغوية إلى جانب دلالته الدينية.
واسم «الشيطان» بالألف واللام هو أشهر هذه الأسماء؛ لأنه ورد في كتب الديانات الثلاث، ودخل في تعبيرات اللغات الأوروبية المتداولة بلفظه المنقول عن اللغات السامية، فيتحدث الغربيون اليوم عن الفكرة الشيطانية أو عن العمل الشيطاني، ويفهمون من عباراتهم معنى لا يلتبس على القائل ولا على المتكلم. ومعنى الصفة الشيطانية عندهم مرادف للصفة الجهنمية التي تنطوي على الخبث والبراعة، وحب الأذى والتمتع بالإيذاء؛ كأنه منفس لطبيعة صاحبها يفرج عنه ويسره أن يلمح آثاره وهو مستتر وراءه.
والرأي الغالب أن كلمة «الشيطان» هذه عبرية بمعنى الضد أو العدو، ومن أسباب الظن باستعارتها من اللغة العبرية أنها لغة اليهود، وأن ديانة موسى عليه السلام سابقة للمسيحية وللإسلام، ولكنه ظن يصدق في حالة واحدة، وهي أن يكون اليهود أصلاء في الكلام عن الشيطان لم يسبقهم أحد من المشارقة إليه، إلا أنها حالة لم تثبت، وقد يكون الثابت خلافها ونقيضها؛ فإن اليهود قد وصفوا الشيطان بعد هجرتهم إلى بابل، وليست طريق بابل موصدة دون الأمم السامية غير اليهود.
والأرجح عندنا أن الكلمة أصيلة في اللغة العربية، قديمة فيها، لا يبعد أن تكون أقدم من نظائرها في اللغة البابلية؛ لأن اللغة العربية قد اشتملت على كل جذر يمكن أن يتفرع منه لفظ الشيطان، على أي احتمال وعلى كل تقدير.
ففيها مادة شط وشاط وشوط وشطن، وفي هذه المواد معاني البعد والضلال والتلهب والاحتراق، وهي تستوعب أصول المعاني التي تفهم من كلمة الشيطان جميعها.
فالشطط من الغلو الذي يدخل في أخص عناصر «الشيطنة»، والشط بمعنى الجانب المقابل قد تلحظ في مقابلة الخير بالشر من جانب الشيطان.
وشاط بمعنى احترق وتلف، وأشاطه بمعنى أهلكه وأتلفه، وانطلق شوطا أي ابتعد واندفع في مجراه، وشطن أي ابتعد فهو شيطان على صيغة فيعال.
وقد كان العرب يسمون الثعبان الكبير بالشيطان، ويقال في بعض التفسيرات: إن هذا المعنى هو المقصود من:
طلعها كأنه رءوس الشياطين ، وذكر الشراح اليهود المتأخرون أن الشيطان تمثل لآدم في صورة الحية حين أغراه بأكل الثمرة المحرمة، ولم تنقطع العلاقة بين الحية والشيطان، ويؤخذ من سفر أيوب عليه السلام - وهو عربي باتفاق المؤرخين - أن الشيطان كان معروفا بين العرب من ذلك العهد الذي كان سابقا لعهد خروج بني إسرائيل من مصر، ويؤخذ من تاريخ الأدب العربي في الجاهلية أن العرب قد عرفوا الشيطان في أدواره الفنية والأدبية مع السحرة والشعراء، فليس هو مجرد اسم معرب نقلوه من لغة أخرى ولم يزيدوا على وضعه في موضعه من المأثورات العبرية.
وأشهر أسماء الشيطان الأكبر في اللغة العربية هو اسم «إبليس» الذي يختلف اللغويون في أصله، كما يختلفون في نسبة كلمة شيطان إلى إحدى اللغات السامية.
والمتكلم العربي يفهم من وصف إنسان من الناس بأنه «إبليس» كل ما يريده القائل من هذه الصفة، فهي دالة في كلام الخاصة والعامة على الدس والفتنة والدهاء والسعي بالفساد، ولم تحمل كلمة واحدة من دلالتها اللغوية أكثر مما حملته هذه الكلمة مستعارا من صفات إبليس في العقيدة الإسلامية.
ويرى بعض الغربيين أن الكلمة في أصلها يونانية من كلمة ديابلوس “Diabolos”
التي تفيد معنى الاعتراض والدخول بين شيئين، كما تفيد معنى الوقيعة، وأصلها في اليونانية من ديا “Dia”
بمعنى أثناء، وبالين “Ballein”
بمعنى يقذف أو يلقي، ومعنى الكلمتين معا قريب من معنى الاعتراض والدخول بين الشيئين، أو قريب من ثم إلى معنى الوقيعة.
وعندنا أن هذا التركيب أضعف من قول القائلين: إن كلمة ديفل “Devil” ، أي الشيطان، في اللغات السكسونية مأخوذة من فعل الشر “Do-evil” ، أي من كلمة «دو» بمعنى يفعل، وكلمة «إيفل» بمعنى الشر. وقد أجمع اللغويون والدينيون على نبذ هذا التركيب مع أنه أقرب إلى صفة الشيطان من الصفة التي توحي بها الكلمتان اليونانيتان بعد التمحل والاعتساف.
ولسنا على يقين من انقطاع الصلة بين الكلمة اليونانية والكلمة العربية، ولكننا على يقين أن «شخصية» إبليس تحتاج بل تتوقف على الدلالة التي تستفيدها من مادة «الإبلاس»، أي فقد الرجاء؛ فإن ضياع الأمل ألزم صفات إبليس على ألسنة الخاصة والعامة، وليس أشهر من المثل الذي يضرب بأمل إبليس في الجنة مرادفا لمعنى الأمل الضائع كل الضياع. وقد فرق هذا المعنى بين كلمة إبليس وكلمة الشيطان في ملامح الشخصية، فهذا قد ضيع الحق وهذا قد ضيع الرجاء، وكذلك قد فرقت بينهما شروح الفقهاء، وفرقت بينهما الدلالة الملموحة بين الشيطنة والإبلاس.
والغربيون اليوم يستخدمون الكلمة اليونانية في صيغة النعت، وقلما يستخدمونها في صيغة العلم، فإذا قالوا عن شيء: إنه «ديابولي» أو إبليسي، فالمفهوم منه أنه عمل من أعمال التمرد والجبروت، لا يلزم أنه سيئ كل السوء، وإنما يلزم أنه خلا من الصفات الإلهية، أو الصفات «الرحمانية» على الخصوص، وكذلك توصف الثورات الجائحة التي تدمر الظلم وتنسف معالم الطغيان، فهي من الجبروت بحيث توصف «بالديابولية»، ولكنها من العنف بحيث تخالف الأعمال «الرحمانية» في الرفق والرضوان. •••
ومن أسماء الشيطان التي دخلت في الدلالات اللغوية اسم لوسيفر “Lucifer”
أو حامل النور، وهو في أصله اللاتيني اسم الزهرة حين تكون «كوكب صباح»، ولم تكن له من مبدأ الأمر دلالة سيئة، ولكنه جاء في كلام النبي أشعيا في معرض التبكيت لملك بابل الذي سمى نفسه بكوكب الصباح، وفهم الحواريون من كلام السيد المسيح «أنه رأى الشيطان كنجم سقط من السماء» أن المقصود هو الزهرة، وأنه كناية عن الخيلاء التي تقود صاحبها إلى السقوط، على أن سفر الرؤيا يذكر على لسان السيد المسيح أنه تحدث عن نفسه فقال: «أنا كوكب الصبح المنير.»
وإذا وصف إنسان اليوم بأنه «لوسيفر»، فالمفهوم من هذا الوصف أنه يلمع ويتخايل باللمعان، ويبلغ من العجب به حد السماجة والصفاقة، فهو الخطيئة الساطعة أو الخيلاء المتبجحة، ومن كان كذلك فسقوطه أمل يود الناس أن يتحقق، ولا يشعرون له بالرثاء الذي يصاحب المجد المنهار.
ويذكر الأوروبيون بعلزبوب وبعلزبول في مقام المتهكم بالرئاسة الشيطانية، وأصل بعلزبوب أنه إله معبود في عقرون، يقال عنه: إنه رب الطب، وإنه يشفي المرضى؛ لأنه سيد الشياطين. وكانت الأمراض العصبية كالجنون، والشلل، والفالج، والصرع، والهزال تنسب إلى تلبس الشيطان بجسم المريض.
ومعنى بعل زبوب رب الذباب، فحوله العبريون إلى بعل زبول، أي رب الزبالة؛ سخرية منه وتحقيرا لأمره ودعواه؛ لأنهم كانوا ينكرون عبادة البعل، ويدعون إلى عبادة «يهوا» أو الإيل، وقد قالوا حين سمعوا بمعجزات السيد المسيح في شفاء المرضى: إنه يشفيهم بمعونة رب الشياطين بعلزبول.
والدلالة اللغوية التي يفيدها وصف «بعلزبول» في أساليب العصر الحاضر هي الإقرار بالقدرة على قمع الشر؛ لأنها مستمدة من الشر نفسه، فهي الشيطنة التي تقمع الشياطين لزيادتها عليها في الشيطنة، لا لأنها تصلح أو تبتغي الإصلاح، وهي إلى ذلك لا ترتفع في قدرتها عن قدر الزبالة والذباب. •••
وهناك شيطنة خاصة تدل عليها كلمة مفستوفليس، ويقال إنها مأخوذة من كلمة يونانية مركبة تفيد معنى كراهة النور، ويرجحون أنها من «مي» بمعنى لا، و«فوس» بمعنى نور، و«فيلوس» بمعنى يحب، ولكن أصلها القديم متفق عليه، فهي مستمدة من السحر البابلي الذي سرى إلى الغرب على أيدي اليهود واليونان، وتمثل روحا من أرواح النحس التي تتسلط على بعض الكواكب، ويستعان بها على النكاية وخدمة الشهوات السوداء.
وشيطنة مفستوفليس «ذهنية» موسومة بعيوب الذهن في أسوأ حالاته من السخرية والاستخفاف، والزراية بالمثل العليا، واستباحة كل شيء بالحيلة والمكر والدهان، فهو ذهن يصنع الشر لأنه لا يبالي الشر والخير على السواء، وإذا طاب له الخير فعله غير مغتبط بفعله، كما أنه يفعل الشر ولا يلوم نفسه عليه، ويسر صاحبه أن يرى خيبة الأمل في الصلاح والفضيلة؛ لأنه يثبت بذلك فلسفة السخرية وسخافة المثل الأعلى، ويدفع عن نفسه نقد الناقدين واحتقار المحتقرين.
وقد كان مفستوفليس في القرون الوسطى شيطان السحر والمعرفة السوداء، وكان رجال الدين يتخذونه مثلا للعلماء الكفار الذين غرتهم المعرفة الدنيوية فانصرفوا إليها، وشغلوا بها عن معارف الدين.
ويتردد من حين إلى حين اسم إله الخراب أو إله القفار «عزازيل».
وهو اسم ورد في العهد القديم، واختلف الشراح في نسبته إلى أصله، ويرى بعضهم أنه من مادة الإزالة العربية، ويقول آخرون إنه كان رئيس الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض فأعجبهم «بنات الناس» وتزوجوا منهن، ثم انهزم أمام جند السماء فلاذ بالصحراء، ويقال أيضا إن إبليس كان يسمى عزازيل، ثم سقط فزال مكانه من السماء.
وقد كان من عادة اليهود أن يقترعوا على ضحيتين تذبح إحداهما للرب «يهوا»، وترسل الثانية محملة بالخطايا إلى عزازيل رب الأرض الخراب. وشيطنة اليوم في لغة المجاز مرادفة لمعنى العظمة التي تحتفظ بحق التضحية لها، وحمل القرابين إليها، ولو كانت تساق إلى عرش يستوي على مملكة الخراب.
وليس بين أسماء الشيطان الأكبر التي دخلت في مدلولات اللغة ما هو أشهر ولا أدل من هذه الأسماء: الشيطان، وإبليس، ولوسيفر، وبعلزبول، ومفستوفليس، وعزازيل، فهي اليوم كلمات وأعلام، وقد اجتمع لها من معاني الشيطنة كل ما نستقصيه فيما يلي متفرقا عن تواريخ الأمم والديانات حول «قوة الشر الكبرى»، أو قوة الشر العالمية في موقفها أمام عوامل الخير والكمال.
الشيطان في الحضارة المصرية
من أقدم الحضارات التي تمثلت فيها قوة الشر في صورة شخصية مميزة باسمها وملامحها حضارة مصر القديمة.
فمن أقدم عصور المملكة القديمة عرف المصريون حساب الروح بعد الموت، وموازين الجزاء على الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وشروط البقاء التي تستوفيها الروح لتنعم بالحياة الأبدية في العالم الآخر. ولم يكن العالم الآخر عندهم مؤجلا أو منتظرا في المستقبل بعد خراب هذا العالم الدنيوي، ولكنه كان امتدادا للعالم الذي هم فيه - وهو الديار المصرية - وهو كارثة طامة لم يكن من اليسير عليهم أن يتخيلوها ويتخيلوا عالما قائما بعدها، وإنما كانوا يتخيلون مصر عالمين دائمين في كل وقت؛ أحدهما ظاهر يسكنه أحياؤهم، والآخر باطن يسكنه موتاهم، فإذا حدث الخراب في الأرض فإنما هو عارض يجنيه الظلم على الحاكمين والمحكومين، ثم يزول العارض وتعود البلاد سيرتها الأولى مع انتظام الحكم على سنن العدل والإنصاف، وتأتي الحياة بعد الموت متصلة بالحياة على وجه الأرض، مستبقية لمطالبها ومآكلها ومشاربها في ظل حكومة كحكومتها، أو هي في ظل حاكم خالد كان فعلا في يوم من الأيام حاكم الأرض المصرية أثناء حياته الفانية.
وفي كل أمة من الأمم القديمة الكبرى يتناقل الكهان والشعب قصة عن نقمة الإله الأكبر على الجنس البشري، وندمه على خلقهم، وتفكيره في إبادتهم عقابا لهم على ذنوبهم. وتختلف هذه الذنوب باختلاف الأمم والكهانات؛ فهي تارة مسألة تقصير في الضحايا، وتارة مسألة غيرة «إلهية» من المعرفة البشرية، وتارة أخرى مسألة فساد واشتغال باللذات إلى غير ذلك مما سجلته قصص الخلق والعقاب في جميع الأساطير الأولى.
أما هذه القصة في الديانة المصرية، فهي قصة حاكم يغضب على المحكومين لأنهم ثاروا عليه وهموا بخلعه؛ لأنهم استضعفوه، وظنوا أنه شاخ وهرم فلم تبق فيه بقية للقدرة على ولاية الأمور.
وقد كتبت هذه القصة على جدران الحجرة الخاصة في هيكل سيتي الأول، الذي بني حوالي سنة (1350) قبل الميلاد، وخلاصتها أن الإله الأكبر «رع» علم بتآمر البشر على العصيان، فعقد مجلس الآلهة وشاورهم في أمر هذه الفتنة، فاستقر الرأي على إبادة العصاة، وأرسل الإله الأكبر عينه عليهم، فألفاهم قد هجروا الديار ولاذوا بالجبال، وتعقبهم جنوده فأثخنوا فيهم القتل حتى فاضت الأرض بالدماء، وبقيت منهم بقايا تتوارى هنا وهناك من زبانيته، فحزن «رع» لأنه أحس حقا بالعجز عن إبادة العصاة أجمعين، وطفق بعض الأرباب يواسونه ويقولون له: إن مشيئته وقدرته سواء، فكل ما يشاء فهو قادر عليه.
وتتم القصة على صورة أقرب إلى الرفق والمسامحة، فيقال في ختامها: إن «رع» سئم الكنود من رعاياه، فأجمع نيته على الاعتزال والإقامة في السماء، فندم الناس على كنودهم وعصيانهم، وتابوا إليه؛ فلم يعدل الإله الأكبر عن نيته، ولكنه أمر إله الحكمة «توت» أن يلقن الناس أسرار الحكمة وتعاويذ الوقاية من الآفات، ومنها الهوام والثعابين، وأن يهدي بها إلى السلامة من هو أهل للهداية.
وتروى قصة النقمة من البشر على روايات شتى يكثر فيها التناقض على ما هو مألوف في الأساطير الأولى، فأشدها وأصرمها هذه القصة التي نقشت على هيكل ملك يهمه أن يبالغ في بطش الأرباب ومصير العصاة، وأقربها إلى الرفق تلك الروايات التي تقول: إن الأرباب راجعوا الإله الأكبر، وراح بعضهم يمزج الجعة بالأصباغ الحمراء ليحكي بها لون الدم، ويزعم للأرباب الساخطين أنه قد أريق منه ما يكفي للزجر والعقاب.
وكانت فكرة المصريين الأقدمين عن قوة الشر أو قوة الإله الشرير موروثة من أقدم العهود، تتسم كما يتسم كل شيء في مصر القديمة بالمحافظة الشديدة، واستبقاء الكثير من مخلفات كل عصر سابق، وكل عقيدة مهجورة، فيكثر فيها الاختلاف والتناقض على حسب الحواشي والإضافات التي تلصق بها من كل حقبة مرت بها في طريقها البعيد.
ففي صورة إله الشر بقية من عبادة الأسلاف، وبقية من امتزاج السحر بالعبادة، وبقية من عبادة الشمس، وبقية من تعدد الآلهة بين مصر السفلى ومصر العليا، وفيها مع ذلك أثارات تدل على أنها في جملتها معلومات تاريخية واقعة عرض لها التشويه، وانطوت في عداد المجهولات التي يستدل عليها بالتخمين والترجيح.
ومهما يكن من خلاف في العقائد المصرية العريقة، فالقاعدة المطردة في تمحيص لبابها أنها مشتملة ولا بد على شيء يتعلق بكيان الأسرة، وشيء يتعلق بكيان الدولة، وشيء يقوم على الشريعة والعرف الاجتماعي، أو على ما نسميه اليوم بالنظام.
وعلى هذه الصورة تتمثل قوة الشر كما خلصت من الروايات المتعددة على طول الزمن، فهو صورة الأخ الشرير، والحاكم المغتصب، والمفسد الذي يعيث في الأرض ويخرج على العرف والعادة. وهذه هي صورة الإله «ست» إله الظلام في عقيدة الشعب المصري على الأقل؛ لأن عقائد الكهنة كانت تخالف العقائد الشعبية في تفصيلاتها، إن لم تخالفها أحيانا في الجملة والتفصيل.
وقد مضى زمن كان فيه «ست» معدودا من آلهة الحق والاستقامة، وكان الإله الموسوم بالشر هو «أبيب»، الذي كانوا يرسمونه في صورة حية ملتوية تحمل في كل طية من جسمها مدية ماضية، وتكمن للشمس بعد المغيب؛ فلا يزال إله الشمس «رع» في حرب معها ومع شياطينها السوداء والحمراء إلى أن يهزمها قبيل الصباح فيعود إلى الشروق. وقد خصص الجزء التاسع والثلاثون من كتاب الموتى لوصف القتال بين الإلهين إله الشمس وإله الليل، أو إله النور وإله الظلام.
وربما كانت القضية كلها في أوائلها المنسية قضية النزاع على العرش بين أخوين هما: أوزيريس وست، وبقي لكل منهما حزب يعظمه وينتصر له، حتى تغلب الحزب الظافر كل الغلبة فتضاءل أنصار الفريق المغلوب، وشاعت عنه أنباء الشر والتهمة، وانتهى بتمثيله في صورة «أبيب» إله الظلام، وتمثيل أخيه في صورة «رع» إله النور.
ولا يبعد أن يكون في الأمر خيانة زوجية أو شبهة من قبيلها؛ لأن أسطورة أوزيريس تروي أن الإله «رع» فاجأ الملكة «نوت» زوجته وهي في عناق «سب»، فلعنها ولعن ذريتها، وأقسم لا تلدن في يوم من أيام السنة، فلجأت إلى الساحر الأكبر «توت»، الذي كان مشهورا بعلم السماء وتسخير الأرواح العلوية والسفلية، فاخترع أيام النسيء الخمسة لتضاف إلى السنة، واستطاعت نوت أن تلد ولديها التوءمين أوزيريس وست في اليوم الثالث من هذه الأيام، وهي غير محسوبة من أيام السنة التي يطلعها «رع» بعلمه كلما عاد من الظلام، فخرج الولدان وفي أحدهما أو كليهما طبيعة الظلمة، أو طبيعة النور المختلس بغير علم من إله النور.
أما الرواية التي استقرت عليها قصة أوزيريس، فهي أن الأخوين تنافسا، فخدع «ست» أخاه وصنع صندوقا أغراه بالنزول فيه ليقيسه على جسده، ثم قتله ومزقه وألقى أشلاءه في النيل، فجمعتها إيزيس - زوجة أوزيريس - بمعونة الساحر توت، وبوأته عرش المغرب، فهو من ثم رمز للشمس في حالة الغروب.
وهناك رواية أخرى لعلها هي الأرجح والأقدم في التاريخ، وخلاصتها أن «ست» لم يقتل أوزيريس، ولكنه نازع ابنه «حوريس»، فتغلب عليه هذا وخصاه ليحرمه ويقطعه عن الملك في حياته وبعد حياته، ولم يكن للإله المغلوب من مكان يعبد فيه غير أقصى الجنوب في مكان «كوم امبو» اليوم حيث كان معبد التمساح.
ومما يرجح أن القضية في أوائلها المنسية كانت قضية نزاع على الملك، أن اسم «ست» محي من الهياكل بعد زمن، وأن أتباعه لاذوا بالجنوب، حيث يلوذ كل حاكم منهزم في عاصمة المملكة الشمالية، وأن ملوك الرعاة أعادوا ل «ست» كرامته حين أرادوا أن يحاربوا السلطان القائم، فبنوا له هيكلا في مصر السفلى، وأوجبوا عبادته هناك.
وقد استعيرت صفات «ست» من صفات أوزيريس على التناقض والتقابل بين الطرفين، فكان من صفات أوزيريس «أنه ملك الخلود، وسيد الباقيات، وأمير الأرباب والناس، وإله الآلهة، وملك الملوك، وسيد العالم الذي لا يفنى سلطانه».
أما صفات «ست» فهي نقيض الخلود والسيادة على الأرباب والناس، فلا سيادة له على غير الأرواح الخبيثة والأحياء الدنيا؛ ومن ثم يصورونه برأس حيوان مجهول، لا يراد به تمثيل حيوان معين، ولكنه يمثل الحيوانية في صورتها المبهمة، ويجعلون له أذنين منتفضتين كناية عن الإسراع إلى استطلاع الشر، وذنبا شائلا كناية عن الحران والأشر، ويعودون عليه باللائمة كلما أصيبت الدولة بالهزيمة، أو أغار على البلاد مغير مغتصب؛ لأنهم شخصوا فيه عوامل التمرد والانتقاض، فربما كان هذا من أسباب حظوته عند ملوك الرعاة، فاعتبروه عونا لهم وخصما للسلطان الزائل الذي أغاروا عليه، وأحبوا أن يتقربوا إلى عباده في الجنوب تمهيدا لضم الأقاليم جميعا في مصر العليا إلى دولتهم التي استقرت بمصر السفلى زمنا، وتوقفت عندها جهودهم قبل إجلائهم آخر المطاف عن الجنوب والشمال.
ومن أصالة الصبغة الحكومية أو صبغة الحكم والتحكيم في أقدم المأثورات المصرية، أن الأساطير العريقة في القدم تروي لنا من أخبار خصومة ست وأوزيريس، أن «ست» اتهم أخاه بالجور عليه، فوكلت الأرباب قضيتهما إلى أمينها الخاص الذي يعرف أسرارها، ويحفظ حكمتها، ويؤتمن على قضاياها - وهو الإله توت - فتبين له صدق أوزيريس وكذب ست، وخرج هذا مدينا بالذنب والشر من زمرة السماء، فما برح كل مصري في الزمن القديم يتقرب إلى إله الحكمة، عسى أن يتولى الدفاع عنه بعد الموت، وينصفه في قضيته كما أنصف أوزيريس من أخيه المفتري عليه.
وقد شغل «ست» وظيفة ضرورية في عهود الأزمات التي تنهزم فيها الدولة، وتنضب الثروة، ويختل نظام الحكم، وتضطرب مرافق المعيشة، فقد كان «ست» يبوء وحده بجريرة ذلك كله، وكانت عليه وحده تبعة كل آفة لا يستطاع دفعها، ومن هذه الآفات: ريح السموم، وعوارض الجفاف والقحط، وأوبئة المرض، وسائر الأمراض التي كانت تنسب من قديم الزمن إلى الجان والعفاريت، وقد كانت عليه التبعة أيضا في بقاء السحر الخبيث؛ لأنه كان على علم واسع بفنونه، ولم يكن في وسع الكهان والسحرة أن يعالجوا شروره، ويبرئوا المرضى من آفاته بغير وسائله وأسراره؛ ولهذا كثرت عندهم التمائم والتعاويذ، ومنها ما بقي إلى اليوم في صور الجعل والحشرات والأساور والقلائد التي لا تصنع للزينة، ولكنها تقرن بالأدوية والعقاقير طلبا للشفاء، ويقول الأطباء الذين كانوا يشتغلون بالطب والسحر: إن الدواء هو الذي يشفي ويبرئ من المرض، ولكن التمائم والتعاويذ هي التي تمنع «العكوس» من فعل أرواح الشر وأطياف الظلام.
وقد كان الفراعنة أنفسهم يلجئون إلى السحر لمغالبة الأرواح الخفية، فاستعان رمسيس الثاني بأصحاب التمائم والتعاويذ على مداواة أهل بيته، ولم يفعل ذلك جهلا منه بالطب ولا تعظيما منه لقدر السحر، ولكنه فعله إيمانا بضرورة اختيار الترياق من جنس المرض، ولكل شيء آفة من جنسه، كما قيل من قبل ويقال في كل زمان.
ولدينا من بقايا قصص السحرة نخبة لم يتخيرها جامعو الآثار، ولكنها اجتمعت لهم من حيثما اتفق بين الأنقاض والمحفورات، وكلها تروي أعمال السحرة في مجازاة الأشرار، كقصة الساحر «أبانير»، أي فالق الصخر، الذي استخدم سحره في الاقتصاص من عشيق زوجته، فصنع على يديه تمساحا من الشمع أرسله في البركة التي يغتسل فيها العشيق فالتهمه، وذهب ليبلغ الملك نبأ هذه العقوبة كي تحدث في ملكه بعلمه وإقراره.
ومن لم يكن سحره قصاصا من المسيئين إليه وإلى الفضيلة، فهو من قبيل «خفة اليد» التي يستخدمها الساحر لاستخراج النفائس المفقودة، كما فعل الساحر «خاتشا منخ» حين سقط الخاتم من إصبع إحدى الجواري المصاحبات للملك «سنفرو» في زورقه، فحسر الساحر الماء وكشف عن أرض البركة حيث استقر الزورق إلى جانب الخاتم المفقود، ثم تلا الساحر عزائمه فتلاقى الماء من تحت الزورق ورفعه رويدا رويدا حتى استوى على البركة كما كان. •••
يقول صاحب كتاب صناعات السحر في مصر القديمة:
إن السحرة المصريين كانوا على علم تام بلزوم الفضيلة والطهارة للساحر الطبيب، وفي اعتقادهم على الدوام أن الآلهة إنما يقترب منها كل طاهر القلب، سليم النية، وكانوا ينشئون على الإيمان بأن العبث ومطاوعة الشهوات تجور على العقل والبدن، وتعوق طالب المعرفة.
1
ومن أجل هذا كانوا يقسمون علم الأسرار إلى أقسام ودرجات، فمنها العلم الذي يستعان فيه بقدرة إله الخير على الشر وجنوده، وقوامه الصلوات والرياضات الروحية.
ومنها العلم الذي يستعان فيه بقدرة الشيطان الكبير على الشياطين الصغار، وقد يدخل فيه السحر الخبيث بحكم الضرورة على غير اختيار.
ومنها السحر الخبيث للأغراض الخبيثة، ولا يليق بالكهان الأبرار أن يشتغلوا به، وإن وجب عليهم أن يتعلموه لاتقاء ضرره، والتعوذ من سوء عقباه.
ويمكن أن يقال على الجملة إن الشر في العالم كله إنما كان في عرف الحضارة المصرية «جريمة اجتماعية وطنية» غير مشروعة، ولم يكن عنصرا أصيلا في تركيب الدنيا أو تركيب الإنسان، وقد بلغ من تطور هذه العقيدة في تفكيرهم الديني أن إخناتون استغنى عن الجحيم، وأنكر دعوى أوزيريس في السيطرة على عالم العقاب بعد الموت.
ولا نظن أن تاريخ «ست» قد استوفى حتى اليوم دراسته المثلى في علوم الآثار، أو في علم المقابلة بين الأديان، فإن الذي عرف منه إلى يومنا هذا يسوغ القول بكثير من الفروض والاحتمالات التي كانت تلوح للنظرة الأولى ضربا من الخيال أو اللعب بالجناس، ولا نعني تسويغ القول بها أنها ثابتة، أو أنها راجحة مقبولة على علاتها، ولكننا نعني أنها فروض واحتمالات لا ترفض، ولا يزال من يرفضها محتاجا إلى سند وثيق.
فالمؤرخ بلوتارك يذكر في كتابه «إيزيس وأوزيريس» أن «ست» كان يلقب «بيبون»، وأن هذا اللقب معناه العقبة المعترضة في طريق يفضي إلى الخير لتتحول به إلى الشر، ويقول في الفصل الثامن والعشرين: إن الأساطير تروي أن اليهود هم أبناء «ست» من أتان، ويعلق المؤرخ «أوليفيه بور جارد» على ذلك في كتابه عن الأرباب المصرية فيقول: إن هذه الأسطورة أصل الخرافة التي شاعت في تقديس اليهود في هيكلهم لرأس حمار
2 ... ويقول غيره بين الجد والهزل: إن شمشون حاربهم من أجل ذلك بفك حمار، وإنهم لهذا يتبركون بالمخلص الذي يأتي في آخر الزمان على حمار ابن أتان.
وقد تكرر القول بأن كلمة «ست» و«ستان» أو الشيطان العبرية من أصل واحد، ولا نزاع في اقتباس اليونان والعبريين من المصريين في تصوير «الشخصيات» العلوية والسفلية، فليس من الأناة أن نجزم ببطلان التشابه في اللفظ بين الفرعونية والعبرية مع عبادة الملوك الرعاة للإله الفرعوني كما تقدم، وليس من الأناة أن نجزم ببطلان التشابه بين مدلول اسم «ست» عند المصريين ومدلول اسم الشيطان “Diabolos”
باليونانية، وكلاهما يفيد معنى الاعتراض والدخول بين شيئين للتعويق والإفساد، وقديما شاعت نحلة إيزيس وأوزيريس وغيرهما من الآلهة المصرية بين بلاد اليونان في آسيا الصغرى وبين الإثيوبيين واليمانيين في الجنوب، وقال ديودور الصقلي: إنه رأى في «نيسا» من بلاد العرب عمودا للإله أوزيريس وشيئا من قصته ملخصا على ذلك العمود.
وقد ختم الأستاذ بورجارد كتابه الذي أشرنا إليه آنفا عن الأرباب المصرية قائلا: إن النحلة المصرية نقلها العبريون من مصر إلى الشام واليمن، ونقلها الإغريق إلى اليونان، ونقلها الفينيقي قدموس إلى اليونان وإلى بلاده، وإن أعظم العقول اليونانية كانت تهاجر إلى مصر لتدرس المعرفة المصرية في طيبة ومنف وعين شمس وسايس، وعدد منهم ليكرج “Lycurgos”
وصولون، وطاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون، وإيدوكس، وعدد بعدهم أمما من تلميذات الثقافة المصرية بين أهل الكتاب وغير أهل الكتاب. ولا شك في شيوع عقيدة الثواب والعقاب وعالم الأبرار وعالم الأشرار في الديانة المصرية القديمة، فليس من الغريب أن تتخلف منها بعض المصطلحات والمسميات، وليس من الأناة على الأقل أن ينتهي تاريخ «ست» حيث انتهى في هذا الموضوع، وقد قيل: إن العزى هي إيزيس، وإن مناة هي منوت أو موت، وإن النصوص متقاربة بين بعض المزامير وبعض أناشيد أتون، وإن أيوب عليه السلام كان يسكن إلى جانب مصر، ويتحدث عن أهرامها التي تبنى لتخليد الموتى، ويكافح الشيطان الذي يوسوس له ويغريه بالكفران والعصيان. وأقل من هذه الملابسات حقيق بالتريث عنده، وترك الباب مفتوحا بعده لما تأتي به الكشوف وتسفر عنه المقارنات.
الشيطان في الحضارة الهندية
ترجح فئة من علماء المصريات أن الديانة الهندية القديمة دخلتها مقتبسات كثيرة من ديانة المصريين الأوائل، ويرى برستيد وإليوت سميث أن معظم هذه المقتبسات من كتاب الموتى، ومن شعائر تقديس الملوك التي يستطاع التحقق من سبق الحضارة المصرية إليها.
ويرد ذكر مصر في كتب البورنا التي جمع فيها الهنود الأقدمون قصص الآلهة وبعض الملاحم الكونية المتوارثة عن آبائهم الأولين.
ولكن طبيعة الديانة الهندية تقرر الحدود التي بلغتها تلك المقتبسات، ولا يمكن أن تذهب بعيدا إلى ما وراءها، فهي لا تكون بطبيعة تلك الديانة إلا من قبيل الشعائر والمراسم، ولا يتأتى أن تتخطاها إلى أصول الديانة في جوهرها، إذ كانت الديانتان الهندية والمصرية على اختلاف كاختلاف النقيضين أو الطرفين المتقابلين، ولو أراد أحد أن يضع ديانتين يتوخى فيهما التقابل في العقائد الأساسية التي تدور عليها كل ملة، لما استطاع أن يبلغ في هذا التقابل ما بلغه أهل مصر وأهل الهند في العهود المتتابعة على غير قصد بطبيعة الحال.
والعقائد الأساسية التي تدور عليها كل ملة تتناول وجود الإنسان ونظام المجتمع، ووجود العالم كله أو الوجود على إطلاقه، وفي هذه المسائل الثلاث تقف الديانتان العريقتان موقف التقابل من طرف إلى طرف، كأنهما عامدتان إلى تصوير سعة الآفاق التي تحيط بالعقائد في ضمائر بني الإنسان.
فالديانة المصرية تصون جسد الإنسان وتستبقيه إلى الحياة الأبدية، والديانة الهندية تنكر الجسد، وتعلم أتباعها أن الروح تنسخ جسدها مرة بعد مرة، ولا تنال الخلاص إلا إذا فني الجسد كل الفناء.
والديانة المصرية تعتبر دوام الأسرة آية من آيات النعمة الإلهية، ولا تعرف دعاء إلى خالق الكون أحب إلى الداعين من بقاء تراث الآباء والأجداد، واتصال العقب إلى آخر الزمان، وعلى نقيض ذلك ديانة الهند التي تعلق النجاة بالإفلات من دولاب الحياة والموت، والرجوع إلى «النرفانا» من طريق «الموكشا»، أي اجتناب العلاقة الجنسية ولو في حالة الزواج.
وتؤمن الديانة المصرية القديمة بأن العالم المحسوس حق وخير، فتجعله مثالا لعالم الخلود، وعلى نقيض ذلك ديانة أهل الهند التي تحسبه شرا محضا، وباطلا موهوما، ومنبعا لجميع الشرور التي تعترض عالم الحقيقة، وتشغل الروح بالأعراض والقشور.
ويكفي هذا الاختلاف بين الديانتين لامتناع التشابه بينهما على الخصوص في مسألة الشر، وقوة الشر، وعلاقة هذه القوة بنواميس الكون الخالدة، سواء منها ما يتمثل في صورة «الذات» الإلهية، أو ما يتمثل في الناموس الأعظم أو «الكارما» الذي ليس له ذات.
على أن الديانة الهندية تحير علماء المقارنة بين الأديان أشد الحيرة في أمر «الشخصية» التي تقابل شخصية الشيطان، أو قوة الشر العالمية عند أصحاب الديانات الأخرى. وأسباب هذه الحيرة متعددة لا يصادفها العلماء بهذه الكثرة وبهذه الصعوبة في غير الديانة البرهمية وما تفرع عليها.
من هذه الأسباب أن الهنود الأقدمين قد تعاقبوا على البلاد بعقائد مختلفة يوشك أن تتناقض بين قبيل وقبيل من السابقين واللاحقين، وربما تعمد القادمون أن يهدموا عقائد من تقدمهم، فلا ينجحوا كل النجاح ولا يتركوها سليمة من التضارب والاختلاط، ومن ذلك في هذا الباب عقيدتهم في العفاريت الخبيثة أو العابثة التي يسمونها بال «راكشا»، وينسبون إليها أعمالا كأعمال الشياطين في الديانات الأخرى، فإن الباحثين في اشتقاق الكلمة يقولون تارة: إنها تفيد معنى الحراسة، ويقولون تارة أخرى: إنها الاسم الذي كان يطلق على الهمج الأولين الذين سكنوا الهند قبل إغارة الآريين عليها، وكانت لهم حراسة على الطرق وعلى ينابيع الماء. وقد رسخ في الأذهان من أحاديث القتال بينهم وبين الآريين أنهم أعداء البشر، وأنهم يتربصون بالناس كما يتربص الناس بهم في كل مكان، فلا ينجو أحدهم من الآخر حيث أصاب الغرة منه، ثم تطاول الزمن فانقسموا في أساطير العامة إلى أقسام ثلاثة: أحدها يشبه أرواح «الياكشا» البريئة التي تهيم على وجهها ولا تؤذي أحدا إلا أن يتعرض لها، والثاني يشبه العصاة المتمردين من الجن ويعادي الإنسان ألد العداء، والقسم الأخير يلوذ بالمقابر والصوامع ويحالف الموت والخراب، ويقول من يزعمون رؤيتهم: إنهم مشوهون، بعضهم ذو رأسين، وبعضهم ذو ثلاث أرجل، ومنهم من له عين واحدة في رأسه، ومنهم من له عدة أعين، وكلهم على خلاف البشر في التركيب.
ولا ينسب إلى هؤلاء «الراكشا» عمل من أعمال الإغراء والإغواء، ولكنهم قد يغتصبون النساء عنوة، ويتلصصون في الطرق المقفرة، ويستبيحون الأذى للكيد أو للعبث والدعابة. ورئيس هؤلاء «الراكشا» المسمى «رفانا» هو الذي اختطف الحسناء «سيتا» زوجة البطل «رام»، كما جاء في ملاحم «الريجيفيدا»، ثم حملها إلى جزيرة سرنديب، ولم يستطع زوجها أن يهتدي إليها ويخرجها من أسرها إلا بمعونة القرد هنومان.
فالشياطين في صورة «الراكشا» هم «الشر» الذي أبغضه الآريون، وصوروه لأبنائهم في الصورة التي تنفرهم منه، وتحذرهم من كيده، واتهم عندهم بما يتهم به كل شعب مهزوم يستأصله أعداؤه، ويدفعون به إلى أقاصي الأرض وزوايا المدن، ويستثيرونه أحيانا من فرط الظلم فيثور، ويهملونه أحيانا فيهيم على وجهه عاجزا عن الأذى، قانعا بالسلامة أو متحفزا للانتقام . •••
وإلى جانب التتابع في الديانات والأقوام المغيرة على البلاد، يقوم السبب الشامل في جميع العهود، ولا سيما العهود الأخيرة التي تطورت فيها فلسفة الهياكل، ووجد فيها الكهان المفسرون والمفكرون على أعقاب الكهان المتنسكين أو الدهاة المتحكمين؛ ففي هذه العهود الأخيرة تمكن الاعتقاد ببطلان العالم المحسوس، وغلبة الشر على طبيعة الوجود كله، فلم يكن في «الوجود» الشرير محل خاص لقوة تفسده وتدحض فيه الحق، أو تنقض فيه الخير. وما فيه من حق ولا خير إلا أن يفارقه الصالحون الناجون بأرواحهم إلى عالم الفناء.
وقد اشتمل الثالوث الأبدي في الديانة البرهمية على ثلاثة أرباب؛ هم: «براهما» الإله في صورة الخالق، و«فشنو» الإله في صورة الحافظ، و«شيفا» الإله في صورة الهادم، فكان الهدم - من ثم - عملا ربانيا يقوم به الإله في صورة من صوره، وينصف به الحق من هذا الوجود الباطل الذي ينبغي أن يزول؛ ليمهد سبيل الطهارة والصفاء. وبهذه المثابة يضيق مجال الشيطان ولا تمس الحاجة إليه في نظام الوجود.
ومن الصعوبات التي تحير علماء المقارنة بين الأديان أن التناسخ أو تعدد الصور للروح الواحد عقيدة عميقة متشعبة في الديانة البرهمية وفروعها، فليست هي مقصورة على الإنسان في أدوار حياته المتعاقبة، ولا على الحيوان في أشكاله المتنوعة، بل تعم الوجود كله من الأرباب العليا إلى ما دونها من الحيوان والنبات حتى الجماد؛ ولهذا يتفق أن تكون للإله صور متعددة تقترن النعمة ببعضها، وتقترن النقمة بغيرها، فيدين أناس للإله «شيفا» على أنه مصدر الخير وقائد الأرواح في طريق الفناء إلى حظيرة «الوجود» الأسنى، ويرهبه أناس آخرون على أنه سلطان الغضب والنكاية، فلا رحمة عنده ولا موئل من قصاصه وتقلب أطواره.
وليس تعدد الصور كل ما يواجه العلماء من أسباب الحيرة وتناقض الصفات في الإله الواحد، بل هناك سبب آخر يضاعف هذا التعدد، ولا يمنع «الشخصية» الربانية الواحدة أن تتولى أعمال العدد العديد من الشخصيات الربانية في معظم الديانات، وهذا السبب هو إضافة ال «شاكتي»، أي قرينة الإله الأنثوية، إلى وظيفته في المسائل الدنيوية.
فكل إله له «شاكتي»، بمعنى القرينة أو الزوجة، هي التي تنوب عنه في «شئون الدار»، أو في الشئون التي يتركها ولا يتفرغ لها إيثارا للعمل في الآفاق العلوية.
وتعود الأقاويل إلى «الشاكتي» فتجعل لها طبيعتين: طبيعة بيضاء منها الرفق والرحمة، وطبيعة سوداء منها العسف والقسوة، وقد تتسمى الطبيعة الواحدة باسمين؛ فتصبح «الشاكتي» الواحدة ذات أربعة أسماء غير اسمها الأصيل، وعلى هذا المثال تسمى قرينة سيفا إله الشر باسمها الأصيل «ماهسواري»، ثم تسمى باسم «أوما» واسم «جورى» حين ترجى منها الرحمة والمودة، وتسمى باسم «جوري» واسم «كالي» حين تخشى منها النقمة وسوء النية. واسم كالي الأخير هو الاسم الذي يعرفها به عبادها الذين اشتهروا باسم الخناقين، واتخذوا شعارهم في القرابين البشرية قتل الضحايا بغير إراقة الدماء.
