Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
COSMOS » أي كون منتظم؛ فثمة نظام معين وقوانين تجعله على ما هو عليه: عالما منتظما قابلا لأن نمارس فيه تجربة الحياة، بل وأيضا تجربة التعقل والفهم، فنحاول أن نعيه ونفهمه بأساليب منهجية كثيرة، على رأسها بالطبع العلم.
والآن، أوليس الحكم بأن الإنسان من حيث هو إنسان، من حيث هو موجود في هذا الوجود؛ الحكم بأنه حر أم لا، يقتضي مسبقا فهم طبيعة القوانين التي تحكمه، وطبيعة النظام الذي يجعله على ما هو عليه؟ وقد أثبت العلم، بلا جدال، أنه أصدق من يخبرنا عن طبيعة هذا العالم، وطبيعة الترابط بين أحداثه، التي تبدو مشتتة فتجمعها معا قوانين ونظريات العلم البحت، وبعد أن أحرز العلم هذا النجاح والتقدم الذي فاق كل تخيل فضلا عن توقع، وما زال حتى هذه اللحظة وما سيتلوها يفاجئنا بمواصلة نجاحه وتقدمه، وبعد أن احتل العلم الصدارة في مسيرة العرفان، أصبح من العبث الأهوج الإعراض عنه في أية محاولة لفهم طبيعة هذا الكون، وطبيعة مسار أحداثه.
والواقع أن الإعراض عن العلم - إن كان له أن يحدث - لا ينبغي أن يحدث من الفلسفة، إن الفلسفة تنفرد عن سائر الأنشطة العقلية بأنها ملزمة بالاستفادة من كل الحصائل والمنجزات المعرفية، وبأن لها علاقاتها التشابكية التفاعلية التعضونية بكل جوانب الحضارة الإنسانية: الفن، الدين، الأخلاق، السياسة ... إلخ، ولكن علاقتها بالعلم أوثق وأقوى، إنهما معا محاولة العقل لفهم هذا الوجود، كلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، وكلاهما يحمل رسالة للآخر، وكما هو معروف، كانت الفلسفة أم العلوم جميعا، وعنها استقل الأبناء الواحد بعد الآخر، بادئين بالفلك والفيزياء وصولا إلى علوم النفس والاجتماع، وبعد أن أكملت العلوم المختلفة استقلالها ونموها ونضجها، كان أن نشأت «فلسفة العلم» التي جعلت ظاهرة العلم موضوعا لها، وهي أهم فروع الفلسفة المعاصرة، فضلا عن الفلسفات العلمية المختلفة التي تحاول الاستفادة من منجزات العلم في حل المشكلات الفلسفية التقليدية. لقد تغلغل العلم في بنية العصر، فكيف لا يتغلغل في بنية الفلسفة - أقرب الأقربين إليه.
ولعل الالتفات إلى أهمية العلم وما يخبرنا به عن الواقع - خصوصا بالنسبة لكل فكر رام إلى أن يكون معاصرا - لم يكن بحاجة إلى كل هذا، ولكن السؤال الآن هو: كيف؟
كيف سنجعل نسق العلم مدخلا لمعالجة مشكلة الحرية معالجة فلسفية؟ هل سنبحث عن قانون فيزيائي أو تجربة بيولوجية أو نظرية سيكولوجية ... تخبرنا بأن الإنسان حر أو غير حر؟!
كلا طبعا، ما هكذا تكون المشكلات الفلسفية، ولو كان الأمر يمكن أن يعالج بمثل هذه البساطة فلا فلسفة، ولا حاجة إلى متفلسفين.
فكيف إذن؟ وما علاقة نسق العلم الذي هو بناء معرفي خالص بمشكلة فلسفية تتعلق بالوجود الخالص - كمشكلة الحرية الأنطولوجية، أي الحرية الإنسانية من حيث وضعها في الوجود؟
في الإجابة عن هذا نلاحظ أن العلم وإن كان معرفة أو إبستمولوجيا خالصة فإن له دلالة أنطولوجية، من حيث إن الأنطولوجيا نظرية أو مبحث الوجود. بعبارة أخرى، صحيح أن الوجود كائن وموجود في حين أن العلم أساسا بناء معرفي، إلا أنه معرفة بهذا الوجود منصبة عليه ولا شغل لها سواه، العلم معرفة ولكن العالم أو الوجود هو موضوع هذه المعرفة، نعم العلم نشاط إبستمولوجي (معرفي) مهمته وصف العالم، ولكن بماذا يصف العلم العالم؟ هكذا يجعل العلم الإبستمولوجيا تلقي بنا في قلب الأنطولوجيا.
فليس العلم إلا التمثيل المجرد لهذا الوجود، والواقع أن القيمة الأنطولوجية للنظريات وتحقق فروض العلم في الوجود الموجود لهو معلم نجاح العلم الحديث، والمسألة التفات إلى هذا، إلى قيمة العلم الإخبارية عن هذا الوجود، والاستفادة منها في بناء النظرة الأنطولوجية له؛ لنرى هل حرية الإنسان كائنة فيه أم لا.
والآن تغدو المشكلة الفلسفية محددة واضحة المعالم:
Unknown page