أما الأكثر دلالة، ويضاف إلى مجموعة الإفادات السابقة، في رصيد الإجابة عن السؤال المطروح المستغرب، هو أنه رغم عدم إفادة المصادر الإسلامية بوضع رجال الدين في مكة، فإن تلك السدانة جاءت بدورها غير واضحة كما لو كان الغموض مقصودا بكتبنا الإخبارية. ولم يبن بتلك الكتب ما إذا كانت السدانة طبقة بالمعنى المفهوم عن رجال الدين، وإن كان ما يفسر ذلك الغموض هو ارتباط الدين بالتجارة، مما جعل قريشا تحوز جميعها قداسة رجال الدين بالنسبة لسائر أعراب شبه الجزيرة، وإن وجدنا وسط تلك الضبابية مجتهدا معاصرا، يعلمنا أن ذلك المنصب الديني كان متوارثا في البيت الهاشمي تحديدا، ثم من بعده في البيت المطلبي بالذات، وهو ما يصرح به «أحمد عباس صالح» في قوله: ... وتستمد من هذه السدانة سلطة على سائر أهل قريش، وإن كنا نعلم أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، من سلالة هؤلاء السدنة من قريش.
27
وهو الخبر الذي يفسر لنا سر السيادة في الفرع المطلبي، وشرفه الرئاسي العظيم، رغم رقة حاله المادي، كما يفسر لنا كثيرا من توجهات هاشم من قبله، عندما ترك ولده عبد المطلب «شيبة بن هاشم» ينمو ويربو ويرضع الفروسية بين أخواله اليثاربة، وحيث كان التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود، مما يلقي ضوءا على توجهات عبد المطلب في الشئون الدينية، وما دعا إليه إبان حياته بشأن الإله الأوحد وبشأن الملة الإبراهيمية الإسماعيلية، وحديثه المسجوع كسجع كهان عرب الجزيرة المشهور، ونبوءاته التي أثبتت الأيام صدقها.
28
وإعمالا لكل ذلك، وتأسيسا على انقسام الجزيرة إلى وحدات، يصر الملأ على استدامتها قبليا وربوبيا، ووقوف ذلك عائقا دون تحقيق التطور لغايته. جاء الحضور التوحيدي في الإسلام متحققا على المستويين: المستوى المادي بسعيه لوحدة مؤسسية جامعة، في دولة مركزية، وعلى مستوى الوعي بنهوضه على فكرة واعتقاد في مبدأ أيديولوجي يضع النظرية لمؤسسة الدولة المقبلة.
وهنا يجب ألا يفوتنا انتماء النبي العشائري إلى البيت الهاشمي، وهو ما دعاه إلى دعوة ذلك البيت من البدء إلى الوقوف مع الدعوة
وأنذر عشيرتك الأقربين (الشعراء: 214)، لكنه تجاوز الخلافات بين البيتين الهاشمي والأموي، بتوسيع دائرة الدعوة بين البيتين، لكن تفصيلات الموقف، وما لحقه بعد ذلك من أحداث، فرضت انعطافات كثيرة على طريق الدعوة؛ فقد نفر منه الأمويون، واعتبروا دعوة الإسلام العظمى، خطوة أخرى من خطوات التكتيك الهاشمي، مما استدعى تحركا آخر من قبل بني هاشم، بنزوع عشائري متماسك خلف ولدهم حماية له ووقاء، بفروض المنظومة القبلية وتحزبها، وربما مع وعي يقف في صف المنظومة الوحدوية التي يدعو إليها، لكن دون الارتقاء إلى البنية العليا، وهو ما اتضح في رفضهم للجانب الفكري الديني في منظومته، أما الأمويون الذين تصوروا الإسلام الجليل صراعا قبليا، فقد لجئوا إلى محاولة رشوة النبي بالمال، ثم إلى محاولة ساذجة، تهدف إلى كشف مقاصد النبي الكريم ودوافعه، التي تصورت لهم رغبة في الملك الهاشمي عليهم، فنصبوا له الفخاخ بدعوته إلى التملك عليهم، وهي الرشوة والخطة المكشوفة التي ما كان لها رد أبلغ من قول النبي
صلى الله عليه وسلم :
والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه، ما تركته.
Unknown page