وقد عاشت جماعة الخناقين زهاء ستة قرون تتعبد للإلهة «كالي» بخنق ضحاياها، والتقرب بأسلابهم على محاريبها. وتتخيل هذه الإلهة على مثال امرأة عابسة تحيط خصرها بنطاق من الجماجم والسكاكين، وتحمي كل من يطيعها ويتقرب إليها بتلك القرابين. وعقيدتهم في ذلك أن الإله «فشنو» يحافظ على الأحياء فيتكاثر عددهم، ويعجز الإله «شيفا» عن ملاحقته في مهمة الإبادة والإفناء، فيستعين «بالشاكتي كالي» على هذه المهمة، ويتزلف إليها عبادها بالمعونة على القتل مع اجتناب سفك الدماء؛ لأن الدم الذي يراق على الأرض تتولد منه الحياة.
وجماعة الخناقين هذه طائفة قليلة بين الملايين من الهنود الذين ينكرون عبادتها، ويسفهون أحلامها، ويحرمون قتل الحيوان، بل قتل الهوام والحشرات، فضلا عن الإنسان، ولكنهم لا ينكرون ربوبية «كالي»، ولا يتركون عبادتها على النحو الذي يرتضونه ويحسبون أنه أقرب إلى رضاها، ومن ذاك أنهم يترهبون أو يكفون عن النسل فيرضونها بغير حاجة إلى قتل الأبرياء.
وتلك الأسباب في جملتها هي التي تحير علماء الأديان كلما أرادوا أن يحصروا الشر في «شخصية شيطانية» تنعزل بقوتها عن القوى الإلهية في أقانيمها المتعددة.
ولكنهم يثوبون في النهاية إلى عقيدة واحدة مشتركة بين النحل والمذاهب، ولا حيرة فيها عند تصوير الشر في صورته الكونية الشاملة ، وهذه العقيدة هي الإيمان بأن العالم المحسوس شر وباطل، وأن كل ما يربط الإنسان به شر وباطل مثله، وتشتمل روابط الإنسان بالعالم المحسوس على كل مطمع، وكل شهوة، وكل أمل يفتنه بلذة من لذاته، أو قنية من مقتنياته، وتتجمع هذه الفتن قاطبة في «المرأة»؛ لأنها سبيل الروابط الدنيوية التي تقيد الحي بالدورات الأبدية في دولاب الولادة والموت، وأن لعنة الموت لتلاحق كل من يولد ويلد حتى ينقطع عن النسل، ويثوب إلى «النرفانا» بغير علاقة ترده إلى هذا العالم المحسوس؛ ومن ثم يفضي به المطاف في الآباد المتطاولة إلى غاية كل مطاف من الفناء والسلام.
ويلاحظ أنهم يحيلون الأمر على «الأنوثة» كلما عرضوا لعمل من أعمال الأرباب ينزهون عنه الآلهة، ويلحقونه بالشواغل الدنيوية الأرضية.
ويلاحظ كذلك أنهم يقولون عن العالم المحسوس كله: إنه «مايا» أو وهم وضلالة، وأنهم يصورون هذا «المايا» في صورة أنثى شديدة الفتنة والغواية، ويمثلون جمال العالم المحسوس بجمال الأنثى التي تستعين بالغريزة الجنسية على خداع المفتونين عن الحقيقة، فيحسبون اللذة نعمة تبتغى وهي شقاء أبدي لا يؤدي إلى غير شقاء.
وليس في الديانة الهندية وفروعها المتشعبة شخصية واحدة تشبه شخصية الشيطان غير الرب الذي يسمونه «المارا» من الموت، ويقولون: إنه يسيطر على السماء السادسة وما دونها من العوالم الأرضية، وكأنهم جمعوا فيه فتنة الحياة الدنيا مشخصة معروفة باسم واحد بدلا من تعميم القول على الفتن التي تساور النفس ولا تتمثل لها ذات في الحس أو الخيال.
وهذا «المارا» هو الذي قيل في قصة «بوذا»: إنه وسوس له وألح في وسواسه ليشغله عن النسك، ويصرفه عن مسلكه من الحكمة، وهو مسلك الزهد والاعتدال.
فالشر الكوني هو الشر النفسي الذي يخامر الضمير، ويزين له ترك الحكمة والإقبال على الأوهام والأباطيل.
وديانة الهند على هذا لم تبتدع شيطانا أو أرواحا شيطانية غير الأرواح التي يسمونها بالراكشا، ويردونها إلى الشراذم المشردة من أبناء البلاد الأصلاء الذين صمدوا للآريين زمنا ثم استكانوا على مضض وتربص، أو على هوان واستسلام.
أما «الشيطان الكوني » فهو مرادف للفتنة وكل ما يغري النفس بمطامع الحياة.
ويصعب على المتتبع للأعمال التي تنسب إلى بعض الآلهة، والأعمال الهامة التي تنسب إلى الشياطين الهادمة أو المعادية للجنس البشري أن يفرق بينهما بغير الرجوع إلى النيات، فقد تتشابه في الهدم ولا تفترق عن القصد والنية، فما كان هدما للقضاء على مطامع الدنيا وحبائلها فهو خير، وما كان هدما للتنافس على هذه المطامع، والوقوع في هذه الحبائل؛ فهو من عمل الشيطان كيفما كان الاسم الذي يطلق عليه.
الشيطان بين النهرين
ظفرت «بلاد النهرين» بعناية من المؤرخين الدينيين وعلماء المقارنة بين الأديان لم يظفر بها قطر آخر؛ لأنها ميدان للبحث لا يضارعه ميدان آخر في اتساعه وامتداد تاريخه، وتعدد أقوامه، وتيسر البحث فيه لنوعين من المقارنة يندر جدا أن يتيسرا في رقعة أخرى من الكرة الأرضية؛ وهما: مقارنة الأديان ومقارنة الأجناس في وقت واحد، إذ كان وادي دجلة والفرات وطنا قديما أقام فيه الآريون والساميون والطورانيون، وسواء صح أن السومريين الذين أقاموا فيه زمنا قد وفدوا إليه من الصين أو لم يصح هذا القول الغالب، فقد صح أن «زرادشت» نبي المجوسية عاش بين الطورانيين والمغول حقبة من الزمن، ووفق بين عبادتهم وعبادة الوثنية المجوسية بعض التوفيق.
وهذا التعدد في السلالة يصاحبه تعدد آخر في الأحوال الاجتماعية بين مجتمع المدن ومجتمع الرعاة، ومجتمع الزراعة الدائمة ومجتمع الزراعة المتنقلة، وبين أناس يبنون الهياكل وأناس لا يعرفون البناء، أو أناس يعبدون النار والكواكب وأناس يلصقون عبادتهم بالأرض ومعالمها وعناصر الطبيعة التي تهيمن على أرزاقهم ومساعيهم.
وتتضاعف العناية بالديانات التي نشأت بين النهرين لسبب غير هذه الأسباب، يهتم به الأوروبيون وأتباع الأديان الكتابية على العموم؛ لأن مراجع الأديان الكتابية تبتدئ في بلاد النهرين منذ عهد إبراهيم الخليل إلى عهد الشريعة الموسوية وشريعة حمورابي إلى عهد السبي واختلاط بني إسرائيل بالبابليين والميديين، واقتباسهم ما اقتبسوه منهم في العرف الديني والشعائر التي لها اتصال بمراسم العبادة، ثم تأتي عبادة «مترا» وعبادة «المانوية»، وقد زاحمتا المسيحية مزاحمة شديدة في دولة الرومان من شواطئ آسيا إلى الجزر البريطانية.
فالعقائد الدينية التي نشأت قديما حول بلاد النهرين لم تزل محور البحث ومرجع المقارنة والاستشهاد في جميع الديانات الكبرى، وأولها المسيحية التي يدين بها الأوروبيون، وهم أول من درس المقارنة بين الديانات على النهج الحديث.
ونحن في هذا الفصل لا نقصر الكلام على البلاد التي تحصرها الأوضاع الجغرافية بين النهرين، ولكننا نمضي معها إلى حدود الحضارة التي تأثرت بها أو أثرت فيها من وراء النهرين شرقا إلى أرض فارس، ومن ورائها غربا وجنوبا إلى الأقطار العربية أو الأقطار السامية التي كان لها اتصال بالدولة القائمة في بابل وآشور.
ولا حاجة بنا - في هذا الفصل - إلى استقصاء العقائد والشعائر في هذه الرقعة الواسعة من المساكن والسكان، وإنما ننظر إلى عقائدها وشعائرها من جانب الصلة بموضوع الكتاب، وهو الكلام على «الشيطان» أو قوة الشر العالمية، وقد كان لحضارة النهرين صلة وثيقة بجميع الأمم التي دخلت في عداد المؤمنين بالأديان الكتابية، فليست في حضارات العالم حضارة أحق بالدراسة في هذا الصدد من الحضارتين البابلية والفارسية، وكلتاهما تدخل في العنوان الشامل الذي نطلقه على أقطار «ما بين النهرين» بشيء من التجوز من الوجهة الجغرافية، وبغير تجوز من الوجهة الثقافية.
فنحن نرجع إلى «بابل» لفهم التطور في معنى «الخطيئة» مميزا من معنى الذنب أو العيب أو الرذيلة أو الجريمة.
ونحن نرجع إلى «فارس» لفهم التطور في مذهب «الثنوية» أو النزاع بين سلطان الخير وسلطان الشر في الأكوان العليا والسفلى، ومنها الكرة الأرضية. •••
إذا كنا نعرف للحضارة المصرية صبغة نلتمسها في جميع مظاهرها، وهي صبغة الحكم والشريعة ونظام الدولة، فالصبغة التي تغلب على حضارة بابل - على هذا النحو - هي صبغة التنجيم والأزياج الفلكية. وسنرى أن علماء المقارنة بين الأديان لم يلتفتوا إلى هذه الناحية في علاقتها بفهم المقصود من معنى «الخطيئة»، مع أنها - على ما نرى - لا تفهم حق فهمها ما لم تبتدئ من هذه البداية.
لقد عرف البابليون رصد الكواكب من أقدم الأزمنة، وعلقوا مصائر الناس وأقدارهم بسعودها ونحوسها، فلا يسعد أحدهم بنعمة السماء ولا يشقى بغضبها إلا وهو في الحالتين عرضة للقضاء المسطور في أزياج النجوم.
وقد نشأ عندهم علم الفلك بحسابه وتقديره مصاحبا لعلم التنجيم بخرافاته وأوهامه، ولم تكن كل هذه الخرافات والأوهام خداعا من الكهان السحرة، بل كانت عندهم عقيدة يصدقونها ويمزجونها بالقصص والألغاز التي يدركها العامة، ولا يدركون ما وراءها.
وما من قصة بلغتنا من أرض بابل في تاريخها القديم إلا وهي قصة من قصص المناظرة بين الأرض والنجوم في شكل من الأشكال التي يفتن فيها الحس والخيال.
فربة الأرض «تيامات» تتحدى السماء فتستعين بالطوافين على حكم أقطارها، وتخلق من جوفها الحيات والحيتان لتوطيد سلطانها، وبرج بابل يقيمه المتمردون من البشر ليرتفعوا به إلى مناجزة الأرباب في سماواتها، وكل ثورة من ثورات الأساطير المزعومة فإنما هي في مدلولها خروج من الأرض على إرادة السماء، لا تلبث السماء أن تكبحه وتروضه على الطاعة الواجبة، وعلى التسليم لها بحقوق الصلاة والقربان.
فلم يكن للبابلي من هم في سره وعلانيته إلا أن يستطلع إرادة النجوم، ويخرج بالإذعان لها وموافقة هواها من عداد «المنحوسين» إلى عداد السعداء، ويسأل العارفين بالتنجيم: ماذا تريد النجوم؟ وماذا كتب لي في كتابها المرقوم؟ فما كان رضى للنجوم فهو الفلاح والنجاح، وما لم يكن رضى لها فهو الخيبة والضياع.
لم يكن الأمر هنا أمر الحسن والقبيح، أو أمر الصلاح والفساد، أو أمر الاستقامة والإجرام، كلا ... وإنما هو أمر الرضى من كواكب السماء بما يوافق المسطور المكتوب، أو أمر الغضب الذي يحيق بمن يخالف قضاء الكواكب في مجراه.
والفارق بين الأمرين إنما هو الفارق بين الموفق السعيد والخائب المنحوس، أو بين من يسلك سبيل السلامة ومن يقترف حماقة الخلاف بغير رجاء. •••
وينبغي أن نفهم هذا الخلاف بالمعنى الذي يميزه من معنى الذنب، ومعنى العيب، ومعنى الرذيلة، ومعنى الجريمة؛ فإنه يباينها في طبيعته، ولا يتأتى للإنسان أن يعرف موضوع التحريم منه إلا إذا عرف مشيئة الله فيه، وليست الذنوب أو العيوب أو الرذائل أو الجرائم بهذه الصفة الخاصة بين المحرمات؛ لأن الإنسان قد يعرفها ببداهته أو بتعليم المجتمع الذي يعيش فيه.
فالذنب إساءة قد يجنيها الإنسان على من هو مثله أو من هو دونه، وقد يصاب بها كما يصيب، فهو مسألة إنصاف أو إجحاف في المعاملة.
والعيب نقص يعتري الإنسان من عجزه أو جهله، فهو مسألة كفاية وقصور.
والرذيلة إسفاف يتورع عنه صاحب الفضيلة الذي يروض نفسه على الكمال، فهي مسألة كرامة وابتذال.
والجريمة عدوان بغير حق يتعارف الناس على إنكاره ومجازاة فاعله، فهي مسألة قانون وقضاء.
أما الخلاف الذي يسمى «خطيئة»، فيكفي فيه أن يعمل الإنسان ما لم يرده الإله، ولو لم يكن من ورائه ضرر يعلمه؛ لأن الخلاف قلة إيمان بالمشيئة الإلهية؛ فهو مسألة أدب أو سوء أدب مع الله.
ولفهم الخطيئة على هذا الوجه مشابه في علم السحر والكهانة يقربه من الأذهان على نحو سائغ في كل تعليم، فليس من أدب التلميذ الذي يتلقى خفايا السحر والتنجيم أن يجترئ على كشف القناع عن سر يحجبه المعلم إلى حين، وعليه أن يغمض عنه عينيه ثقة منه بما يختاره له معلمه من درجات المعرفة على حسب مواقيتها المقدورة، فإن خالفه يوما متعجلا أو مستريبا؛ فهذا الخلاف سوء أدب أو جهل يخرجه من عداد الصالحين لعلم الأسرار.
وهذا رسم الخطيئة بين سائر المحرمات! رسمها أنها تحريم يناط بمشيئة الله، ولا يطلب من العباد أن يتجنبوه لسبب غير هذه المشيئة وإن خفيت عليهم وجوه الحكمة فيها.
وقد أورد برتشارد
3
في كتابه عن شعائر الشرق الأدنى الغابرة وعلاقتها بالعهد القديم نماذج من الصلوات البابلية المحفوظة يعلن أصحابها التوبة، ويطلبون الغفران؛ لأنهم أكلوا طعاما حراما ووطئوا على بقعة محرمة بغير علم ولا اجتراء على مغبة العقاب.
وقد نزيد المسألة توضيحا حين نقول: إن الإله وحده هو الذي يحق له أن يحرم شيئا ولا يذكر سبب تحريمه؛ لأنه هو وحده الذي يعلم مصلحة الخلق جميعا فيما يبيحه لهم وينهاهم عنه، فأما غير الإله فالمحرمات التي ينهى عنها لغير سبب لا تدين أحدا بالخطيئة، وكل ما يخشاه من إتيانها أن يتعرض للغضب أو للعقاب.
فلا جرم تتقدم البلاد البابلية غيرها من البلاد؛ لأنها تقدمتها في كشف الطوالع، ورصد الكواكب، وتفسير ما تنبئ عنه من سعود أو نحوس، وتستحيل السعود والنحوس إلى مباحات ومحظورات ومحللات ومحرمات، حين تستحيل الكواكب أربابا علوية تريد السعد والنحس بحساب وتقدير. •••
أما الحصة التي ساهمت بها عقيدة فارس في تاريخ الأديان وتاريخ قوة الشر على التخصيص، فهي «الثنوية» أو تنازع النور والظلام على سيادة الوجود.
ويظهر أن الثنوية هذه عريقة الأصل عميقة الجذور في البقاع الفارسية وما حولها، فإنها بعد تهذيب الأديان الكتابية لها لم تزل متغلغلة في أفكار بعض الكتابيين ممن ينتمون إلى اليهودية أو الإسلام، ويقيمون في أطراف البلاد التي كانت تحيط بها حضارة ما بين النهرين منذ أربعين قرنا أو تزيد. وقد روى الدكتور يوسف وولف، صاحب الرحلة إلى بخارى (من سنة 1843 إلى سنة 1845)، أن شيخا يهوديا يدعى ناثان زاره ومعه درويش من كشغار، فسأله الدرويش ممتحنا: من خلق النار والماء؟ قال الدكتور وولف: فلما أجبته أنه هو الله، صاح بي قائلا: صه! لا شيء من ذاك؛ لأن النار والماء عنصران مهلكان، ولا ينبغي لله أن يخلق المهلكات، وعليك أن تعلم أن الكون يحكمه إلهان؛ أحدهما: إله الملأ الأعلى، وهو رب الخير الذي خلق نورا لا يحرق، وخلق الوردة والبلبل، وقد تصدى له إله العالم الأسفل فحجب عنه خلائق الخير، وشنها حربا لا تزال حتى اليوم حامية الأوار، فمن عمل خيرا من الناس فهم خدام الإله الأعلى، ومن عمل شرا منهم فهم خدام الإله الأسفل، وسوف تحتدم الحرب كرة أخرى، فيصعد الإله الأسفل إلى السماء السابعة تحلق معه ألوف من جنده، وتطير بينها الحيات والثعابين، فيدور القتال سجالا حتى ينهزم الإله الأسفل ويلقي عصا الطاعة لإله السماء.
وأغرب من بقاء هذه العقيدة في موطن الثنوية أنها بقيت بين الأوروبيين إلى القرن السابع عشر، وكانت لها نحل ومعابد من بلاد البلقان إلى العواصم الفرنسية في الشمال والجنوب، وإذا صحت بعض الأخبار - مما نشير إليه في الفصول التالية - فقد بقيت شعبة منها إلى القرن العشرين تتستر باسم الماسونية، وتستقبل المصلين في باريس حيث يقربون القرابين إلى الشيطان، ويكررون التلاوات التي كانت ترتل في معابد النحل الشيطانية قبل ثلاثة قرون، وتدور خلاصتها على الإيمان بسيادة الشيطان على الدنيا، واعتبار المادة خلقة شيطانية يتنزه عنها إله السماء، ولا تسري عليها أوامره ونواهيه.
وقد تطور الإيمان بالثنوية أو هو قد ترقى مع الزمن في القرون الأولى كأنه جذر عريق لا يقتلع مرة واحدة، ولا يزال قابلا للنمو في منبت بعد منبت من العبادات الخالية.
فكان الوجود قسمة متساوية بين النور والظلام كما يتساوى النهار والليل، ثم ترقى المؤمنون بهذه الثنوية فآمنوا بإله واحد يسمونه «زروان»، وقالوا بولدين له كانا في رحم الغيب، فوعد أكبرهما بالسيادة على الدنيا، فاحتال إله الظلام منهما على الخروج أولا لعلمه بمسالك الظلمة، فكان له السلطان على الرغم من أبيه إنجازا لوعده، ولم يستطع الأب إلا أن يعد ابنه إله النور بالغلبة بعد حين يقدرونه بتسعة آلاف من السنين الكونية.
هذان الإلهان هما: «أورمزد» و«أهرمان»، أو الروح الطيب والروح الخبيث.
ومن عقائد بعض الثنوية أن الخلائق النافعة من صنع إله النور، وأن الخلائق الضارة أو التي لا نفع فيها من صنع إله الظلام.
وبعض طوائف الثنوية يعتقدون أن الجسد كله شر، ولكن الأرواح العلوية أرادت أن تحارب جنود الظلام فأنبأها الإله الأعظم أنها لا تقوى على حربها بغير أجساد كأجسادها، فإن شاءت بقيت على صفائها، وإن شاءت لبست أجسادا من المادة فكافحتها بسلاحها. وهذه هي الأرواح العلوية التي بقي الأكثرون منهم على صفائهم، ورانت الغواية الجسدية على بعضهم فغلبتهم الفتن والشهوات.
ويعتقد فريق من الثنوية أن آدم من خلقة الشيطان، ولكن الأرواح العلوية تعالج أن تصلحه، وتقوم أوده، وتستخلصه من وهدة الطين بقبس من النور تدسه له في وجدانه، فيأنف الحياة الأرضية، ويتطلع ببصيرته إلى السماء.
وجاءت المانوية فانتشرت في بقاع الدولة الرومانية بعد ظهور المسيحية، ونافستها أشد منافسة في آسيا الصغرى وبلاد الروم من آسيا وأوروبة، فامتلأت معاهد الدينيين بالكلام عن الشيطان، واستصوب أناس من آباء الكنيسة أن ينتزعوا شعائر عباد النور، فجعلوا يوم الأحد يوم الأسبوع المختار؛ لأنه كان مخصصا لعبادة الشمس،
4
وجعلوا اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر يوم الميلاد؛ لأنه كان يوما ينصرف فيه المسيحيون إلى سهرات الوثنيين، لاعتقاد هؤلاء أنه اليوم الذي يقصر فيه الليل ويطول النهار، فهو هزيمة لإله الظلمة، ونصر لإله النور.
وقبل المسيحية نظر اليونان الوثنيون إلى أصول العقيدة الثنوية، فحولوا أسطورة زروان الذي ولد له «أورمزد» إلى أسطورة كرونوس، الذي ولد له زيوس رب الأرباب وسيد الملأ الأعلى. فبحق يهتم الباحثون الدينيون بهذا الميراث العريق من بلاد بين النهرين؛ لأنه سابقة لا تنقطع عما تلاها من أطوار الإيمان بالخير والشر، وبالقوة الكونية التي نزهتها الأديان الكتابية بعد ذلك في عقيدة الوحدانية، ودونها القوة الكونية التي تمثل فيها الشر مخلوقا متمردا على الله. •••
وفي الوعي الديني عوامل ذات بال لا تحسب من الفرائض والشعائر، ولكنها تحسب من الخواطر التي تخامر النفس وتعمل عملها في تقويم الأخلاق المصطبغة بصبغة الإيمان.
من هذه الخواطر التي تستكثر على اللاهوت القديم خاطران يتخللان كتب الديانة «الزردشتية» من أقدم عصورها، أولهما أن الشر «شك»، وأنه نبت في الكون لأول مرة حين تساءل زروان بينه وبين نفسه: وما جدوى كل هذا التكوين وكل هذا التقدير؟ والخاطر الآخر أن الشر كذب، كما جاء في قصة «يامه» التي تضمنت أقدم الخواطر عن السقوط والخلاص، فقد دعاه أورمزد لحراسة الحق فاستعفاه؛ لعظم الأمانة وإشفاقه من العجز عنها، فأرسله إلى الأرض وخوله ما سأله من الغلبة على الموت، فامتلأت الأرض بالأحياء التي لا تفنى، وامتلأت نفس «يامه» بالخيلاء، فسولت له أن يناظر الإله بهذه العصمة، وأن يكاذب نفسه بخيلائه، فلحق به الشر، وجاءه الموت مع الشر، فكان ذلك من جناية «يامه» على نفسه وعلى زمرته تسللت إلى الوجود من مدخل الباطل، وهو أصل جميع الشرور.
هذان الخاطران يتخللان الكتب الزردشتية من أقدم العصور، ولم يدخلا العقائد التالية من طريق الفكر والتأمل، بل دخلاها من طريق الأشكال والرموز التي يلم بها الحس قبل التفكير فيها.
الشيطان في حضارة اليونان
يحتاج النقاد التاريخيون إلى تحرير موازينهم جميعا قبل الاطمئنان إلى رأي صحيح في أي شأن من الشئون السياسية التي قامت عليها حضارة اليونان.
ذلك بأن الناقد التاريخي سيرى بين يديه تاريخين غير متفقين في بعض الأصول، وفي كثير من التفصيلات: تاريخ الأمة اليونانية الحقيقية، وتاريخ الأمة اليونانية التي جعلها الأوروبيون المحدثون عنوانا للفضائل الغربية في مسائل العلم والفن والسياسة والأخلاق، كلما أرادوا أن يضعوا أنفسهم موضع المناظرة والموازنة أمام الشرقيين فيما قدروه لهم من نصيب في هذه المطالب وهذه المزايا.
وبلغ من رغبة الأوروبيين في ترجيح الغرب كله باسم اليونان أن فريقا منهم تنكر للمسيحية؛ لأنها ثمرة شرقية، وفريقا منهم زعم أن المسيحية ثمرة الفكرة اليونانية من طريق بولس الرسول وجماعة الفلاسفة المسيحيين، الذين طبقوا الدين على الفلسفة بعد القرن الأول للميلاد، وذكروا من براهينهم على ذلك أن الأناجيل كتبت باللغة اليونانية، وأن كلمة الإنجيل نفسها بمعنى البشارة من لغة اليونان.
وقد عمد الغرب إلى هذا الاستغلال التاريخي لتراث اليونان؛ لأنه احتاج إليه لتدعيم دعوى السيادة والرجحان على أمم الشرق في عصر الاستعمار، فاتخذ من تعظيم اليونان وسيلة إلى تحقير الشرقيين واستباحة السيطرة عليهم؛ بدعوى الوصاية الطبيعية التي تخول المتقدمين من بني آدم أمانة الإشراف على تعليم المتأخرين.
إن أمة اليونان الحقيقية غير هذه الأمة «المصنوعة» التي احتال بها الغربيون في عصر الاستعمار على خدمة السياسة، وخدمة العصبية، ومرضاة الغرور الذي يساور «الغربي» في مقام المفاخرة وإن لم يكن من خدام الاستعمار.
وليس من المنصفين من يبخس لهذه الأمة الحقيقية فضلا في تاريخ الثقافة الإنسانية، فمما لا نزاع فيه أن نصيبها في هذه الثقافة لا يعلوه نصيب، ولا حاجة بها معه إلى انتحال الدعوى واغتصاب الفخار بغير دليل، وحسبها أنها أخرجت للعالم سقراط وأفلاطون وأرسطو في ثلاثة أجيال متعاقبة مع من أخرجتهم من الحكماء السابقين واللاحقين، وأنها تعد من شعرائها، أمثال: هوميروس، ويوربيدس، وإسكايلاس، وسفوكليس، وأرستوفان، ومن علمائها ومؤرخيها ذلك الطراز الأول الذي تلاحق على مدى ثلاثة قرون في عصر لم يكن فيه أحد يضارعهم أو يقاربهم في هذه العلوم، ومعهم رهط من نوابغ الفن وأساطين السياسة والحكم يوازنون نظراءهم من كل أمة، ويرجحون أحيانا على أولئك النظراء بالكثرة والقيمة.
حسب الأمة اليونانية هذا الفخار الذي يقره جميع المنصفين من الشرقيين والغربيين.
فأما أنها استأثرت بالقيم الإنسانية العليا في الذوق والفكر والخلق، فتلك هي الدعوى التي يروجها الغرض ولا يسلمها التاريخ، فإذا كانت الشهادة لها بهذا الاستئثار هي المقدمة اللازمة للوصول إلى النتيجة المقصودة من تحقير الشرق وتسويغ استعباده، فهي مناجزة يقابلها الشرقيون بما ينبغي لها من التصحيح والتفنيد، وإنها لينبغي لها أن تصحح وتفند لغرضين واجبين؛ أحدهما: تمحيص الحقيقة، والآخر محو الأثر السيئ الذي تعقبه في نفوس أبناء الشرق، فتوقع فيها اليأس، وتقضي عليها بالمهانة ضربة لازب بحكم الخصائص الفطرية التي لا تتغير ولا تتبدل مع الزمن، في زعم الزاعمين.
لقد حصروا في طبيعة الغربي - من وراء اليوناني - كل قيمة إنسانية عالية في مزايا الفكر أو الحكم أو الخلق، وقابلوه في هذه الخصائص بالشرقي، فخرج الغربي بمزية العقل الذي يطلب العلم للعلم، ومزية الحكم الذي يقوم على حقوق الشعب، ومزية الخلق الذي تتقدم فيه الفضائل الاجتماعية على دواعي الأنانية ودوافع الغريزة، وخرج الشرقي من هذه الموازنة بالطرف النقيض، كأنهما متقابلان على خط من خطوط المسطرة لا يتلاقى طرفاه من أقصاه إلى أقصاه.
ونحن نصحح هذه المزاعم في مناسباتها إنصافا للحقيقة، ومنعا للضرر الذي يتخلف من آثارها، وبخاصة حين يتلقفها من أبناء الشرق من يحب الشهرة بالتحدي والمنافرة، ومن يحب التشدق بالغرائب والتعالم بالبدع والنقائض. وقديما رأينا من أصحاب هذه النزعة من ينافرون بني آدم اعتزازا بعنصر الشيطان، وكذلك كان بشار بن برد حين قال:
إبليس أشرف من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار
فليس للغربيين امتياز فطري في طلب المعرفة للمعرفة بغير نظر إلى منافع الكسب والصناعة، وليس الشرقيون محرومين من طلب المعرفة للمعرفة في قديم الزمن أو حديثه، فقد رصد المصريون - مثلا - كواكب السماء، وعرفوا أن الشعرى تظهر في موضع معلوم عند وصول الفيضان إلى منف، فاستخدموا الرصد بعد ذلك في تقرير مواعيد الزراعة، ولكنهم كما قال صاحب كتاب الرياضيات في الثقافة الغربية: قد رصدوها مئات السنين حبا للمعرفة قبل أن يثبت لهم ذلك الموعد الذي انتفعوا به في تنظيم الري والزراعة.
5
وإنما امتاز الإغريق بالبحوث الفلسفية في زمن من الأزمان لسبب واضح: هو أن هذه البحوث كانت مباحة عندهم حيث كانت تمتنع على غيرهم من أبناء الدول الشرقية العريقة، وهي لم تكن مباحة لهم لمزية أصلية في طبيعة التركيب ... ولكنها أبيحت لهم لأن بلادهم نشأت وتطورت دون أن ينشأ فيها عرش قوي وكهانة قوية، ولو قامت عندهم الدولة القوية والكهانة القوية، كما قامت في مصر وبابل، لكان شأنهم في أسرار الدين والمسائل الإلهية كشأن البابليين والمصريين.
فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تنشأ فيها الممالك الراسخة، وتنشأ مع الممالك كهانات قوية السلطان تستأثر بالبحث في أصول الأشياء وحقائق التكوين، وتتولى شئون العلم والتعليم كأنها حق لها مقصور عليها لا يجوز الافتئات عليه، وإلا كان المفتئت كالمعتدي على نظام الدولة ومحراب العبادة، ومتى طال الأمد بهذه الكهانات جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر؛ تمكن سلطانها، وتشعبت دعاواها، وتلبست معلوماتها بلباس الأسرار والطلاسم، وابتعدت شيئا فشيئا عن نطاق البحث الحر إلى نطاق المحفوظات والمأثورات.
وقد حكم على سقراط بالموت، وهرب فيثاغوراس قبله من وطنه، وهرب غيره من الفلاسفة من أثينا، دون أن تكون في بلادهم تلك الكهانات الراسخة التي طالت بها العهود في البلاد الشرقية، «وحدث للأوروبيين ما حدث في الشرق حين قامت في بلادهم الكهانات القوية، وبسطت سلطانها على التعليم ومعارض البحث في حقائق الدين وأسرار الطبيعة».
6
ودعوى الامتياز الفطري بالحكم الحر أضعف من دعوى الامتياز الفطري بطلب المعرفة حبا للمعرفة.
فالشائع على الألسنة أن التقدم العقلي ألهم اليونان أن يختاروا الحكومة الديمقراطية - أي الحكومة الشعبية - من كلمة ديموس، بمعنى الشعب في اللغة اليونانية القديمة.
وهذا خطأ من جميع أطرافه؛ فإن الحكم الذي سمي بالديمقراطي أو النيابي لأنه يجري بالانتخاب لم يبتدئ في أثينا، حيث يتكلم الفلاسفة ويتذاكرون، بل كان مبدؤه في «أسبرطة» العملية التي تختار النظام؛ لأنه أيسر تطبيقا وأنفع عملا، وتتبع هذه السنة في اختيار كل خطة تنتظم بها الإجراءات، ويمتنع بها الشغب والنزاع.
وكلمة «ديمقراطية» لم تؤخذ من حكم الشعب، ولكنها أخذت من كلمة «ديموس» بمعنى المحلة التي تقيم بها القبيلة، ثم استعيرت للقبيلة نفسها وللحكومة التي تشترك فيها القبائل.
وقد كان الانتخاب في أثينا القديمة مسألة «إجراءات» كما كان في أسبرطة من قبلها، ولم يحدث قط أن أحدا نال حق الانتخاب لأنه حق إنساني تناط به التبعات والواجبات، وإنما كانت الطوائف تناله واحدة بعد أخرى كلما اضطرت الدولة إلى الاستعانة بها في القتال، فلم تنله طائفة الملاحين مثلا إلا بعد ثبوت الحاجة إليهم في الحروب البحرية بعد وقعة سلاميس.
ويصدق هذا القول على الديمقراطية الغربية كلها بعد الديمقراطية اليونانية القديمة بأكثر من عشرين قرنا؛ فإن عمال الصناعة نالوه بعد عمال الزراعة؛ لأن عمال الصناعة ألزم للدولة من غيرهم في معامل الذخيرة والسلاح، وأقدر على المطالبة والإضراب، ولم تنل المرأة حق الانتخاب إلا بعد ثبوت الحاجة إليها في تلك المعامل مع إلحاح الطلب على المجندين من الرجال، ولم يصل الزنوج الأمريكيون إلى تطبيق هذا الحق فعلا إلا بعد الحرب العالمية الثانية التي اشتركوا فيها مقاتلين كما اشتركوا فيها صناعا للذخيرة والسلاح.
أما حكم الشورى الذي هو تكليف إنساني منوط بحقوق المساواة وتبعات الحكام والمحكومين، فلم ينشأ في اليونان ولا في أمة غربية، بل نشأ في الإسلام في الجزيرة العربية، ولم تسبقه إليه ملة ولا دعوة فكرية. •••
ونأتي بعد بيان الحقيقة في امتياز المعرفة وامتياز الحكم إلى موضوع هذا الكتاب، وهو «قوة الشر » ومكانها من الإله الأكبر أو من نظام الوجود.
ففي الحضارات الشرقية التي أجملنا القول فيها رأينا أن «قوة الشر» مغضوب عليها؛ لأنها تضر وتفسد وتدس الغواية على الإنسان. وخلاصة المعايير الأخلاقية هنا أن القيم الصالحة في جانب الإله، والقيم الفاسدة أو الخبيثة في جانب «قوة الشر» أو الشيطان.
لكن الأمر ينقلب تماما في معايير الأرباب اليونانيين؛ لأن «برومثيوس» الذي ينصب عليه غضب الأرباب وكبيرهم زيوس هو المعلم الذي هدى الإنسان إلى سر النار، وألهمه السعي في طلب البقاء، وبصره بالمجهول من خفايا الكون الذي يعيش فيه، وتمثله الأساطير على قسط وافر من الفطنة يغار منه رب الأرباب، ويخيل إليه من أجل ذلك أنه يتعالم عليه.
أما رب الأرباب «زيوس» فهو أشبه ما يكون بالشيطان في الديانات الشرقية القديمة، وهو في جميع صوره شهوان نهم أكول، شديد الطمع، لا يبالي شيئا من الدنيا غير استبقاء سطوته وموارد خزانته؛ ولهذا أرسل الصاعقة القاتلة على «أسقولاب» أبي الطب؛ لأنه يشفي المرضى فلا يموتون ويخسر «بلوطس» في العالم الأسفل ضرائب نقلهم على الهاوية السوداء.
وتمتلئ الأساطير اليونانية بأنباء الشجار بين رب الأرباب هذا وقرينته «هيرا» التي كانت تفاجئه في خياناته الغرامية مع نساء الإلهة وبني الإنسان، وربما عنفته في بعض هذه المشاجرات؛ لأنه ينحرف نحو «الشذوذ الجنسي» فيهبط إلى الأرض ليختطف منها الغلام الجميل «جانيميد» يجعله ساقيا في الملأ الأعلى يدير الرحيق عليه وعلى ندمائه المقربين.
وتتمثل لنا صورة زيوس هذا في أساطيره الكثيرة نموذجا للقوة الجسدية، وللحقد على من يظهرون الذكاء ويحرمونه لذات المخدع والخوان؛ فإن غضب فإنما يغضب لفوات لذة أو أكلة، وإن رضي فإنما يرضى لخدمة أو وساطة في طعام أو غرام. وهذه إحدى المحاورات بينه وبين برومثيوس كما تمثلها «لوسيان الساموسي» أديب الأساطير المشهور. - أطلقني يا زيوس؛ حسبي ما قاسيت. - أطلقك؟ أطلقك أنت؟ كيف؟ إنك لأولى أن يزاد عليك ثقل الأغلال، وأن تطبق عليك جبال القوقاز جميعا، وأن ينهش من كبدك اثنا عشر عقابا بدلا من هذا العقاب الواحد؛ فإنك أنت الذي أغريت هذه المخلوقات البشرية اللعينة بأن تجترئ على مناوأتنا، وأنت الذي اختلست سر النار، وأنت الذي سويت المرأة! وما بي من حاجة أن أذكرك بما صنعت حين وضعت لي العظم على المائدة وغطيته بالشحم تخدعني عن طعامي، فذق إذن جزاءك؛ فإنك به لجدير. - وهل تراني لم أصب من ذلك الجزاء ما هو حسبي؟ ألم ألصق هنا بالجبل سنين بعد سنين يأكل من كبدي عقابك هذا اللعين الأثيم؟ - إنك لم تصب عشر معشار الجزاء الذي أنت به حقيق. - تأمل؛ إنني لا أطلب منك الإفراج عني سماحة بغير عوض، وإنما أهب لك سرا من الأسرار الغالية التي تعنيك. - آه. إنها إذن لحيلة من حيل برومثيوس. - حيلة من حيلي! ولأي غرض؟ إن جبل القفقاز موجود، وإنك لقادر على الرجعة بي إليه إن كذبت عليك. - قل لي أولا في أي شيء تكون هذه النصيحة الغالية. - أإذا أنبأتك حقا بشيء عن هذه النصيحة، ألا تعلم منها أيضا أنني أحس بالنبوءة عن الغيب؟ - بكل يقين. - إنك على موعد زيارة لثيتس. - إلى هنا أصبت، فماذا بعد هذا؟ قل؛ إنني الآن أصغي إليك. - لا تضاجعها يا زيوس؛ فإن بنت نيريس لا تلبث أن تحمل منك حتى تلد طفلا يبتليك بما تبتليني به الآن. - تعني أنني أفقد عرشي؟ - أعيذك من القضاء، وإنما أنبئك بما سيكون من وراء ذلك اللقاء. - إذن وداعا يا ثيتس. وأنت يا برومثيوس سيأتيك هيفستس بالفرج القريب. •••
ورواية لوسيان لأخبار برومثيوس مع رب الأرباب تطابق رواية «هزيود» الذي تولى تنقية الأساطير، وحاول أن يعرض زيوس في معرض التقديس والتنزيه، فلم يترفع به عن وصمة النهم الذي يغضب لأكلة، ولا عن تهمة الغيرة من ذوي الفطنة والحيلة، بل ألقى اللوم على المغضوب عليهم لأنهم استحقوا الغضب بالتعالم عليه، وحكى وهو يبسط القول في أوائل خلق الكون قصته التالية: ... وولدت كليمين بنت الأوقيانوس ولدا أصمع القلب هو الأطلس، وكذلك ولدت منوتيوس المجيد، وبرومثيوس اللبيب صاحب الحيل والأساليب، وأييمثيوس الذي كان من مبدأ أمره شرا على الناس الذين يأكلون الخبز؛ لأنه هو الذي أخذ من زيوس المرأة التي خلقها، وكان منوتيوس ثائرا مثيرا، فرأى زيوس بثاقب نظره أن يرجمه بصاعقة هبطت به إلى أرينوس لادعائه وإمعانه في كبريائه ... وقضى على برومثيوس ذي البديهة الحاضرة والعارضة القوية أن يوثق بأغلال لا يفلت منها، وقيود قاسية لا ترحمه، وأن يطعن أحشاءه بسهم يكشف عن كبده لينهشها النسر الطويل الجناحين، فيلتهمها بالنهار، ويتركها في سواد الليل تعود سوية كما كانت ليعاود تمزيقها في الصباح.
وقد جاء هرقليس فقتل هذا النسر وأنقذ برومثيوس من عذابه ... ولم يكن ذلك بغير رضى من زيوس صاحب العرش الرفيع في الأولمب، وإنما أراد نباهة الشأن لابنه هرقليس ... فنظر بعين الرضى إلى فعلته وإن يكن غاضبا من برومثيوس؛ لأنه تسامى إلى مناظرة الإله الأكبر في الذكاء ... وقد كانت لذلك قصة يوم انقسم الأرباب والبشر، وذبح برومثيوس ثورا عظيما ليطعمهم منه؛ فسولت له نفسه أن يخدع زيوس، وأن يضع اللحم الجزل أمام غيره، ويضع أمامه عظما مكسوا بالشحم يلمع عليه ويخفي ما تحته بلباقته وخبثه، فلم يلبث زيوس أن صاح به: يا ابن يابيتس سيد السادة، ما أشد إجحافك - سيدي - في قسمتك!
كذلك قال زيوس صاحب الحكمة الخالدة يؤنبه، فلم ينس برومثيوس مكره، وراح يجيبه في ابتسام وصوت خفيض: «خذ من هذه الأنصبة جميعا ما ترضاه»، وظن أنه يحتال على الإله الأكبر بهذه الخديعة، ولكن الإله الأكبر صاحب الحكمة الخالدة لمح كيده، ولم يخف عليه قصده، وأضمر في قلبه شرا لأبناء الفناء من البشر لا محيص لهم من قضائه، وتناول الشحم الأبيض بكلتا يديه وقلبه مفعم بالغضب، وروحه يتلهب سخطا كلما رأى العظم الأبيض مدسوسا في خبث واحتيال؛ ولهذا قضى على عشائر البشر أن تحرق العظم الأبيض على المذابح المعطرة قربانا للأرباب الخالدين. ويزمجر مرسل الغمام بصواعقه محنقا إذ يقول لبرومثيوس: يا ابن يابيتس، يا بارعا فوق البارعين، كأنك يا سيدي لم تنس بعد أساليبك في المكر والخداع!
