وبالفعل تتجاوز الدعوة الطالعة لمؤسسة الدولة المقبلة، التعدد العشائري نحو توحد عربي جامع، وذلك بنزوع مبكر، نحو دولة غير اعتيادية، فسوف تكون إمبراطورية تسد الفراغ السياسي العالمي، وتقضي على ما تبقى من تفريخات منهارة للإمبراطوريات القديمة المتصارعة، لصالح التطور الأممي الجديد، وهو ما تأتينا نبوءته الصادقة يتردد صداها في جنبات جزيرة العرب، بلسان النبي الأمين:
اتبعوني أجعلكم أنسابا. والذي نفسي بيده، لتملكن كنوز كسرى وقيصر.
وهو المعنى الذي كان يحمل في طياته غرض كسب ولاء جماعة تضامنية، تشكل الأساس الثالث للدولة، جماعة تشكل نواة تأسيسية للأمة المقبلة.
ظهور الإسلام
كنا نقول حتى الآن: من الطبيعي، ومن الحتمي، ومن الضروري، فالأمر حسب قوانين التاريخ، لا بد أن تؤدي مقدماته إلى نتائجه، متى توافرت الشروط، لكن هنا قد يجوز القول لقائل: ومن الغريب أن ينهض بإتمام التطور إلى نهاية نضجه، لصالح الطبقة التجارية، فرد مكي قرشي، هو نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. ووجه الغرابة أنه نشأ يتيما فقيرا كادحا، ينتمي إلى فرع هاشم، بل إلى الغصن الأفقر فيه، غصن عبد المطلب وأبي طالب، وأنه لضرورات وظروف نشأته، بدأ حياته العملية من أجل الرزق، وهو لم يتجاوز بعد صباه المبكر، فاشتغل وهو أقرب إلى الطفولة برعي غنم أهله، ورعي غنم أهل مكة، الذين يرفلون في ثراء النعمة، ثم - مع تجاوز الصبا إلى الرجولة - اشتغل بالتجارة لحساب الأثرياء، وهو ما يصلنا خبره في رحيله إلى الشام، بتجارة لإحدى شريفات قريش «خديجة بنت خويلد الأسدي».
ومثل ذلك الانتماء كان كفيلا بجعل أمر قيامه بدفع الأمر نحو غايته ونضوجه لصالح الطبقة التاجرة، أمرا غريبا لأول استطلاع، لكنه يعود طبيعيا تماما، إذا ما تذكرنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، كان من مكة، ومن قريش تحديدا، دون سائر قبائل بلاد العرب، وإذا وضعنا بحسباننا الظرف الذي كان يدفع الحراك نحو غايته، تلك الغاية التي لم تعطلها دعوة النبي بل دفعتها حثيثا نحو نتائجها المنطقية، مع اعتبار الخبرة النبوية في الطفولة والصبا بالشظف والإملاق، في وسط طبقي هائل التفاوت، ثم خبرة أخرى بحياة الدعة والطمأنينة بعد الزواج من أم المؤمنين، السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكانت إحدى نساء قريش الثريات المعدودات، وهو الزواج الذي كان عاملا ضمن عوامل، لانتقاله إلى انتماء جديد، لكنه انتماء خبر القديم، وأحس به حرمانا واستضعافا وهوانا لا ينسى. فكان الدفع نحو إلغاء تلك القسمة المجتمعة بداية، والتي بدأت تحنفا وتقشفا وتعبدا في حراء، رغم النعمة، على طريقة طائفة الحنفاء الذين انتشروا في الجزيرة العربية، وفى مكة خاصة، في العصر الجاهلي الأخير، يدعون إلى التوحد وإلى التوحيد وإلى المساواة وإلى العدل الاجتماعي.
23
ويعتقد «حسين مروة» أن النبي
Unknown page