Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
11
أدركنا أن المظهر الرواقي هذا قشرة لا تعني الكثير، فحرية سبينوزا هي عينها الحتمية السيكولوجية الصارمة مع علماء النفس المحدثين من التحليلية والسلوكية، وكان سبينوزا بوصفه داعية للدراسة العلمية للإنسان الكاشفة عن القوانين التي تحتم سلوكه، مبشرا بهم ورائدا لهم، حالة الانتقال إلى الحكيم السبينوزي الحر يجب أن تتم إن كان لها أن تتم عن طريق لا يختلف عن طريق علم النفس التحليلي، من حيث إن منهج الشفاء فيه يقوم على جعل المريض أكثر وعيا بذاته وبالصراعات الكامنة في اللاشعور، فيستطيع أن يحقق توازنا أكثر، وثمة تواز بين حتمية الكوناتس عند سبينوزا وحتمية اللبيدو عند فرويد، من حيث إن كليهما يقيم الحياة الشعورية على دافع كلي، وأي كبت له يظهر في الوعي كاضطرابات مؤلمة، فتصبح الوسيلة الوحيدة لتطبيق السعادة هي فهم العلل المؤثرة على حالاتنا العقلية،
12
وإذا كان التحليل النفسي مشكوكا في علميته، فإن ريادة سبينوزا للسلوكية أعمق، فقد سبقهم إلى تأكيد دراسة سلوك الإنسان عن طريق الملاحظة الخارجية ولا حاجة إلى الاستبطان المحفوف بالمخاطر الذاتية، ولعل سبينوزا هو الذي علمهم الموضوعية المتعملقة بصورة مخيفة، تعالج السلوكية الإنسان كظاهرة طبيعية، لا تقل ولا تزيد على أية ظاهرة طبيعية أخرى، فلا أعماق سحيقة من الهو والأنا وما إليه من تهاويم تحليلية، وهذا ما عبر عنه سبينوزا قائلا: إن الإنسان مجرد حالة من حالات الجوهر اللامتناهي.
خلاصة كل هذا أن الحرية السبينوزية هي عينها الحتمية السيكولوجية المحدثة، من حيث النظر إلى الإنسان بوصفه كائنا حيا داخل الطبيعة، وليس فائقا لها، يجب دراسة سلوكه دراسة علمية موضوعية، فضلا عن أنه يشترك معهم في الهجوم الجريء على الدين والأخلاق المتوارثة بالدعوة إلى البحث عن سعادة الإنسان بوصفها كمالا له بدلا من إدانته، ورفع المسئولية الخلقية، وكان سبينوزا أول من أكد أنه كلما تقدمت الدراسة العلمية للإنسان - أي علم النفس - أدخلت خطايا وشرورا أكثر تحت خانة المرض النفسي، ومن يعانيه ليس مخطئا بل غير مسئول، ومستحقا للعلاج لا للعقاب، وأخيرا كان قد اتضح ضمنا فيما سبق أن عالم سبينوزا نموذج للعالم الذي تختفي فيه الجدة.
هكذا يعطينا سبينوزا صورة الحتمية الصارمة، صورة مثلى في اكتمالها موضوعيا وتاريخيا، إنه يربط بين طرفي تاريخها: أولى صورها مع الرواقية وآخرها مع السيكولوجيين الحتميين المعاصرين، ارتبطت حتمية سبينوزا الصارمة بقرينتها الرواقية؛ لأنه كفيلسوف ميتافيزيقي تحمل مسئولية تقديم العزاء في مصاب الحرية الفادح، فراح يعزينا مثل الرواقيين بلا حرية هي أروع أشكال الحرية.
أما التالون لسبينوزا من أقطاب الحتمية الصارمة التي تنفي الحرية صراحة كالماديين الكلاسيكيين جاسندي وهو لباخ وهوبز، والموسوعيين الفرنسيين كابانيس ولامتري ودولامبير، حتى الحتميين المحدثين والمعاصرين من العلماء وفلاسفة العلم والفلاسفة ذوي النزعة العلمية، فإن تبرؤهم من الميتافيزيقا وزهوهم بالهوية العلمية جعلهم في حل من تقديم العزاء في مصاب الحرية الأنطولوجية أو الحرية الميتافيزيقية، ومن خوض لغو القول في جعل حالة اللاحرية أروع أشكال الحرية، فأنكروا الحرية صراحة وجملة وتفصيلا، غير آسفين ولا متحرجين، بل ربما بافتخار من استطاع التخلص من وثن جاهلي قد انهار.
قصارى ما يفعله أحدهم هو القول بأننا فعلا أحرار ومسئولون وشعورنا بالحرية ليس من الوهم في شيء، ولكن ليس هذا الشعور إلا الشعور بالضرورة الكامنة فينا وانسياقنا لها، وبهذا يصدر الفعل عن تلقائية نابعة من قلب الذات فيغدو حرا!
من أبرز من يمثلون هذا الموقف الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم
David Hume (1711-1776)، وهو من المواصلين للتيار التجريبي المتأصل في الفلسفة الإنجليزية، المعبرين عن النزعة العلمية، والأهم من هذا أنه شكاك سكوتلندا الشهير، فقد أتى في عصره المشبع بالحتمية والعلية ليفجر ثورة عاتية بشأن مبدأ العلية الوطيد - أشرنا إليها في المدخل - وتتلخص في أنه أوضح أن العلية مجرد نزوع سيكولوجي، عادة دأبنا عليها، ولسنا نملك الحق في فرضها على الواقع، وعلى الرغم من هذا انساق هيوم مع تيار عصره، وأكد أن الحتمية صارمة في المجال النفسي، عين صرامتها في المجال الفيزيقي، ثم راح يتحدث عن حقيقة الحرية والمسئولية الخلقية، على أساس أن الحرية وشعورنا بها لا يعدو أن يكون انسياقا للحتمية الكونية، وتحدث هيوم عن الإرادة وطبيعتها، وأوضح أنها لا تظهر إلا حين يكون ثمة فعل للجسم أو للعقل ينجم عنه الحصول على لذة وتجنب ألم؛ لذلك لم تكن الإرادة عند هيوم إلا مجرد انطباع، أي إدراك فوري لشيء ما، شأنها شأن الإحساس بالانفعالات المباشرة كالرعب والفرح، يقول هيوم: «لست أقصد بالإرادة إلا ذلك الانطباع الداخلي الذي نحسه ونكون على وعي به، حين نعرف أنه ثمة حركة جديدة لجسمنا أو إدراك جديد لعقلنا قد تولد عنه، إنها انطباع مثل الفخر والرضا والحب والكراهية، وليس ثمة ضرورة لتحديد أكثر أو وصف أبعد.»
Unknown page