كذلك قال زيوس السرمدي الحكمة في غضبه، وظل منذ تلك الساعة يذكر الحيلة، ويأبى أن يسلم سر النار إلى الخلائق البشرية الهالكة التي تعيش على الأرض، إلا أن برومثيوس النسيب الحسيب غلبه دهاؤه، واختلس قبسا من النار في جوف قصبته، وأحس زيوس مرسل الصواعق في العلا بلذعة في فؤاده حين لمح النار بين أبناء البشر ...
ثم مضى هزيود يروي قصة المرأة التي خلقها زيوس شرا للبشر، وجعل اجتنابها في الوقت نفسه شرا يورث العقم، وجاء برومثيوس فأغرى الإنسان بالنسل مستهينا بشر الفتنة حذرا من شر الفناء.
وبديه أن تستهوي الشعراء هذه الأسطورة التي تحيط بمأساة البشر بين القوة الإلهية التي تحبهم، والقوة الكبرى التي تبغضهم وتلقيهم بين شرين من الفتنة والفناء، فقد جرب الشعراء أخيلتهم في نظم الأسطورة وإيداعها كل ما تتسع له من أحاسيسهم وأفكارهم، ومن تصويراتهم للقدر المحيط بالإنسان بين السماوات والأرضين، وقد تناولها في العصر القديم شاعر من أكبر شعراء اليونان، وتناولها في العصر الحديث شاعر من أكبر شعراء الإنجليز وشعراء الغرب أجمعين، فنظم فيها «إسكايلاس» قصيدته بعنوان «برومثيوس المعتقل»، ونظم فيها «شلي» قصيدته بعنوان «برومثيوس الطليق».
وكلاهما قد وضع برومثيوس وزيوس في مكانيهما من الإنصاف والإجحاف، ومن الخير والشر، ومن البر والعقوق، فجعل الشاعر اليوناني زبانية زيوس نفسه يرثون لبرومثيوس الذي قضي عليه - لعطفه على أبناء البشر - أن يوثق إلى صخرة نائية لا يراها أحد منهم، ولا يسمعه منها أولئك الذين قد شقي في سبيلهم فيجزيه عطفا بعطف، وإحسانا بإحسان، وجعل الشاعر الحديث رب الأرباب كالمارد العربيد أسكره النصر، فقام بين مخلوقاته الذين تسعدهم عزته، ونعى لهم صديق البشر الذي يرفعون إليه قرابينهم على كره منهم، وفي قلوبهم غصة، وعلى ألسنتهم نفاق.
ويقرأ المثقفون من الغربيين هذا الشعر الرفيع ولا يشعرون بالمناقضة بين ما يوحيه من القيم الأخلاقية في تصوير أصول الخير والشر، وبين دعوى الامتياز الأوروبي على أمم الشرق في تصويرهم لهذه الأصول، وليس في وسعهم أن ينكروا دلالة الأساطير الكونية على معايير الأخلاق وبواطن الشعور، وليس في وسعهم كذلك أن ينكروا التواتر في رواية تلك الأساطير. ونحسب أن السهو عن بيان هذه المفارقات في كتاب يوضع عن «الشيطان» يخل بأمانة الكاتب من الشرقيين وغير الشرقيين، ولكن الكاتب الشرقي - من أبناء هذا العصر خاصة - يخل بأمانتين لا بأمانة واحدة حين يسهو في هذا السياق عن تمحيص الحقائق، ودفع الأباطيل التي تتجاوز الخطأ إلى الضرر بالنفوس. •••
ويبدو أن اليونان المتأخرين - قبل عصر المسيحية - قد استعاروا من الشرق فكرة أخرى عن أصل الخطيئة، أو أصل الخطايا الشيطانية جميعا، فردوها إلى الكبرياء، وأطلقوا على هذه الخلة اسم الهوبري “Hubris” ، وهي كلمة قريبة من دلالات الرجس في اصطلاح الدينيين.
ولكن الكلام في الكبرياء لا يغني عن تعقيب ينفي عن الكبرياء محاسنها، ولا يبقي لها غير عيوبها التي ينكرها الدين كما ينكرها معيار الأخلاق.
فالكبرياء على الإله الكامل العظيم في صفاته وآلائه كفران لا شك فيه، وخطيئة لا مسوغ لها من العقل ولا من الضمير. أما الكبرياء على صاحب سلطان يستسلم لشهواته، ويصب صواعق السماء في سبيل أكلة من اللحم والشحم، فليس فيها من معنى الخطيئة كثير ولا قليل، وليس في استعارتها لهذا المعنى دليل على معيار صادق للحسنات والعيوب، ولكنه من قبيل النقل على السماع في غير موضعه ومغزاه.
الفصل الثالث
(1) في طريق الأديان الكتابية
قبل أن ننتقل إلى عقائد أهل الكتاب في قوة الشر العالمية، نتريث هنا لحظة لتلخيص المرحلة الطويلة التي عبرها الإنسان في هذا الطريق، من خطواته الأولى حيث لا تمييز بين خير وشر، ولا بين إله وشيطان، إلى غايته القصوى في حضارات الأمم القديمة حيث ظهرت ديانة التوراة، وهي أول الأديان الكتابية في التاريخ.
آمن الإنسان بالأرواح والأطياف من أول عهده بالدين في الهمجية الأولى، وآمن منها بما يرجوه وما يخشاه، ولكن كما يرجو النفع ويخشى الضرر من كل شيء يحيط به، وتتعلق به المنافع والمضار، ولم يكن للتفرقة بينها معنى في مقياس الأخلاق أرفع من معنى التفرقة بين الحيوان الأنيس والحيوان الضاري، أو بين الحشرة المأمونة والحشرة السامة، أو بين جمادين أحدهما يفيد ولا يضر، والآخر يضر ولا يفيد، وربما تلبس عنده الجماد بروح من الأرواح أو طيف من الأطياف كلما ارتجى نفعه واتقى أذاه.
وخطا في طريق التدين خطوة أخرى حين قسم الأرواح والأطياف إلى طيب وخبيث، واحتاج إلى الكاهن والساحر، ليروض له الخبيث بالرقى والتعاويذ، ويجزي عنه الطيب بالدعوات والقرابين، وعمل التخصص عمله البطيء فانفصل دور الدعاء ودور السحر، وإن عمل فيهما كاهن واحد، كما كان ينفصل دور الراعي ودور الصياد وإن كان كلاهما يرعى الحيوان النافع، ويصيد الحيوان الذي يفتك بالأناسي والماشية.
ثم خطا الإنسان خطوة أخرى من التمييز بين المنفعة والمضرة، وبين المنفعة التي تصدر على الدوام من الطيبة وحسن النية، والمضرة التي تصدر على الدوام من طبع خبيث ونية سيئة، ولم يكن أمامه في هذه الخطوة مثل على الشر الخبيث الذي يضمر السوء، ويتوارى عن النظر، أقرب إلى الحس والخيال من الحية التي تزحف على التراب، وتندس في الجحور كيدا وخديعة وتمكنا من الدس والأذى فيما توهمه، ولم يكن في وسعه أن يتوهم شيئا سواه؛ ولهذا بقيت صورة الحية مقترنة بقوة الشر حقيقة أو رمزا إلى أحدث العصور.
وعاش الإنسان عصورا مديدة يعمل الأعمال أو يتركها لأنها مأمونة نافعة، أو محذورة وخيمة العاقبة، فلما أخذ يعملها أو يتركها لأنها واجبة مطلوبة، أو لأنها محرمة محظورة، كانت هذه خطوته الأولى في طريق التمييز بين الواجب والمحرم، وبين الخير والشر في أضيق الحدود.
ولم يزل خيره وشره خير قبيلة واحدة أو شر قبيلة واحدة، حتى تجمعت القبائل في أمة ذات مجتمع واحد وشريعة واحدة، فعمت نظرته إلى الشر والخير، ولم تزل تتسع في عمومها حتى برزت في ذهنه فكرة «النوع الإنساني»، ووجدت مع هذه الفكرة الرفيعة فكرة أرفع منها وأشرف جدا في مغازيها وثمراتها؛ وهي فكرة الإنسان عن ضمير الإنسان. ولم يكن في الوسع أن يعقل شيئا عن «الضمير الإنساني» قبل أن يعرف أن الإنسان نوع واحد من وراء العشائر والقبائل والشعوب والأقوام.
وكانت الحضارات الأولى خطوة بل خطوات واسعة في هذا الطريق، ولكنها خطوات متفرقة تتقابل أحيانا، ولا تتقابل دائما في الاتجاه إلى معنى الخيرات والشرور، وقد كانت خيرات وشرورا قبل أن تجتمع في خير واحد بمقياس واحد، أو في شر واحد بمقياس واحد يتقارب فيه جميع بني الإنسان.
كانت مسألة العلم مسألة دولة وشريعة ونظام في عرف الحضارة المصرية الأولى؛ فالخير شريعة تستتب عليها الأمور، والشر مروق من تلك الشريعة وإخلال بالنظام الذي استتبت عليه.
وكانت المسألة مسألة كونية في عرف الحضارة الهندية الأولى، فالكون الظاهر كله باطل وزيف وشر، ولا خير في غير الإعراض عنه، والنفاذ إلى ما وراءه، ولعل المجاز هنا قد فعل فعله في المشابهة بين صيرفة الجواهر وصيرفة الموجودات على عمومها؛ فقد كانت صيرفة الجواهر فنا قديما في حضارة اللآلئ والحجارة الكريمة وحلي التيجان والقصور، وما عداها أو ما دونها من الحلي الزائف والحلي المبذول، وكلها كثيرة قديمة في بلاد الهنود.
وكانت المسألة مسألة فلكية في حضارة «بين النهرين» بفرعيها من فارس وبابل.
فما عدا النور فهو ظلام، وكل ما في الوجود فهو بين النور والظلام، وهذه هي خلاصة الديانات الثنوية في مختلف المذاهب والتأويلات.
وتختلف عقيدة فارس وعقيدة بابل في تلك الحضارة أو تلك الحضارات الواسعة، ولكنها لا تزال فلكية في الصميم؛ لأن الخير والشر فيها مقسومان بين السعود والنحوس كما سطرت في أزياج الكواكب، ودارت عليها أفلاك السماوات.
أما الحضارة اليونانية الأولى فالخير فيها مسألة حظ، والشر فيها مسألة اعتراض لذلك الحظ الذي لا حيلة فيه للمحظوظ ولا للمعترض عليه.
فلم يكن «زيوس» رب الأرباب لأنه أطيب منها، أو أعلم منها، أو أرفع منها خلقا، أو أشرف منها مقصدا، إذ إنه في الواقع أقل من الأكثرين بين الأرباب في جميع هذه الخصال، وإنما «الحظ» وحده هو الذي يفسر علوه عليها بغير تلك الفضائل والمزايا. ولم يكن هذا «الحظ» عرضا من الأعراض، أو مصادفة من المصادفات في الثقافة اليونانية المتقدمة، فضلا عن الأساطير البدائية التي لم تخلص من سذاجتها واختلاطها، بل كان «الحظ» مدار القصائد الكبرى والدرامات التي وضعها نوابغ الشعراء، ومثلوا فيها مصائر الأبطال وما كتب عليهم قبل مولدهم من قسمة مبرمة، وقضاء محتوم لا مهرب لهم منه بحيلة أو اجتهاد، ولا نجاة منه لذي حسنة أو ذي سيئة من المتفائلين أو المتشائمين.
وإذا لخص النزاع بين زيوس وبرومثيوس في قصة مفهومة، فليس لفهمه وجه من الوجوه على غير معنى واحد، وهو النزاع بين صاحب حظ غالب وصاحب حظ مغلوب. ولعل فلاسفة اليونان لم يجتهدوا اجتهادهم في كلامهم على السبب والمصادفة - أو البخت كما ترجمه الفارابي - إلا لأنهم كانوا يلقون «البخت» أمامهم عقبة قائمة في طريق كل تفكير، وكان إيمان العظماء به قد بلغ من الرسوخ والخطر ألا يقدم أحدهم خطة من خطط السلم، أو غزوة من غزوات الحرب، إلا بعد استطلاع العرافين عن «الحظ» المكتوب له أو عليه.
على أننا - في هذه العجالة - في مقام الحد الفاصل بين الحضارات الأولى والأديان الكتابية من وجهة النظر إلى «قوة الشر العالمية» أمام قوة الخير، أو أمام المشيئة الإلهية التي آمن بها الناس وهم يعلمون فكرة «النوع الإنساني» وما تلاها من فكرة أرفع منها وأشرف، وهي فكرته عن «ضمير الإنسان».
ونحسب أن الحد الفاصل إنما هو الفارق بين التقديم والتأخير بين صفتين من صفات الإله الأكبر؛ وهما: صفة السيادة والسلطان، وصفة الخلق والتكوين.
فالأقدمون قد آمنوا بخلق الله للأكوان، ولكنهم لم يبرزوا صفة الخلق كما أبرزوا صفة السيادة، ولعلهم كانوا منساقين في ذلك مع عقائد الفطريين الأسبقين الذين كانوا يؤمنون بأرواح لم ينسبوا إليها خلق شيء من الأشياء، فضلا عن خلق الكون الذي يحتوي جميع الأشياء، ثم تدرج الناس من عبادة الروح المتسلط إلى عبادة الإله المتسلط، فجعلوا صفة الخلق تابعة لصفة السيادة والسلطان.
أما الديانة الكتابية فقد أبرزت صفة الخلق وجعلتها شاملة لكل ما عداها من الصفات الإلهية، ومنها صفات السيادة وتصريف المقادير، ويأتي من هذا الفارق شيء كثير.
يأتي منه أن الشر في الحالة الأولى إنما يحسب من قبيل الحماقة قبل أن يحسب من قبيل الكنود والفساد، فلا يقال عنه: إنه يليق أو لا يليق كما يقال عنه: إنه عمل حكيم أو غير حكيم. وبين هذا، وبين وصف الشر بالسوء والكفران بون واسع لم تعبره الأمم الإنسانية طفرة واحدة، بل تقدمت فيه خطوات بعد خطوات كما سنرى في عقائد الأديان الكتابية مما قبل التوراة إلى ما بعد الإسلام. (2) الأديان الكتابية
العبرية
نسميها العبرية لأننا لا نعرف تسمية تصدق عليها منذ نشأتها في بلاد بين النهرين كما تصدق عليها هذه التسمية.
فلا يصدق عليها اسم «اليهودية» لأن النسبة إلى يهوذا حدثت بعد موسى عليه السلام.
ولا يصدق عليها اسم «الموسوية»؛ لأن موسى قام بالدعوة بعد يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام.
ولا يصدق عليها اسم «الإسرائيلية» لأن الإسرائيلية تنسب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، وكان إبراهيم الخليل جدهم أجمعين يلقب بالعبري في بعض كتب العهد القديم، فإطلاق اسم العبرية على العقائد التي دانت بها العشائر التي نشأ فيها إبراهيم أصدق من كل اسم آخر في الإحاطة بديانة القوم، من أوائل تاريخها وفي جميع أطوارها المعلومة إلى أن عرفت أخيرا باسم ديانة التوراة.
وينبغي أن نميز العبرية، في نشأتها الأولى، من ديانة التوراة كما تلقاها المسيحيون الأوائل، وكما انتهت إلينا مهذبة في القرآن الكريم.
فقد حملت «العبرية» عبء التوسط بين الوثنيات الأولى وعقائد التوحيد من قبل ظهورها إلى ما قبل المسيحية بنحو مائتي سنة، فلم تستقم على عقيدة الإله الواحد المنزه عن اللوثة الوثنية إلا حوالي القرن الثاني قبل الميلاد.
ولم تكن قط، قبل ذلك ولا بعد ذلك، ديانة إنسانية عامة تتساوى فيها جميع السلالات، وتناط فيها العقيدة بضمير الإنسان غير منظور فيه إلى عنصر أو نسب، وإنما نشأت وعاشت ديانة «قبيلة خاصة» أو قوم معلومين.
ولم ترتفع قط بإدراكها للتنزيه الإلهي إلى الأفق الذي ارتفع إليه آخر الأديان الكتابية، وهو الإسلام.
بل كان العبريون الأوائل ينكصون حينا بعد حين إلى شعائر الأوثان والأصنام، وعبادة البعل وتموز وعشتروت، ويعرضون عن أنبيائهم الذين يغارون من منافسة هذه الأرباب لرب إبراهيم؛ فلا يعودون إلى الوحدانية - أو ما يشبه الوحدانية - إلا بعد تقرير الدعوة من جديد.
ولبثوا زمانا يصفون الإله بالصفات التي لصقت به في الوثنية أو في ديانات الحضارات الأولى، فكان الإله عندهم يغار من الجنس البشري، ويشفق من يوم يهتدي فيه إلى شجرة الخلود، ويتوعده بالموت إن أكل منها، فيقيم الملائكة الأشداء حرسا حولها، كما روي عن الأرباب البابليين في حواشي قصة الخلق وقصة الطوفان، وكانوا يقولون لموسى عليه السلام: إنهم يتهمون «يهوا» بالكيد لهم، ونصب الفخاخ في البرية للتغرير بهم، وإنه لم يستدرجهم إلى سيناء إلا لأنه يبغضهم ويتمنى لهم الهلاك بعيدا من أرض وادي النيل التي أخرجهم منها.
وكانت فكرة السيادة في عبادتهم للإله غالبة على فكرة الخلق، كما كانت غالبة على أديان الحضارات الأولى، فلم ينكروا وجود الأرباب التي تدين بها العشائر الأخرى، ولكنهم أنكروا سيادتها، ودانوا بالولاء للإله «يهوا» وحده، كما يدين الشعب لملكه وهو يعلم بملوك غيره لا تجب عليه طاعتهم، ولا يأمن العاقبة إذا أشرك بينهم وبين ملكه في فرائض الولاء.
ويتضح من مقارنات الأديان أن العقيدة تعزل قوة الشر وتحصرها في «الشخصية الشيطانية» كلما تقدمت في تنزيه الإله، واستنكرت أن يصدر منه الشر الذي يصدر من الشيطان.
ولهذا لم يشعر العبريون الأوائل بما يدعوهم إلى عزل الشيطان أو إسناد الشرور إليه؛ لأنهم كانوا يتوقعون من الإله أعمالا كأعمال الشيطان، وكان العمل الواحد عندهم ينسب تارة إلى الشيطان وتارة إلى الإله، كما حدث في قضية إحصاء الشعب على عهد داود، فإنه في المرة التي ورد فيها اسم الشيطان بصيغة العلم قيل إنه هو الذي أغرى داود بإحصاء الشعب، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام الأول، ولكن الرواة يروون هذه القصة بعينها في سفر صمويل الثاني فيقولون: إنه «حمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلا: امض وأحص إسرائيل ويهوذا ...»
ولم يكن الشيطان هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة، بل كانت الحية هي صاحبة الغواية هنا، جريا على سنن الأقدمين الذين كانوا يوحدون بين الضرر الحسي وبين الخطيئة الأخلاقية، وقبل أن تصبح الحية مجرد رمز إلى الشيطان تلاحظ فيه المشابهة بين نفث السم ونفث الشر على أسلوب المجاز.
ولم يذكر الشيطان قط في كتاب من الكتب قبل عصر المنفى إلى أرض بابل سنة (586 قبل الميلاد) ... ثم كان ذكره فيها على الوصف لا على التسمية، فجاء مرة بمعنى الخصم في القضية، وجاء مرة أخرى بمعنى المقاوم في الحرب، وأطلق مرة على الملك الذي تصدى لبلعام في طريقه؛ لأنه كان بمعنى المعترض أو الضد أو الخصم المقاوم، ولم يذكر بصيغة العلم إلا حيث قيل في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام: إنه «وقف الشيطان ضد إسرائيل».
وقد كانت قرابين الكفارة تقسم على التساوي بين الإله وبين عزازيل رب القفار، أو الجني الذي يهيمن على الصحراء، وكان إيمانهم بوجود الأرباب الأخرى التي يعبدها غيرهم من الأمم بديلا من صور الشياطين؛ لأنها كانت تعمل عمل الشيطان، كلما صرفت الشعب عن عبادة «يهوا» إلى عبادة غيرها تثير النقمة على العصاة، وإنما تأتي النقمة إذن من «يهوا»، ولم تأت قط من أولئك الأرباب الأجنبيين، البدلاء من الشياطين.
وقد تمثل الشيطان في صورة الواشي الموغر للصدور في قصة أيوب عليه السلام، ولم يكن منعزلا عن الملائكة، بل دخل معهم إلى الحضرة الإلهية، وجرى سياق القصة على النحو الآتي كما جاء في الإصحاح الأول من سفر أيوب: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم، فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها، فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ إنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك حميته بحياطتك إياه، وحياطة بيته وكل ما يملك من ناحية؟ ... باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض ...»
ثم تبتدئ المحنة بتسليط الشيطان على أيوب لامتحان تقواه وصبره على ضربات المرض، والبلاء، والفقر، والحرمان.
وقصة أيوب عربية باتفاق الشراح المؤرخين ونقاد العهد القديم، ولها نظائر في الأدب العربي إن لم تكن هي القصة بعينها منقولة في رواية أخرى، ونعني بها القصة التي أشار إليها امرؤ القيس حيث يقول في معلقته:
وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فإن الجوف بلغة اليمن هو الوادي، وكلمة العير في هذا البيت بديل من كلمة «الحمار» اسم صاحب القصة، ولم تستقم كلمة الحمار في وزن الشعر فجاء الشاعر بكلمة العير لتدل على معناها، وكان حمار بن مويلع هذا رجلا من العمالقة له مال وبنون، وزرع وضرع، فنزلت على أبنائه صاعقة في بعض أسفارهم أحرقتهم وما معهم، فكفر الرجل بالله وقال: «لا أعبد ربا أحرق بني.» ثم عكف على عبادة الأصنام فأرسل الله على واديه نارا أتت عليه، وجعلته مضرب المثل في الخراب، فيقال على هذه الرواية: «أخلى من جوف حمار.»
وأيا كان القول في هذه القصة فلا خلاف على قصة أيوب، ولا على نسبة أيوب إلى العرب، ولا على انفراد هذه القصة بين كتب العهد القديم بتمييز قوة الشر والغواية في «شخصية الشيطان» ... وتلك قيمة من القيم الاعتقادية التي لم يميزها العبريون؛ لأنهم لم يبلغوا من التمييز بين طبيعة الخير وطبيعة الشر أن يفرقوا بين الملائكة والشياطين، وأن ينزهوا الإله الذي يعبدونه أو تعبده الأقوام الأخرى عن قبائح الشيطان.
وقد نبهنا إلى تحرير موازين النقد قبل النظر فيما كتبه الأوروبيون عن اليونان، وليست الحاجة إلى تحريرها في صدد المأثورات العبرية بأقل من الحاجة إليه في صدد المأثورات اليونانية؛ لأن الأوروبيين لا يتجردون من الهوى والعصبية كلما خلطوا بين تاريخ عقائد العبريين منذ القدم، وبين تاريخ العهد القديم، على اعتباره كتابا من كتب المسيحية التي يؤمن بعض الكنائس بتنزيلها، وينظر إليه بعضهم كأنه تراث أدبي موصول بتراث الدين.
فقد وهم الكثيرون من قدم الديانة العبرية، وأنها أسبق الديانات الكتابية في التاريخ أن هذه الديانة سبقت المسيحية والإسلام إلى أصول العقائد والعشائر في جميع الفرائض والعبادات، ولكن الواقع أن العبريين استعاروا كل ما دانوا به، ولم يعيروا المسيحية والإسلام شيئا غير ما جاء من تطور الأفكار، ولم يكن مجيئه على يديهم في أكثر الأحيان.
وعلى خلاف الشائع بين أصحاب الدعايات والعصبيات كان أنبياء العرب أساتذة الأنبياء العبريين في أهم الأصول الدينية، وهي مسألة الخير والشر، ومسألة الثواب والعقاب؛ ففي سفر أيوب قبل جميع الأسفار التوراتية ظهرت هذه الأصول، وقد تتابعت النبوءات في بلاد العرب قبل أن يكون للنبوءة شأن بين العبريين، وذكر القرآن الكريم من الأنبياء العرب هودا وصالحا وشعيبا وذا الكفل.
وجاء في التوراة ذكر بلعام وأيوب وشعيب، وجاء فيها أيضا أن شعيبا علم موسى وهداه إلى سياسة قومه، وأن بلعام كان حكما بين إسرائيل وخصومها في جنوب فلسطين. ومن صيحات النبي «أرميا» يتبين أن المجهول من أخبار الأنبياء في بلاد العرب كان أكثر من المعلوم المذكور في كتب العهد القديم؛ لأنه يستغيث متسائلا عن هداية الجنوب وينادي: أما من حكمة بعد في تيمان؟
وإنما تضخمت مأثورات العبريين بعد اختلاطهم بأهل بابل ومصر وبلاد العرب واليونان، واحتوت كتب التلمود والمشنا أهم عقائد القوم في مسألة الخير والشر، ومسألة الثواب والعقاب. ولا بد أن يذكر على الدوام أن هذه الكتب جمعت بعد المسيحية، وظلت تجمع ويضاف إليها حتى القرن العاشر للميلاد، وفي هذه الكتب خلاصة ما استفاده العبريون من مجاورة الأمم التي تقدمتهم في إدراك الصفات الإلهية والصفات الشيطانية، ومن هذه الكتب أخذ الآخذون ما حسبوه تراثا إسرائيليا، وهو في حقيقته تراث الحضارات الغابرة من أقدم العصور.
مثل واحد يدل على نصيب القوم من الأصالة والنقل في القصص الدينية، والتعليق على المسائل الغيبية، فإنهم ظلوا إلى ما بعد الإسلام ينقلون عن العرب قصصا كان موطنها في أرض بابل وآشور كقصة هاروت وماروت، وأحق ما يكون بالتنبيه في هذا المقام أن اليهود خرجوا من أرض بابل وعادوا إليها أيام السبي قبل الميلاد بستة قرون، ولكنهم لم يأخذوا هذه القصة إلا بصيغتها العربية بعد عصر السبي بأكثر من ألف سنة، فليس من شروط القدم في الديانة الكتابية أن يكون القوم معيرين، وأنهم لا يستعيرون.
ويدل تأخر المصادر التي فصلت أوصاف الشيطان على تأخر القوم في التمييز بين الخير والشر، كما ميز بينها أبناء الحضارات التي تقدمت الإشارة إليها؛ ففي الروايات التلمودية المتأخرة يبدأ كل تفصيل عن العداوة الشيطانية للإنسان، وعن أثر هذه العداوة في خروج آدم من النعيم، وفيها ارتقاء من وسوسة الحية إلى وسوسة شمائيل، رئيس الملائكة الذي عمل في القصة عمل إبليس، وتوسع رواق اليوبيل حوالي القرن الثاني قبيل الميلاد في الكلام على «مشطيم»، اسم الفاعل من مادة شط في اللغة العربية يقابله كلمة «مشيطن» في اشتقاق اللغة العربية.
وتحتوي التلموديات في مثل هذا العصر كلاما عن الشيطان بليعال روح الكذب والخداع، وهو يقابل في العربية «بلاعول»، أي لا معول عليه، ولا خلاق له، ولا خير فيه. ويحتوي كتاب أخنوخ، قرابة هذا الوقت، كلاما عن الملائكة الهابطين بقيادة كبيرهم المطرود من رحمة الله، ويقول كتاب الحكمة: إن الموت نزل على الدنيا من جراء حسد الشيطان. وأما قبل هذا العصر بعدة قرون فقد كان كتاب التوراة يذكرون الشياطين بأسمائها البابلية كما ذكروا «الشعريم»، أي الشياطين ذوات الشعر، والليليت أي الشياطين الليلية، والكتيب والدبير
1
وغيرها من الجنة والعفاريت التي اقتبسوها بمدلولها، فنقلوها بأسمائها ونعوتها. •••
ونعود فنقول: إن الديانة العبرية تحملت أعباء التوسط بين الديانات الوثنية وديانات التوحيد الكتابية، وصورة الشيطان في عقائدها هي أوفق مقياس لسلم التطور الذي ارتقت عليه من أقدم عهودها في التاريخ إلى العهد الذي ظهرت فيه المسيحية.
ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية، وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية، ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان.
فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكان الملائكة يهبطون إلى الأرض فيعاشرون بنات الناس، وكان الإله نفسه يمشي في ظل الحديقة مبتردا، ويأكل اللحم والخبز، ويحب ريح الشواء، ويغار ويحقد وينتقم كما يفعل كل مخلوق من مخلوقاته في الأرض أو في السماء.
وتطورت عقائدهم في الملائكة، فأصبح منهم نظراء لقوى الطبيعة في أساطير الوثنيين الأقدمين، فمنهم ملائكة للآبار، وملائكة للأنهار، وملائكة للتلال، وآخرون للمغاور والوهاد، وآخرون للأسماك والحيتان، ولكل صيد من حيوان البر والبحر والهواء. ومن هؤلاء الملائكة من يعمل في طاعة الشيطان، ويتنقل بين الأعمال السماوية وأعمال الأرض والهاوية كأنها نمط واحد من الأعمال يختلف باختلاف الرؤساء والدعاة.
وتروي «الزوهار» أن الملائكة هم الذين استكبروا آدم يوم صنعه الله لأول مرة ملء السماوات والأرضين، فتساءلوا مستنكرين: أفي الكون إلهان؟ فصغره الله وجبل له جسما من التراب.
وفي ميثاق أخنوخ، أن الملك شمهازي قاد رهطا من الملائكة إلى الأرض ففسق وعصا، وخاف أن ينفرد بالعقاب فدعاهم أن يقسموا معه ليفعلن مثل فعله، فأقسموا معه على جبل حرمون، وسمي الجبل بهذا الاسم لأنهم أقسموا عليه بحرمة الحرمان، وعقدوا النية على المحرمات، ثم فجروا مع النساء، وعلموهن الزرع والحصاد، وهموا بإهلاك رجالهن، فتعلم الرجال منهم الفتك والعدوان.
ويروى عن أخنوخ أنه هو الذي عزر الملائكة المتمرسين بشهوات الأرض، وقال لهم حين تشفعوا به: أولى لكم أن تهجروا الأرض، وأن تعيشوا سماويين لا تأكلون ولا تشربون.
2
ومن علماء الأساطير العبرية - مثل أبشتين وجرنبوم - من يقررون أن اليهود أخذوا طائفة من قصص الشيطان رواية عن المصادر الإسلامية، وأن سعديا وابن سابا نقلا أسباب سقوط إبليس عن هذه المصادر، ومعها كثير من الأوصاف والفعال التي يتميز بها الشياطين.
وكان الحكماء والربانيون يختلطون بكهان الديانات البابلية والمجوسية، ويسمعون منهم أوصاف أهريمان إله الظلام وجنوده، فينقلونها إلى الشيطان، ويضعون هذا الشيطان شيئا فشيئا في موضع العدو المناجز لله والإنسان، ومما اقتبسوه من أولئك الكهان - من الفصل الثالث في كتاب البنداهش “Bundahesh” - أن أهرمان تشكل بشكل الحية وملأ آفاق الفلك الأعلى والأرضين حتى لم يبق فيها منفذ لإبرة، ونفث سمومه فامتلأت حتى هبط إله الخير «أورمزد» إلى الأرض فرده إلى قراره.
ولوحظ في المقارنات بين العقائد أن اختصاص الشيطان بخلائقه، التي تنافر الأخلاق العليا، إنما كان يزداد ويتمكن كلما استعار العبريون شعائرهم ومأثوراتهم من أبناء الحضارات الكبرى، وأن أنبياءهم الذين أكدوا لهم عقيدة التوحيد والتنزيه لم يجدوا منهم سميعا قبل القرون الثلاثة الأخيرة التي سبقت ظهور المسيحية، ولم يكن تمييز الشيطان بخلائقه المنافرة للخير «عقيدة رسمية» يقرها الرؤساء المسئولون، ولكنه كان من قبيل التراث المحفوظ الذي تعرف مصادره حينا، وينقل من رواته في البيئة التي يشيع فيها بغير مصدر معلوم.
فلما تلاقت العبرية والمسيحية في الزمن، كانت صورة الشيطان على ما انتهت إليه يومئذ ميراثا مشاعا لا يستند فيه اليهود إلى نسختهم من التوراة، ولا إلى أسانيدهم «الرسمية»، ولكنها كانت صورة لا يختصون بها، ولا يمتنع أحد على غير ملتهم أن يقبلها؛ لأنهم نقلوها كما نقلها سواهم من مصادرها المعلومة أو مصادرها المجهولة، ولم ترجع بها كتب التلمود والمشنا إلى نبي من أنبيائهم المعدودين.
المسيحية
ذكر الشيطان بأسماء متعددة فيما روته الأناجيل من أقوال السيد المسيح، أو أقوال المتحدثين إليه على اختلاف المعتقد والنية.
فذكر باسم الشيطان، واسم «روح الضعف»، واسم الشرير، واسم رئيس هذا العالم، واسم بعلزبول، وقيل عن بعلزبول بلسان الفريسيين: إنه رئيس الشياطين.
وتذكر الأناجيل أخبار المجانين الذي شفاهم السيد المسيح فتقول عنهم تارة: إنهم صرعى الشيطان، وترد كلمة الشيطان في الترجمة اليونانية مقابلة للكلمة اليونانية التي تطلق على إبليس “Diabolos” ، أو مقابلة للكلمة التي تطلق على العفريت والروح المتسلط “Demon” ، سواء كان شريرا أو غير شرير.
وفي أحد هذه الأخبار ذكرت امرأة مصابة فقيل عنها: إنها «كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة، وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة»، فلما رآها يسوع دعاها وقال لها: «يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك ...» الإصحاح الثالث عشر من إنجيل لوقا.
وبصدد المخبولين والمصروعين وشفائهم على يد السيد المسيح قال الفريسيون: إنه يحالف رئيس الشياطين، ويأمرهم باسمه وسلطانه فيطيعونه ويخرجون من أجسام صرعاهم. وقد جاءت هذه القصة بصيغ مختلفة في الأناجيل، ورواها إنجيل متى فقال: «إنه أحضر إليه مجنون أعمى وأخرس فشفاه، وتكلم الأعمى والأخرس وأبصر، فبهت كل الجموع وقالوا: ألعل هذا هو ابن داود؟»
أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا: هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم: «كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته، فكيف يثبت ملكه؟ وإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم، ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله.»
وموضع الالتفات في كلام السيد المسيح هنا هذه المقابلة بين مملكة بعلزبول وملكوت الله، وأن السلطان الذي لا يكون بقوة الشيطان إنما يكون بروح الله.
وأصرح من ذلك الإشارة إلى سلطان إبليس على العالم قصة التجارب التي امتحن بها السيد المسيح في البرية، وكان إبليس هو الذي يجربه ويحاول إغواءه بما يملكه من العروض والمغريات، ويستوفي إنجيل لوقا هذه القصة إذ يقول: «إن يسوع رجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس، وكان يقاد بالروح في البرية أربعين يوما يجربه إبليس، ولم يأكل شيئا في تلك الأيام.
فلما تمت جاع أخيرا، وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا، فأجابه يسوع قائلا: مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله. ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجده؛ لأنه إلي قد دفع، وأنا أعطيه لمن أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع، فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان! إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.
ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل؛ لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، فأجاب يسوع وقال له: إنه قيل لا تجرب الرب إلهك. ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.»
3
وهذه القصة أوفى ما جاء في الأناجيل عن سلطان إبليس على ممالك العالم، وأنها دفعت إليه ليعطي منها ما يشاء لمن يشاء، فهو قريب من صورة أهريمان، إله الظلام في ديانة الفرس القديمة، ولكنه لا يملك إلا ما يدفع إليه بمشيئة الإله القادر على كل شيء، وتلك أول تفرقة في الديانات الكتابية بين إله الظلام وأمير الظلام، كما سمي إبليس بعد عهد السيد المسيح.
وآخرة إبليس كما جاء في كلام السيد المسيح تناسب موضعه هذا من العالم، ومن العزة الإلهية، ولا تصعد إلى المنزلة التي أنزل بها الفرس الأقدمون إله الظلام في ديانتهم الثنوية، وفي الإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متى شرح هذه الآخرة كما ينتهي إليها الملائكة والقديسون، وينتهي إليها الشياطين والأشرار: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة والقديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار، ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ... ثم يقول أيضا للذين عن اليسار: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.»
ويقول السيد المسيح فيما رواه إنجيل لوقا: إن الشيطان يغربل تلاميذه، وقال الرب: «سمعان، سمعان، هو ذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ...» الإصحاح الثاني والعشرون.
ويذكر إنجيل لوقا قبل ذلك أن الشيطان يداخل من يوسوس لهم، وأنه «دخل في يهوذا الذي يدعى الأسخريوطي ... فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند» ليسلم المسيح إليهم.
وينفرد إنجيل يوحنا بكلام منسوب إلى السيد المسيح يصف فيه إبليس بأنه رئيس هذا العالم، وتكرر ذلك في غير موضع؛ فجاء في الإصحاح الثاني عشر أن السيد المسيح قال لتلاميذه ليلة وداعهم: «الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا، وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع .»
وفي الإصحاح الرابع عشر يقول: «... لأن أبي أعظم مني، وقلت لكم الآن قبل أن يكون ... لا أتكلم معكم كثيرا؛ لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء.»
وفي الإصحاح السادس عشر: «أما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني، وليس أحد منكم يسألني أين تمضي، لكن لأني قلت هذا قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة. أما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر؛ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا، وأما على دينونة؛ فلأن رئيس هذا العالم قد دين.»
وفي إنجيل لوقا وردت الكلمة التي شبهت لقراء الأناجيل اسم الشيطان باسم «لوسيفر» حامل النور، كما كان يدعى بعد عصر الأناجيل بعدة قرون؛ ففي الإصحاح العاشر من إنجيل لوقا يقول السيد المسيح للتلاميذ السبعين الذين أرسلهم للبشارة من قبله: «إني رأيت الشيطان ساقطا كالبرق من السماء.»
أما غاية ما وصف به إبليس من السطوة، فهو قول بول الرسول عنه في رسالة كورنثوس الثانية: «إن كان إنجيلنا مكتوما، فإنما هو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين.»
وإنما كان بولس يذكر سطوة الشيطان وهو يرى أمامه معابد «مترا» في كل مكان يرحل إليه، ويسمع أتباع مترا يذكرون إله الظلام وإله هذه الدنيا السفلى التي تخضع لسلطانه، وتنتظر نور الخلاص بعد رجعة «مترا» بالظفر والغلبة في الدهر الموعود، وقد أخذ العبريون تقسيم الدهر إلى دهرين من أقوال أهل بابل وفارس، ولم يكن من شأن المسيحيين الأوائل أن يهونوا من شرور إله الظلام في هذه الدنيا، بل كانوا يسبقون أتباع «مترا» إلى تعظيم الفارق بين النور الإلهي والظلمة الشيطانية، وتسمية بولس للشيطان بإله هذا الدهر إنما هو من قبيل تحقير الدهر الذي يعبدونه فيه. وتلك عادة من عادات العبريين الأقدمين في الزراية بأدعياء الربوبية عند الأمم الأخرى، فكان من أساليبهم في إنكار ربوبية بعل أن يسموه - على رأي الكثيرين من الشراح - رب الذباب، ورب الزبالة؛ ومن ثم اسم بعلزبوب وبعلزبول.
وتمتزج بأقوال بولس على الدوام تعبيرات مجازية تدل على إلمامه بالأساليب اليونانية في التعبيرات، وسماعه بالآراء التي كانت تنقل عن حكماء اليونان، ويسوقونها مرة في معرض الطبيعيات، ومرة في معرض الدينيات، ومن ذاك قوله عن إبليس في رسالة أفسس: «إنه رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.» ومنه قوله في تلك الرسالة: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكان إبليس؛ فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل مع أحفاد الشر الروحية في السماوات.»
ويرى اللاهوتيون المحدثون أن أقوال بولس هنا تحتمل الإشارة إلى الطبيعيات اليونانية، كما تحتمل الإشارة إلى التراث العبري في مسائل الروحانية، قال الدكتور هوجو راهنر “Hugo Rahner”
في بحثه عن الروح الأرضي والروح الإلهي في علم اللاهوت القديم: «إن عبارة رئيس سلطان الهواء في كلام بولس الرسول تثير أسئلة شتى في التاريخ الديني، ينبغي أن نعرض لها إن أردنا أن نفهم آراء آباء الكنيسة الرفيعة في طبيعة الأرض الروحية الشيطانية ... أفلا يقع في أخلادنا أننا نسمع هنا نغمة مألوفة؟ أليس تصور الروح الشيطاني سلطانا على الطبقة المظلمة من الهواء صدى واضحا من نظريات أفلاطون وزينقراط وبلوتارك؟
إن التشابه لظاهر، وإن البحوث التي عرضت لهذه المسألة لكثيرة منوعة، ولكن الأرجح على ما يبدو أن بولس الرسول إنما اتخذ هذه الصورة من الروحانيات اليهودية المتأخرة، فقد كان من العقائد الشائعة بين اليهود أن الأرواح الشريرة لا تهبط إلى ما دون الهواء المحيط بالأرض، وأنها من هذا المهبط تباشر عمل الشر عليها. وإنما ترمز هذه الصورة في ذهن بولس الرسول إلى خصومة أصبحت خلقية نفسية، ولم تبق كما كانت قبل ذلك كونية طبيعية، فالعالم عنده في أساسه إنما هو الإنسان، وهذا الإنسان الذي يوصف بأنه أرضي، وأنه موثق إلى الأرض، وأنه خاطئ؛ خليق أن يخضع لسلطان أرواح الشر عليه، ولكنه قادر كذلك على أن يرتفع بنفسه من الظلام إلى النور، ومن الشيطان إلى الله.» •••
ومعلوم أن كتاب «العهد الجديد» هو مرجع المسيحية الأكبر الذي تتفق الكنائس على اعتماده في العقائد الجوهرية، ولكن العهد الجديد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: «أولها» الأناجيل، و«ثانيها» أقوال الرسل، و«ثالثها» أقوال الصحابة والرواة المتصلين بالرسل، وترتيبها كما جاء في شروح بعض اللاهوتيين المحدثين أن الأناجيل وحي غير مصحوب بتفسير، وأن أقوال الرسل وحي وتفسير، وأن أقوال صحابتهم تفسير بغير وحي. وقد جاءت في أقوال الرسل وما بعدها تفسيرات في المنزلة الأولى من مأثورات العقيدة المسيحية، يتقدمها جميعا ما جاء عن خطيئة آدم وعن تكفير الخطيئة، وعن الحية والشيطان، ولم تسبق الإشارة إليه في الأناجيل.
ففي هذه المراجع أول إشارة إلى تسمية الحية بالشيطان، كما جاء في الإصحاح الثاني عشر من أعمال الرسل، حيث يذكر التنين ويقال عنه: «إنه التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم».
وفي رسالة يوحنا الرسول الأولى: «من يفعل الخطيئة فهو من إبليس؛ لأن إبليس من البدء يخطئ، ولأجل هذا ظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس.»
وفي هذه الرسالة أيضا: «إن الإنسان من الله أصلا، ولكن «العالم» كله قد وضع في الشرير.»
وتتكلم الكتب «البوكريفية» عن دخول الموت إلى العالم بدخول الخطيئة فيه، ومعظم هذه الكتب لا يرتقي إلى طبقة الأقوال المأثورة عن الرسل مباشرة، ولكنه يعتمد للترجيح والتفسير، وسمي بالكتب «البوكريفية» بمعنى «السرية» أو الخاصة في اليونانية؛ لأنه كان من المراجع التي يضن بالاطلاع عليها على غير الواصلين في الإيمان والمعرفة.
وعندنا أن الفرق في أوصاف الشيطان بين الأناجيل وما تلاها إنما هو الفرق بين الأوصاف السماعية والأوصاف القياسية أو العقلية؛ فإن الشيطان لم يتقرر له «شأن» أو دور معلوم في الأديان الكتابية قبل القرن الأول للميلاد، وإنما كان في الكتب العبرية أو اليهودية واحدا من الملائكة المغضوب عليهم، أو واحدا من الأرواح المتمردة، فلا يعرف إلا بما سمع من أوصافه، ولا شأن له في ذلك إلا كشأن الأبطال التاريخيين، أو «الشخصيات التاريخية» التي تعرف بالمسموع عنها بين المسموعات المختلفة، ولا يمكن أن تعرف بأوصاف عامة يقتضيها العقل والقياس.
أما الشيطان الذي تقرر له «دور» معلوم أمام الله فلا يتوقف العلم بأوصافه على السماع، بل يجوز للمفكر أن ينسب إليه كل ما يقتضيه ذلك الدور من الألوان والملامح والخصائص والتبعات، ويجوز له كذلك أن ينسب له ما سوف يأتي به بعد أزمنة طويلة في نهاية العالم ومصيره المقدور.
وقد تقرر دور الشيطان، وتقرر سلطانه على الشر وعلى العالم الأرضي في مقابلة العالم الإلهي في السماء، فكل صنيع يوصف بالشر فهو من عمله بغير حاجة إلى رواية السماع، وكل خطيئة أو غواية أو ضلالة أو عاقبة محذورة؛ فإنما تنسب إليه كما تنسب الخصائص إلى معدنها بحكم البداهة التي لا تحتاج إلى عيان أو إلى إسناد، وعلى هذا القياس قال بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: إن رؤساء هذا الدهر - أي الشياطين كما جاء في تعبيراته السابقة - هم الذين صلبوا السيد المسيح، ورماهم بالجهل وقلة الدراية بعقبى ما يصنعون؛ لأنهم ظنوا أنهم يخدمون مقاصدهم بتقديم المسيح إلى الصليب، وما كانوا يخدمون غير مقاصد الله منذ الأزل بما دبروه ورتبوه، فقال عن حكمة الإيمان وحكمة الشيطان: «إننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سر الحكمة المكتوبة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا، ولم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر؛ لأنهم لو عرفوها لما صلبوا رب المجد.»
فإذا كان الأئمة الأسبقون في صدر المسيحية يذكرون الشيطان بصفات لم ترد في الأناجيل ولا في كتب العهد القديم، فإنما يذكرونه بالصفات التي تكون له لا محالة بحكم طبيعته المميزة، أو بحكم دوره المعلوم، وهو الدور المقابل للخير والحق وصدق النية في كل عمل مضى، وكل عمل يتكشف عنه الغيب.
وينبغي أن تلاحظ النقلة الواسعة هنا في تطور الأخلاق والمقاييس بين أوائل العقائد العبرية وبين العقائد التي شاعت في القرن الأول للميلاد.
فقد كان الضرر والشر بمعنى واحد في العقائد البدائية، وكان الروح الضار كالحيوان الضار في مقاييس الأخلاق أو مقاييس النعمة والبلاء، وكان من الجائز أن تستقل الحية بالضرر دون أن يلقنها الشيطان غواية آدم، فهي حيوان ضار يؤذي ويخيف، وكفى بذلك وصفا للشرير في العقائد البدائية؛ فما زال الضرر والشر يتميزان ويختلفان في الميزان حتى وجب عقلا أن يكون الشيطان وراء الحية في غواية آدم وحواء، وحتى وجد في عالم الضمير فارق واسع بين الخوف من لذعة الحية الماكرة ودسيسة الشهوة والعصيان. •••
إلا أن المسيحيين الأوائل استرسلوا في حديث الحية؛ لأنهم وجدوا فيها أصلح صورة لتمثيل الشيطان للحس، وكان تمثيل الشيطان للحس يتتابع في «رؤى» النساك والمتنبئين مستقلا عن تمثيله للنفس في بحوث الفقهاء وعلماء اللاهوت. فإذا تكلم اللاهوتي عن الشيطان فإنما يستنبط أوصافه بالقياس إلى طبيعته وعمله كما تقدم، ولكن الناسك المتنبئ صاحب الرؤى والمشاهد الغيبية إنما ينقل رموزا وجدانية قابلة للمشاهدة في الحس، كما هي قابلة للمشاهدة في الرؤيا.
وليس في الأشياء التقليدية ولا في تشبيهات الخيال أقرب من الحية القديمة، وإذا بولغ في تشويهها وتبشيعها وتعظيم ضررها فهي التنين الذي يضيف إليه الخيال من الأشياء والطبائع ما لم يتحقق في الحية المعهودة، فهو ذو رأسين، أو ذو أرجل وأجنحة، أو ذو لسان يندلع بالشرر ويقذف باللهب.
وقد ساعد على انتشار هذه الصورة للشيطان أنها كانت شائعة من أقصى الصين إلى أرض بابل وآسيا الصغرى، وأنها كانت شائعة كذلك في كتب العهد القديم، وصادفهم خطر التنين الأكبر، أو خطر الحية الشيطانية في مقر عبادتها بآسيا الصغرى، فكثرت في رسائل العهد القديم إشارات النساك إلى «برجاموم»، عاصمة هذه العبادة التي يظهر أنها كانت متوارثة هناك منذ زمن قديم، وتجددت دعوتها بعد قيام الدعوة المسيحية، على سبيل المقاومة ورد الفعل، مع غيرها من الدعوات التي كان أصحابها يتألبون عمدا أو على غير عمد لمقاومة الدين الجديد.
ويمكن أن تعتبر رموز الرؤى مقدمة للصور الفنية التي اختارها المصورون والمثالون بعد انتشار المسيحية، وقيام هياكلها، واشتغال أصحاب الفنون برسومها ومبانيها، فهناك صور للشيطان على مثال التنين، وصور أخرى على مثال التنين في جميع أعضائه غير الرأس، فقد كانوا يجعلونه رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدتين في مكان القرنين، وكلما تقدم اللاهوت في وصف طبيعة الشيطان غابت ملامح الحية والتنين، وخلفتها ملامح إنسان خبيث الطلعة يعمل الفن عمله في إيداعه دلائل الشر، التي تغني عن استعارة الشبه الشرير من مشابه الحيوان، ولكنهم ظلوا إلى زمن أخير يصورون الشيطان بظلف مشقوق، ويحتفظون في هذا الشبه بصورة «الساتير» اليوناني المتهالك على الشهوات ومعاقرة الخمور.
أما الصور اللاهوتية فقد أفاض الآباء الأولون في شروحها وفروضها، واجتهد كل منهم على حسب علمه واطلاعه في تطبيقها على الطبيعة المفروضة للشيطان، ويعتبر ترتوليان “Tertullian” ، المتوفى سنة (230م)، وأوريجين، المتوفى سنة (254م)، أوفر الفقهاء المتقدمين مشاركة في وصف الطبيعة الشيطانية، وإسناد الأفعال والنيات التي تلائمها إلى الشيطان وأجناده على حسب درجاتهم في السيادة العالية.
وعند ترتوليان أن الشيطان الأكبر يرصد شيطانا من جنوده لكل إنسان من بني آدم وحواء، وأن أدلة وجود الشياطين عامة متواترة في عقائد المهتدين والوثنيين المضللين، وكلهم يسلمون أن الشيطان يتعقب الإنسان ويتسلل إلى مخادع نفسه على غفلة منه أو بعلمه واختياره، ولكن المسيحي المؤمن بقدرة السيد المسيح، المستقيم على منهجه، يملك السلطان النافذ في هذه الشياطين، ويستطيع أن ينقذ منها فرائسها إذا صدقت نيتهم في طلب الخلاص منها، وليس المسيحي الذي يعجز عن قهر الشيطان خليقا عنده بوصف الإيمان.
ولا شك أن «أوريجين» كان فقيه القرون الثلاثة الأولى غير مدافع، وكان له من العلم بحكمة عصره ما لم يكن لأحد من معاصريه، وكان إلى جانب ذلك مؤمنا راسخ الإيمان، تقيا شديد التقوى، ولم يكن له مطمع في رئاسة كهنوتية أو غنيمة دنيوية، فقد جب نفسه ليتقي فتنة الشيطان وهو يعلم البنات والفتيات، ويعظ النساء في البيع والبيوت، وقد علم وهو يفعل ذلك أنه يحرم نفسه مناصب الكهنوت العليا التي تحرم على المجبوبين والمشوهين، فلم يستعظم هذا الحرمان حماية لسريرته من غواية الشيطان.
وهذا مع إسهامه في التفرقة بين دواعي الشر التي يوحي بها الشيطان وجنوده، ودواعي الشر التي ركبت في طبيعة الإنسان، وهي شهوات الطعام، ولذات الجسد، وفي مقدمتها اللذة الجنسية، ولعله في كل ما كتبه عن تسخير الشيطان لهذه الشهوات لم يثبت قدرته على الغواية كما أثبتها على ذلك النحو الرهيب.
ولم يجد أوريجين مشقة في إسناد الشر والخطيئة إلى سيادة هذا العالم، فإنه عاش في زمن قد اجتمعت مذاهبه على تحقير المادة، واعتبارها جرثومة النقص والكثافة والفساد، وعم فيه القول بين النساك والزاهدين بأن طلب السيادة هو المحنة التي أسقطت إبليس وجنوده، وأن «التواضع» هو شعار ملكوت السماء، وهو آية المسيح المخلص الذي يزهد في المواكب، ويأتي كما أتى من قبل على حمار ابن أتان، غير أن أوريجين كان يمزج اللاهوت بمعارفه الفلسفية، ويقرر طبيعة الشيطان وفقا لما تمليه عليه الفلسفة والدين. ورأيه في تكوين الشيطان أنه ذو جسد يلائم مقامه في الهواء الكثيف المحيط بالأرض، ويتطلب الغذاء من الدواخين والأبخرة والدم الخالص مجردا من اللحوم والعظام، ولهذا يحاول أن يفسد القرابين الإلهية، ويختلس أبخرتها ودماءها ليتحول بها عن مقصدها.
ويفرق أوريجين بين الملك الساقط والشيطان الرجيم، ويوافق بعض الذين سبقوه فزعموا أن الطبيعتين تلتقيان في ذرية الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض، فعشقوا بنات الناس وقالوا: إنهن حسنات، ولم يقصدوا العصيان بل وقعوا فيه وهم لا يعرفون عقباه.
وللشيطان سبيلان إلى غواية الإنسان في رأي الفقيه الفيلسوف: أحدهما أن يوسوس له من حيث لا يراه؛ لأن طبيعة جسده كما تقدم من طبيعة الهواء، فهو يجري من سريرة الإنسان مجرى النفس الذي لا تراه العينان، والسبيل الآخر أن يستولي عليه ويتخبطه على هواه، ويبتليه بالأمراض والعاهات، وقد يسلط الأوبئة والطواعين على المدن والأقطار الواسعة ليذودها عن رحمة الله، وله جنود في كل مدينة وكل قطر، وبين كل معشر يعبدون الأوثان أو يعبدون ربا من الأرباب غير الإله الواحد الذي يدين به أتباع السيد المسيح، فما كانت هذه الأرباب والأوثان إلا شياطين من جنود إبليس تنتزع أبناء آدم وحواء من سلطان السماء، وتموه عليهم العقيدة الصالحة بما يشبهها من الشعائر المسيحية؛ ليختلط عليهم الحق والباطل، وطريق الهدى وطريق الضلال.
وكان من عقائد أوريجين أن التمييز بين الخير والشر فطرة في كل موجود عاقل يدرك ويختار، ولا استثناء في ذلك للشياطين عامة، ولا لرئيسهم الأكبر إبليس، فهم لم يخلقوا منحرفين مضللين، ولكنهم انحرفوا وضلوا بما داخلهم من الكبرياء والتمرد والحسد، فغلبتهم الشقوة، وعز عليهم أن يستمعوا لنداء الخير والمحبة والسلام، فأقبلوا على الشر وأمامهم سبيل الصلاح يمضون فيه لو سلست له قيادتهم، ورفعوا عن أعينهم تلك الغشاوة التي وضعوها عليها بأيديهم، ولا بد لهذا الضلال من نهاية بعد زوال المحنة وانقضاء التجربة التي يبتلى بها العالم آخر الزمان.
ولما أراد أوريجين أن يقدر للشيطان مصيره في نهاية العالم لم يتبع أقوال المتنبئين وأصحاب الرؤى، بل اتبع النصوص القديمة وفسرها على هدي الحكمة الحديثة في عصره، ولم تكن في عصره حكمة أحب إليه من الحكمة الرواقية التي تلقاها اليونان قديما من الهند، وبثوا فيها من عقائد فيلسوفهم فيثاغوراس قبسا يقربها إلى العلم وأدب السلوك.
فقد وجد «أوريجين» في عصره قصصا دينيا مستفيضا عن وقائع الشيطان مع الملائكة، ومصيره بعد الهزيمة الحاسمة في آخر الزمان، وفي هذه القصص ملاحم الحرب بين ميخائيل رئيس الملائكة وإبليس رئيس الشياطين، وأطوار القتال الذي يدور سجالا بين الفريقين، ويؤسر فيه بعض الشياطين فيحبسون في باطن الأرض، أو يقيدون بالأغلال حتى الموعد الأخير.
وتروي هذه القصص أخبارا عن الشياطين والملائكة المطرودين الذين لا يستطيعون الصعود إلى السماء، أو الذين يصعدون إليها فيرتدون عنها خوفا من الرجوم الإلهية، فمقامهم بعد ذلك عند السماء الثانية أو في مغاور الأرض، يتحصنون بها من هجمات الملائكة الصالحين والقديسين المقربين، ثم تنشب الملحمة الأخيرة قبل القيامة وبعد ظهور المسيح الأول بألف سنة، فيذهب أهل النار إلى النار، ويرتفع أهل النعيم إلى النعيم .
أما «أوريجين » فنهاية العالم عنده هي نهاية الدورة الكونية التي اعتقدها الهنود من قبل، ثم اعتقدها الرواقيون بعدهم، وفرضوا لها آدابا من آداب السلوك تكفل لمن يسلكها أن ينجو من الكارثة الكونية مطهرا من شوائب الحياة الأرضية، فيخلص إلى الوجود الحق في آفاق عليين.
وستنتهي الدورة الكونية وتتطهر الخلائق بالنار الأبدية، ويبطل الفناء، ويموت الموت، فلا خطيئة ولا عقاب في عالم لا موت فيه، ويتعذر - طبعا وعقلا - أن يبقى الشيطان على شره بعد زوال معدنه، وخلاص العالم من الموت الذي ابتلاهم به من طريق الخطيئة، ومن الجائز ألا يتم الخلاص والتطهير على درجة واحدة، بل يأتي تباعا على درجات مترقيات، ولكنه لا يكون متى أتى إلا كما ينبغي أن يكون بلا موت ولا خطيئة ولا عقاب.
ونكتفي بما لخصناه من شروح أوريجين وفروضه في التعريف بالشيطان، أو التعريف «بالشيطانيات» على الأصح؛ لأنه قد جعل هذا التعريف بابا من أبواب الدراسة اشتهر في الأزمنة الأخيرة باسم «الديمنولوجي» أي علم الشيطانيات، ولكننا لا ننتقل منه إلى ما بعده دون أن نلاحظ على هذه التعريفات ملاحظة جديرة بالتوقف لديها فيما روى عن القرن الثالث للميلاد على التخصيص، ففي ذلك العهد المريب لم تكن في العالم عقيدة غير المسيحية توحي إلى المؤمن بها مثل هذه الثقة بالأمور المغيبة في أدق الجزئيات.
وذلك هو سر قوتها وارتياح النفوس إليها بين ظلمات الحيرة والريبة التي رانت على المذاهب جميعا، وتركتها لمعتقديها أشبه شيء بالسلوى التي يرجى بها الفراغ، ولا تمضي مع الجد خطوة إلا عادت إلى اللعب خطوات، وقد كان أشبه المذاهب بالجد في ذلك العصر مذهب المعرفيين “Gnostics”
الذي كان في حقيقته عنوانا لكل مذهب يرد على الخاطر في تلك الآونة؛ إذ كانت المعرفة ألوانا، وكانت ألوان الوسائل التي تطلب بها لا تقل عن ألوانها.
ومنها - فيما نحن بصدده من حديث الشيطان - معرفة الخبرة باللذات والرذائل المحرمة؛ لأن الجهل بها يسلب طلاب المعرفة حظا يتاح للجاهل ولا ينبغي لهم أن يتجنبوه، وقد أباحت طائفة من هؤلاء المعرفيين عبادة الشيطان مع أصحاب النحل التي كانت تعبده وتتقرب إليه باستباحة الرذائل والأرجاس، وتسميها المعرفة بالنور من طريق المعرفة بالظلام، ولم تنقض فترة طويلة على هذه النحل المتفرقة حتى تجمعت منها نحلة كبيرة أوشكت أن تعم القارة الأوروبية، من أقصاها شرقا إلى أقصاها غربا في القرون الوسطى، وبقيت منها - كما تقدم - بقية إلى أوائل القرن العشرين.
ولا يتوقف تاريخ اللاهوت بعد أوريجين على أسماء أكبر من أسماء القديس أوغسطين، والقديس توما الأكويني، ومارتن لوثر رافع علم الثورة الذي سمى هو نفسه شيطانا، وسمى الحبر الأعظم في زمانه بالشيطان. •••
عاش القديس أوغسطين بين أواسط القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد (354-430)، وأحاط بما تقدمه من الشروح والفروض في موضوع الشيطانيات، وذهب في علة سقوط الشيطان مذهبا كمذهب أوريجين، فقال إنه خلق للخير، ولكنه أشقى نفسه بحسده وكبريائه، فأنزله الله من سماء الأثير الصافي إلى هواء الأرض الكثيف، ولا يمتنع عند أوغسطين أن يكون هذا الجسد ملائما للتناسل من الأجساد البشرية؛ لأن الحديث عن علاقة الشياطين بالنساء الآدميات متفق عليه بين الوثنيين عباد الشياطين، وبين المؤمنين الذين يلعنونها ويؤمنون بوجودها.
واطلع أوغسطين على أطراف من الفلسفة اليونانية كما اطلع عليها أوريجين، فلم يستبعد أن يكون جسد الشيطان أرفع من جسد الإنسان، كما زعم الفيلسوف الأفلاطوني أبوليوس “Apuleius” ، الذي كان له بعض الحظوة بين المثقفين من رجال الدين، ولكنه أبى أن يقول إن امتياز الشيطان بالجسد يرفعه رتبة على الإنسان، فإن الحيوان ليمتاز على الإنسان بالحس، كما يمتاز النسر بالنظر، والكلب بالشم، والطير بالخفة، ولا يقال إنها أرفع منه رتبة لرجحانها عليه في هذه الحواس. وقد يخف جسم الشيطان عن الجسم البشري، ولكنه يصلى بجسمه نار العذاب كما جاء في وعيد السيد المسيح.
وأوغسطين هو صاحب الكتاب المشهور عن «مدينة الله» أو عن ملكوت الله، وتقابله مملكة العالم التي قد يسيطر عليها الشيطان عنوة أو بالكيد والخديعة، وفي وسعه أن يتسلل إلى الأرواح من مسكنه في طبقات الهواء، أو يترصد لها وهي صاعدة إلى الملأ الأعلى ؛ فإنها في معراجها لا تني تعبر بالشياطين الملعونين والملائكة الأبرار، فإذا كانت في حياتها قد غلبت سيادة الشر بقمع الشهوات، والزهد في المطامع، فلا سلطان للشيطان عليها في معراجها إلى عليين، وإذا خرجت من الدنيا وفيها شائبة من غواية الشيطان عالقة بها، فتلك هي العلاقة التي يقنصها منها الشيطان! ويعوقها بها من الصعود، ويهبط بها إلى هوائه أو هاويته حيث يشاء.
ويرى أوغسطين كمن تقدمون وأتوا بعده أن الشيطان عليم بالسحر، قادر على نشر الأوبئة والمداواة منها، وأن الأوثان المعبودة شياطين لها هذا العلم، وهذه القدرة، وفي وسعها أن ترضي عبادها بقضاء المطامع، وترهبهم بالخوف والمرض، ولكنها قدرة محدودة تقصر عن عزيمة الإيمان إذا صدقت نية المؤمن عليها، ولم يترك المؤمنون سدى في حربهم معها؛ لأنهم معانون عليها بكفارة السيد المسيح.
وأعظم الأعلام في اللاهوت المسيحي بعد أوغسطين فيلسوف القرون الوسطى توما الأكويني (1227-1274)، الذي فلسف العقائد المسيحية على مثال لم يسبق إليه ولم يلحقه أحد بعده، ومحور فلسفته حرية الإرادة التي يملكها كل مخلوق عاقل، وأولهم الشيطان؛ لأنه كان في المنزلة العليا بين المخلوقات العلوية، وكان امتحانه من ثم أعسر من امتحان سواه، وكانت قدرته كذلك على الثبات والنجاة أعظم من قدرة الآخرين، فأذهلته العظمة عن كل شيء غير نفسه، وطمح إلى مساواة الله في عظمته، ومشاركته في وحدانيته، وتبعه ممن هم على غراره، فهوى من عليائه، وهوى معه تابعوه.
ويسمي الفيلسوف هؤلاء الشياطين جميعا بالكائنات العقلية أو الكائنات الذهنية؛ تمييزا لها عن الكائنات الحيوانية المولدة من التراب، ويقول إنها مسلطة على عقول البشر لاستدراجها واستخراج غاية ما انطوت عليه من الصدق والمناعة، وقد يحدث ذلك بإذن الله وقضائه، وقد تكون ذرائعه الكبرى مستقرة في غرائز الإنسان، ويكون الإنسان فيها عدوا لنفسه إذا غلب عليه هواه قبل أن يغلبه وسواس الشيطان.
ويجاري الفيلسوف من تقدموه في الاعتراف للشيطان بالقدرة على العجائب والأفانين التي تشبه المعجزات، ولكنه يحد هذه القدرة حد العالم الفيلسوف الذي يرفض عقله التسليم بالعبث في نظام الطبيعة ، فلا خوارق على التحقيق في طاقة الشيطان، ولا تعقل الخوارق إلا من عمل الإله الذي وضع للعالم نظامه وأجراه عليه، وإنما يستطيع الشيطان إثارة المادة بعناصرها، فيدمر بها من تراد له الفتنة، ولا يتعدى هذه العوارض إلى تبديل جوهر المادة، أو تبديل جوهر الروح، وكل ما يصنعه الشيطان مما يلتبس على الناس بالمعجزات، فإنما هو خداع لحس الإنسان حتى يرى الأشياء على غير صورها، أو تبديل لأشكال تلك الأشياء لا ينفذ إلى الصميم.
ولعل القديس توما الأكويني قد قال كلمة اللاهوت الأخيرة في هذا الموضع، فلم يحدث بعده رأي غير هذا الرأي في تصوير الشيطان، أو تصوير قدرته على بني الإنسان. •••
ويأتي أكبر الأعلام بعده في اللاهوت المسيحي على اتجاه غير هذا الاتجاه، ولكنه لا يغير شيئا من وصف الشيطان كما يغير الشيء الكثير من وصف الذين استهواهم الشيطان في رأيه بين رجال الدين ورجال الدنيا.
جاء مارتن لوثر في أواخر القرن الخامس عشر، وعاش إلى ما بعد منتصف القرن السادس عشر (1483-1546)، ولم يتغير بين عصر الأكويني وعصره معتقد واحد من المعتقدات التي كانت شائعة عن الطبيعة الشيطانية.
فكان لوثر يؤمن بوجود السحرة ومبايعتهم سرا أو علانية لأرواح الشر وزمرة الشيطان، وكان يؤمن بقدرتهم على تسخير الأوبئة والآفات، واستحقاق السحرة قضاء الموت الأبدي إذا ثبتت عليهم ممالأة الشياطين على المؤمنين الأبرياء. وتمتلئ أحاديث المائدة التي نقلت عنه بما كان يرويه لجلسائه من قصص الشياطين السحرة في زمانه وقبل زمانه، ومنها أن رجلا من المؤمنين بصق على الشيطان فلاذ بالفرار، وأن رجلا آخر لقيه فكسر له قرنا من قرونه، وحاول ذلك رجل آخر دونه في الإيمان فبطش به الشيطان، ونصيحة لوثر للمؤمنين أن الشيطان سخرية فأضحكوا منه ولا تهابوه!
ومما تحدث به في مجالسه قصة عن الإمبراطور فردريك الذي كان يصادق علماء الغرب، ويطلع على علومهم، ويتهم بالزيغ والكفر لاشتغاله بالمحرمات من العلوم والصناعات، وخلاصة هذه القصة أن الإمبراطور دعا إلى مائدته ساحرا مشهورا، وأراد أن يناجزه في القدرة ، فجعل له في يديه مخالب كمخالب الرخاخ الأسطورية ذات الأجنحة والقوائم والأنياب، فخجل الساحر ولم يمد يديه إلى الطعام ... وإنهم لعلى المائدة إذا بصيحة من الطريق تزعج الإمبراطور، فينهض إلى النافذة ليطل عليها، فيغنم الساحر فرصته السانحة ويجعل للإمبراطور قرونا على رأسه كقرون الأيائل، فلا يستطيع أن يرتد برأسه عن النافذة وعليه تلك القرون ...
وعلى جدار من جدران قلعة «وارتبرج» مداد سائح بقيت آثاره، وعلم الزوار مما يرويه حراس القلعة، نقلا عن المعاصرين، أنه من مداد الدواة التي ألقاها لوثر على الشيطان، حين تراءى له ليصده عن دعوته، ويكفه عن هجماته على أحبار زمانه، ولم يبرح لوثر طوال أيامه إلى آخر حياته ينادي بأنه في حرب مع الشياطين، ويحسب القائمين بالسلطان في الأرض باسم الدين نورا على ملكوت السماء. •••
ثم انقضت القرون الوسطى وتقدمت النهضة العلمية، فاصطدمت في كل وجهة تتجه إليها بالكلام في «الشيطانيات» أو علم «الديمنولوجي» كما عرف في الزمن الأخير.
كانت النهضة العلمية تصطدم بهذا البحث خاصة؛ لأنه كان يدور على السحر والسحرة ومخالفة «المعرفة الدنيوية» للشياطين أعداء الله وأعداء الدين، وكانت مجالس التفتيش تعمل عملها في مطاردة السحرة أو المتهمين بالسحر؛ لأنهم ينظرون في الكتب التي لا يقرها اللاهوتيون.
وانقسم الباحثون في «الديمنولوجي» قسمين متنازعين: قسم اللاهوتيين، وهمهم الأكبر أن يوفقوا بين النصوص الكتابية ومعارف الزمن الحديث، وقسم العلماء التجريبيين، وهمهم الأكبر أن يدفعوا عن أنفسهم تهمة التحالف مع الشيطان، ويشككوا في وجود الشيطان أو يجزموا بإنكاره؛ لأنه لا يظهر لهم عيانا، ولا يظهر لهم بالتجربة والبرهان.
غير أن اللغة التي تداولها الناس من قبل القرون الوسطى قد تلقت من «الديمنولوجي» تعبيرات مفهومة غير ملتبسة على أحد يتكلم بها أو يسمعها، وجرت هذه التعبيرات على ألسنة المتدينين كما جرت على ألسنة المنكرين أو المتشككين في العقائد الدينية، فلما كان لوثر يقول - مثلا - عن الربا وبيوت التجارة والمصارفة في القرون الوسطى إنها «مخترعات» شيطانية، وإن الشيطان هو الذي يدير تلك البيوت لحسابه، لم يكن أحد يحمل كلامه على المجاز ، أو يشك في قصده إلى شيطان غير شيطان النصوص الدينية الذي يجوز أن يبدو للعيان، أو يعمل مع أصحاب تلك البيوت في الخفاء، ولكن المتدينين وغير المتدينين شهدوا بعد ذلك قيام الصناعة الكبرى وأجهزة البخار الضخمة، فوسموها «بالشيطانية»، ونعتوها بالصناعة السوداء أو بصناعة الظلام، وهم يأخذون من هذه الكلمات معناها الذي لا يختلفون فيه، ويفهمون منها أن تلك الصناعة خلو من الرحمة والعطف، مظلمة من ظلام الفحم والدخان، أو ظلام الغشم والقسوة، سواء نسبوها إلى الشيطان، أو جعلوا الشيطان علما مفهوما على كل هذه المساوئ والنعوت.
ويغلب على الظن أن سهولة التعبير المجازي على هذا النحو سولت لأناس في القرن التاسع عشر أن يقحموا فوارق اللون والعنصر في أحاديث «الديمنولوجي»، وأن يزعموا كما زعم الدكتور كارترايت أن الشيطان لم يتكلم في الجنة بلسان الحية، بل كان كلامه بلسان زنجي أسود على مثال الشيطان الذي كان يصبغ بالسواد في صور القرون الوسطى، وكأنما أراد كارترايت أن يترقى بالفكرة درجة فوق الدرجة التي وصل إليها الأسقف آدم كلارك في تعليقاته على سفر التكوين «سنة 1825»، فجعل الحية زنجيا بعد أن كانت في رأي كلارك قردا من فصيلة الأورانج أو تانج ... وفي هذه الآونة - أو حواليها - كان الرحالون يسيحون في أمريكا الجنوبية فيسمعون من أهلها البيض أن الزنجي هو البهيمة الكبرى التي ذكرت في كتاب الرؤيا الإبكريفية،
4
ويتشكك الكثيرون منهم في نسبته إلى حام؛ لأنهم لا ينسبونه إلى فصائل الآدميين! •••
يعود نقاد الاجتماع المحدثون إلى عقيدة الخطيئة وزلة آدم في الفردوس، وهبوطه مغضوبا عليه إلى الأرض، فيحاولون تفسيرها بأحوال الطبقات واختلاف هذه الأحوال بين عصر النبلاء وعصر أبناء الطبقة الوسطى، ومن هؤلاء النقاد جون فلكسنر “Flexner”
الأمريكي، الذي يقول في فصل كتبه عن الملك الفنان: «إن عقيدة القرون الوسطى أن الإنسان سيئ بطبيعته من أثر الخطيئة المتأصلة فيه قد وافقت الميول الأرستقراطية؛ لأنها سوغت كبح الفرد والحد من حريته، بيد أن الطبقة الوسطى المناهضة باجتهادها لتستقبل الفرص السانحة لها أصرت على براءة الإنسان ، وأنه قد ولد ملكا وأفسدته النظم التي فرضها عليه الملوك.»
وليس في المقارنة بين العقائد والأحوال الاجتماعية ما يرجح هذا التفسير أقل ترجيح؛ لأن عقيدة سقوط آدم تشمل الإنسان الحاكم وتشمل الإنسان المحكوم، وقد اقترنت بها عقيدة ملازمة لها أشد قسوة على الحاكمين من كل عقيدة شاعت في العصور الحديثة، وتلك هي عقيدة السيادة الشيطانية على الأرض، وأن سادة هذا العالم شياطين أو حلفاء للشياطين.
ولم تقرر المسيحية دعوة كما قررت هذه الدعوة التي تفرق بها كل التفرقة بين مملكة العالم وملكوت السماء أو ملكوت الله. تكاد المسيحية كلها أن تكون مجموعة في هذه الدعوة قبل غيرها من دعواتها الأصيلة، فقد كان حتما لزاما أن تجتهد المسيحية اجتهادها كله في التفرقة الكاملة بين مملكة الأرض وملكوت الله الذي بشر به السيد المسيح، كان ذلك حتما لزاما؛ لأنها نقلت رسالة المسيح المخلص من إقامة العروش على الأرض - أو تجديد ملك داود - إلى إقامة الملكوت الإلهي في السماء.
وكان ذلك حتما لزاما؛ لأنها جاءت بالعزاء للمحرومين من سيادة الأرض والمبتلين بطغيان سادتها، فهم في حمى الله صاحب الملكوت الأعلى؛ إذ يكون أصحاب السيادة والطغيان في حمى الشيطان وفي هاوية الأرض وما وراء من هاوية الجحيم: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله، طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات».
فرسالة المسيحية في جانب الإنسان المغلوب، وسيادة العالم هي ثمرة الخطيئة التي باء بها الغالبون، ولم يتسم الشيطان بوسم السيادة على العالم تعظيما له، بل تهوينا من شأن العالم، وتحقيرا لغنائمه ومطامعه وشهواته، ولم يكن أيسر على طالب الحرية الفردية في الحضارة الحديثة من أن يقول: إنه هدم سيادة الشيطان، وإنه غلب الخطيئة في معقلها وكفر عن جرائرها بالثورة على أصحاب السيادة الشيطانية.
وعلى هذا الفهم ينبغي أن تفهم رسالة المسيحية التي بشرت بملكوت الله، وجعلت هذه البشارة مقارنة للنعي على السيادة الشيطانية والإزراء بها، فكل تعظيم لسيادة الشيطان فهو في لبابه تهوين للعالم الذي يسوده، وتقديس للملكوت الإلهي الذي يرجوه المساكين والحزانى والودعاء والمطرودون من أجل البر وصانعو السلام.
أما رسالة المسيحية في تقرير طبيعة الشيطان نفسه، فهي تفرقة أخرى لا تقل في قوة مغزاها عن تلك التفرقة بين مملكة هذا العالم ومملكة السماء.
لقد كان الضرر والشر مترادفين في الديانة العبرية أو كالمترادفين، فالمسيحية هي التي فرقت بين الضرر الذي هو نقيض السلامة والأمان والمنفعة، وبين الشر الذي هو نقيض الخير والفضيلة والصلاح، فذلك ضرر مرتبط بالديانة، وهذا شر مرتبط بالمروءة والتقوى.
إن المسيحية هي التي فرقت بين مثال الضرر في الحية الحيوانية، ومثال الشر في الروح الخبيث الذي ينفث سمومه في القلب، ولا يضير الإنسان إلا حيث يضار حقا في أشرف خصال الإنسان. •••
وكلمة عابرة تقال في ذيل هذا الفصل عن رسالة المسيحية التي جاءت بها للتعريف بمعاني الشيطان.
إن الكنيسة الرومانية إذا رفعت أحدا إلى منزلة القديسين لم تفعل ذلك قبل التحقق من براءته من العيوب التي تنتفي معها القداسة، وتعهد في هذه الحالة إلى وكيل للخصومة عليم بكل ما يقال عنه لانتقاصه بالحق أو بالباطل.
ووكيل الخصومة هذا يسمى بالمحامي الشيطاني
Diaboli Advocatus
تشبيها لعمله بعمل الشيطان في إنكار فضائل أيوب أمام الله، وآية جديدة على عمل الشيطان في امتحان الخير، وأنه دور لازم في تقرير كل قداسة يخلقه الناس مختارين، ولا يصح من أجل هذا أن يقال: إنه وهم من اختراع الخيال.
الإسلام
دور الشيطان في الديانات الكتابية الثلاث مختلف.
واختلافه بينها جوهري يدخل في كيان كل ديانة منها، وترتبط به مقاييسها للخير والشر والتبعة والعقاب.
فهو في الديانة العبرية دور عامل مستغنى عنه لأنه شبيه بغيره.
وهو في الديانة المسيحية دور عامل فعال لا ينفصل من حكمة الوجود كله.
وهو في الديانة الإسلامية دور عامل فضولي مرذول يختلس ويروغ، ويخذل فريسته بالنية الخفية والعمل المكشوف .
على مسرح الخلق دور الشيطان في الديانة العبرية دور «النكرة» الذي ينوب عنه كل نكرة مثله؛ إذ ليس بين الشيطان والملك طريق مفترق ولا عمل منقسم، وليس بين الإله الذي يعبدونه والإله الذي يعبده سواهم خلاف في الرضى والغضب، ولا في النعمة والنقمة غير الخلاف بين النظراء في السلطان.
أما المسيحية فدوره فيها على مسرح الخليقة دور الشرير في قصة الخلق كله؛ إذ كان قوام الخليقة سجالا بين الخطيئة والكفارة أو الغفران، فلولا غواية الشيطان لم يسقط آدم، ولولا سقوط آدم لم تكن به ولا بذريته حاجة إلى الخلاص من طريق الفداء.
وليس في الإسلام ذنب يرثه أحد من أبيه، أو يورثه لبنيه، فغواية الشيطان لا تخلق الخطيئة ولا تعفي منها، وشوكة الشيطان لا تحمي أحدا، ولا هو يسخرها لحماية أحد، وحدود التبعات واضحة حيث يعمل الشيطان وحيث لا يعمل، فهو لا يحمل عن شريك من شركائه تبعة وزر من أوزاره، ولا يداري حماقة الغافل الذي ينقاد إليه.
وفي القرآن الكريم يحمل آدم وحواء تبعة الخطيئة على عملهما بغواية الشيطان:
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
وكلما ذكرت في القرآن الكريم غواية إبليس ذكر معها أنه ما كان له عليهم من سلطان:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان .
ولذلك تقول الشياطين لمن يرجع إليها بذنبه:
وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين .
ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين .
ولا ينفع من ضل أن يعتذر من ضلالته بوسواس الشيطان؛ فإن الشيطان ينكره ويبرأ منه:
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين .
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم .
وليس شياطين الجن بأقدر على الغواية من شياطين الإنس؛ فإن الشيطنة هي عداوة الحق حيث كانت :
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .
بل ليس للشياطين من الجن علم الغيب ولا علم السحر، إلا أنه خداع للحس وفتنة للنفس تخيل إلى المخدوع ما ليست له حقيقة قائمة في غير وهمه:
يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق .
وفي سورة سبأ عن جنود الجن التي جهلت موت سليمان وهو قائم أمامهم:
فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .
وإنما المسحور كالمخمور مخدوع الحواس:
لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .
ولا يفلح الساحرون .
وقد ورد في القرآن ذكر الجن الذين يعملون للإنسان بإذن الله، ومنهم جنود سليمان:
ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات .
وفيه ذكر الجن التي تؤمن بالدين وتصدق بالكتب، وذكر الجن التي تسترق السمع من السماء، وذكر الجن التي تقارن الإنس، وذكر الجن والعفريت الذي تطوى له المسافة، وتنقاد له المصاعب، ولكنه لم يذكر لها في مجال التكليف عملا قط يسقط عن الإنسان تبعته، أو يجعل لها سلطانا عليه بغير مشيئته، ولا يستعاذ فيه من شر يأتي به الجن إلا وهو كذلك من الشرور البشرية، أو من الوسواس الخناس:
الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس .
وعلى هذه الصفة تروى تبعات الخطيئة حيث رويت في قصة آدم وما بعدها من قصص الأولين.
وقد رويت قصة آدم في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، ورويت توبته من عمله أو قوله في بعض هذه المواضع ، وهي جميعا مآل التكليف الذي يفرض على الإنسان؛ يسأل عن خطيئته وإن وسوس له الشيطان، وتحسب له توبته وإن كانت بهداية الله.
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . •••
وجاءت في سورة الحجر حيث يفاضل إبليس بين خلقته وخلقة آدم:
والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين . •••
وقد تساءل المعقبون على قصة آدم من الشراح الغربيين عن معنى الشجرة التي أكل منها آدم في الدين الإسلامي، وقال بعضهم: إن القرآن تركنا في حيرة من أمر هذه الشجرة، ما معناها؟ وماذا جناه آدم وحواء من جراء الاقتراب منها وأكل ثمراتها؟ وليس في الأمر ما يدعو إلى التساؤل ولا في الحيرة، لولا أن هؤلاء الشراح وضعوها في أذهانهم معنى معلوما، وأرادوا أن يجدوه في القرآن فلم يجدوه كما أرادوه.
إذ لا يخفى على الناظر في القصة أن ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات «التكليف» بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل منها إلا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة «المكلفة» التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب، كلما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة، ويبدو ذلك جليا من المقابلة بين ما تقدم وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف، وذاك حيث يذكر التصوير بعد الخلق، أو إعطاء الصورة بعد إعطاء الوجود، ثم تمضي القصة على ما يلي:
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين * ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون * يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون .
ومن تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة أن خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه، فهو مكلف وهم مكلفون، وخطيئته لا تلزمهم وتوبته لا تغني عنهم، ومولدهم منه يخرجهم على سنة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكدحون ويموتون.
ويميل الشراح الغربيون إلى النقد كلما وجدوا له ندحة في قصص القرآن ولا سيما هذه القصة، وآخر من وقفنا على نقد له من هذا القبيل «بابيني» الإيطالي صاحب كتاب الشيطان، فإنه يستغرب أن يؤمر إبليس بالسجود لآدم مع غلو القرآن في تحريم الشرك، وتنزيه الوحدانية الإلهية، ولكن المطلعين من الشراح الغربيين على اللغة يفهمون معنى السجود هنا، ولا يخرجون به عن معنى التحية والإكبار، ومنهم من يفعل ذلك لأنه يريد أن يرجع بعقائد الإسلام إلى الأصول الإسرائيلية كما فعل توري “Torrey”
في كتابه عن أسس الإسلام من التراث اليهودي. ولم يكن في التراث اليهودي ذكر لغير الحية في هذا المقام، وهو فارق شاسع تقوم عليه الفوارق الشاسعة جميعا في التفرقة بين الضرر والشر، أو بين الشر الحيواني والشر الأخلاقي كما قدمنا. •••
وقليل من النقاد الدينيين في الغرب من يفطن للخاصة الإسلامية الأخرى التي تتمثل في قصة آدم مع الملائكة والجان، فإن الغالب عليهم أن يتكلموا عن زلة آدم فيسموها «سقوطا»، ويرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين، وليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الأرضية، فليس فيه شيء عن سقوط الإنسان، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، أو من عهد البراءة والدعة إلى عهد التكليف والكلفة، وليس فيه شيء عن سقوط الملائكة وانحدارهم من طبيعة عليا إلى طبيعة دونها من طبائع الشيطان، وقصة الملكين هاروت وماروت فاصل بين ما يعزى إلى الملك ويعزى إلى الشيطان من ضروب السحر المباح أو السحر الحرام:
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .
فالملك الذي يعرف السحر لا يخدع به أحدا، ولا يعلم من يريد أن يتعلم إلا أن يطلعه على حقيقته، وليس الخداع ولا الإضرار بالعلم من طبيعة الملك، بل من طبيعة الشيطان.
هذه القصة بعينها - قصة هاروت وماروت - يطول فيها الجدل بين اللاهوتيين الباحثين عن أصولها؛ لأن شراح التلمود من اليهود يعتسفون الأقوال والشواهد لردها إلى المصادر الإسرائيلية، وكثير من الشراح اليهود أنفسهم وغير اليهود ينفون العلاقة بينها وبين تلك المصادر، فمن الذين ردوها إلى المصادر الإسرائيلية من يرى أن الملكين هما أريوخ وماريوخ الموكلان بحراسة كتاب إدريس. ويستند صاحب كتاب أساطير اليهود إلى مراجع كثيرة لتصحيح هذا الخطأ وترجيح مصدرها الفارسي
5 ... ويزعم جيجر “Geiger”
أنهما الملكان شمهازي وعزازيل اللذان هبطا إلى الأرض في عهد نوح فتزوجا من بنات الناس، ووجدا أنهن «حسنات» كما جاء في سفر التكوين، ويعتمد جورج سيل مترجم القرآن على تحقيقات هايد “Hyde”
في تصحيح هذا الخطأ، والرجوع بها إلى أصل بابلي، كما جاء في القصة القرآنية.
وكاد الخلاف على هذه القصة أن يعدل الخلاف على قصة آدم وتعليمه الأسماء ومخالفته أمر ربه بغواية الشيطان، وهي القصة التي يحسبها بعضهم من الأخبار التلمودية ، ويقول إبشتين وحرنبوم: إن التلمود اقتبسها مباشرة من المراجع الإسلامية، وبطريق غير مباشر من المراجع المسيحية.
غير أن هذه المناقشات جميعا يعتورها النقص الشامل لتحقيقات النصوصيين والحرفيين أجمعين، وهو الوقوف عند النص أو عند الحرف، وإغفال الجوهر الذي من أجله استحقت القصة أن تكون موضع اهتمام ومناقشة في مباحث المقارنة بين العقائد والديانات، فليست المسألة في هذه القصص مسألة أسماء ومواقع، ولكنها مسألة القيم الروحية التي ترتبط بها، وتتغير مع الزمن حسب تفسيراتها، ولو بقيت بنصها وحرفها في الروايات المتعاقبة.
وجوهر المسألة كله، في القصة التي نحن بصددها، أن القرآن الكريم لم يذكر قط شيئا عن سقوط الخليقة من رتبة إلى رتبة دونها، ولم يذكر قط شيئا عن سقوط الخطيئة الدائمة، وسقوط الخطيئة التي يدان فيها الإنسان بغير عمله؛ إذ العقيدتان كلتاهما غريبتان عن روح الدين الإسلامي كل الغرابة، ولا يعرف الإسلام إرادة معاندة في الكون لإرادة الله يكون من أثرها أن تنازعه الأرواح، وتشاركه في المشيئة، وتضع في الكون أصلا من أصول الشر، وتسقط الخلائق التي ارتفعت سوية بمشيئة الخالق.
فقد جاء الإسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر، والحساب والثواب أصح العقائد التي يدين بها ضمير الإنسان، وقوام ذلك عقيدتان؛ أولاهما: وحدة الإرادة الإلهية في الكون، والثانية: ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربه.
فليست الخطيئة في الإسلام أصلا كونيا يعاند الإرادة الإلهية بإرادة مثلها، أو مقاسمة لها في أقطار الوجود العليا والسفلى، ولكنها اختلاس وخلل وتقصير، وله علاجه من عمل العامل نفسه بالتوبة والهداية، بالتكفير والجزاء، ولما كانت فضيلة آدم على الملائكة والجن أنه تعلم الأسماء التي لم يتعلموها، كانت هدايته إلى التوبة كذلك بكلمات من المعرفة الإلهية، ولم تكن بشيء غير عمله وقوله.
فإذا فهمت العقيدة الإسلامية على هذا الوجه؛ فهذه هي القيمة الروحية التي تجري المقارنة والموازنة عليها كائنا ما كان القول في تشابه الأسماء والقصص، وتوافق المراجع والأسانيد. وما من دين قط خلا من الأسماء والقصص التي سبقته إليها الأديان المتقدمة عليه في تاريخ دعوتها، وليس أكثر من الأسماء البابلية والفارسية في كتب العهد القديم وكتب التلمود، وليس أكثر من هذه جميعا في مسألة واحدة قبل كل مسألة يتناولها الإيمان، وتلك هي مسألة الخير والشر، والتبعة والجزاء، ولا خلاف - مع فهم هذه المسألة - على فضل الإسلام في هذه السبيل. •••
إن الأديان الكتابية لم تتعاقب عبثا، ولم تأت المقدمات فيها بغير نتائجها.
فالعبريون تلقوا ديانتهم وهم على حالهم من الوثنية، فلبثوا زمنا يخلطون بين فواصل الخير والشر، وفواصل المنفعة والضرر، ولبثوا زمنا أطول من ذلك يخلطون بين الوحدانية في الوجود كله، وبين الوحدانية التي تميزهم بإله لا يقبل المشاركة من الأرباب الأخرى، كأنهم شركاء المنافسة والمناظرة بغير حق وبغير قدرة.
ثم جاءت المسيحية ففصلت بين الخير والشر بفاصل كبير، وحققت معنى الخير الروحاني الذي ينفصل من معنى المنفعة والسلامة، وباعدت بين العالمين، وتركتهما من بعدها كأنهما دولتان تتقابلان، هذه في السماوات وهذه في الأرضين، وتكاد الأرضية منهما تبسط يدها إلى حوزة الأخرى، وتأخذ منها إلى حوزتها معقلا يسترد ويستعاد، ولا يملك الإنسان فيه حيلة أمام الإله وأمام الشيطان، وإنما يجيء الذنب بعمل الشيطان، ويزول الذنب بعمل الإله.
ثم جاء الإسلام فبسط على الوجود كله وحدة لا مثنوية فيها على وجه من الوجوه، ومنح الإرادة الإنسانية حقها وتبعتها، وجعلها ظالمة لنفسها إذا سمحت للشيطان أن يظلمها، فإنما هو خداع وضعف، وإنما هما طريقان بينان لا يخدع عنهما سوى المأخوذ أو المسحور، إلا أن يؤثر الضلالة على الهدى، ويصر على ضلالته بين دواعي التوبة والندم.
فهذه الديانات لم تتعاقب عبثا، ولم يكن لها في أطوارها سبيل أقوم من هذا السبيل ولو نظرنا إليها فرضا وتقديرا، ولم ننظر إلى وقائع التاريخ. •••
وكان ما تقدم إنما يتبين لنا من العقائد الإسلامية كما نتلقاها من القرآن الكريم، وقد أحسن فهمه مفسرون وأساء فهمه مفسرون، ولعله لا ينصف العقائد الإسلامية شيء كما ينصفها في هذا المقام أن نرجع إلى المسيئين فنراهم جميعا قد أساءوا فهم كتابهم؛ لأنهم فسروه بالإسرائيليات والتلموديات، وحسبوها سندا محققا عند أصحابها الأولين، وما كانت عندهم غير أحاديث يتلقفونها ممن تقدمهم؛ لأنهم لم يفهموا كتبهم فالتمسوا فهمها بمعونة من تلك الأحاديث.
وليس من عملنا هنا أن نستقصي أقوال المفسرين في شئون الغيب، ولكننا نلخصها إجمالا فيما نحن بصدده من طبيعة الشيطان، وطبيعة الخلائق العلوية كالملائكة والأرواح، فأضعف الأقوال أن الملائكة والجن تشملهم كلمة «الاجتنان» لمعناها اللغوي الذي يفيد معنى الخفاء، وأرجحها القول الذي أخذ به الفيلسوف الرازي في تفسيره حيث يقول: «لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب ألا يكون من الملائكة؛ لقوله تعالى:
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن . وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملائكة.»
ولا حاجة بنا إلى إسهاب أو إيجاز في نقل أحاديثهم عن الجن وأسمائها وأجسامها، ومن يأكل منها، وما يأكله أو لا يأكله، فهو على لغوه وخطله ليس له مساس بما نعنيه في هذا السياق.
الفصل الرابع
عباد الشيطان
تخلفت - بعد الأديان الكتابية - نحلة تتسم بالشذوذ المطبق في جميع أطوارها؛ لأنها شاذة في موضوعها، وشاذة في انتسابها إلى أصولها، وشاذة في تلفيق مقوماتها وأركانها، وشاذة في وسائل نشرها والدعوة إليها.
موضوعها شاذ وهو عبادة الشيطان.
وانتسابها إلى أصولها شاذ؛ لأنها تأخذ من الهندية، والمجوسية، والشامانية، واليونانية، وأديان الحضارة الأولى، والأديان الكتابية.
وجميع مقوماتها وأركانها شذوذ في شذوذ؛ لأنها تجمع النقائص في شعائرها، وتعمل أحيانا على مرضاة الشيطان ومرضاة الإله الأعلى بفريضة واحدة.
ووسائل الدعوة إليها شاذة؛ لأنها سرية يبالغون في كتمانها مع امتداد معابدها من آسيا الوسطى إلى أوروبة الغربية وأفريقية الشمالية. ويعجب الناظرون في أمرها من الذي يتولى نشرها، وما بواعثه النفسية أو القومية التي تحضه على نشرها، وهي مع الأديان الأخرى بين موافقة تأباها تلك الأديان، ومناقضة تثيرها عليها؟ •••
ومن العسير أن توضع هذه النحلة في نسق منتظم مع تطور العقائد في مجموعة الأمم الإنسانية، ولكننا نحاول وضعها في مدرجة من هذه الأطوار جهد المستطاع، مع ملاحظة الأصول الجغرافية والعنصرية.
فمن الراجح المعقول أن عبادة الشيطان تنتمي قديما إلى الشعور بقوة الشر في البيئة التي نشأت فيها، وأحاطت بها.
ومن الراجح المعقول أيضا أن الشعور بقوة الشر قد كان على أشده حيث آمن الناس بقسمة العالم بين النور والظلمة، وبين الطيبة والخباثة، وجعلوا لإله الشر حصة في الكون مساوية لحصة إله الخير أو قريبة منها، وتلك هي الثنوية «الزردشتية» منذ أقدم أطوارها.
وينبغي أن نذكر أن الثنوية كانت تفرض لإله الشر في بعض الأزمنة سلطانا أكبر من سلطان إله الخير في العوالم الأرضية، وتسوغ هذا الفرض الغريب بأن سلطان الشر سلطان موقوت يندثر بعد حين؛ فالنور والخير منفردان بالسماوات العليا، والظلمة والشر غالبان على الأرضين السفلى إلى الموعد المعلوم، ثم يتقهقر هذا السلطان في العالم الإنساني ليخلفه سلطان الخير أبد الآبدين.
قامت هذه العقيدة قديما في أرض فارس على تخوم السهوب الآسيوية، حيث لا تعرف العشائر المترحلة غير شياطين الصحارى أو أرواحها المتمردة، ولا تزال في كل رحلة من رحلاتها عرضة لعصف الثلوج والحرارة، وفتك السباع والأفاعي، ونكبات القحط والطوفان، ولا تأمن في طريقها ما لم تكن على هوى الشيطان.
ولم يكن هوى تلك العشائر في حياتها الأولى مخالفا كل المخالفة لهوى الشيطان في عنفه، أو في كيده، أو ختله، أو في اندفاعه مع شهواته وأطماعه، فكانت تنساق لأهوائها حين تزعم أنها تنساق لأهواء الشيطان.
في تلك الأرجاء تأصلت العبادة الثنوية، وتأصلت معها العبادة الشامانية، وهي عبادة الأرواح والشياطين.
ففي بلاد العمار - أو بلاد الحضارة الفارسية - تهيأت الأذهان للعقائد الكونية الواسعة، فتأصلت الثنوية وعلمت الناس أن الشر غالب على الأرض، ولكنه مغلوب بعد حين، وأن «أهريمان» رأس الأرواح الخبيثة نافذ السلطان في عالم الإنسان.
وفي السهوب المقفرة تأصلت الشامانية وشعائرها التي لا تفصل بين الكهانة والسحر بفاصل محدود، فقد يكون الروح الواحد طيبا هادئا إذا رضي واستراح إلى مقامه، واستوفى مطالبه من فرائسه وضحاياه ، وقد يكون خبيثا عارما يتخبط فريسته فلا تجدي عنده شفاعة الكاهن الساحر، أو يثوب إلى السكينة بمحض هواه.
لما ظهرت المسيحية كانت الثنوية والشامانية على أقوى ما كانتا عليه قبل الميلاد.
ونشطت مع المسيحية في مجال واحد عقيدة ثنوية حملها جنود الرومان من تخوم الهند إلى الجزر البريطانية، وهي عقيدة «مترا» بطل النور الذي استشهد في حربه لإله الظلام، ووعد عباده بالعودة إليهم بعد حين مظفرا متمكنا من الأرض والسماء ما دامت الأرض والسماء.
وانهزمت عقيدة «مترا» أمام المسيحية.
ولكن هزيمة العقيدة المترية لم تقتلع الثنوية من جذورها، ولم تكن أحوال العالم في القرون الأولى بعد الميلاد مما ينسي الناس وطأة الشر وسلطان الشيطان، ولم تكن المسيحية في دعوتها تنفي غلبة الشيطان على العالم، وانقياد السادة المسيطرين على الأمم لوساوسه ورذائله، فنجمت من بلاد الثنوية نحلة أخرى تسمى المانوية، منسوبة إلى «ماني» الذي ولد في بابل الجنوبية حوالي سنة (216 للميلاد)، واستهل دعوته في إبان قيام الدولة الساسانية، فكان له من ملكها الثاني «سابور الأول» نصير قوي أيام حكمه، على أمل منه في توحيد النحل المجوسية على قواعد الدين الجديد، ولكنه أمل لم يتحقق، ولم يستطع ماني أن يصمد لأقطاب النحل الأخرى بعد حكم سابور، فألقي في السجن حيث مات وهو يناهز الستين، ووسم أتباعه باسم الزنادقة، أي الكذبة المنافقين، وقيل عنهم: إنهم «أهرمانيون شيطانيون».
إلا أن «ماني» كان من المجددين في عقائد قومه، وفي ثقافتهم، وفي كتابتهم الأبجدية، ومن مساعيه في تجديد الثقافة تيسير الكتابة بالحروف الآرامية، وتنقيح أوزان الشعر والأناشيد المقدسة، وتقريب مذاهب المعرفيين “Gnostiics”
إلى مذاهب المجوسية والمسيحية، وتحقيق الخلاص الروحاني من طريق الحكمة والتعمق في أسرار العلوم.
ولم يخرج «ماني» من نطاق الثنوية في آفاقه الواسعة، فمعظم مذهبه ثنوية «زردشتية» أو مجوسية، وقليل منه مقتبس من آراء المعرفيين وعقائد المسيحية في الصدر الأول قبل أن يتوسع فيها الآباء المتأخرون.
فالوجود من أزل الآزال وجودان منفصلان: عالم النور، وعالم الظلام، ولا فاصل بينهما يمنع أحدهما أن يبغي على الآخر إذا شاء ، ولكن عالم النور لا يعرف البغي، بل يعرفه رب الظلام حسدا، فيزحف بجنوده كرة بعد كرة، ويأبى رب النور أن يقابل العداء بالعداء؛ لأنه بطبيعته محبة وسلام، وحسبه أن يتجلى حيث شاء فيجعل منه الظلام.
ولما تكررت هجمات رب الظلام على العالم النوراني يحاول أن يكمن فيه، وينتزع منه ما استطاع، خلق رب النور آدم السماوي، وأرسله إلى الأرض بمزيج من طبيعة الملك العلوي والحيوان الأرضي؛ ليلقى جنود الظلام في ميدان القتال، وكان آدم هذا - أو جيومرث كما يسميه المجوس - طيبا سليم القلب، يحارب شريرا مزودا بسلاح الخدعة والدهاء، فانهزم ووقع في أسر الظلام، ولم يجد رب النور بدا من الهبوط بنفسه إلى الميدان لإنقاذ مخلوقه الأثير لديه من غياهب العالم السفلي، فأنقذه ورفعه إلى الشمس حيث يقيم بعيدا عن الأرض وعالمها المهدد بغزوات الشياطين.
إلا أن الإله السفلي عرف من تركيب جيومرث سر الآدمية العليا، فصنع على يديه «آدم» آخر يمتزج فيه الخير والشر، والروح والجسد، وظل آدم حائرا بين طبيعتيه حتى أشفق الإله السماوي عليه فأرسل إليه المسيح؛ ليدله على أشرف طبيعتيه، ويعلمه الغلبة على أخس هاتين الطبيعتين، فجعل آدم ينادي منذ ذلك الحين: «ويل لمن خلق جسدي واستبعد روحي»، وخذلته حواء فهبط بها الملائكة إلى الجحيم ومعها ذريتها من أبناء الشياطين، ولم يكن للملائكة منذ تلك اللحظة من رسالة تحت السماء إلا أن يستخلصوا العوالم النورانية من شوائب الظلمات، ثم ينفصل العالمان ويقضى على العالم السفلي بالدمار.
سرى هذا المذهب المانوي شرقا إلى الصين والهند، وغربا إلى أفريقية الشمالية وآسيا الصغرى، وسرت معه عقيدة خلق الشيطان للبشرية، وسيادته على العالم الأرضي، وبقائه متسلطا عليه إلى اليوم الأخير.
ووافق ذلك السريان النحلة الشامانية بين أواسط آسيا وأوروبة الشرقية، فدخلتها المسيحية وعشائرها مؤمنة بالسحرة والشياطين، تتسامع بأن إله المسيحيين ترك الأرض للشيطان الأكبر؛ فلا حيلة لها معه غير أن تترضاه وتزدلف إليه. وقد بقيت المسيحية الصحيحة مجهولة في تلك الأقطار إلى ما بعد القرن الثاني عشر، وبقيت نحلة «البوجوميل » - أي النحلة الشيطانية - غالبة على عشائر البلغار والعشائر البلقانية عدة قرون.
ومع المانوية والشامانية نحلة أخرى - أو نحل شتى على الأصح - تعرف باسم النحل الأورفية “Orphism” ، وتشترك في المراسم الخفية التي تعاقر فيها الخمر، وتستباح الشهوات، ويعلو فيها اسم ديونيس “Dionysus”
الذي يعتقد اليونان أنه ابن زيوس رب الأرباب من بيرسفون، وأنها حملت به منه وهو متنكر في صورة الحية، فقتله المردة، واستخلصت الربة «أثينا» قلبه، فهو القلب المقدس الذي كان أصحاب النحل الأورفية يحتفلون به ويتخذونه رمزا للأهواء والآلام.
ويعتقد الأورفيون أن الإله أورفيوس يهدي صحابته في ظلمات العالم الأسفل بعد الموت، ويحفظون لرحلته هذه مراسم منقولة من كتاب الموتى المعروف في الديانة المصرية القديمة.
وظاهر من صور الشيطان التي عاشت بين الأوروبيين المشارقة في صدر المسيحية، أن عباده يقرنون بينه وبين ديونيسس صاحب التجلي الأعظم في حفلات الخمر والمجون، وكانوا يتقربون لديونيسس بجدي يربونه لهذا الغرض، ويصورونه - أي ديونيسس - في صورة «الساتير» الذي يتزيا بجلد الماعز، ويلبس قرونا على جبهته، ويجر وراءه ذنبا طويلا كأذنابها، ويمشي بقدمين لهما ظلفان مشقوقان، وكذلك كانت صورة الشيطان في محافل عباده الأولين.
ومع المانوية والشامانية والأورفية ينتشر المعرفيون من بلاد فارس إلى عاصمة الدولة الرومانية، ومنهم من يؤمن بالخلاص إلى النور من طريق الظلام، والخلاص إلى الطهارة من طريق الرجس، والخلاص إلى الله من طريق الشيطان، والخلاص إلى المعرفة من طريق الجهالة بمعانيها جميعا، فيما اشتملت عليه جهالة العقل وجهالة الطباع.
هذه فلول العقائد التي تجمعت منها نحلة الشيطان، وطال بها الزمن قبل شيوع المسيحية في دور النزاع بين بقايا الأديان الوثنية وطلائع الدين الجديد، ويؤخذ من ألقاب الشيطان في بعض اللغات الأوروبية الشرقية أن المظالم الاجتماعية كانت بعض أسباب الكفر بالإله السماوي، والإقبال على عبادة الشيطان المتمرد الذي يناوئه ويعلن الثورة عليه، فقد كانوا يسمون هذا الشيطان «نصير العبيد»، وكانوا يحسبون أنه ضحية القضاء الكوني الذي هم ضحاياه. •••
ولم يكتب عباد الشيطان أسرار عبادتهم؛ لأنهم كانوا يكتمونها حذرا من خصومهم، ويكتمونها مجاراة لطبيعة العبادة «الشيطانية» التي لا غنى لها عن الظلمة والخفاء، وما رواه عنهم خصومهم لا تتفق فيه روايتان على جميع التفصيلات، ولا نخال أن عبادات الشيطان كانت متفقة بينها في أماكنها المتباعدة بين آسيا الوسطى وأوروبة الغربية، فإن العبادات الصريحة المكشوفة تختلف وتتنازع حين تنتشر على هذه المسافات الشاسعة من الأقاليم والسلالات واللغات والأحوال الاجتماعية والنفسية، فلا جرم تختلف العبادات السرية إذا باعدت بينها مسافات كهذه المسافات.
إلا أن المشهور من نحل العبادة الشيطانية ثلاث؛ هي: الكاثارية، والبوجمولية، والألبية، ويرجح المؤرخون لها أنها أسماء مفترقة لنزعة واحدة تختلف في التسمية حسب علاقاتها المحلية، مع وحدتها في مصادرها، والتقاء مصادرها جميعا في الرقعة الوسطى بين القارتين الآسيوية والأوروبية.
غلبت الكاثارية على العشائر الألمانية، واسمها مستعار من كلمة “Cathar”
بمعنى الطهارة في اللغة اللاتينية المتوسطة، وكانت في أصلها نحلة زهد ورهبانية، ثم انحرفت قليلا قليلا إلى خليط من الوثنية وبقايا الديانات المتخلفة من الحضارات الأولى.
وغلبت البوجمولية على بلاد البلقان، واسمها مأخوذ من السلافية بمعنى أحباب الله، أو مأخوذ من اسم داع مشهور من دعاتها حولها من العبادة الصريحة إلى عبادة الخفاء “Bogomil” .
وغلبت الألبية “Albigenses”
على فرنسا الجنوبية، ونسبت إلى «ألبي» “Albi”
التي كان مركزها الأشهر في غرب القارة وجنوبها.
ولم تتفق هذه النحل في شعائرها وعقائدها كما أسلفنا، ولكنها تتفق في قاعدة مشتركة بينها، وهي قاعدة الديانة المانوية، فكلها مانوية تضاف إليها حواشي الوثنية المحلية والمقتبسات المشوهة من العقائد المسيحية، ولا تخلو عباداتها جميعا من إباحة بعض المحرمات، وتحريم بعض المباحات التي تخالف بها جميع الأديان الكتابية، وإن لم يكن بينها وفاق شامل للمحرمات والمباحات.
فمنها ما يحرم الزواج؛ لأن الزواج يستبقي النسل في عالم الشر والفساد، ولكنه لا يحرم الفسق ولا الشذوذ، بل يدخلهما أحيانا في الشعائر المفروضة لأنهما يرضيان الشيطان.
ومنها ما يحرم اللحم والجبن والبيض، وكل ما جاء من تناسل من ذكر وأنثى، ولكنه يبيح السمك لاعتقادهم أنه لا يولد بالتلاقح بين الجنسين.
ومنها ما يزعم أن آدم طلق حواء وتزوج بالربة البابلية التي تسمى ليليت أو ليلى، وأن حواء تزوجت بعده بمارد من الجن، فجاء النوع الإنساني خليطا من الآدميين، والمردة، وذرية الأرباب الوثنية.
ومنها ما يقدس المسيح وينكر الصليب، ولا ينكرونه لتكذيبهم صلب المسيح، بل لأنهم يقولون: «إن ما من أحد يعبد المشنقة التي خنقت أباه!»
واشتهر من عباداتهم عبادة القداس الأسود، ومحورها صورة الشيطان عاريا، وصورة فتاة عارية تتقدم المصلين إليه، وتنقل إليهم «البركة» بلمس أعضائه، وتنهي الصلاة بضروب من الإباحيات كالتي كانت تقترف في عبادات أرباب النسل عند الوثنيين.
وكل جماعة «سرية» ظهرت في القرون الوسطى فهي على صلة بطائفة من تلك الطوائف، ومنها الجماعة التي سميت باسم الهيكليين والحبليين، وكان هؤلاء يتقلدون حبلا قصيرا، ويلبسون قميصا يسمونه الكميسية “Camisia” . ويقال: إنهم نقلوا الاسم من جزيرة مالطة التي كانت معقلا للهيكليين، وكانت الكلمات العربية شائعة في لغتها منذ القرون الوسطى، ولا تزال كذلك إلى اليوم.
والعقيدة الغالبة بين هذه الطوائف، على تنوع مذاهبها، هي سيادة سلطان الشر على العالم الأرضي خاصة، وتنازع الكون بين القوة العليا والقوة السفلى، وضرورة «التفاهم» مع الشيطان في أمور هذه الدنيا، أو ضرورة هذا التفاهم في كل أمر من الأمور؛ لأن إله الخير على قوته وحكمته قد نفض يديه من دنيا بني آدم؛ لاعوجاجهم ودخيلة السوء في طباعهم باختيارهم لا بدسيسة عليهم من قبل الشيطان.
وقد بقيت على هذا المعتقد طائفة كبيرة من الأوروبيين الغربيين، وسيق ثلاثة وستون رجلا وامرأة إلى محكمة التفتيش في طولوز (يونية سنة 1335)، فقالت إحداهن آن ماري جيورجل: «إن الله ملك السماء، والشيطان ملك الأرض، وهما ندان متساويان سرمديان يتساجلان النصر والهزيمة، وينفرد الشيطان بالنصر البين في العصر الحاضر».
1
وينقل رودس، صاحب كتاب القداس الشيطاني، نبذا من تاريخ فرنسا للمؤرخ الكبير ميشليه “Michelet” ، يفهم منها أن هذه العبادات قد امتزجت زمنا بالثورة الاجتماعية وانحلال الأخلاق وفتور الإيمان بالدين، فقد كان القداس الأسود صلاة إلى الشيطان ينادونه فيها باسم رئيس العبيد، وتقوم فيها بوظيفة الكهانة فتاة عارية تمعن في الرقص حتى يأخذها الدوار، ثم يتصدى من الجمع أحد الرجال المندوبين للعبادة، فيتمم الصلاة باتخاذ دور الشيطان، واعتبار الفتاة محرابا حيا للمعبود.
2
وعاشت هذه النحل الشيطانية حقبة طويلة، لا شك أنها كانت أطول مما يتاح لها لو لم يكن لها سند من الحوادث غير مزاياها الخلقية أو الوجدانية، ولكنها استفادت من تنازع الكنائس، وانحلال الدولة الرومانية، وغارات الهمج وما اقترنت به من السبي والسلب والإباحة، واستفادت من مظالم المجتمع وجهالة المؤمنين بالسحر وسلطان الشيطان على المقادير الأرضية.
فلما استقرت المسيحية، وشاع الخوف والحذر من الجماعات المتسترة لاشتباك الخصومات السياسية، واتهام كل فريق من عداه باستخدام تلك الجماعات في محاربته والدس عليه، تألبت القوى على جميع تلك النحل، وأخذتها الكنيسة والدولة معا بالقمع الشديد والرقابة المتلاحقة، فلم تبق لها بقية بعد القرن السابع عشر إلا إذا صحت الإشاعات عن قصة النحلة الشيطانية التي كانت تستتر باسم الماسون، فيما رواه الصحفي الفرنسي جوكاند “Jogand” ، وأثار حوله حملته التي سماها الشيطان في القرن التاسع عشر، ولم تقم عليها البينة القاطعة بعد البحث في أسانيدها ودعاواها.
أما النحلة التي ينسبونها إلى الشيطان ولا تزال لها بقية في العصر الحاضر، فهي النحلة اليزيدية التي تقيم في شمال العراق، وينتمي أبناؤها جميعا إلى الكرد، ولا يعرف أحد على التحقيق سبب تسميتهم باليزيدية، ولا يعول على أقوال أحد من علمائهم أو جهلائهم؛ لأنهم يحرمون التعليم على عامتهم، ويجعلونه وقفا على أسرة منهم تتولى الكهانة وأمانة الأسرار في هذه الديانة، فمن كان منهم عالما بتلك الأسرار فهو لا يبوح بها، ومن كان من جهلائهم وعامتهم، فهو يتلقى ما يسمعه ويؤذن له بعلمه، وجميعهم مع ذلك يتوارثون التقاليد، ولا يفقهون خباياها، سواء منهم من أباحوا له العلم أو حرموه عليه.
ويرجع بعض الباحثين بالاسم إلى يزيد بن معاوية، ويرجع آخرون به إلى مدينة يزد الفارسية، ويرجع به غيرهم إلى اسم يزدان الإله الأقدم في الملة المجوسية، وغير بعيد أن يكون الاسم منسوبا إلى يزيد الخليفة الأموي؛ لأن النزاع بين الكرد والفرس قد فرق بين عصبياتهم في السياسة وفي الدين، فكان الكرد من غلاة السنيين، وكان الفرس من غلاة الشيعة، وربما كانت الطائفة الكردية التي تؤله «يزيد» في صورة الإله الأرضي مقابلة للطائفة الفارسية التي عرفت باسم «علي إلهي»؛ لأنها تغلو في حب الإمام علي رضي الله عنه إلى حب العبادة.
تؤمن الطائفة اليزيدية بسبعة آلهة خلقت من نور إله واحد كما تضاء الشمعة من الشمعة، وقد خلق كل منهم في يوم من أيام الأسبوع، وندبه الإله الأكبر لإبداع جزء من العالم الأعلى أو العالم الأدنى، وهم يعتقدون أن الله خلقهم من نطفة آدم غير ممتزجة بجسم حواء، خلافا لسائر البشر ممن ينتسبون إلى آدم وحواء، ولعلهم أخذوا معتقدهم هذا من المانوية أو من المعرفيين، الذين يروون في أساطيرهم أن آدم طلق حواء فأسلمتها الأرباب إلى شياطين الجحيم، وعندهم أن آدم هذا هو آدم الحادي والسبعون، كلهم ذهبوا بالمعصية من الوجود، ولم تبق على صلاح غير ذرية آدم من صلبه دون مخالطة المرأة، وهم اليزيديون.
ويعتقدون بتناسخ الأرواح وعودة الأشرار إلى الحياة في أجساد الحيوان، ويحرمون ألوانا من الأطعمة والأكسية لا يعرفون علة لتحريمها غير التعلات التي هي أشبه بأحاجي الأقاصيص، ومنها تحريم أكل الخس؛ لأن قديسهم الشيخ «عادي» مر به فلم يعرفه، وسأل عنه فلم يجبه، وتحريمهم لبس الثوب الكحلي لأنه عدو السماء.
وهم يقدسون السيدة مريم والحلاج، ويحجون إلى جبل الدروز كما يحجون إلى مكة، وكتابهم المقدس يسمى كتاب الجلوة، يلحق به كتاب يسمى مصحف رش أو المصحف الأسود، ولكن الفصل الثالث من كتاب الجلوة يعلمهم أن الله يرشد بغير كتاب، ويخص عباده المقربين بالإلهام من غير سماع.
وليس فيما رواه الثقات عنهم ما يثبت عبادتهم للشيطان، ولعل القول بعبادتهم للشيطان لبس، جاء من اعتقادهم أن الإله الذي يسمونه «طاوس ملك» نصح لآدم بأكل الحنطة، فانتفخ بطنه، وضاقت به الجنة، فأخرجه «طاوس ملك» إلى العراء وصعد إلى السماء، ولم يكن لآدم مخرج، فأرسل إليه طائرا نقر بطنه فاستراح من أكله الحنطة، وعاش بعيدا من الجنة المطهرة يأكل هو وبنوه من ذلك الطعام الأرضي إلى يوم القيامة.
فالذين سمعوا أنهم يعبدون «طاوس ملك» الذي أخرج آدم من الجنة قد وحدوا بين هذا الملك وبين الشيطان، وحسبوهم من النحل الشيطانية التي تعبده عبادة الأرباب.
على أننا نعرض النحل الشيطانية جميعا فلا نرى نحلة منها تعبد الشيطان بالمعنى المفهوم من العبادة، وهو الحب والتنزيه والتسليم، وإنما يقصدون بتلك المراسم التي يسمونها العبادة أن يزدلفوا إليه بالترضية والمداراة، وأن يتقوا منه الشر الذي لا يقيهم منه رب سواه؛ لأنه موكل بحكم الأرض إلى اليوم المعلوم، فهي مصانعة خوف أو نقمة على الخير الذي لا ينالونه، وليس في شعائر هذه النحل أثر واحد يحق لنا أن نطلق عليه اسم العبادة، حيث نعني بالعبادة إيمان الحب والتعظيم، والرضى بالفداء والبلاء في سبيل ذلك الإيمان، فليس في تلك الشعائر كافة علامة على قبول الفداء في سبيل العقيدة الشيطانية، أو قبول الامتحان والصبر عليه إيثارا لرضى الإله المعبود، ولو لم يكن فيه نعمة أو هبة من هبات الدنيا والآخرة، وكأنما كانت «عبادة الشيطان» تهمة جرت على ألسنة المنكرين لعقائدهم زراية بهم، وضنا عليهم أن يحسبوا في زمرة «العباد» المؤمنين بالله.
وإذا كان الفداء شرطا من شروط العبادة الخالصة، فما من نحلة شيطانية يتقبل المؤمنون بها أن يخسروا كثيرا أو قليلا في سبيل الشيطان، فهي مساومة وانتفاع بالواقع الذي لا مهرب منه، ومثل هذه المساومة لا تسمى بالعبادة إلا من قبيل المجاز والتمثيل.
حلفاء الشيطان
يدل تاريخ السحر على تضامن النوع الإنساني في التهدي إلى العقائد العميقة، التي تعرب عن نظرة شاملة إلى الحياة أو إلى الكون كله، وتبدو أفكار الناس في هذه العقائد كأنها تصدر عن عقل واحد يتعاون فيها ببداهته وخياله، وبذهنه وحسه، وتتقارب فيه ملكة التشخيص والرمز في وعي الإنسان الساذج، وملكة التجريد والتعميم في تفكير الفيلسوف المدرب على دقائق التفكير.
لو قال قائل في هذا العصر: إن الكون كله فكرة، أو إنه كله عدد وحسبة رياضية، لما احتاج في قوله هذا إلى تعمق بعيد، ولا ظهر منه أنه يشتط في نزعات التصوف أو نزعات التجريد؛ لأن الخاصة والعامة في زماننا يسمعون أن المادة كلها، على اختلاف عناصرها وتراكيبها وأجسامها، إنما هي ذرات تتألف من النواة والكهرب، وأن الذرة حين تنشق تئول إلى شعاع، وأن الشعاع هزات في الأثير، فلا صعوبة على العقل الساذج في تجريد المادة من تلك الكثافة، أو تلك الصلابة التي كانت عنده وصفا عاما لكل مادة، وكان الهواء عنده غاية ما يتصوره من الخفة والشفافية والانطلاق من قيود الجسم الكثيف.
لا يؤخذ العقل الساذج مأخذ الدهشة إذا سمع اليوم أن الكون كله عدد، وأن طبيعة العالم المحسوس من طبيعة الفكر المجرد، أو طبيعة المعنى الغني عن التجسيم.
ولكن كيف كان موقع هذا القول عنده حين سمع قبل نيف وعشرين قرنا أن الوجود كله عدد، وأن «الكلمة» أصل كل شيء، كما قال بعض الفلاسفة اليونان نقلا عمن تقدمهم من الكهنة والمفكرين؟
كيف كان موقع هذا القول عنده حين سمع باللوجوس “Logos”
لأول مرة؟ وحين سمع معها أو قبلها بالنسب الهندسية التي تتفرق موجودات الكون المادي كلها فلا تتمخض عن شيء سواها؟
كان هذا كلاما أشبه بالتخريف، أو هو التخريف عينه، وظل أناس من المطلعين إلى عصر الذرة يسمعونه فلا يصفونه بأكثر من أنه هراء، ولم يكن قول من الأقوال أبعد في الشطط عند جمهرة الناس من إحالة هذه الموجودات إلى فكرة خالصة، أو إلى عدد لا يعرفون معه ما هو المعدود.
وقد كان حقا من الإعجاز في التفكير أن يستطيع عقل قبل خمسة وعشرين قرنا أن يشف تلك الشفافية بهذه الأجسام ذات الأوزان والأحجام.
كان إعجازا لو كان معوله كله على الطفرة من الحس واللمس إلى التفكير المجرد أو الصوفية الرياضية، ولكنه في الواقع لم يكن كله طفرة من هذا القبيل، وقد ننظر إلى خطواته القريبة عيانا إذا تذكرنا تاريخ السحر، وفهمنا منه ذلك التضامن في البديهة الإنسانية بين ملكة التشخيص والرمز، وملكة التجريد والتعميم.
كان الناس يفهمون من عمل الساحر منذ آلاف السنين أنه يحرك الطبيعة وعناصرها بكلمة يعرفها، وبأعداد مقدسة يوفق بينها فتعمل في القوى العلوية والسفلية عملها.
كان بتلك الكلمة يبطل الأحجام والأوزان، ويجعلها في يديه كالهواء أو أخف من الهواء، وكان يلقي الكلمة أو يجمع العدد فيحرك الجبال، ويزلزل الأوتاد، ويطير بالأجسام، وينفذ إلى ما وراء الحجاب، ولا يبتعد منه بعيد أو يتعسر عليه عسير.
ولم يكن أصحاب العقيدة في السحر فلاسفة يجردون الأجسام وينظرون من ورائها إلى الحقائق في العقل الإلهي، أو في عقل من العقول العليا، ولكنهم كانوا أناسا حسيين واقعيين يفهمون أن الساحر يعمل بالكلمة ما يعمله كل منهم حين يأمر إنسانا مثله فيطيعه، وغاية ما هنالك أن الساحر يأمر بالكلمة أرواحا واعية، وأن الطبيعة كلها أرواح.
غاية ما هنالك أن الساحر يعرف الكلمة التي تطيعها تلك الأرواح، وأنه هو - الإنسان الساذج - لو عرفها لحرك الجبال كما يحركها، وزلزل الأوتاد كما يزلزلها، فلا تعمق عنده، ولا تصوف، ولا تجريد.
وإلى اليوم يستطيع الإنسان الساذج أن يقول: إن الكلمة تفعل الأعاجيب، وتحكم الدنيا؛ لأنها تحكم الإنس والجان، ولكنه يقولها ولا يشعر بعمق فيها، ولا يشعر السامع بدهشة عند سماعها، وإنما «تعمقها» الفلسفة لأنها تعطيها المعنى الذي لا يقدر عليه العقل الساذج، ويفعل التضامن في البداهة الإنسانية فعله فلا تبدو هذه النقلة كأنها الطفرة المنقطعة بين الحس واللمس، وبين الصوفية العقلية في أعلى الدرجات. •••
ولما فرق الإنسان الساذج بين السحر والعبادة لم يعتمد في تفرقته هذه على مقياس الشعرة الذي استخدمه علماء العصر الأخير في مراجعة العقائد، وضم الأشباه منها، وفصل المختلف منها بكل فارق دقيق أو جليل.
ولكنه فرق بين السحر والعبادة غير عامد ولا ملتفت إلى فارق بينها غير الفارق بين حالته وهو يذهب إلى الساحر، وحالته وهو يذهب إلى إمامه في العبادة، وربما كان الساحر والإمام شخصا واحدا، ولكنه يشعر من نفسه بالفارق بين حالته وهو يذهب إليه طلبا للسحر، وحالته وهو يذهب إليه طلبا للصلاة .
فحيثما ذهب إليه يطلب سحرا، فهو يحس من نفسه أنه يذهب إليه خفية، ويستر عنده ما يطلبه، ولا يبوح به لغيره ممن لا يأمنه ولا يطمئن إليه، وحيثما ذهب إليه يطلب صلاة فهو يذهب مع غيره، ويعلن ما يفعله وما يرجوه، ولا يخطر له أنه يتواطأ على دسيسة من دسائس الظلام.
ومنذ افترق الساحر والكاهن وظيفة وخلقا، أصبح السحر عملا من أعمال الظلام، وإن اختلف الأعوان عليه بين الأرواح الخبيثة والأرواح الطيبة، أو بين الأرواح التي يحكمها الشيطان والأرواح التي لا حكم له عليها، ولا يرجع إليه في تسخيرها.
ومع الزمن ظهر التخصص في صناعة السحر، كما يظهر في كل صناعة تتفرع وتتشعب وتتميز فيها المتشابهات والمتخالفات، فانقسم السحر إلى أبيض وأسود، وإلى سحر الحكماء وسحر الكذبة والمشعوذين، ولم يفهم الناس من وصفهم بالكذب والشعوذة أنهم لا يقدرون على صناعتهم التي لا شك فيها، وإنما فهموا من هذا الوصف أنهم يحتالون في الصناعة، ويسلكون مع طلابهم مسلك الشياطين وحلفاء الشياطين، ولا غرابة في الكذب أو الشعوذة من شيطان.
وبقيت «السرية» شرطا ملازما للسحر بنوعيه، وبقيت هذه السرية معنى مرادفا لمعنى الظلام، وتدبيرا لا يؤمن على الذين يعتقدونه ولا يرونه، ولا يعرفون كيف يكون تدبيره، ومتى يكون، وعلى أي وجه يكون. بقي الساحر مخيفا غير مأمون، وغار منه الكاهن على سلطانه فوقعت الجفوة بينهما، ولعن الكاهن غريمه، ولم يستطع غريمه أن يلعنه؛ لأن الناس لا يصدقون لعنته، ولا يرون اللعنة من حق السحر، وإن لم يكن سحرا من عمل الشيطان.
وقد وجد الكهنة والمتنبئون، ووجد معهم السحرة «وأصحاب الجان» جنبا إلى جنب في أخبار التوراة من أقدم أسفارها بعد موسى عليه السلام، ولكن الرؤساء والولاة كانوا يخرجون الأنبياء؛ لأنهم ينكرون أنهم أنبياء، ويخرجون السحرة وأصحاب الجان إذا عرفوا أنهم سحرة وأصحاب جان، وكذلك فعل شاول قبل موت النبي صمويل، فلما مات النبي بحث عن السحرة الذين نفاهم ليحضروا له روحه بعد موته، وقصته مع النبي في محضره ومع السحرة بعد غيبته نموذج للعقائد الأولى، التي لم تفصل بعد كل الفصل بين الوظيفتين، وإن فصلت بينهما في التجلة والتقديس.
ويقول الإصحاح الثامن والعشرون من كتاب صمويل: «... ومات صمويل وندبه كل إسرائيل ودفنوه في الرامة في مدينته، وكان شاول قد نفى أصحاب الجان والتوابع من الأرض، فاجتمع الفلسطينيون وجاءوا ونزلوا في شونم، وجمع شاول جموع إسرائيل ونزل في جلبوع، ولما رأى شاول جيش الفلسطينيين خاف واضطرب، فسأل الرب فلم يجبه الرب بالأحلام ولا بالأوريم - أي القرعة الكهنوتية - ولا بالأنبياء، فقال شاول لعبيده: فتشوا لي عن امرأة صاحبة جان؛ فأذهب إليها وأسألها، فقال له عبيده: هو ذا امرأة صاحبة جان في عين دور.
فتنكر شاول ولبس ثيابا أخرى، وذهب هو ورجلان معه وجاءوا إلى المرأة ليلا، وقال لها: اعرفي لي بالجان، وأصعدي لي من أقول لك، فقالت له المرأة: هو ذا أنت تعلم ما فعل شاول؛ كيف قطع أصحاب الجان والتوابع من الأرض، فما بالك تضع شركا لنفسي تريد لها الموت؟! فحلف لها شاول بالإله الحي لا يلحقنها إثم من هذا الأمر، فسألته المرأة: من أصعد لك؟ فقال: أصعدي لي صمويل، فلما رأت المرأة صمويل صرخت بصوت عظيم وقالت لشاول: لماذا خدعتني وأنكرت نفسك؟ قال لها الملك: لا تخافي. ماذا رأيت؟
فقالت المرأة: رأيت آلهة يصعدون من الأرض، ثم قالت: رجل شيخ صاعد مغطى بجبة، فعلم شاول أنه صمويل فخر ساجدا على وجهه، وقال صمويل لشاول: لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟ قال شاول: قد ضاق بي الأمر غاية الضيق؛ إن الفلسطينيين يحاربونني والرب يتخلى عني، ولم يعد يجيبني لا بالأنبياء ولا بالأحلام، ودعوتك لتعلمني ماذا أصنع؟
فقال صمويل: ولماذا تسألني وقد تخلى عنك الرب وعاداك؟ لقد فعل الرب لنفسه ما أنبأني به وتكلم به على يدي، وقد شق الرب المملكة وأعطاها لقريبك داود لأنك لم تسمع لصوت الرب، ولم تنفذ غضبه في عماليق، فهو صانع لك ما صنعه اليوم، وغدا يدفع بك وبإسرائيل إلى أيدي الفلسطينيين، وغدا تلحق بي أنت وبنوك، ويدفع الرب إلى الفلسطينيين جيش إسرائيل ، فسقط شاول على الأرض وغشيه الوجل من قول صمويل، ولم تكن له قوة لأنه لم يذق طعاما نهاره كله وليله.
ثم جاءت المرأة إلى شاول ورأته مرتاعا فقالت له: لقد صدعت جاريتك بأمرك، ووضعت نفسها في كفها تلبية لكلامك، والآن تسمع أنت لصوت جاريتك وتأكل من هذا الخبز الذي أضعه أمامك. كل فتكون لك قوى على المسير في الطريق، فأبى أن يأكل، وألح عليه عبداه والمرأة فاستجاب لهم وقام من الأرض وقعد على السرير، وكان للمرأة عجل مسمن في البيت فأسرعت وذبحته، وأخذت دقيقا وعجنته، وخبزت منه فطيرا وقدمته أمام شاول وعبديه، فأكلوا وذهبوا ...»
هذه القصة كنز من كنوز البحث في مقارنة الأديان، يندر العثور على قصة مثلها فيما احتوته من شواهد المرحلة التي يبدأ فيها التمييز بين الخير والشر، والثواب والعقاب، والأمانة الدينية والكهانة السحرية، دون أن ينتهي التمييز إلى حدوده الواضحة.
فها هنا تمييز بين من يختاره الله ومن يغضب عليه؛ كالتمييز بين مقام صمويل ومقام شاول، ولكنه يجمع بين الاثنين في مكان واحد بعد الموت، فيذهب شاول إلى حيث يلحق بصمويل.
وها هنا تمييز بين الإمامة الدينية وبين السحر، ولكن السحر تنسب إليه القدرة على تحضير روح النبي بغير مشيئته.
وها هنا تمييز بين السحر الصالح والسحر الخبيث أو السحر الأسود، ولكن الساحر يستعين بالجان كما يستعين بأرواح الموتى، ولا يقال عن الجان إنهم من أعوان الخير أو من أعوان الشر؛ لأنهم في خدمة شاول وهو مغضوب عليه.
وها هنا استطلاع للغيب يطلب من النبوة، كما يطلب من القرعة، أو يطلب من صاحبات الجان والأرواح.
غير أن العبريين لم يسبقوا غيرهم في مراحل كثيرة من أطوار المسائل الغيبية والعبادات، فمن قبل هذه المرحلة تميز السحر في الحضارة القديمة، فانقسم إلى السحر الأبيض والسحر الأسود، وإلى عمل الحكمة والمعرفة وعمل الخبث والدنس، وجاء عصر السيد المسيح وقد عرف السحران بوظيفتين وقيمتين وأثرين مختلفين، فتكلمت الأناجيل عن حكماء المجوس الذين رصدوا الكوكب، وعرفوا منه مولد السيد المسيح في مهده . وظل هذا السحر وغيره من ضروب السحر الممنوع مختلفين بالاسم والعمل، فيما نقله الغربيون من حكمة المشرق وثقافته، وظلت بقاياه إلى اليوم.
فالسحر يسمى عندهم باسمين؛ أحدهما: بسحر المجوس، ويدل عليه اسمه «الماجي» “Magic”
الذي بقي في اللغات الغربية بلفظه القديم.
والسحر الآخر يسمى بصناعة الساحرة “Witchcraft” ، ويؤخذ من اسمه هذا أنه كان مقصورا على المرأة منذ كانت المرأة في العرف الشائع أداة الشيطان في الغواية، وعون الشيطان على كيده وعصيانه.
فقد كان الأقدمون يخلطون بين فتنة المرأة بوحي الغريزة الجنسية، وفتنتها بوسوسة الشيطان، ويحسبونها من ثم حبالة شيطانية يسخرها الشيطان، أو تستعين به هي على تسخير المفتونين لأغراضها ومشتهياتها، ويقع في أذهانهم أنها أقرب إلى الخلسة والخداع؛ لأنها تعاشر الشيطان في زواج غير مشروع، ولا يحسبونه إلا من قبيل السفاح الممنوع، بل هم يحسبونه شرا من السفاح الممنوع؛ لأن السفاح الممنوع بين الرجل والمرأة من الإنس لا يبلغ في العصيان والمنكر مبلغ المعاشرة التي تجمع بين بنت من بنات حواء وبين عدو الله.
وتتميز أدوات السحرين كما يتميز السحران في المقصد والوسيلة، فسحر الحكمة والمعرفة له أدواته من رصد الكواكب ورياضة النفس، والروائح الزكية من الطيب والبخور.
وعلى نقيض ذلك سحر الخبث والأذى، أو سحر الشيطان بعبارة أخرى، فإنه يتوسل إلى مقاصده الخبيثة بكل دنس كريه من الأدوات والآلات، ويقال عن سحرته إنهم يلوثون كل طهر، ويبتذلون كل قداسة، وإنهم يدنسون اللبن والكتب الشريفة، ويتقربون إلى الشيطان بإحلال الدعوات والصلوات محل الحطة والهوان، ويزعمون أن الوضوء الشيطاني أيسر للمرأة من الرجل؛ لأنها تستخدم فيه الدم المطرود، ويتعمدون التبشيع والتنفير جهدهم من التخيل، فيزعمون أن الساحرة تمسح قدميها بشحم منتزع من جثة طفل ذبيح، وتخرج للطيران من مدخنة البيت وهي تمتطي المكنسة المتسخة؛ لأنهم لا يريدون أن يسلموا لها القدرة على الطيران إلا أن تكون من طريق الحريق والسواد، وعلى أداة من أدوات الأوساخ والأرجاس. •••
ومن أصول السحر في عصور الحضارة الأولى ما يسمى بعلم التنجيم، ويطلق على علم الفلك وعلم الغيب في وقت واحد.
كان التنجيم أصلا من أصول السحر يوم كان الكاهن يتولى وظيفة الإمام، ووظيفة العالم، ووظيفة الساحر، وكان الناس يؤمنون معه بربوبية الأفلاك وسريان مشيئتها في الأرضين ومن عليها، فكان الكاهن إماما يصلي لها، وعالما يعرف حسابها، وساحرا يستطلع أسرارها، ويتوخى التوفيق بينها وبين مطالب أتباعه ومقاديرهم التي يستنبئ عنها الغيب، ويعلم كيف يتعجلها ويتقيها.
وبقي التنجيم أصلا من أصول السحر بعد زوال عبادة الأفلاك وبطلان القول بربوبيتها، ولكن بطلان القول بهذه الربوبية لم يبطل القول بسلطان الأفلاك وتأثيرها بأمر الله في العوالم السفلية، واختلف المتدينون في مدى هذا التأثير، كما قال الكشناوي في كتابه عن خلاصة السحر والطلاسم؛ إذ ينقل آراء المختلفين فيقول: «إن الذي اختص به الصابئة وبعض الفلاسفة الذين وافقوهم على رأيهم إنما هو القول بألوهية الكواكب، واستحقاقها للعبادة، واستقلالها بالتأثير والتدبير في هذا العالم، فهذا كفر مجمع عليه في جميع الملل والأديان؛ لأن الملل كلها مطابقة على أن المستحق للعبادة، والذي بيده التأثير وتدبير الكائنات إنما هو إله واحد واجب الوجود، متصف بصفات الألوهية والربوبية، وأن كل ما عداه حادث مفتقر إليه على الدوام، لا يستقل بنفسه في شيء من الأشياء ولو لحظة واحدة.
وأما القول بأنها مؤثرة بقوة أودعها الله فيها ثم تركها تؤثر بتلك القوة في العالم بإذنه تعالى، بحيث لو لم يرد ذلك تبارك وتعالى لما أثرت أصلا، ومثلوا ذلك بملك يولي شخصا بقطر من الأقطار، فيفوض له الأمر والحكم هناك، فيصير ذلك الرجل يمضي الأحكام في ذلك القطر بإذن الملك، بحيث لو لم يرد ذلك منه لعزله عن تلك الولاية، فهذا القول قد قاله جميع المليين، ومنهم إمام الحرمين، ولم يرتضه السنوسي، بل عده من البدع المنكرة وشنع على القائلين به، ولم يصل بهم إلى حد الكفر. وأما من يقول: إنها أسباب عادية أجرى الله عادته بوجود الحوادث عندها لا بها، مع تجويز التخلف عن خرق تلك العادة، كما هو الحكم في سائر الأسباب العادية من الأكل والشرب ، والقطع والإحراق ، فهذا القول لا ينكره أحد ...»
إلى أن يقول: «وثاني الشيئين المذكورين إثبات القوابل السفلية الأرضية؛ لأنهم قالوا: إن حصول الفاعل المؤثر لا يكفي وحده في حصول الأثر، بل لا بد معه من حصول القابل، ولا يكفي أيضا حصول القابل وحده، بل لا بد مع وجوده من كون الشرائط المعتبرة للقبول حاصلة والموانع زائلة؛ لأنه ربما حدث في العالم الأعلى شكل غريب صالح لإفادة آثار غريبة في مادة العالم الأسفل، فلا تكون المادة السفلية متهيئة لقبول تلك الآثار لعدم الشرط أو لوجود المانع ... فعلى هذا لو تيسرت لنا معرفة طبيعة ذلك الشكل، ومعرفة طبيعة الأمور المعتبرة في كون المادة السفلية قابلة لذلك الأثر؛ لكان يمكننا أن نهيئ تلك المادة لقبول ذلك الأثر ...»
وعلى هذا التأويل بقي سحر التنجيم بعيدا من شبهة الاتهام بطاعة الشيطان بين أهل المشرق والمغرب، حتى ظهر في كليهما من يلحقه بالوسائل الشيطانية، ويعتبر السحرة تلاميذ للشيطان في هذه الصناعة؛ لقدرته على الصعود والهبوط بين الأفلاك والعوالم السفلية، وعرفانه بخفايا العوالم السفلية ونزعاتها، وتهيؤ أحوالها للتأثر والانفعال بما فوقها.
وقد أورد صاحب الكتاب المقدم أقوالا مختلفة في التعريف بما سماه علم السحر فقال: «... اعلم أنهم اختلفوا في تعريفه لاختلاف المذاهب فيه، فعرفه صاحب (إرشاد القاصد) بأنه: علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية، وعرفه ابن العربي الفقيه المالكي بأنه: كلام مؤلف يعظم فيه غير الله عز وجل، وتنسب إليه الكائنات والمقادير، وبعضهم عرفه بأنه: ما يغير الطبع ويقلب الشيء عن حقيقته، ومنفعته عند الإسلاميين أن يعرف ليحذر منه لا ليعمل به، ولا نزاع في تحريم العمل به بتا.
وأما مجرد تعلمه ففيه خلاف بين الأئمة؛ فبعضهم منعوه وحرموه حسما للباب كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم أباحوه، وأغرب بعض النظار حيث عدوه من فروض الكفايات؛ لجواز ظهور ساحر يدعي النبوة فيكون في الأمة من يكشفه ويقطعه. وقد حكاه ابن صاعد في إرشاد القاصد. ولتعلمه فائدة أخرى وهي أن يعرف منه ما يقتل ، فيقتل فاعله به قصاصا عند من يقول بذلك.»
ثم مضى المؤلف يذكر أقسامه فقال: «إنه حقيقي وغير حقيقي، وإن الطرق فيه اختلفت على أربعة مذاهب؛ أحدها: طريقة تصفية النفس وتعليق الوهم، وهي طريقة أهل الهند؛ لأنهم يعتقدون أن تلك الآثار السحرية إنما تصدر عن النفس الناطقة، ولذلك يلازمون الرياضات الشاقة حتى تصفو نفوسهم، وتتجرد عن جميع الشواغل البدنية بحسب الطاقة البشرية. وهذا المذهب مبني على ثبوت التأثير لتوجيه النفس وتعليق الوهم.
والمذهب الثاني من المذاهب الأربعة التي للسحر طريقة النبط، وهي عمل أشياء مناسبة للغرض المطلوب مضافة إلى رقية ودخنة بعزيمة نافذة في وقت مختار، وتلك الأشياء تارة تكون تماثيل كالطلسمات، وتارة تصاوير ونقوشا كالتعاويذ، وتارة عقدا تعقد وينفث فيها، وتارة كتبا تكتب وتدفن في الأرض، أو تطرح في الماء، أو تعلق في الهواء، أو تحرق بالنار، وتلك الرقية التي يرقي بها تضرع إلى الكوكب الفاعل للغرض المطلوب على زعمهم، وتلك الدخنة منسوبة لتلك الكواكب لاعتقادهم أن هذه الآثار إنما تصدر عن أجرام الكواكب. وكتاب (سحر النبط) - نقل ابن وحشية - يشتمل على تفاصيل تلك الطريقة.
والمذهب الثالث من المذاهب الأربعة السحرية مذهب اليونانيين المتقدمين، وهو تسخير روحانية الكواكب والأفلاك، واستنزال قواها بالوقوف والتضرع إليها؛ لاعتقادهم أن هذه الآثار إنما تصدر عن روحانية الأفلاك والكواكب لا عن أجرامها. وهذا هو الفرق بينهم وبين الصابئة أهل المذهب الثاني وأهل الطلسمات. والمذهب الرابع من المذاهب الأربعة السحرية مذهب العبرانيين والقبط والعرب، وهو الاعتماد على ذكر أسماء مجهولة المعاني كأنها أقسام وعزائم بترتيب خاص، كأنهم يخاطبون بها حاضرا؛ لاعتقادهم أن هذه الآثار إنما تصدر عن الجن، ويدعون في تلك الأقسام أنها تسخر ملائكة قاهرة للجن.»
وقد أورد «الأوغنستاني» في «رسالة اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان» أمثلة في الآيات، وجملة أعدادها بحروف الجمل، وتقسيمات هذه الآيات والأعداد إلى جداول مناسبة لدعوة الملائكة الذين يسخرون الجان؛ ليعود هؤلاء فيسخروا الطبيعة والناس، في زعم أصحاب هذه الأرصاد. •••
والمفهوم من مؤلفات الأوروبيين في السحر والطلاسم أنهم نقلوا جميع هذه النفسيات، واقتدوا بالشرقيين في الحكم عليها من الوجهة الدينية، واتخذوا من عطارد كوكبا راعيا للسحر كأنه خليط من الرب اليوناني القديم والشيطان، وجعلوه وليا للشطار والخبثاء وأدعياء النظم، وأصحاب الخداع باللسن والخطابة، وانتهى بهم الأمر إلى تحريم هذه المعارف السحرية جميعا، وتقسيم المعارف كافة إلى قسمين؛ قسم حلال: وهو ما يشتغل به رجال الدين برخصة من الرؤساء، وقسم حرام: وهو كل ما عداه بلا استثناء لمذاهب الفلسفة وتجارب العلوم الحديثة.
فدخل في عداد المعارف الشيطانية والسحر الممنوع كل علم يتولاه أناس من غير رجال الدين، ولم يستثن - كذلك - كل سحر يزعم أصحابه أنه من العزائم التي يستعينون فيها بالملائكة، فقد شاع في تلك القرون أن الشيطان يتشكل بأشكال الملائكة والأرواح العلوية، كما قال بولس الرسول في رسالة كورنثوس الثانية: «لأن هؤلاء هم رسل كذبة فعلة، ماكرون، مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك النور، فليس عظيما أن كل خدامه يغيرون شكلهم كخدام للبر.»
واحترز أحبار الكنيسة من دعوى كل مدع ينسب إلى نفسه القدرة على مخاطبة الملائكة واستيحاء الغيب، فعم التحريم كل عزيمة من عزائم السحر وما إليه، وكان القانون يعاقب على جريمة السحر بالموت إذا ثبت أن الساحر استخدم طلاسم لإهلاك المسحور، ثم صدر في إنجلترا قانون معدل له (سنة 1603) يقضي بالموت على كل من يثبت عليه تعاطي السحر، ولو للعلاج وشفاء الأمراض؛ لأنه محالفة مع الشيطان، وكل محالفة مع الشيطان خيانة لله.
وكانت إنجلترا مع هذه معدودة من البلاد التي لا تخضع كل الخضوع للسيطرة الكهنوتية، ولم تعمل محاكم التفتيش فيها كما كانت تعمل في القارة الأوروبية، حيث أحرقت النساء عقابا على السحر، وأحرق الأطفال؛ لأنهم من ولد الشياطين، وصدرت آخر هذه الأحكام في منتصف القرن الثامن عشر، وكان بعضها مما صدر في الولايات المتحدة.
وانتهى القرن الثامن عشر والرأي الغالب على أهل الغرب أن السحرة جميعا حلفاء الشيطان، وأن من السحرة كل من يروض الطبيعة بعلم غير العلوم التي يقرها الدينيون.
الفصل الخامس
الشيطان والفنون
قال أبو العلاء:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن
وربما كان أبو العلاء يخص العرب دون غيرهم بهذا القول، ولكنه في الواقع قول يعم جميع الأقوام، ويعم جميع أنواع الإحسان في الكلام وفي غير الكلام.
فالعبقرية عند الأوروبيين منسوبة إلى الجن، ومعنى العبقري عندهم أنه صاحب الجنة، أو الشبه بالجنة في القدرة والتفوق، كائنا ما كان العمل الذي يتفوق فيه، وكلمة «جينياس» “Ginius”
تطلق على كل صاحب قريحة خارقة للمألوف في الابتكار والابتداع، سواء كان ابتداعها في الشعر والنثر، أو في التصوير والنحت، أو في الإنشاء والتلحين، أو في العلم أو الصناعة، أو تدبير المال وسياسة الشعوب.
والعبقرية في التعبير العربي الحديث مأخوذة من كلمة عبقر، موضع يقولون إن الجن تسكنه، وإن الصناعات الفائقة كلها تنسب إليه، ومنها صناعة السيوف كما قال امرؤ القيس:
كأن صليل المرو حين تطيره
صليل سيوف ينتقدن بعبقرا
ويقولون إن سكانه أنفسهم موصوفون بالجمال كما قال الأعشى: «كهولا وشبانا كجنة عبقر.»
ويرد بعضهم أن الكلمة مأخوذة من الكلمة الفارسية «آبكار» بمعنى الرونق، وهو بعيد؛ لأن اقتباس كلمة الرونق لا يفسر القصص المنسوجة حول البلد المسمى بعبقر، ولا يوجد في الأصل الفارسي ما يوحي بهذه القصة، أو يوحي بأسباب اقتباس الكلمة على حسب العرف المأثور في هذه المقتبسات.
وتذكر كلمة «عبقري» وصفا للنفاسة بغير نظر إلى اشتقاقها من المكان المزعوم، كما جاء في سورة الرحمن من القرآن الكريم:
متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان . •••
ومن التعبيرات المتشابهة بين اللغات وصف الإبداع بالإعجاز، ووصف الإعجاز تارة بالدقة التي تخفى أسرارها على غير ذوي الفطنة، وتارة بالفخامة التي تتعاظم العاملين من غير ذوي العزم والقدرة الخارقة.
يقال ذلك في البلاغة ومعانيها الخفية وفطنتها النافذة إلى الخبايا والأعماق.
ويقال ذلك في المساعي الكبار التي يضطلع بها المردة الجبارون، ولا يقوى على هذا الاضطلاع بها من دونهم من ذوي الأجسام المحسوسة.
وحيث تسري الخواطر إلى تصور الخفاء والدقة والقدرة الخارقة لا جرم تنتهي بمسراها إلى العوالم الخفية التي لا ترى بالعيون، ولا تحد قدرتها بما يحد الأيدي والأقدام من أجسام بني آدم وحواء.
ولهذا الاستطراد الطبيعي في تتابع الخواطر توافقت بداهة البشر على علاقة البلاغة بالجن، بل على علاقة كل «بالغ» من الأقوال والأعمال بتلك الخلائق المستترة التي لا تحدها نقائص اللحم والدم؛ لأنها متلبسة في الأذهان بخلقة النار والريح ومادة «الجو اللطيف» مما لا يحصر ولا يحال بينه وبين مسعاه.
والعرب تزعم أن شعراءها تستوحي الجن، وأن كل شاعر منهم يستعين بشيطان يصاحبه ويعرفه باسمه، فهبيد اسم شيطان عبيد، ومسحل اسم شيطان الأعشى، وجهنام اسم شيطان عمرو بن قطن، وسنقناق اسم شيطان بشار. ويزعم الفرزدق أن الشعر منقسم بين شيطانين؛ أحدهما يسمى الهوجل، وهو موكل بالجيد من الشعر، والآخر يسمى الهوبر، وهو موكل برديئه وسقطه. وأنشده رجل من تميم بيتا يقول فيه:
ومنهم عمر المحمود نائله
كأنما رأسه طين الخواتيم
فضحك وقال: «إنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوجل في أوله فأجدت، وخالطت الهوبر في آخره فأفسدت.»
وكان أبو النجم الرجاز يفخر على الشعراء ويقول: إن شياطينهم جميعا إناث ما خلا شيطانه، فهو شيطان ذكر:
إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وكأنه نظر في ذلك إلى فحولة الكلام مما اشتهر به الرجز، ولم يشتهر به الشعر في زمانه.
ويكون مع الشيطان تابع أو «رئي» كأنه الراوية الذي يحفظ ما يلقيه الشيطان القائل عفو الخاطر.
وفي كتاب «آكام المرجان في أحكام الجان» نظم كثير منسوب إلى الجن بغير واسطة الأنس، أو مشترك بين قائلين؛ أحدهما من هؤلاء، والآخر من هؤلاء، ومن هذا الشعر المشترك قال بعد عنعنة طويلة: «خرجت مع نفر من قريش نريد الشام، فنزلنا بواد يقال له وادي عوف، فعرسنا به، فاستيقظت في بعض الليل فإذا أنا بقائل يقول:
ألا هلك النساك غيث بني فهر
وذو الباع والمجد التليد وذو الفخر
فقلت في نفسي: والله لأجيبنه، فقلت:
ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر
من المرء تنعاه لنا من بني فهر
فقال:
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى
وذا الحسب القدموس والمنصب القهر
فقلت:
لعمري لقد نوهت بالسيد الذي
له الفضل معروفا على ولد النضر
فقال:
مررت بنسوان يخمشن أوجها
صباحا عليه بين زمزم والحجر
فقلت:
متى؟ إن عهدي فيه منذ عروبة
وتسعة أيام لغرة ذا الشهر
فقال:
ثوى منذ أيام ثلاث كوامل
مع الليل أخرى الليل أو وضح الفجر
فاستيقظت الرفقة فقالوا: من تخاطب؟ فقلت: هذا هاتف ينعى ابن جدعان، فقالوا: والله لو بقي أحد بشرف أو عزة أو كثرة مال لبقي عبد الله بن جدعان، فقال ذلك الهاتف:
أرى الأيام لا تبقي عزيزا
لعزته ولا تبقي ذليلا
فقلت:
ولا تبقي من الثقلين ثقلا
ولا تبقي الحزون ولا السهولا»
وكأنما نظر صاحب هذه القصة إلى قول حسان بن ثابت في المساجلة الشعرية حيث يقول عن صاحبه الجني:
ولي صاحب من بني الشيصبا
ن فطورا أقول وطورا هوه
وقد روى صاحب «آكام المرجان» أبياتا كثيرة من نظم الجن في رثاء عظماء الصحابة وآل النبي، منها ما نسب إلى الجن منفردين به، ومنها ما اشترك فيه قائلان كالأبيات التي رويت في رثاء ابن جدعان.
وكانوا يقولون عن توارد الخواطر بين الشاعرين: إنهما يأخذان من شيطان واحد، فذكر صاحب مواسم الأدب أن الفرزدق وجريرا ركبا ناقة إلى الرصافة لاستمناح هشام بن عبد الملك، فنزل جرير في بعض الطريق فتلفتت نحوه الناقة، فأنشد الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي
وخير الناس كلهم أمامي
متى تردي الرصافة تستريحي
من الإدلاج والدبر الدوامي
ثم قال في نفسه: الآن يجيء ابن المراغة فيسمع ما أنشدته فيه فيجيبني بقوله:
تلفت أنها تحت ابن قين
أبي الكيرين والفاس الكهام
متى ترد الرصافة تخز فيها
كخزيك في المواسم كل عام
ثم جاء جرير، فأخبره الفرزدق بالقصة وأنشده البيتين الأولين، فلم يلبث أن أنشده البيتين الأخيرين، فضحك الفرزدق وقال: والله، يا أبا حرزة، لقد قلتهما قبل أن تأتي، قال جرير : أما علمت أن شيطاننا واحد؟
وكل هذا ولا شك تلفيق يعلمه ملفقوه، ولكن الأصل فيه قائم على اعتقاد طبيعي شائع، يخيل إلى الناس في شتى الأمم أن المعاني الخفية لا تخلو من علاقة بالمخلوقات الخفية، وأن أسرار الصناعات التي تدق عن نظر العيون ينبغي أن تطلع عليها العيون التي تعيش في عالم الأسرار، ولا يدق عن نظرها شيء في حلكة الظلام.
ويقال عن فن الغناء ما يقال عن فن القريض، وبخاصة في الزمن الذي كان فيه الغناء موقوفا على البيت أو الأبيات يختارها المغني من كلام الشاعر في عصره، أو في غير عصره.
روى صاحب الأغاني أن الغريض كان يقتبس بعض أصواته من عزيف الجن، ويزعم ذلك مغالاة بصنعته، فأنكر عليه سامعوه ما يدعيه، حتى كان ذات ليلة يغني لجماعة من نساء مكة فسمعن عزيفا عجيبا ذعرن منه، فقال لهن الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته وأصبحت فغنيت به، وأصغين إلى الصوت فإذا هو من نغمة ألحان الغريض.
وادعى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الغناء الماحوزي، الذي افتن به الناس من فن أبيه، إنما كان من صنع إبليس، قال عن أبيه: «استأذنت الرشيد أن يهب لي يوما من أيام الجمعة أنفرد فيه بجواري وإخواني، فأذن لي في يوم السبت ... فأقمت بمنزلي، وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي، وأمرت البواب ألا يأذن لأحد في الدخول علي، فبينما أنا في مجلسي والحرم قد حففن بي، إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال، عليه خفان قصيران، وقميصان ناعمان، وعلى رأسه قلنسوة، وبيده عكازة مقمعة بفضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار ... فدخلني غيظ عظيم لدخوله وهممت بطرد بوابي ...
فسلم علي أحسن سلام، فرددته عليه، ودعوته إلى الجلوس فجلس، وأخذ في أحاديث الناس وأيام العرب وأشعارها حتى سكن ما بي من الغضب، فظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله علي لأدبه وظرفه، فقلت: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه، قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك، فشربت رطلا وسقيته مثله، فقال : يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئا فنسمع من صنعتك ما قد فقت به عند الخاص والعام ... فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود فجسست، ثم ضربت وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم!
فازددت غيظا وقلت ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذن واقتراحه علي حتى سماني باسمي ولم يجمل مخاطبتي، ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافئك؟ فتعجبت في نفسي وقلت: بم يكافئني؟ ثم أخذت العود فغنيت، وتحفظت بما غنيته وقمت به قياما كافيا لقوله لي أكافئك، فطرب وقال: أحسنت يا سيدي! ثم قال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فقلت: شأنك! واستضعفت عقله أن يغني بحضرتي بعد ما سمعه مني، فأخذ العود وجسه، فوالله قد خلت أن العود ينطق بلسان عربي فصيح في يده، واندفع يغني:
ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح
إلى آخر الأبيات ...
فوالله لقد ظننت أن الحيطان والأبواب والسقوف وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن صوته، حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه، وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لما خالط قلبي من اللذة التي غيبتني عن الوجود، فلما رآني كذلك أخذ العود ثانية، واندفع يغني هذه الأبيات:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودة
فإني إلى أصواتكن حزين
إلى آخر الأبيات ...
فكاد عقلي أن يذهب طربا، ثم غنى ليزيد بن الطثرية:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
إلى آخرها ...
ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماحوزي خذه وانح نحوه في غنائك، وعلمه جواريك، فقلت: أعده علي، فقال: لست بمحتاج، قد أخذته وفرغت منه. ثم غاب من بين عيني فارتعدت لذلك، وقمت إلى السيف فجردته، وغدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن عندي؟ فقلن: سمعنا أحسن غناء، لم نسمع قط أحسن منه. فخرجت متحيرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا، فسألت البواب عن الشيخ الذي خرج، فقال: أي شيخ؟ والله ما دخل عليك أحد ... فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا أبا إسحاق! أنا أبو مرة إبليس ... وقد كنت نديمك اليوم فلا ترع ... فركبت إلى الرشيد وأخبرته بالحديث، فقال: ويحك! أعد الأصوات التي أخذتها. فأخذت العود فإذا هي راسخة في صدري ...»
وقد كان عهد العرب بعزيف الجن في الصحراء قديما جدا لم يتغير ظنهم به فيما نظمه الشعراء الإسلاميون، كذي الرمة حيث يقول:
ورمل كعزف الجن في عقداته
هرير كتضراب المغنين بالطبل
غير أنهم خصوا الشاعر بالشيطان الملازم، ولم يجعلوا للمغني شيطانا مثله؛ لأن فن الشعر كان أقدم عندهم من فن الغناء، وإنما كان غناؤهم حداء أو محاكاة للحداء، وكان الحداء نغما شائعا يغنيه كل سائق يحدو الإبل، فهي طريقة لا محل فيها للافتنان والتنويع، وكان غناؤه على الأكثر في قافلة لا ينفرد عنها بمكان يظن أنه يخلو فيه بالجن لتلقنه ويستمع منها، فلما ظهر المغنون آحادا منقطعين لعملهم، منفردين بوضع ألحانهم، أحبوا محاكاة الشعراء بالأخذ عن الجن في صناعتهم مغالاة بها عن قدرة الإنس في هذه الصناعة، ولكنهم طرءوا بهذه الدعوى ولم يتأصلوا فيها كما تأصل الشعراء، فسمعت من آحاد متفرقين ولم تكن إجماعا من وحي البديهة في البيئة بأسرها. •••
وقد روي عن الصناعات العلمية كالطب ما روي عن صناعة الكلام وصناعة الغناء، فأسند صاحب كتاب «الهواتف» إلى النضر بن عمرو الحارثي قصة قال فيها:
إنا كنا في الجاهلية إلى جانبنا غدير، فأرسلت ابنتي بصحفة لتأتيني بماء فأبطأت علينا، وطلبناها فأعيتنا فيئسنا منها ... قال: والله إني جالس ذات ليلة بفناء مظلتي إذ طلع علينا شيخ، فلما دنا مني إذا به ابنتي، قلت: ابنتي؟ قالت: نعم، ابنتك! قلت: أين كنت أي بنية؟ قالت: أرأيت ليلة بعثتني إلى الغدير؟ أخذني جني فاستطار بي، فلم أزل عنده حتى وقع بينه وبين فريقين من الجن حرب، فأعطى الله عهدا إن ظفر بهم أن يردني عليك، فظفر بهم فردني عليك. فإذا هي قد شحب لونها، وتمرط شعرها، وذهب لحمها، وأقامت عندنا فصلحت ، فخطبها بنو عمها فزوجناها.
وقد كان الجني جعل بينه وبينها أمارة إذا رابها ريب أن تدخن له، وإن ابن عمها ذاك عيب عليها وقال: جنية شيطانة! ما أنت بإنسية. فدخنت، فناداه مناد: ما لك ولهذه؟ لو كنت تقدمت إليك لفقأت عينك، رعيتها في الجاهلية بحسبي، وفي الإسلام بديني، فقال له الرجل: ألا تظهر لنا حتى نراك؟ قال: ليس لنا ذاك؛ إن أبانا سأل لنا ثلاثا: أن نرى ولا نرى، وأن نكون بين أطباق الثرى، وأن يعمر أحدنا حتى تبلغ ركبتاه حنكه ثم يعود فتى.
فقال ابن عمها: ألا تصف لي دواء حمى الربع؟ قال: بلى؛ قال: ما رأيت تلك الدويبة على الماء كأنها عنكبوت؟ قال: بلى! قال: فخذها، ثم اشدد على بعض قوائمها خيطا من عهن فشده على عضدك اليسرى. ففعل، قال: فكأنما نشط من عقال، فقال الرجل: يا هذا، ألا تصف لنا دواء رجل يريد ما تريد النساء؟ قال: هل ألمت به الرجال؟ قال: نعم، قال: لو لم يفعل وصفت لك.
وجاء في كتاب «آكام المرجان» بعد نقل هذه القصة جملة أخبار من قبيلها، يتلقى فيها الأنس عن الجن علما من علوم الطب لعلاج بعض الأمراض، ومنها أمراض لها في عرف الأقدمين علاقة بالجن كالصرع والوهم والهزال، وبعض هذا العلاج دواء، وبعضه من الرقى والتمائم التي تدخل في طب السحر والكهانة.
وما من صناعة بلغت مبلغ الإعجاز في رأي قوم إلا كان لها تفسير من معونة الجن أو المردة، ويرجعون في هذا التفسير إلى الخبر المنقول كما يرجعون إلى المجاز والتخيل، فمما نقله الشعراء من أخبار الرهبان ونساك البيع قبل الإسلام قول النابغة عن معابد بعلبك أو تدمر:
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وجاراه البعيث في قوله:
بني زياد لذكر الله مصنعة
من الحجارة لم يعمل بها الطين
كأنها غير أن الأنس ترفعها
مما بنت لسليمان الشياطين
والبحتري يصف إيوان كسرى المهجور فيقول:
ليس يدرى: أصنع إنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس؟
فهو هنا يرى بناء فخما مهجورا يصح أن يكون من صنعة الإنس للجن؛ لأنه خراب موحش كمساكن الجان، ويصح أن يكون من صنعة الجن للإنس؛ لأنه فيما هاله من فخامته أكبر مما تبلغه طاقة الإنسان.
ولا يفهم القول بتسخير الجان لخدمة الفنون فهما صحيحا إلا مع التفرقة الواجبة بين نوعين من التسخير ينبغي ألا يلتبس أحدهما بالآخر في هذا المقام.
فالتسخير الذي يشمل بني آدم جميعا، ويشمل القوى والعناصر جميعا غير التسخير الذي يأتي فلتة من حين إلى حين بالحيلة التي يحتالها الشيطان، أو يحتالها الإنسان، ولا تبلغ بحال من الأحوال أن تساق مساق التعميم في الكلام على خلق الأحياء وخلق السماوات والأرضين.
فمن التسخير الذي يجري مجرى النواميس الكونية قوله تعالى في القرآن الكريم:
وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه .
وقوله تعالى:
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره .
وقوله تعالى:
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة .
وقوله تعالى عن داود وسليمان:
وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره .
ولم يرد في القرآن الكريم ذكر لتسخير الجن والإنس والحيوان إلا بهذا المعنى، ومنه ما جاء عن تسخيرها لسليمان:
وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون .
ومنه:
والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد .
فهذا التسخير الذي يفهم منه أن الإنسان قد أوتي علما يسيطر به على القوى والعناصر وما في الأرض، إنما يجري مجرى النواميس الكونية على عمومها، ولا يخص به إنسان من الناس إلا كما يخص بعلم بناء السفن، وصوغ الحديد، واستخدام الريح بأمر من الله في غير احتيال من الشيطان، أو اختلاس من الإنسان.
وليس من قبيل هذا التسخير ما يقال عن أسرار السحر والطلاسم، وأغراض التحالف والمخادنة بين الأناسي والشياطين؛ فذاك تسخير تجري فيه إرادة الله وقدرة الإنسان وأحكام القوى والعناصر، كيفما سميناها، مجرى العموم المطرد في النواميس الكونية التي يعلمها من يقدر على علمها.
أما التسخير المقصود بالسحر وما إليه، فهو إلى خرق النواميس أقرب منه إلى مجاراتها والعمل بإرادة الله فيها، وإنما تخرق فيه هذه النواميس بثمن يبذله الساحر من روحه أو جسده، كأنه محاباة الرشوة وجزاء المخالفة والمروق عن مجرى الأمور.
ونعود إلى عمل الشيطان في الفنون، فنلاحظ أن ملكة الخيال تتقارب في رواياته وأقاصيصه بين المشرق والمغرب كأنها تصدر من إنسان واحد يتخيل الشيء الواحد في أوقات مختلفات.
فالعرب يتحدثون عن شياطين الشعراء، واليونان - ومن نقل عنهم - يتحدثون عن جنيات الفنون التي اصطلحنا على تسميتها بالعرائس، ولم نسلبها بذلك نسبتها إلى الجان، وقد قيل عن سقراط: إنه كان يستمع وحي الحكمة من جني أو شيطان كأنه يستمع إلى صوت صديق من الإنس يحاوره ويناجيه.
وقصة الموصلي مع إبليس لها نظير من قصة الموسيقي الإيطالي جيوسبي ترتياني في أوائل القرن الثامن عشر (1713)؛ حيث كان نزيلا بأحد الأديرة فجاءه الشيطان في المنام وتناول قيثارته وعزف عليها لحنا أذهله، ولكنه لم يذكره كله حين أيقظه إبليس وتحداه أن يعيده كما سمعه، فقنع منه بما وعاه وسماه هزة الشيطان.
والمردة الذين كانوا يقيمون الصروح في الشرق يضارعهم في اليونان جماعة المردة المشهورين باسم «التيتان».
والأطباء في القرون الوسطى كانوا ينافسون الكهنة في صلواتهم ودعواتهم للمرضى، فيتعلمون من الشيطان تلك الرقى والتمائم التي يزيفونها باسم الطب، ويشترون بها أرواح المصابين ثمنا لما يخدعونهم به من ظاهر الشفاء، وباطن الهلاك والبوار.
والحكم على شياطين الفنون من الوجهة الدينية متقارب في المشرق والمغرب.
فالغالب على شياطين الفنون أنها شياطين قدرة وإبداع، وليست بشياطين غواية وإفساد.
ولكن الفنون قد تستخدم للغواية والفتنة كما تستخدم للزينة وإبراز معاني الجمال ؛ كان جرير يفخر بشعره فيقول: إنه من رقى الشيطان، ويمدح الرجل الصالح فيقول ما معناه: إن الله عصمه من رقاه:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا
فإذا كان الفن من آلات الإصلاح والفطنة فشيطانه من شياطين القدرة والجمال، وإذا كان من آلات الفتنة والغواية فشيطانه من جند إبليس، وقد قال الإمام ابن الجوزي في فصل من كتابه «تلبيس إبليس» وحرم في نهايته غناء التطريب واللهو، قال في أوله: «وفصل الخطاب أن نقول ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء، ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك، والغناء اسم يطلق على أشياء منها: غناء الحجيج في الطرقات، فإن أقواما من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون في الطرقات أشعارا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام، وربما ضربوا مع إنشادهم بطبل، فسماع تلك الأشعار مباح، وليس إنشادهم إياها مما يطرب ويخرج عن الاعتدال.
وفي معنى هؤلاء الغزاة؛ فإنهم ينشدون أشعارا يحرضون بها على الغزو، وفي معنى هذا إنشاد المبارزين للقتال أشعار التفاخر عند النزال، وفي معنى هذا أشعار الحداة ... وإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مال ذات ليلة بطريق مكة إلى حاد مع قوم فسلم عليهم فقال: إن حادينا نام، فسمعنا حاديكم فملت إليكم ... وقد كان لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
حاد يقال له أنجشة يحدو فتعنق الإبل، فقال رسول الله: يا أنجشة، رويدك! رفقا بالقوارير. وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:
لاهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا
وثبت الأقدام إذ لاقينا
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع، فقال: «يرحمه الله».»
ولنذكر مع كلام الإمام ابن الجوزي أنه ألف كتابه للكشف عن تلبيس إبليس، فلم يدع طائفة إلا كشف منها لونا من ألوان هذا التلبيس، ولم يستثن الحكماء والفلاسفة والمتصوفة والنساك، فما بالك بأصحاب الفنون وقالة الشعر ومنشدي الغناء.
شياطين الشعراء والكتاب
يغلب أن يكون شيطان الشعر من خلق الشعراء أنفسهم، وأن يكون الكلام عنه لاحقا لظهور الشعر وانتشاره، فإن لم يكن هذا الشيطان مخلوقا شعريا، فهو مخلوق خيالي أبدعه كاهن قديم، أو مفكر من مفكري الجاهليات الغابرة له خيال كخيال الشاعر، وقد تشابه أسلوب السحرة والكهان في نبوءاتهم المزعومة باللغات المعروفة بين أهل المشرق والمغرب، فكلها تتوخى السجع والقافية، وتخالف كلام الساحر أو الكاهن في سائر أقواله، ليصح القول فيها إنها من وحي غير وحيه، ومصدر باطن غير مصدر تفكيره الظاهر، فإذا نسب الشعر إلى مصدر كمصدر السحر فالخطوة قريبة، والقياس معقول. ولم يزل بين الشعر والسحر نسب قديم.
على أن خيال الشعراء يعمل في تصوير كل كائن غير منظور ولو لم يكن من خلق الشاعر، وشيطان الأديان لم يخلقه الشعراء، ولكنهم صوروه في الصور التي تتمثل للعين، والصور التي يدركها الفكر وتلم بها أحلام اليقظة، وندر من الشعراء خاصة من سمع بالشيطان ولم يصوره لنفسه على صورة قابلة للتمثيل في العيان، أو للتجسيم على يد الفنان، وقد صنع له المثالون الغربيون تماثيل على صورة الإنسان ذات ذنب وقرنين وظلف كأظلاف الجداء، وجاء في الشعر العربي ما يصلح أن ينقل منه تمثال محسوس كما قال بعض الأعراب في رواية الخليل بن أحمد:
وحافر العير في ساق خدلجة
وجفن عين خلاف الإنس في الطول
ويوشك كل من تصوره من العرب أن يجعله على مثال إنساني منحرف بعض الانحراف، أو مشوه في أصل الخلقة لمجرد المخالفة بينه وبين الملامح الإنسانية، ومن ذاك وضع العين بالطول، وتخيله بعين واحدة في وسط جبهته، إلى أشباه ذلك من التشويه المقصود لمجاراة الخيال في استلزام المخالفة بين منظر الإنسان ومنظر الشيطان، وعلى نقيض ذلك كان تصوير شاعر الفرس - السعدي الشيرازي - للشيطان الذي رآه في الحلم، فقد رآه «بقامة كفرع البانة، وعينين كأعين الحور، وطلعة كأنها تضيء بأشعة النعيم» ... ولما علم أنه الشيطان أدهشه أن يكون الرجيم البغيض بهذه الوسامة المحبوبة، وسأله فلاحت على طلعته كبرياؤها وقال: «لا تصدق، يا صاح، أنه مثالي ذاك الذي رأيتهم يمثلونه؛ فإن الريشة التي ترسمني تجري بها يد عدو حسود، سلبتهم السماء فسلبوني الجمال.»
ولا يعنينا في هذا الفصل نقل الصور «الحسية» التي اخترعها الشعراء والفنانون لذلك الكائن المحتجب عن النظر، ولكننا نجمع هنا بعض أوصافه التي تقع في روع المتخيل، أو تعرض للفهم عن تفكير واستنباط، وليست هذه الأوصاف بالكثيرة ولا بالمتباعدة في جوهرها، وليس فيها من ابتداع إلا والمنطق يوحي به لزاما في أوصاف الشياطين على إجمالها، وإنما الجديد فيها قدرة الشاعر على إبراز «الشخصيات» وتلوينها بألوانها الخلقية، وكل هذه الشياطين التي جاءت «مشخصة» في أقوال شعراء الغرب قريب من قريب.
وليس أشهر في «الشخصيات» الشيطانية المسرحية من شياطين مارلو وجيتي وملتون وبليك وكردوتشي، من شعراء القرن السادس عشر فما بعده، فإنهم هم الشعراء الذين خلعوا على الشيطان مسحة مسرحية من فنهم، ولم يكن تصويرهم للشيطان كله نسخة منقولة من الشيطان كما صورته كتب اللاهوت، ولم يرد شيطان كردوتشي في قصة مسرحية، ولكنه مثله على مثال الشخصيات السياسية التي تقوم ببعض الأدوار على مسرح الحوادث.
ولد كريستفور مارلو “Christopher Marlowe”
الشاعر الإنجليزي في سنة 1564، وظهرت في حياته قصة الساحر فوستوس بالألمانية، ثم ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، ومدارها على رجل ساحر متعطش إلى المتعة والسطوة، لم يجد بغيته منهما في العلم والفقه، فأقبل على كتب السحر الأسود يلتمس منه القدرة على تسخير الشيطان لما يهواه، وتعاقد مع الشيطان على قضاء أربع وعشرين سنة في المتعة التي يهواها، ثم يسلمه روحه ليهبط بها إلى الجحيم.
ويجري الحوار بين فوستوس والشيطان عند التعاقد بينهما كما يأتي:
مفستوفليس :
فوستوس! أقسم بالجحيم ولوسيفر أن أنجز جميع الوعود التي اتفقنا عليها.
فوستوس :
إذن؛ دعني أقرأها على الشرائط التالية:
أن يكون فوستوس روحا في الصورة والهيولي.
وأن يكون مفستوفليس خادمه وطوع أمره، وأن مفستوفليس يجيبه إلى كل طلب، ويحضر له كل مطلوب.
وأن يكون في بيته أو مكتبه غير منظور.
وأن يظهر لجون فوستوس في كل وقت كما يجب.
وأنا الدكتور جون فوستوس من ويرتنبرج، بهذا الجزاء، أضع جسدي وروحي بين يدي لوسيفر أمير المشرق، ووزيره مفستوفليس، وأفوض لهم بعد أربع وعشرين سنة كل التفويض بناء على هذا العقد المسجل غير منقوص ولا منقوض، أن يبحثوا عن هذا المدعو جون فوستوس حيث كان، وأن يحملوه جسدا وروحا ولحما ومتاعا إلى حيث يقيمون.
ويتسلم مفستوفليس هذا العقد موقعا بدم الساحر بدلا من المداد.
ويظهر مفستوفليس في الرواية باسم ملك السوء حينا، وباسم الشيطان أو باسمه المشهور في أكثر الأحيان، وهو رئيس لزمرة من الشياطين، مرءوس لإبليس المسمى هنا باسم لوسيفر زميل بعلزبول، ومن مرءوسيه سبعة شياطين متآمرين؛ هم: شيطان الكبرياء، وشيطان الطمع، وشيطان الغضب، وشيطان الحسد، وشيطان الشهوة، وشيطان الكسل، وشيطان الدعارة.
ويقضي الدكتور فوستوس أيامه مع الشياطين مستمتعا بما يهواه من حسان الدنيا وحسان التاريخ، ومنهن «هيلينا» التي فتنت اليونان الأقدمين وباريس، والتي نالت الجائزة قديما في مباراة الجمال.
ويغلب على لوسيفر - كما صوره مارلو - أنه يضع الأمور في مواضعها، ويطلب حقوق الشر كما يدعيها، ويعطي الخير حقوقه كما تجب، فهو ييئس الساحر العالم من سعي السيد المسيح في خلاصه، وينبئه أنه عاجز عن إنقاذ روحه، ولكنه لا يرد هذا العجز إلى غلبته ورجحان الشر على الخير في حوله وحيلته، بل يرده إلى عدل المسيح، وأنه ليس من العدل أن ينجو من لم يكن أهلا للنجاة، ولا ينكر الشيطان جدوى الندم والبكاء واستجابة الصلاة والدعاء، ولكن الشيطان يستخدم حقه - على حكم العهد - في تقييد يدي الساحر فلا يقدر على رفعهما إلى السماء، ونزف دموعه فلا يقدر على البكاء، وعقد لسانه فلا ينطق بالصلاة والدعاء.
ويأتي ملتون (1608-1674) بعد مارلو بفترة وجيزة في التاريخ الزمني، ولكن الشيطان الذي صوره ملتون أهم من الشياطين «الشعرية» التي صورها من سبقوه ولحقوه في هذا الموضوع بين شعراء الغرب. ومن الدراسات التي تناولته دراسة الشاعر من الوجهة النفسية، ودراسة الأدب والبلاغة ، ودراسة العقائد وعلاقتها بالعصر والأحداث السياسية، ودراسة الأطوار التي تتمثل فيها التقوى، حيث تتراءى أحيانا على نحو يوافقها كما تتراءى على نحو يناقض مظهرها وغايتها.
فالشاعر ملتون كان من المتدينين المتطهرين، وكان أمين السر اللاتيني في حكومة الثورة، وكان وثيق الصلة بالقائد كرومويل الذي قاد الثورة على الملك شارل الأول، وقد عمي في أواخر أيامه، وشمت به شارل الثاني فقال له: ألا ترى يا مستر ملتون أن الله عاقبك بفقد بصرك على ما كتبته في أبي؟ وكان ملتون مشهورا بسرعة الجواب، وأجوبته في قصيدة الفردوس المفقود تعرض لقارئها أمثلة كثيرة على هذه القدرة في حوار الشيطان والملائكة، فأسرع إلى الجواب قائلا: وعلى أي ذنب عوقب أبوك بفقد رأسه؟
وملتون لم يبدع قصيدته كل الإبداع، بل استعار من جليوم دي بارتاس “Bartas” (1578) في قصيدته أسبوع الخليقة، واستعار من أفيتوس “Avitus”
في قصيدته عن الخليفة والسقوط والنفي من الفردوس، واستعار من القصص الشعبي الذي كان يدور حول مأساة آدم وحواء، ولكن هذه القصص جميعا نسيت أو كادت وبقيت قصته؛ لبلاغتها ودلالة صورها وتشبيهاتها، واتساعها لتلك الدراسات المنوعة التي أشرنا إليها.
يقول الشاعر دريدن: إن الشيطان هو بطل ملحمة «الفردوس المفقود» دون من فيها من الشخصيات العلوية والسفلية، ويرى النقاد الأدبيون رأي دريدن في هذه الملاحظة؛ فإن ملتون قد حول التفات القراء إلى الشيطان بما ألقاه على لسانه، وما شرحه من مزاعمه ومواقفه. وهو لا يعفيه من الذم واللعن والاستنكار، ولكن عباراته التي يذمه بها، ويستنكر بها فعاله، إنما تأتي مجاراة للعرف الشائع الذي يتشابه فيه كل قائل، على حين تبرز الأعمال والأقوال التي ينسبها إليه، أو يضعها على لسانه بروزا قويا موفور النصيب من عناية الشاعر وإعجابه.
وسر ذلك - مع تشيع ملتون للمتطهرين الدينيين - أنه كان ثائرا، ووجد في تمرد الشيطان فرصة للإفصاح عن حجج الثورة ودواعيها، وربما ظهر من دراسة الشيطان في قصيدة ملتون أنه يمثل شارل الأول في بعض الخلال، كما يمثل كرومويل في حالات أخرى، غير أنه كان يمثل شارل الأول في الخلال التي يعيبها الشاعر ويضيفها إلى خبائث الشيطان ومساوئه، ويمثل كرومويل في الصلابة والجرأة والاعتزاز بالنفس، وفي مجموعة تلك الخلائق التي جعلته يطلب المكان الأول في جهنم، ولا يقنع بالمكان الثاني في السماء.
ويلقي ملتون على لسان الشيطان أنه يرثي للملائكة الذين يحاربونه في صف الإله، وهو الذي غضب لهم، وأنف من المهانة التي تلحقهم بتفضيل بني آدم عليهم، وأنه لولا صواعق السماء لما طمعت جنود السماء في الغلبة عليه، وتخيل ملتون شيطانه في بعض مواقفه كأنه سلطان شرقي يستوي على ديوانه، ويحيط عرشه بوزرائه وأعوانه، وتخيله في أكثر المواقف على هيئة المغلوب الذي يؤسف على هزيمته، ولا تراد له إلا لأنه قضاء لا مرد له من الله.
وقد تضطرب صور الشيطان بين موقف وموقف إلا صورة واحدة تثبت له في جميع مواقفه، وهي الصورة التي ترضي الشاعر حين يتخذه لسانا ناطقا بحجج المتمردين، وحين يتخذه شبحا يحمله أوزار الطغاة وذوي الجبروت، فإن ملتون هو ملتون في الحالتين، وإن بدا الشيطان في صورة مضطربة كلما سامه أن يمثل الحالتين، ولا يندر أن تتقابلا مقابلة النقيضين.
ولعل القول الأصح أن الاختلاف بينهما إنما هو اختلاف دورين لا اختلاف شخصيتين، فقد كان الفرق بين كرومويل وشارل الأول فرق الطرفين المتقابلين، والعدوين المتقاتلين، ولكنهما في الطبائع الشخصية لا يتقابلان هذا التقابل على طرفي الميدان، بل يتقاربان تقارب الأشياء والنظراء. •••
وفي هذه الأسطر محل لأديب من معاصري ملتون يقتحمه اقتحاما بحكم المعاصرة، والاشتراك في الحرب الأهلية، والكلام عن الشيطان، ولا محل له إلى جوار ملتون بغير هذه المعاصرة وهذه المناسبة، ونعني بهذا الأديب جون بنيام “Bunyam”
مؤلف رحلة الحاج والحرب التي شنها شداي على إبليس. وإبليسه غاصب محتل لمدينة الروح الإنسانية، يحاصره عمانويل ابن باني المدينة شداي - اسم من أسماء الله عند العبريين - ثم يستولي عمانويل على المدينة، ويتغلغل فيها إبليس وجنوده بالمكر والدسيسة، ويستردها جميعا ما عدا قلعتها المحصنة، وهي ضمير الإنسان المؤمن بكفارة الخلاص. •••
أما الشيطان الذي يلي شخصية إبليس في الفردوس المفقود، فهو شيطان رواية فاوست التي ألفها شاعر الألمان الأكبر جيتي (1749-1832)، وجعل فيها للشيطان مفستوفليس دورا بين الأرض والسماء، وبين الخالق والمخلوقات، غير الدور الذي تقدم في رواية مارلو؛ فإن مفستوفليس في رواية جيتي هو بعلزبوب نفسه، وليس زميلا أو تلميذا من تلاميذه، ودوره في هذه الرواية يعم ظواهر الوجود كله، ولا تحده المهمة التي يندبه لها فاوست وأمثاله.
وهو يصف نفسه مرة بأنه «جزء من القوة التي امتزجت بالسوء قديما، ولكنها لا تفتأ تصنع الخير».
ويصف نفسه مرة أخرى بأنه القوة النافية التي تقول «لا» أمام كل إيجاب.
ويوصف في جميع الأحوال كأنه المفسد الذي يتخلل مفاتيح المعزف بالزوائد والعوائق كلما انتظمت عليها نغمة من نغمات النظام.
ويقول مفستوفليس للدكتور فاوست: إن الوجود كله عبث، وإنه كان من الخير ألا يوجد، فيقول فاوست: والآن علمت ما تريد ... إنك لم تستطع أن تعدمه جملة، فأنت تشيع العدم فيه بالتجزئة، أو تبيعه بالمفرق!
وقد وضعت قصة فاوست على غرار قصة أيوب في العهد القديم، وظهر الشيطان في أولها يقول لله: إنك خلقت العقل للإنسان لتميزه على البهائم، ولكنه يستخدمه ليصبح دونها في الشر والجهالة، وإنني لا أبالي أن أشقي بني آدم؛ فإنهم متكفلون دوني بإشقاء أنفسهم، ثم يقع الرهان على روح العالم فاوست الذي يئس من البحث والعلم، وآب إلى البؤسى التي لم يستطعم معها مذاقا للحياة، فيتفق الشيطان والعالم على شروط كالشروط التي تقدمت في رواية مارلو، ويأخذه الشيطان إلى وكر الساحرة لتعيده بإشرافه - أي إشراف الشيطان - إلى الشباب، فيعاف العالم ذلك الوكر ويسأل مفستوفليس: أما من وسيلة غير هذا السحر القبيح لتجديد الشباب؟ فيجيبه مفستوفليس: بلى! هناك وسيلة أهديك إليها؛ تذهب إلى الغيط وتحرث وتكرث، وتأكل اللقمة التي تجدها، وتحصر الحياة في أضيق حدودها، وتأتي عليك الثمانون وأنت في غرارة الشباب.
قال فاوست: لست بهذا ... قال مفستوفليس: إذن لا مناص من السحر والساحرة، وسأله فاوست: ولم الساحرة؟ فأجابه الشيطان: إنها صناعة صبر طويل لا أطيقه، ولا بد لكل صناعة من أحكام.
وتبدأ الغواية برؤية الفتاة مرجريت عائدة من كرسي الاعتراف، فيشتهيها فاوست، ويروضها له الشيطان، ويتواعدان على اللقاء بعد أن تنام أمها بجرعة مخدرة، فتموت الأم بالجرعة، وتحمل مرجريت ثم تلد فتقتل وليدها، وفي خلال ذلك يأتي أخوها الجندي فيطلع على سر هذه الفاجعة، ويذهب إلى فاوست ليقتله، فيقتله فاوست في مبارزة بينهما، ثم يغلبه الحنين فيعود إلى مرجريت، ويعلم أنها سجينة، وييسر لها وسائل الخلاص من السجن فتأبى، وتتقبل العقوبة المنتظرة للتكفير عن جريمتها، ثم تصعد روحها إلى السماء فيقول القائلون: لقد هلكت، وتهتف الملائكة: لقد نجت بإذن الله!
ويمضي فاوست في تجربة أخرى غير تجربة العشق والغواية، فيرتفع في عيني الملك، وينال ما يرضيه من السلطان بالحظوة لديه، ويطمعه الشيطان في المزيد من الجاه والملك، فيعاوده الحنين إلى العشق وغواياته، ويسوم شيطانه هذه المرة أن يبعث له الفاتنة «هيلينا» من الأموات، فيبعثها ويأتي بها إليه، ولكنها تراوغه إذ يضمها إلى ذراعيه، فلا يجد منها غير جلبابها في يديه!
وكان فاوست بعد مصرع مرجريت قد آلى على نفسه ليذوقن كل ألم يبتلى به بنو آدم لينسى جنايته على الفتاة البريئة، وعلى أمها وأخيها، ويخشى الشيطان عاقبة هذا الندم فيشغله عنه بدسائس القصر وضجته، ويوشك أن ينسيه الندم لولا سآمة ترين على صدر العالم الحكيم فيزهد في كل ما احتواه، ويربأ بعقله وحكمته عن هذه الصغائر التي تلهيه ويسأل: أين هي السعادة؟ فيعلم أنه لم يجدها قط في لهوه الأول، ولا في لهوه الأخير، ثم يلوح له أن يستخدم علمه في تعمير الخراب، وإصلاح البوار، ومعونة الضعفاء، وإنه لكذلك إذ تحين ساعته وتخرج روحه، فيهم الشيطان بقبضها للهبوط بها إلى الجحيم، وتتنزل الملائكة من السماء فتنازعه عليها وتقول له: إنه قد خسر الرهان؛ لأن فاوست على ما اقترف من جريمة ورذيلة قد عاش وهو يتجه بعينيه إلى النور، ومات وهو متجه إليه. •••
وأغرب الشياطين الشعرية كافة ذلك الشيطان الذي ابتدعه خيال وليام بليك بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وليس هو على هذا بأغرب من خيال الشاعر الذي ابتدعه؛ فإنه شاعر في العصر الحديث يدين جدا وصدقا بالمذهب الثنوي ومذهب المعرفيين “Gnostics” ، الذي ذهب معتقدوه بذهاب القرون الوسطى.
كان بليك من أتباع المتنبئ السويدي سويدنبرج، وكان سويدنبرج من أصحاب الرؤى المصدقين لما يعتريهم من حالات الوجد والنشوة الدينية، ووقر في خلده بعد أن جاوز الخمسين، في منتصف القرن الثامن عشر، أنه يتلقى الوحي من عالم الغيب، فاعتزل وظائف الدولة وأعلن خروجه على المذاهب المتبعة، وبشر برسالته التي سماها المسيحية الحقة، وفسر الكتب المسيحية تفسيرا يخالف التفسيرات التي اعتمدتها الكنائس الكبرى، ثم هجر وطنه وأقام بالعاصمة الإنجليزية حتى مات بها (سنة 1772).
ودرج بليك في حجر أسرة إنجليزية تدين بمذهب سويدنبرج، ولكنه انقلب عليه ولم يرجع إلى مذهب من مذاهب الكنائس المعروفة، بل راح يستقل بتفسيراته وتأويلاته على حسب ما يستوحيه من تفكيره وإلهامه، ولم يكن على علم بشيء من اللاهوت ولا من معارف عصره؛ لأنه لم يدخل مدرسة منتظمة في صباه.
وشيطانه يصح أن يكون فكرة مجردة، كما يصح أن يكون روحا إنسانيا، أو ملكا من الملائكة المغضوب عليهم، بل يصح أن يكون عنوانا يضعه الشاعر على كل «شخصية» مفروضة تنتمي إلى الشر والخباثة، وعنده أن الشر كل الشر هو الصرامة في الأوامر والنواهي، والتشدد في المحللات والمحرمات، فكل رب جاء عنه في الأساطير الغابرة والديانات الأولى وصف العبوس والجهامة، واتسم في ضمائر عباده بالقسوة والصرامة؛ فهو شيطان يترقى في الشيطانية، على حسب قسوته وصرامته، إلى منازل الآلهة الوثنيين المنعوتين بآلهة الشر، أو آلهة الظلام.
ومن أوهامه التي لا يدري أحد أهي أوهام شعر أم أوهام اعتقاد ثابت، أن روح الشاعر ملتون حلت فيه لتكفر عن خطيئتها في تصوير السيد المسيح وتصوير إبليس، وأن الكتب القديمة أدخلت في أذهان الناس أن الإنسان ذو حقيقتين جسدية وروحية، وأن نشاط الجسد من الشيطان، ونشاط العقل من الروح، وأن الله يعذب الإنسان عذاب الأبد لمطاوعته بواعث جسده، ولكنه من الحق الذي يناقض هذا أن جسد الإنسان غير منعزل عن روحه؛ لأن حواس الجسد هي منافذ الروح إلى المعرفة، وأن النشاط كله من الجسد دون غيره، وليس العقل إلا الحدود التي تحيط بذلك النشاط، وأن النشاط هو الفرح الأبدي، وما عداه كسل وإحجام عن الحياة.
ولم ينشر بليك مؤلفاته لأنه كان يمقت الطباعة، ويناظرها بأدوات من اختراعه للنقش والرسم والكتابة يرى أنها أليق بالوحي الروحاني من تلك المطبوعات الصناعية. وقد جمعت آثاره بعد موته من قصاصات مشعثة كان يدون فيها خواطره، ويتم بعضها ويترك بعضها مبتورا في نهايته، أو مبتورا في أوله ووسطه. وهذه شذرة منها تعود أن يدونها بعنوان «خطرة مذكورة»، وفي الخطرة التالية عن الشيطان والملك يقول:
رأيت يوما شيطانا في لهيب النار يرفع هامته إلى ملك جالس على سحابة، ويصيح به: اسمع يا هذا، إن عبادة الله هي تمجيد هباته لغيرك على قدر هذه الهبات، واختصاص أعظم الناس بأعظم المحبة، وما الذين يحسدون العظيم أو يفترون عليه إلا أعداء الله، فلا إله غير ذاك.
وسمع الملك مقاله فازرق، ثم ملك جأشه فاصفر، ثم سكن فابيض، وعلته حمرة وابتسامة، وقال: «يا عابد الصنم! أليس الله بالإله الأحد؟ أليس الله قد تجلى في عيسى المسيح؟ أليس المسيح قد بسط بركته على الوصايا العشر؟ أليس سائر الناس حمقى وخطاة وعدما ونكرات؟»
ثم يلقي بليك على لسان الشيطان ردا يقول فيه: «إذا كان المسيح أعظم إنسان؛ فأحببه حبك للإنسان الأعظم.» ... ثم يحكي له الشواهد من أعمال المسيح ناقضا ما يفهمه الأكثرون من الوصايا العشر، ويختم هذه الشواهد قائلا: «لقد كان عيسى فضيلة كله؛ لأنه كان يعمل بباعث عطفه ولا يتقيد بالقيود.»
وكل ما ألقاه بليك على ألسنة الشياطين فهو من قبيل ما تقدم، مع التناقض الذي لا يثبت فيه غير معنى واحد، وهو التبرم بالأوامر الصارمة، والفضائل الجافية، والتفكير المنتظم، وقد قال عن الملائكة: إنها تحسب أنها دون غيرها تتحدث بالحكمة، وكل من يفكر على قياس مطرد خليق أن يغتر هذا الغرور، وأكثر النتف التي تركها تحمل عنوان الخطرة المذكورة، وتجتمع فيها هذه الخطرات بعنوان القران بين السماء والجحيم، وينعقد قران السماء والجحيم، ولقاء الملك والشيطان، في رأيه، بالعمل الذي يصدر من الحب ونشاط الجسد منبعثا بوحي الفطرة الصادقة.
فالشيطان على هذا الاعتبار جيوش من الشياطين يجسمها القارئ، أو ينظر إليها كأنها معاني الشاعر في قريحته مطلقة بغير تجسيم، وبغير شخصية مرتسمة في الحس أو الخيال.
وبعد شيطان بليك - أو شياطينه - لا تحفظ تواريخ الأدب الغربي صورة لشيطان شعري عمل فيها الفن، وبواعث النفس، وحوادث العصر غير شيطان كردوتشي، شاعر الثورة الإيطالية (1870-1907) وصاحب جائزة نوبل قبل وفاته بسنة.
وتكاد قصيدة الشيطان من نظم كردوتشي أن تكون نشيد صلاة، وقد سماها هو نشيدا ونظمها على وزن التراتيل التي تنشد في الصلوات، وقال فيها: إنه لا يحفل بالتاريخ القديم تاريخ حرب الشيطان مع الملك ميكائيل، وإنه يحيي إبليس لأنه قاهر الكهان ورافع علم الثورة، ويناديه: لا تهرب مني حين أناجيك؛ فإنني أود أن أنطلق إليك بروحي، ولا يكفيني أن ألتقي بك في الشعر والخيال. ويختم النشيد قبل المقطوعة الأخيرة قائلا:
إنك أيها الشيطان العظيم، إنك تعبر البحار وتطوي الأرضين، إنك تنفث الدخان كالبركان، وتجوس خلال الديار، وتمضي حيث تشاء كما تشاء.
وانطلاق الشيطان مع سخريته بالكهان هما آية الحرية عند كردوتشي الثائر على طغاة الدنيا والدين، ولا يبعد أن يكون الشاعر - كما قال ابن وطنه جيوفاني بابيني - متأثرا بأستاذه ليوباردي في قصيدته عن إله الشر أهريمان، صاحب القضاء النافذ في الوجود كله، منفردا - في رأي ليوباردي - بغير شريك من أرباب الخير أو ملائكته في الزمن القديم أو الزمن الحديث.
ونحن في هذه العجالة يجزئنا ما تقدم في باب شياطين الشعراء التي عمل فيها الفن، واصطبغت بصبغة البواعث النفسية والحوادث السياسية، ولم يستوعب هؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم كل ما يقال عن إبليس أو عن الشياطين كما يعتقدها أتباع المذاهب منذ القرون الوسطى، فقد كان أكثر الشعراء يجربون قرائحهم في مأساة آدم والشيطان. ولعلنا نحيط بهذا العالم الزاخر إذا عرفنا أن رجلا مثل هوجو جرويوس (1583-1645)، الملقب بأبي القانون الدولي، قد جرب قلمه وقريحته في هذه المأساة، وكان معاصرا للشاعر ملتون، فانتشرت قصائده إلى جانب القصائد الخالدة التي نظمها ذلك الشاعر المعدود اليوم في الذروة بين أشعر شعراء العصور.
وبعد زهاء قرنين، أوحى اسم هوجو إلى سميه الفرنسي الكبير فكتور هوجو (1802-1885) أن يجرب قلمه وقريحته على نمطه، فنظم قصائده في خاتمة الشيطان، ونادى بموته ولحاقه بإبليس جاحد ربه بين عقول كالخفاش الذي يخاف النور، أو البومة التي تستهدي الظلام، والغراب الذي يسلم الفضاء للنسر والعقاب والعنقاء ومن فوقها مرمى السهام التي لا تبلغ الهدف إلا من وراء قناع الموت! ودون ذلك كله، وتنحسر أشواط الأبالسة والشياطين.
إلا أن هذا المحصول الزاخر لا يزيدنا لونا من ألوان الصورة في ضمير المؤمن، أو في قريحة الشاعر، وهذا الذي تحريناه في إهمال ما أهملناه، والإلمام بما أشرنا إليه، بيد أننا لا نستطيع أن نهمل هنا صورة شيطانية تقترن باسم الشاعر الفرنسي بودلير، صاحب ديوان «أزهار الشر»، وناظم القصائد في الابتهال إلى الشيطان «أحكم الملائكة الذي سرق منه القضاء ثناءه، والذي سجل عليه الطرد والحرمان من لا يزال يخطئ ويغلط»؛ فإن هذا الشيطان عارض نفساني يصور الانعكاس في السريرة المشوهة، فتتعمد التوجه إليه على سبيل النقمة والنكاية، وتصلي إليه ليشفق عليها كأنها تستجدي الشفقة الإلهية - عكسا - بلسان اليأس والكبرياء.
وفيما عدا شيطان بودلير لا نرى في هذا الفصل موضعا للشياطين التي تخيلها الشعراء، ولم تدخل في عداد الصور الخلقية وخوالج الوجدان في الإنسان منفردا، أو جزءا من أجزاء الجماعة، فالشاعر الروسي لرمنتوف خلق في إحدى قصصه شيطانا لا يعدو أن يكون إنسانا متنكرا يزاحم الناس على العشق والشهوة، والشاعر الإنجليزي بيرون خلق شيطانا في قصيدته «رحلة الشيطان» لا يعدو أن يكون مخبر صحيفة يروي للقراء ما يروى في المجالس النيابية ومجالس السمر، وغيره من الشعراء قد اختار اسم الشيطان ليجري على لسانه كلاما يجريه بعض الشعراء الآخرين على ألسنة الطير والحيوان، أو على ألسنة الشجر والجماد.
أما الشيطان الذي نعرض هنا ذكره، فهو الشيطان الذي يحوم في النفس الإنسانية، وبين الجماعات البشرية في تقاليدها وموروثاتها ومقاييسها لخيراتها وشرورها، وهو الشيطان الذي يطيف به خيال الشاعر معبرا عن شعوره، وإن لم يكن من عقائد دينه، كالشياطين التي سميت بأسمائها في الأدب العربي؛ هبيد ومسحل والهوجل وجهنام، أو كالشياطين التي يعتقدها المتدين، ويفتن الشاعر في تصويرها لامتيازه بملكة الخيال، وملكة الرمز والتشخيص؛ فهذه الشياطين قوى مشتركة في طبائع الناس، وقيم نفسية يقومها الناظرون في الأخلاق والطباع، ولو رفعناها منها بأسمائها لبقي مكانها متطلبا منا أن نسميها بغير تلك الأسماء؛ لأنها لا تقبل السكوت عنها، ولا تغفلها الحياة إن أغفلها اللسان.
1
في الأدب العربي
يندر في الأدب العربي تمثيل الشياطين الشعرية من قبيل تلك الشياطين التي حفلت بها ملاحم الشعراء الغربيين وقصائدهم؛ لأن شعراء العرب لم ينظموا الملاحم التي يتمثل فيها أبطالها بملامحهم الظاهرة وملامحهم الخفية، ونحسبهم لو نظموا هذه الملاحم لما كان للشيطان فيها هذا الشأن الذي أصابه في أدب الغرب شعرا ونثرا؛ لأن الأدب العربي لا ينسب إلى الشيطان دورا في قصة الخليقة والخلاص كالدور الذي ينسب إليه في عقائد الأدباء الغربيين، فإذا نظم الشاعر العربي ملحمة عن الخليقة لم يكد يفعل فيها الشيطان فعلة غير ذلك الوسواس، الذي يطرأ على كل سريرة آدمية في ساعته، كما طرأ على سريرة آدم أو سريرة حواء.
وإذا تخيل المتخيل صفة للشيطان في كلام شاعر عربي، فلا نظنه يخرج منه بصفة غير تلك الصفة التي لخصها أبو نواس في خليط من الخبث والحماقة؛ لأنه:
تاه على آدم في سجدة
وصار قوادا لذريته
إبليس أكرم من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
وربما تكرر من الشعراء الذين يشخصونه لأنفسهم ذلك الحوار الذي دار بينه وبين أبي نواس: حوار من يستعين بإبليس على شهواته ويتوعد إبليس أن يتوب عن المعاصي إن لم ييسر له ما يشتهيه، وقد كان إبليس على هذه الصفة عند الشاعر الذي قال فيه:
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار
وذلك هو بشار بن برد الذي كان يتظرف بأمثال هذه البدوات، ولا يأتي فيها بجديد من عنده؛ لأن المفاضلة بين العنصرين أقدم من بشار، وأقدم من كل ما قاله الشعراء المسلمون عن إبليس، ولم تخطر صفة إبليس على بال أحد من المتقدمين في الإسلام إلا كان يعلم أن إبليس من عنصر النار.
على أن موضع إبليس من رسالة الغفران لأبي العلاء يشبه بعض الشبه مواضعه من ملاحم الشعراء الغربيين، فقد ذهب فيها إلى أودية ليست كأودية الجنة، فسأل صاحبه بعض الملائكة: ما هذه يا عبد الله؟ فقال له: هذه جنة العفاريت الذين آمنوا بمحمد
صلى الله عليه وسلم ، وذكروا في الأحقاف وفي سورة الجن، وهم عدد كثير ... ويسأل أحد العفاريت عن أشعار المردة فيقول له: لقد أصبت العالم بحقيقة الأمر، وهل يعرف الإنس من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة؟ ثم يسأله عن اسمه فيقول: إنه يدعى الخيثعور، وإنهم من غير ولد إبليس، وإنهم من الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام.
ويلقى في جنة العفاريت شاعرا يسمى أبا الهدرس، فيسمعه من نظمه قصيدة يقول فيها عن أيام طاعته لإبليس:
نحارب الله جنودا لإبلي
س أخي الرأي الغبين البخيس
نسلم الحكم إليه إذا
قاس فنرضى بالضلال المقيس
نزين للشارخ والشيخ أن
يفرغ كيسا في الخنا بعد كيس
ونقتري جن سليمان كي
نطلق منها كل غاو حبيس
ونخرج الحسناء مطرودة
من بيتها عن سوء ظن حديس
ونخدع القسيس في فصحه
من بعد ما مني بالأنقليس
ونعجل السعلاة عن قوتها
في يدها كشح مهاة نهيس
نادمت قابيل وشيثا وها
بيل على العاتقة الخندريس
وفي أقصى الجنة يلقون الحطيئة والخنساء، ويسألون الخنساء عن شأنها فتقول: أحببت أن أنظر إلى صخر، فاطلعت فرأيته كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه فقال لي: لقد صح مزعمك في:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
قال أبو العلاء عن صاحبه: «فيطلع فيرى إبليس لعنه الله وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل، ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزبانية، فيقول: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله وعدو أوليائه، لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلا الله، فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان بن فلان من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك، فيقول: بئس الصناعة - إنها تهب غفة - أي بلغة من العيش - لا يتسع بها العيال، وإنها لمزلة بالقدم، وكم أهلكت مثلك! فهنيئا لك إذا نجوت، فأولى لك ثم أولى، إن لي إليك حاجة فإن قضيتها شكرتها لك يد المنون، فيقول: إني لا أقدر لك على نفع؛ فإن الآية سبقت في أهل النار، أعني قوله تعالى:
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين .
فيقول إبليس: إني لا أسألك في شيء من ذلك، ولكني أسألك عن خبر تخبرنيه؛ إن الخمر حرمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة. أما شغلك ما أنت فيه؟ أما سمعت قوله تعالى:
ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون
فيقول: وإن في الجنة لأشربة كثيرة غير الخمر، فما فعل بشار بن برد؟ فإن له عندي يدا ليست لغيره من ولد آدم؛ كان يفضلني دون الشعراء، وهو القائل:
إبليس أفضل من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار
لقد قال الحق، ولم يزل قائله من الممقوتين.
فلا يسكت من كلامه إلا ورجل من أصناف العذاب يغمض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النقم، فيفتحهما الزبانية بكلاليب من نار، وإذا بشار بن برد قد أعطي عينين بعد الكمه لينظر إلى ما نزل به من النكال.»
وكل ما جد بعد المعري من كلام يدخل في باب القصة من الأدب ويذكر فيه الشيطان، فهو تلك القصص التي جمعت باسم ألف ليلة وليلة، واقتبس رواتها ما تداولته الألسنة من أخبار السحرة، وتسخير المردة، وقيام الجان على أرصاد الطلاسم، أو حبسها في الأغوار والقماقم، وهي لا تأتي بابتداع أو اختلاف أو زيادة على ما اعتقده الناس ونظمه الشعراء.
ولم يطرأ على الأدب العربي جديد في هذا الباب حتى مطلع القرن العشرين، ثم نجمت في أوائل القرن العشرين نوازع شتى للتوسع في الاطلاع على آداب الأمم، والبحث في موضوعات الشعر وتعبيراته عند تلك الأمم، ومن موضوعاته الملاحم المطولة، ومن تعبيراته تجسيم المعاني المجردة، والعناصر الطبيعية، وأرواح الغيب وكائناته المشبهة بتماثيل الأحياء.
ونحن في هذا الباب خاصة لا نبحث بحث المؤرخين أو النقاد الأوروبيين، وإنما نراجع ما أحسسناه واختبرناه، ونفهم بواعث النظم والتأليف في هذه الأغراض مما عالجناه، وانبعثنا إليه بوحي الاطلاع وعدوى الخواطر التي يوحيها.
أول ما خطر لنا أن نقارن بين التشبيهات والمعاني المجسمة في اللغات الأوروبية واللغة العربية، وكتبنا في هذه المقارنة عن الكائنات الخفية وعن عجائب المخلوقات وعن الأساطير، مما يطلع عليه القارئ في كتاب «الفصول» ومجمع الأحياء، وأحسسنا الحاجة إلى تصوير بعض العواطف بصورتها الشعرية التمثيلية، فأخذنا في وقت واحد في نظم قصيدة عن سباق الشياطين، وتأليف كتاب نسميه «مذكرات إبليس»، ونخصص كل فصل منه لغواية من الغوايات؛ كالعشق الأثيم، والسرقة، والبغي، والطمع، وسائر هذه الآثام التي تذكر كلما ذكر الشيطان، وكان ذلك حوالي سنة (1912)، وبعد الاطلاع على طائفة من ملاحم الغرب وأساطيره.
فأما سباق الشياطين فقد تمت القصيدة التي نظمناها في موضوعه، وأما مذكرات إبليس فلم يتم منها غير فصل واحد من فصول الأعور ابن إبليس الموكل بالعشق الأثيم، ثم بقيت النية مترددة حول هذا المطلب، حتى تحولنا عنه بعد الحرب العالمية الأولى إلى موضوع القصيدة التي سميناها «ترجمة شيطان»، ونشرت في الجزء الثالث من الديوان.
وحوالي هذا الوقت ألف صديقنا الشاعر العبقري الأستاذ عبد الرحمن شكري كتابه النثري الذي سماه «حديث إبليس»، وقال في مقدمته: «قد بدأ يكثر في آداب اللغة العربية البحث النفسي والتساؤل والتفكير والتعبير عن حركات النفس وبواعثها، ولكن كل ذلك لم يزل قطرة لا نعرف إن كان وراءها سيل أتي. وهذا الكتاب فيه شيء كثير من البحث النفسي والتساؤل والشك والسخر، الذي هو محرك يحرك النفوس ويوقظها، فهو يعبر عن تلك الدنيا التي في كل نفس، ففي فصل نصيحة إبليس - مثلا - ترى تحت السخر المودع في هذا الباب ما أرمي إليه من معائب النفوس الجامدة القبيحة التي تشبه مباول الطرق، وقد جعلت إبليس ينصح بما ينبغي الانتهاء عنه.»
وقد اطلعنا بعد الحرب العالمية الأولى على محاولات منوعة في هذه الأغراض، لم يكن منها ما بلغ في جودته مبلغ العمل الفني خلال ثلاثين سنة أو تزيد، ومنها ما نظم في مصر وما نظم في غيرها من البلاد العربية، حتى ظهر ديوان «عبقر» للشاعر السوري الأستاذ شفيق معلوف، من صفوة أدباء المهجر بالبرازيل، وكان ظهوره في الطبعة الأولى سنة 1936، وأعيد طبعه في سنة 1949، ثم ظهرت قصة «الشهيد» لزميلنا الكاتب الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم، وهي قصة صغيرة من مجموعة قصصية صدرت سنة 1953، وتعد على صغرها من أجود ما كتب في هذا الغرض في جميع اللغات.
أما قصيدة «سباق الشياطين» فخلاصتها أن إبليس جعل لتلاميذه جائزة ينالها من يعرض أعماله، ويثبت للملأ من الشياطين قدرته على السبق في التضليل والإغواء، فانبرى سبعة من الشياطين يتنافسون عليها؛ وهم: شيطان الكبرياء، وشيطان الحسد، وشيطان اليأس، وشيطان الندم، وشيطان الحب، وشيطان الكسل، وشيطان الرياء، فاستحقها هذا الشيطان الأخير - شيطان الرياء - ولكنه جرى على عادته فأظهر الزهد فيها، وتنحى عن تناولها بعد اشتراكه في المنافسة عليها، فخاطبه إبليس:
قال تأباها ولولاك انجلى
غيهب الأرض فكانت كالنعيم
دونك الدنيا اتخذها منزلا
وتول اليوم أبواب الجحيم
وقصيدة «ترجمة شيطان» هي قصة شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء لهوان الناس عليه، وتشابه الصالحين والطالحين منهم عنده، فقبل الله منه هذه التوبة وأدخله الجنة، وحفه فيها بالحور العين والملائكة المقربين، غير أنه سئم عيشة النعيم، ومل العبادة والتسبيح، وتطلع إلى مقام الإلهية؛ لأنه لا يستطيع أن يرى الكمال الإلهي ولا يطلبه، ثم لا يستطيع أن يطلبه ويصبر على الحرمان منه، فجهر بالعصيان في الجنة، ومسخه الله حجرا، فهو ما يبرح يفتن العقول بجمال التماثيل وآيات الفنون، واستضحك إبليس بين جنده يوم انتهى المطاف بتلميذه إلى هذه الخاتمة فقال:
ما أرى هذا الفتى من دمنا
ومتى استغوى الشياطين الشرك؟!
أترى شيطانة من قومنا
أغوت الأملاك فهو ابن ملك؟! ... ... ... ... ... ... ... ...
فتلاحى القوم ثم استضحكوا
ودعا مازحهم شر دعاء
قال: فلتسلكه فيمن سلكوا
أيها المولى سبيل الشهداء
والسمة التي يتسم بها إبليس، في رسالة الأستاذ عبد الرحمن شكري، هي سمة النقد الساخر، تسري في الحديث من أوله إلى ختامه، ويدل بعضها عليها كقول إبليس عن أخلاق الإنسان والحيوان: «إنني أرى في الحيوانات العجم خصالا هي في الإنسان ضئيلة خافية، فللكلب من الوفاء والأمانة ما ليس للإنسان، وللخيل من الود والولاء ما لا يبلغ بعضه الإنسان، وللبغال والحمير من الصبر والحزم ما ليس له، وللقرود من الذكاء والفطنة وحب التقليد ما ليس له، ولو فطنتم يا بني آدم لرأيتم أن تزوجوا بناتكم من البغال والحمير والكلاب والقرود؛ لكي يكتسب نسلهن بالوراثة من حميد صفات هذه الحيوانات ... ولا تحسب أن النساء ينزعجن من هذا الزواج؛ فإنهن قد ألهمن فضائل الحيوانات، وهذا تفسير ميلهن إلى صغار الكلاب والقرود ...»
أو كقول أحد الشياطين: «... فالتفت إبليس إلي وقال: سمعت أحد الملائكة يقول لحافظ من الحافظين، وهو الملك الذي يحصي ذنوب الناس: ما لي أراك منتوف الجناحين؟ قال الملك: عافاك الله من الناس؛ فإني أستخدم ريش جناحي كما تعلم في كتابة ذنوبهم، وقد تكاثرت علي ذنوبهم حتى برت ريش جناحي وأتلفته، وأنا كلما تلفت ريشة من كثرة الكتابة نتفت من جناحي ريشة أخرى حتى نفد ريشي، ولم تنفد ذنوب الناس.»
وختم الكاتب الرسالة بكلمة عن عظم الوجود وغرور الإنسان، ونصيحة من روح الأبد يقول فيها للإنسان الذي يخاطبه: «اذهب إلى مكانك من الأرض ولا تنس الوجود؛ فإن إحساسك بعظمته فيه معاني العبادة كلها .» •••
ونظم شاعر المهجر البرازيلي الأستاذ معلوف ديوان عبقر مقسما إلى قصائد، يروي في كل قصيدة منها نبأ عن ولد من أولاد إبليس أو بعض الشياطين، فيقول مثلا عن الشيطان «داسم» إبليس النقائص:
وجاءنا ثاني، أبناء عزريل
سحنة شيطان، في منكبي غول
وقال في دهاء: ويك أنا الكاسي
بالخبث والرياء، نقائص الناس •••
لما أممت الأرض في زورة
أستعرض النقائص العارية
ألفيتها والناس قد مزقوا
أجسادها في فتنة دامية
فرحت أكسو بيدي عريها
بحلل براقة زاهية •••
فاندست الكبرياء، تحت حجاب الحسب
وتحت ستر الإباء، غلغل وجه الغضب
وانقلب العناد، بين الورى حزما
وصار الاستبداد، في عرفهم عزما
ويقول عن الأعور إبليس الشهوة:
وذاك أعور، أطل ينظر، من ظاهر الهوة
وقال: إني أنا، حامي ذمار الخنا، والعهر والشهوة
شرارتي في العيون، حريقة في الدم
أنا مثير الجنون، والفم لصق الفم
ما اتكأ العاشقون، إلا على معصمي
كم ذاق خمري عاشق فالتوى
معربدا في سكرات الهوى
مهدما ببعضه بعضه
وهو على الأنقاض يبني السوى
وختم الديوان بقصيدة عن العبقريين قال فيها عن أهل الخلود من أبناء عبقر:
وثمة استجليت صوتا دوى
ولم أجده لذهولي سوى
جماجم أرواحها غلغلت
تصخب فيها من خلال الكوى
فصاحت العظام: أعطى الذي أخذ
لم تظفر الأيام، منا بغير الفلذ
فكن عش الغرام، وصرن مأوى الجرذ
لكنما أحلامنا لم تزل
ترقص سكرى فوق غلف المقل
حاملة للناس خمر الهوى
مشعة خلف كئوس الأمل
والغالب على ديوان عبقر روح غنائية يسعدها خيال موفق في كثير من تشخيصاته، وما ينطبق به لسان الحال من تلك الشخوص المخيلة. •••
وهذه الجوانب المتعددة من صور الشيطان في الأدب العربي الحديث تتم من جانبها الفني بقصة «الشهيد» للأستاذ توفيق الحكيم؛ لأنه أعطى الشيطان دوره المحتوم في مسرح الكون، وجعله كما هو في الواقع دورا لا حيلة فيه له، ولا لأصحاب الأديان الذين يلعنونه ويستنكرونه، ولكنه يلجأ إليهم ليتوب على أيديهم فلا يدرون كيف يقبلون توبته؛ فإن الحبر المسيحي لا يملك أن يتصرف في عقيدة الخطيئة والخلاص ، والرباني اليهودي لا يملك أن يتصرف في مكان شعب الله المختار بين الأمم التي أضلها الشيطان على اعتقاده، والإمام المسلم لا يملك أن يتصرف في التعوذ من الشيطان الرجيم.
ويصيح إبليس يائسا: «وجودي ضروري لوجود الخير ذاته ... نفسي المعتمة يجب أن تظل هكذا لتعكس نور الله.» ويبكي إبليس فتتساقط دموعه كالنيازك على رءوس عباد الله، فينهاه جبريل عن البكاء، ويحيق به اليأس من كل جانب، فيهبط إلى الأرض مستسلما، «ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره وهو يخترق الفضاء ... رددت صداها النجوم والأجرام في عين الوقت؛ كأنها اجتمعت كلها معه لتلفظ تلك الصرخة الدامية: أنا الشهيد، أنا الشهيد».
ومن الحق أن نلحق بما تقدم لونا آخر من ألوان الحديث عن الشيطان في الشعر العربي، لم نثبته مع الصور السابقة لأنه من ألوان الرأي لا من ألوان التخيل والتصوير، ولكنه لا يهمل كل الإهمال في هذا المطلب؛ لأنه رأي يبديه صاحبه في حقيقة الشيطان.
ذلك هو رأي الأديب العراقي الكبير جميل صدقي الزهاوي، ومجمله أن الشيطان هو الإنسان الذي يخدع غيره لغاية من غاياته:
لا يخدع المرء إنسانا لغايته
إلا إذا كان ذاك المرء شيطانا
وأما الشياطين والعفاريت فقد حدث الكتاب الكريم في ذكرها، وأخطأ المفسرون - كما قال - في حساب الملكين:
غير أني أرتاب من كل ما قد
عجز العقل عنه والتفكير
لم يكن في الكتاب من خطأ كلا
ولكن قد أخطأ التفسير
فهذا المطلب على حداثته في الأدب العربي قد أحيط من جوانب متعددة، وهو - ولا شك - لا يساوي نظائره الأوروبية في استفاضتها، ولكنه يساويها في طبقتها إذا أسقطنا من أدب الغرب ما استعاره من قصة الخليقة، وما كان لهذه القصة من القداسة الدينية التي لم يخلقها ابتكار الشعراء والأدباء.
في العصر الحاضر
إذا أخذنا بإحصاء الكلمات والتعبيرات للحكم على مقدار انتشار الأفكار والعقائد جاز لنا أن نقول: إن الحضارة العصرية أكثر الحضارات إيمانا بوجود الشيطان، وعمله الدائم في النفس البشرية والبيئات الاجتماعية؛ فإن كلمة الشيطان والشيطانية والشيطنة من أشيع الكلمات في كتابة الأوروبيين العصريين، ومنها ما يشتق من كلمة الشيطان بنطقها الشرقي، أو يشتق من الكلمات اليونانية والسكسونية بلفظها القديم ولفظها المتداول في العصر الحاضر.
ولكننا سنرى مسألة الشيطان هذه من أقوى المكذبات لطريقة الإحصاء الآلية؛ طريقة الحكم على الأفكار والعقائد بعدد الكلمات والعبارات، فإن كلمة الشيطان كانت علما على «شخصية» الكائن الشرير، فأصبحت على ألسنة القوم معنى لغويا لا تؤديه كلمة أخرى في مدلوله؛ لأنه يؤلف من كلمة واحدة بين الأعمال الشيطانية بجملتها؛ ويفهم منه الكيد والخبث والمهارة والنفاق وحب الأذى، وكل معنى يناقض الاستقامة والصلاح، وأكثر ما تستخدم الكلمة ومشتقاتها فإنما تستخدم بمعناها هذا الذي انتقل من ألفاظ الأعلام إلى ألفاظ المعاني والصفات.
وقد أصبح استخدام هذه الكلمة كاستخدام السيد المسيح لكلمة «مأمون» حين عبر بها عن سيادة المال والجشع، فقد كانت الكلمة في اللغة السريانية علما على رب يزعمون أنه رب المطامع الدنيوية، فكان السيد المسيح يقول لتلاميذه: إنكم لا تستطيعون أن تخدموا سيدين، ولا تستطيعون أن تنالوا رضى الله ورضى مأمون، ولم يكن عليه السلام يصدق عقيدة السريان في مأمون، ولكنه كان يقولها ويعلم أن سامعيه يفهمون عنه ما أراد، وهو التعبير عن الجشع ومطامع الأشرار.
وبهذا المعنى المجازي تشيع كلمة «الشيطنة» فيما يكتبه أبناء الحضارة الأوروبية الحاضرة، وقد يكتبها الملحدون الذين ينكرون وجود الكائنات الغيبية، كما يكتبها المتدينون الذي يؤمنون بوجود الشيطان، ويختلفون في عمله وفي مدى قدرته، وكلهم في العصر الحاضر يسمعون باسم الشيطان، فلا يتخيلونه على الصورة التي كانت تسبق إلى خيال السامع في القرن الرابع عشر وما قبله أو بعده بقليل.
وقد ظهر في باريس عند أواخر القرن الرابع عشر كتاب عن وصايا الشيطان التي يقابل بها وصايا الله، فجمعها في ست وصايا خلاصتها: العناية بالنفس دون غيرها، وألا يعطي المرء شيئا بغير جزاء، وأن يتناول طعامه منفردا ولا يدعو أحدا إليه، وأن يقتر على أهله، وأن يحتفظ بالفتات من مائدته والأسمال من كسائه، وأن يقنطر المال عنده طبقة فوق طبقة ... وهذه رذائل القرن الرابع عشر كما أحصاها بنوه بين الجد والسخرية، وإنها اليوم لفضائل العصر الذي يسمى بعصر التدبير والاقتصاد والأنانية الفردية؛ ومن أجلها تسمى الحضارة العصرية بالحضارة الشيطانية!
ومن البديه أن المتحدثين عن الشيطان في حضارة العصر لا يقصدون جميعا هذا المعنى المجازي، ولا يقصرونه جميعا على الصفات دون الأعلام والأسماء؛ فإن أكثرهم متدينون يؤمنون بوجود الشيطان وعقيدة المسيحية فيه، ولكنهم - كما أسلفنا - يسمعون باسمه فلا يتخيلونه على الصورة التي كانت تسبق إلى خيال السامع قبل بضعة قرون.
فهم يذهبون اليوم بصرعى الجنون إلى الطبيب، ولا يعالجونهم عند الكاهن أو رجل الدين، وهم يفرقون اليوم بين وساوس نفوسهم وما ينسبونه إلى الشيطان من إيحاء وتلقين، وليس للشيطان عندهم تلك المملكة الواسعة التي كانت له في القرون الوسطى؛ فإنها انحسرت شيئا فشيئا حتى كادت تخرج من عالم الطبيعة إلى ما بعدها، وكادت دولة الشيطان تئول إلى حالة كالحالة التي حصره فيها الإسلام؛ قرين سوء ليس له على قرينه سلطان. •••
ويئول الشيطان على هذا في القرن العشرين إلى مصيرين: مصيره في مجال العقيدة الدينية، وهو إلى النقصان، ومصيره في مجال العبارة المجازية، وهو إلى الزيادة، وعلى الناظر في العبارات والأساليب أن يطيل النظر في هذا المصير الأخير، أليس فيه الحجة الدامغة لبلاغة الوجدان على بلاغة العقل واللسان؟ أليست هذه اللفظة الواحدة: لفظة «الشيطان» بلاغة وجدانية تتقاصر عن مداها في التعبير كل عبارة تجريها اللغة مجرى الفكر و«اللفظ المركب المفيد». •••
من الذين زادوا في عدد الشياطين المجازية من كتاب العصر الحاضر: تولستوي، حكيم الروس الكبير؛ فقد أضاف إلى عددهم شيطان الكبرياء العنصرية، وشيطان التعصب الديني، وشيطان الاستعمار، وشيطان الحرب والاستبداد.
ومن الذين زادوا في عددهم إلى الملايين: برتراند رسل، فيلسوف الرياضة المعروف؛ فإن شيطانه الذي أقامه في الضواحي رجل كان طفلا يتيما تركه أبوه لزوجة سكيرة، تحبسه في الدار يهلك جوعا وعريا، وتذهب لتسكر وتعربد في الطريق، فإذا شكا إليها الطفل اليتيم إذ ترجع إلى المنزل آخر الليل ضربته حتى يصيح، ثم ضربته حتى يسكت عن الصياح، فكبر في الدنيا وهو يجهل أباه، ويحقد على أمه، أولى الناس بعطفه عليها لو استقامت الدنيا على السواء، وقل ما شئت فيمن يحقد عليهم غير أمه من خلق الله ... فهم كل خلق الله! وفيهم الملايين من أمثاله الحاقدين على كل مخلوق.
ومن الذين زادوا عددهم الكاتبة الإنجليزية المعروفة ماري كوريللي، والشيطان عندها في قصة أحزان الشيطان يشبه أن يكون صورة الخير منظورا من قفاه لا من وجهه، وسائرا إلى الوراء بدلا من مسيره إلى الأمام.
ومن الذين زادوا في عددهم سليل بيت العلم بين الإنجليز الدوس هكسلي، كاتب القصة والمقال، وأديب العلماء وعالم الأدباء؛ فإنه أخذ «أسيدي» شيطان القرون الأولى فنسخ منه ألوف النسخ بين الآدميين، وجعل هذا العصر أحق به من عصور النساك والرهبان الذين رهبوه في وضح النهار؛ إذ كان من بلواه أنه لا يغشاهم مع الظلام، بل يطرق عليهم قلوبهم في وهج الظهيرة، ومع شمس الصحراء التي يهرب منها الإنس والجان.
كان «أسيدي» هذا شيطان الحلم في اليقظة الذي سلطه إبليس على رهبان الصعيد في عصور المسيحية الأولى، وكان من دأبه أن يلهيهم عن العبادة بما يزخرفه لهم من الأحلام والرؤى وهم مفتوحو العيون، مستسلمون للسكون في ظلال الصوامع بين نيران القيظ في الصحراء، فإذا حلموا كسلوا، وإذا كسلوا شكوا، وإذا شكوا آل بهم الشك إلى السآمة والملل وكراهة الدنيا والآخرة، واليأس من الصحيح والباطل على السواء.
وينقله الكاتب من القرون الأولى إلى القرن التاسع عشر، ثم إلى القرن العشرين، ويقول في تفسير نقلته: «إننا لا نزعم أن (أسيدي) من مخترعات القرن التاسع عشر؛ فإن السآمة والخيبة واليأس وجدت قديما ولم تنقطع عن الوجود، وابتلي الناس بآلامها فيما مضى كما نبتلى بها الآن ... غير أنها في العصر الحديث قد طرأ عليها ما يجعلها موقرة مرعية، ولا يجعلها كما كانت خطيئة محظورة، أو يجعلها مجرد عرض من أعراض السقم ...
وهذا الذي طرأ عليها إنما هو التاريخ كله منذ سنة 1789 ... إنما هو إخفاق الثورة الفرنسية، وذلك الإخفاق الذي يربي عليه في الضجيج والأبهة؛ وهو سقوط نابليون، فقد غرس كلاهما (أسيدي) في قلب كل فتى من الفرنسيين وغير الفرنسيين صدق دعوة الحرية، وطمح إلى أحلام المجد والعبقرية، ثم جاءت الصناعة الكبرى بما تراكم معها من القذر والبؤس والمال الحرام، وكان مسخ الطبائع على يد هذه الصناعة حسب القلب الكريم من محنة الحزن والأسى.
واطلع الناس فرأوا أن الحرية الدستورية التي طالما كافحوا من أجلها عبث، لا يغني شيئا مع طغيان الآلات واستعبادها للنفوس، فكان ذلك رعبا آخر من ضروب الرعب التي خيبت الآمال في القرن العشرين، وزيد عليها من دواعي السآمة داع أدق وأغلب مما عداه؛ وهو تعاظم المدن وراء كل مقدار معقول، فتعود الناس المقام بها، وأحسوا في البعد عنها تفاهة لا تطاق، وأطبقت البلوى عليهم فأحسوا من ضوضاء المدينة حنينا إلى سآمة الريف ... وكأنما كانت هذه المضجرات في انتظار تاج يعلوها، فتوجتها الحرب العالمية الأولى.»
ويعنى بالكتابة عن شيطان العقيدة الدينية أناس من طبقة هؤلاء الكتاب الذين اتخذوا من اسم الشيطان تعبيرا مجازيا عن مساوئ العصر وشروره وأدناسه، وربما كتب المؤلف الواحد عن هذا الشيطان وذاك الشيطان، كما فعل هكسلي فيما ألممنا به من كتاباته آنفا، وفي كتابه الذي ألفه عن شياطين لودن
The Devils Of Loudun ... ومن قرأ هذا الكتاب علم أن هكسلي قد أراد أن يكشف عن خبيئة من السوء في هذا الإنسان الذي يلعن الشيطان، لم يهبط إلى ما دونها أخبث الشياطين.
فالقصة التي حققها الكاتب من مراجعها التاريخية إحدى المبكيات المضحكات من مآسي التاريخ التي حفلت بها صفحاته في القرون الوسطى، وكان فيها مظلومان مكذوب عليهما كذبا لا يخفى على أحد في الزمن الحديث، وهما الشيطان ورجل من رجال الدين مغضوب عليه.
وقد بدأت القصة بإصابة بعض الراهبات في بلدة لودن بالصرع، واتهامهن بالتجديف والبذاء والتفوه في نوبات المرض بكلام يخجلن منه كلما أعيد عليهن بشيء من التلميح وهن مفيقات، ولو حدثت هذه الإصابة في العصر الحاضر لاستطاع رجل الدين، كما يستطيع رجل الدنيا، أن يفهم أنهن مصابات «بالهستيريا»، أو بالفصام الذي تنقسم فيه شخصية المريض، ولكن الرئيس الذي تولى البحث في أمرهن لم يستطع أن يفهم من بذائهن في خلال النوبة، وخجلهن بعد الإفاقة منها، إلا أن المتكلم بالبذاء أحد غيرهن يهمه أن يعبث ببراءة الراهبات؛ انتقاما من الله وعابداته وعابديه، ومن يكون هذا المنتقم القادر على صرع فرائسه غير الشيطان.
وسنحت الفرصة لاتهام الرجل المظلوم مع الشيطان؛ وهو الأسقف «جرانديه» عدو الكردينال ريشتيه ذي الحول والطول في بلاط باريس، فاتهم بالفسوق وتسليط الشيطان على الراهبات للتغرير بهن، وصدقت إحداهن أنها فريسة للشيطان بإغراء الأسقف الساحر، فرمته بالتهمة كما أوحي إليها، وقرر المحققون أنهم سمعوا اعتراف الشيطان وهو يتكلم بلسان تلك الفريسة، فتقررت إدانة الأسقف بشهادة الشيطان، وحكم عليه بالإحراق وهو بقيد الحياة.
ولما قيل لهم: إن الشيطان أبو الأكاذيب لم يعسر عليهم أن يبطلوا هذه الشبهة باضطرار الشيطان إلى الصدق بين يدي أصحاب العزيمة والبرهان من المحققين الصالحين.
وتمشي السخرية مع الفجيعة جنبا إلى جنب في هذه المهزلة الشيطانية، فيحدث في بعض محاضر التحقيق أن يقول الشيطان: إن السيد لوبردمان، رئيس لجنة التحقيق، ديوث تخونه امرأته مع الأسقف وغيره، ويكون لوبردمان غائبا عن الجلسة، ولا يلتفت إلى قراءته عند توقيعه، فيضع عليه اسمه بعد السطر المعهود الذي يقرر فيه اعتماد الصدق في كل ما جاء فيه، ويضحك ولاة الأمر ملء أفواههم ساعة يعرض المحضر عليهم، ولكن رئيس اللجنة يعود إلى التحقيق لتسخير ذلك الشيطان نفسه في تمليق الكاردينال، ويفتتح المحضر المحفوظ بتاريخ (20 مايو سنة 1634) سائلا: ما قولك في الكاردينال العظيم حامي حمى الديار الفرنسية؟ فيجيبه الشيطان مقسما باسم الله: إنه سوط عذاب على أصدقائي أجمعين، ويعود الرئيس سائلا: ومن هم أصدقاؤك؟ فيقول له الشيطان: إنهم زمرة الهراطقة، ويسأله الرئيس: وما هي مآثره الأخرى؟ فيجيبه الشيطان: إنها هي إنقاذه للشعب، وقدرته على الحكم هبة من الله، وحرصه على سلام المسيحية، وولاؤه للملك لويس ...
وبعد العناء المضني في جمع هذه الأوراق، والمضاهاة بين التحقيقات، يخرج الكاتب منها إلى سحرة العصر الحاضر الذين يسخرون أعنف شياطينه، وهو شيطان الجماعة المستفزة إلى الشر والعدوان باسم المذاهب أو الأوطان، فما تصنعه النازية حين تثور على أعداء الجنس الآري المطهر، وما تصنعه الفاشية حين تثور على أعداء المجد الروماني العريق، وما تصنعه الشيوعية حين تثور على أصحاب الأموال الأوغاد، كل أولئك ثورة لا تتورع عن اتهام الأبرياء، وإحراق الأحياء، والهبوط إلى الهاوية في أهبة الصعود إلى السماء. •••
ومن المفكرين الذين لهم خطر في كل بحث يدور على العقيدة والتفكير العصري كاتبان عالميان؛ هما: الدكتور لويس، صاحب كتاب المعجزات، وكتاب مسألة الشر، وكتاب ما وراء الشخصية وغيرها من الكتب في موضوعات الفلسفة الدينية، ويعتبرونه فيلسوف المذهب البروتستانتي في العصر الحاضر، والكاتب الآخر: جيوفاني بابيني، صاحب كتاب حياة المسيح، وأديب المذهب الكاثوليكي المرضي عنه بين المجددين وبين فريق غير صغير من المحافظين.
ألف الدكتور لويس رسائل الشيطان وجعلها على لسان أستاذ من الشياطين يعلم تلميذه أساليب الفتنة والدسيسة، وإقصاء بني آدم عن حظيرة الرضوان، ومعظم هذه الأساليب نفسية يرى العلماء النفسانيون مع المؤلف أنها بواعث شر وجهل في الطبيعة الإنسانية، ويرى العلماء الدينيون معه أنها مداخل الشيطان إلى سريرة الإنسان، فيقول الشيطان الأستاذ - مثلا - لتلميذه: إنه خليق أن يتنبه إلى خطأ جسيم يقع فيه ناشئة الشياطين، وهو اعتقادهم أن السرور حبالة الشيطان.
إذ الحقيقة أن الإنسان باق في الحظيرة الإلهية ما بقي في نفسه موضع للسرور، وعلى الشيطان أن يفرق بين السرور على أنواعه، وبين السرور المصطنع الذي يلحق باللغو والتهريج. وينبه الأستاذ تلميذه إلى الإقلال من العناية بإغوائه المتدينين الذين تساورهم الشكوك من جراء الحروب والنكبات؛ فإن المتدين الذي لا تصمد عقيدته لهذه الشدائد غني عن الإغواء، ولا حاجة بالشيطان إلى فرط العناية بإغوائه، وعلى الشيطان التلميذ ألا ييأس من أصحاب الفضائل الذين يعلمون بفضائلهم، ويفخرون بها مع أنفسهم ومع غيرهم؛ فإنها فضائل على مقربة من الرذائل الشيطانية قد تعمل على الرذيلة وهي في عنفوانها.
وليس من عمل الشيطان أن ينشر الإلحاد؛ لأن الذي ينكر وجود الله ينكر وجود الشيطان، وإنما عمله أن يصرف المؤمن بالله عن الأمل والعبادة، ورؤية المحاسن والمعجزات في خلائقه ومقاديره. وأقوى الحبائل في رأي الأستاذ الشيطان أن ينفصل الإنسان من حاضره، ويقبل على المستقبل بجملته؛ فإن المقبل على المستقبل منقطع عن الحاضر والماضي، متعلق بالأباطيل ودواعي القنوط والكراهية.
وعلى الشيطان الناشئ أن يذكر أن الكراهية هي المهمة في المذاهب «المستقبلية» دون عناوينها ودعاويها، فلا فرق بين الشيوعية والفاشية والإباحية على اختلافها ما بقيت نفس الإنسان خلوا من الحب، مفعمة بالنقمة والبغضاء. وآفة الآفات الكبرى على الدوام أن يصبح الكون في نظر الإنسان صفرا من العجائب، وشتيتا متشابها من المألوفات والمتكررات.
ولولا ضيق نظر يساور عقل المؤلف أحيانا كلما نظر إلى عقيدة غير عقيدته؛ لكان تفكيره في هذه الأمور مطابقا لتفكير المتدين في كل دين.
والكاتب الكاثوليكي جيوفاني بابيني يؤلف الكتاب عن الشيطان، ويريد أن يطبق فضيلة السماحة على هذا العدو المبين في جملة الأعداء الذين تشملهم رحمة الله، ويرى أن الله لا يرضيه دوام الشر، ولا دوام السقوط على كائن من الكائنات العاقلة، فلا بد في نهاية التجربة الكونية من حياة لا شر فيها ولا شيطان، وزوال الشيطان إنما يكون بزوال شره وارتداده عنه إلى الخير والصلاح.
ورأيه هذا مخالف لآراء الأكثرين من أقطاب المذهب، ولكنه لم يبلغ من المخالفة أن يعرضه للطرد والحرمان، فإن آراءه الأخرى في الكتاب تحسب له إذا حسب هذا الرأي عليه، وفيها شرح للعقائد الدينية، وتقبيح للمنازع الشيطانية يحمده له المعتقدون، ويقنعون به من الكاتب في زمن يقل فيه أمثاله من الكتاب العالميين الذين يعلنون عقائدهم في غير مبالاة بسخرية المنكرين والملحدين.
تلك زبدة مفيدة لما يسمى (بالديمنولوجي) “Demonology”
أو مباحث الباحثين عن الشيطان في العقيدة الدينية، وفي التعبيرات المجازية في القرن العشرين.
فالمتدينون يؤمنون بوجود الشخصية الشيطانية فعلا، ويحصرونها في أضيق حدودها، ولا يبوئونها من السلطان على النفس البشرية تلك المنزلة التي كانت لها في عقائد الأولين.
والمعبرون المجازيون فريقان : فريق يلغي الشخصية الشيطانية البتة، ويحل محلها عوامل الوعي الباطن التي يسميها الغريزة، أو الكبت، أو العقد النفسية، أو علل الشخصية السقيمة وما شاكل هذه الأسماء ... وهذا الفريق مسبوق إلى رأيه في جملته دون تفصيله؛ فقد ذهبت هذا المذهب فئة من المعتزلة ترى أن الشيطان هو وساوس النفس، ودوافع الشهوة والطمع والغضب والخديعة، وتستند في رأيها إلى قول النبي عليه السلام: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق.» وليس هذا التأويل عند جمهرة المحدثين بالتأويل المقبول.
والفريق الآخر على رأي هكسلي الذي تقدم ذكره، وهو أن العقل والعلم لا يمنعان وجود الشيطان، كما جاء في الفصل السابع من كتابه عن شياطين لودن؛ حيث يقول: «هل توجد الشياطين؟ وإن كانت توجد؛ فهل كانت حاضرة في جسد الأخت جين وزميلاتها الراهبات؟ فأما المس الشيطاني فلست أرى في القول به سخفا أصيلا، ولا أجد شيئا من التناقض في فكرة ترى إمكان وجود الأرواح غير الإنسانية؛ طيبها وخبيثها، أو لا طيبة ولا خبث فيها، وليس ثمة ما يضطرنا إلى القول بأن الملكة الفاهمة ممتنعة فيما عدا أجسام الإنسان والحيوان، وإذا قبلنا الشواهد على الكشف والنظر البعيد - وهي شواهد يكاد القول برفضها أن يتعذر علينا - فلا بد من الإيمان بعوامل مفكرة مستقلة على الأغلب الأعم عن المكان والزمان والمادة.»
وهذه هي زبدة «الديمنولوجي» في صفحتها الأخيرة من آراء المتدينين والمفكرين في القرن العشرين.
خاتمة
تمت في هذه الصفحات رسالة موجزة في موضوع من موضوعات المقارنة بين الأديان والعقائد، يدور حول تصوير «قوة الشر» من عهد القبائل البدائية إلى منتصف القرن العشرين.
والمقارنة بين الأديان والعقائد علم حديث من علوم القرن التاسع عشر، بدأ البحث فيه قبيل ختامه، وانتصف القرن العشرون ولا تزال الكشوف الأخيرة فيه تتوالى وينسخ بعضها بعضا، أو يشير بانتظار النهاية بعد خطوات لم تبرح أوائل الطريق، وكلما تعجل الباحث الفراغ من دور الجمع والتبويب والنتائج المعلقة على البقية المنتظرة؛ بادرته الكشوف الحديثة بما ينقض حكمه، أو يضطره إلى تعديله على ترقب وتؤدة واستعداد.
ونحن نختم هذه الرسالة، والأجزاء الأخيرة من موسوعة أرنولد توينبي “Arnold Toynbee”
تصدرها المطبعة من المجلد السابع إلى المجلد العاشر، وفي نهاية الجزء السابع منها تعقيب على الظاهرة الغامضة التي كشفت عن التشابه القريب بين عقائد القبائل البدائية في القارات الخمس، وانقسام المفسرين لهذه الظاهرة إلى فريقين: فريق يرى أن الإنسان تلقى إلهاما بالوحدانية قبل التاريخ، وقبل افتراق الأجناس والقارات، وفريق يرى أن الطبيعة الإنسانية تتقارب في وحي البديهة، وتستلهم شعورا واحدا بما وراء المادة المشهودة، وسيمضي زمن طويل قبل أن تتحد النتائج بين الفريقين؛ لأن الأرض واسعة، والقبائل البدائية مبعثرة على أرجائها، ومسائل العقيدة عندها من أسرارها التي تخفيها، وما تجلوه منها اضطرارا أو اختيارا يتيه فيه الباحثون بين غرابة اللغة وغرابة الرموز.
فمن الغرارة البالغة أن يقول قائل عن موضوع من موضوعات المقارنة بين الأديان: إنه شيء عتيق مضى أوانه، على حين اتفاق الأقوال بين علماء المقارنة وقرائها على ابتدائها في خطواتها الأولى، وانتهائها فيما انتهت إليه إلى نتائج معلقة بين الترجيح والتردد والانتظار.
ولا نخال أن السريرة الإنسانية تكشف عن أعماقها بعلم من العلوم - كهذا العلم وعلم الدراسات النفسية - وهو كذلك في خطواته الأولى، أو على أبواب النتائج التي لا تفتح إلا بين التردد والانتظار.
لكن الفائدة المبكرة التي خلصت للعقل الإنساني من بواكير البحث في العلمين: أن مقاييس الحقائق تختلف وتتعدد، وأن الحقائق كلها لا تقاس بأرقام الحساب، وأنابيق المعامل، وتجارب الطبيعيين، ومناظر الفلكيين.
فها هنا حشد من العقائد والأخيلة تمتلئ به سيرة النوع الإنساني في نحو مائة قرن يدركها التاريخ.
ما هي في أرقام الحساب أو أنابيق المعامل أو تجارب الطبيعة أو مناظر الفلكيين؟
سهل على أدعياء العلم أن يصرفوها بكلمتين: حديث خرافة!
وحديث الخرافة يجب أن يلغى، فتعالوا نلغه ونعهد بأدعياء العلم جميعا أن يبدءوا بالنوع الإنساني في تعلم الخير والشر والقداسة، واللعنة على برنامج غير هذا البرنامج، وتربية غير هذه التربية.
وليتسلم أدعياء العلم هذا النوع الإنساني قبل مائة قرن، وليأخذوا في تعليمه الأبجدية من هذه الدروس.
ولنفرض أولا فرضا مستحيلا، وهو أنهم سيكونون قبل مائة قرن على معرفة بما يسمونه اليوم خرافة، وما يسمونه تحقيقا، وما يسمونه دراسة منطقية أو علمية.
وليبدأ النوع الإنساني في هذه المدرسة بفلسفات الأخلاق على مذاهبها وفروضها واحتمالاتها وردودها ومناقشاتها.
وليحفظ فلسفات الأكاديمية كلها ويتخرج عليها.
ولقد حفظها، ولقد تخرج منها بما شاء له أدعياء العلم من آراء.
ولقد وصلنا بعد الرحلة الطويلة إلى القرن العشرين، فماذا نقول؟
نقول: إن هذا في الحق هو حديث الخرافة الذي لا يعدو الألفاظ والعناوين وأسماء المدارس والمريدين.
لكن النوع الإنساني ترك هذه الأكاديمية قبل مائة قرن، وأمعن في طريقه الذي هداه إليه القدر، وأعدته له الفطرة.
ونتيجة هذا الطريق أنه أعطى الحياة النابضة لكل خلق من أخلاق الخير والشر والقداسة واللعنة، وإن أعلم العلماء اليوم لا يستطيع أن يقيم من الفوارق الحية المحسوسة بين خلق وخلق فارقا واحدا، كالفارق الذي نفهمه ونحسه ونحياه حين نتكلم عن الخلائق الإلهية، والخلائق الملكية، والخلائق الشيطانية، أو عما يجملها من الخلائق السماوية، والخلائق الأرضية، والخلائق الجهنمية.
إن العلماء الذين يستعيرون تعبيراتهم المجازية من هذه الفوارق لا يفعلون ذلك لعبا بالألفاظ، أو تظرفا بالتمثيل والتشبيه، ولكنهم يستعيرون ذلك التعبير لأنه أدل وأوضح وأقوى من كل تعبير يستعيرونه من المدرسة النفعية، والمدرسة السلوكية، والمدرسة الانفعالية، ومدارس روح الجماعة وتضامن الهيئات والبيئات وما إليها من ألفاظ ناصلة، ومعان حائلة، وأسماء لم تخلق من مسمياتها شيئا. وهيهات أن تخلقه ولو تسمت بها مئات القرون، وغاية ما تبلغه أنها تأتي إلى محصول القرون بعد زرعه ونمائه واستوائه وحصده، فتكتب العناوين على غلاته وبيادره، ولا تأمن بعد ذلك أن تضل بين تلك العناوين التي كتبتها بيديها!
فهذه الحقائق الوجدانية والقيم الروحية لا تقاس بمقياس الأرقام وأنابيق المعامل، ومن أراد أن يقيسها بهذا المقياس فهو الذي سيخطئ لا محالة، كما يخطئ كل واضع لأمر من الأمور في غير موضعه، وكل من يقيس شيئا وهو يجهل كيف يقاس .
على أننا قد نفقه تعدد المقاييس وتعدد القيم دون أن نضطر إلى التوسع في هذا الموضوع الشاسع العسير؛ موضوع المقارنة بين الأديان.
فالغريزة في كل رجل وامرأة، وفي كل ذكر وأنثى من الحيوان تسفه كل من يعتسف طرق البحث، ويسبر أغوار الطباع بغير مسبارها.
وهذا حنان الآباء والأمهات لغو وباطل بكل شهادة من شهادات الحس والعقل، وتجارب المعامل وأرقام الحساب؛ لأن حنان الآباء والأمهات يقول لهم: إن طفلهم دون غيره يساوي كل من عداه ويفوقهم في حق البقاء، ويجب أن يزولوا جميعا إذا وجب أن يزولوا من الدنيا أو يزول هو منها.
وليضرب صاحب القياس الحسابي على هذا الحنان بالخط الأحمر ليخرجه من حيز الحقائق، ولينظر بعد ذلك أين الحق وأين الباطل بين الرأي في رأسه، وبين الحنان في صدر كل والد ووالدة، من الإنسان والحيوان.
أصواب هذا الحنان أو خطأ؟
أحق ذلك الدين أو باطل؟
إنما الخطأ أو الباطل هو الذي نسقطه ونلغيه، فها هنا خطأ واحد، وباطل واحد، وهما الخطأ والباطل في مقياس صاحب الحساب وصاحب الأنبيق.
وندع الغرائز المحجبة، ونقترب من المحسوسات الواضحة المفتوحة للسمع والبصر، فنفرض أن مخلوقا يرى الأشياء كما تكون في جو الأثير على بعد من الأرض والجاذبية الأرضية، ونتحدث أمامه عن اللون الأحمر واللون الأخضر، وعن العناصر الثقيلة والعناصر الخفيفة، وعن المقاطع والكلمات والأصداء والنغمات، فماذا عليه لو صاح بنا: على رسلكم يا هؤلاء اللاغطين، إن ما تهذرون به لحديث خرافة وأضغاث أحلام.
إنه لا يكون قد خرج بذلك على سنة العلم وأدعيائه، وإننا مع هذا لم نبتعد من المحسوسات التي يحيط بها العيان، وتسمعها الآذان، فإذا كانت الطبيعة الإنسانية لا تدرك هذه المحسوسات إلا بهذه الألوان والأشكال، فكيف نطلب من الأديان أن تخاطب الطبيعة الإنسانية بأسلوب غير أسلوبها وهي تتحدث عن الغيوب الخفية، وعما وراء المادة ووراء الزمان والمكان؟
من رام أن يعيب القيم الوجدانية التي دان بها الإنسان منذ جهالته الأولى، فهو - لا ريب - واجد فيها كثيرا مما يعاب ويفرط في المعابة، لكن السؤال الفصل هنا لا يكون: هل تعاب القيم الوجدانية أو لا تعاب؟ بل يكون: هل توجد هذه القيم الوجدانية لإنسان ناقص ينمو ويكبر، أو توجد لإنسان كامل معصوم من نشأته الأولى؟ إن عقيدة تصلحها عقيدة بعدها كالمعرفة تصلحها معرفة تليها وتقوم عليها، لا هذه تسقط العلم ولا تلك.
إننا فرضنا في مستهل هذه الخاتمة أن أدعياء العلم تسلموا النوع الإنسان منذ مائة قرن؛ ليرشدوه إلى طريق غير الطريق الذي اتبعه في التمييز بين الخير والشر، والقداسة واللعنة، فلندع هذا الفرض البعيد، ولنستغن عنه بما بين أيدينا من «الديانات العلمية» التي ارتضاها «الأنبياء العلميون» في القرنين الأخيرين بعد اختبار العقائد والمذاهب، والفراغ من أوهام الخرافات والأساطير، وللنظر في الديانة التي سموها الديانة المادية الاقتصادية، وقرروا فيها أن احتكار الفلوس هو الذي يخلق الأديان والأفكار، ويقوم القيم، ويرفع الطبقات، وأنه إذا جاء الوقت الذي ينقضي فيه احتكار الفلوس زالت الطبقات، وخلا المجتمع من السادة أبدا سرمدا بغير انتهاء.
ولم يمض على قيام هذه الديانة جيل واحد حتى سمعنا علما من أعلامها يأسف ويأسى، ثم ينعى على زملائه أنهم يختارون لإدارة المعامل وتنظيم الحكومة أذنابا من المقربين إليهم، ويقصون عنها ذوي الكفاية والغناء في العلم والعمل والسابقة المذهبية، ويبقى في نفوسهم بعد إلغاء الاحتكار باعث يرفع ويضع بغير مقدار إلا أن يكون مقدار الأثرة والإيثار.
وهؤلاء المتدينون «العلميون» هم الذين يصدقون مع هذا أنهم حكموا على المستقبل، ورسموا للنوع الإنساني طريقه في نظام المجتمع وبواعث الأخلاق أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ألوفا من السنين، لا بل ملايين من القرون بعد ملايين.
وكل ما صدقه عجائز الخرافة، من عهد الكهوف إلى اليوم، يطير هباء أمام هذه الخرافة التي استقر عليها أدعياء العلم والنبوءات العلمية، وكفى بهذه المقارنة تعجيزا لمن يتطاول به الغرور فيخال أنه يصحح العقائد بمقاييسه ومقاييس علمه المزعوم.
وسيبقى أناس يتعوذون من إبليس يوم يضحكون من خرافة «المادية الاقتصادية»: كيف كانت؟ وكيف جازت على العقول؟ ونحن نقول في أول هذه الرسالة : إن ظهور إبليس في عقائد الناس كان علامة خير؛ لأنه علامة التمييز بين الشر ونقيضه، فنقول في ختامها: إن بقاءه بعد المادية الاقتصادية علامة خير أخرى؛ لأن الكون الذي يبقى فيه إبليس ملعونا أشرف من الكون الذي لا يميز بين القداسة واللعنة، ولا يعرف شيئا يلعنه؛ إذ كان لا يؤمن بإله غير الفلوس، وساء ذلك من إله، وتعالى الله عما يشركون.
عباس محمود العقاد
Unknown page