Hunting Ideas in Literature, Morals, Wisdom, and Proverbs
صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال
Publisher
سُجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة
Publisher Location
بدار الكتاب برقم إيداع (٤٤٩) لسنة٢٠٠٩م
Genres
صيد الأفكار
في
الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال
تأليف:
القاضي حسين بن محمد المهدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
راجعه
الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
_________
مكتبة المحامي: أحمد بن محمد المهدي
بريد: ahmed_almahdi@hotmail.com
صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال الجزء الأول تأليف: القاضي حسين بن محمد المهدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية راجعه الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال الجزء الأول تأليف: القاضي حسين بن محمد المهدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية راجعه الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
1 / 1
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة
بدار الكتاب برقم إيداع (٤٤٩) لسنة٢٠٠٩م
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن أفصح الكلام، وأجمل ما نطق به اللسان، وأفضل ما انتظمته عقود البلاغة من البيان، وأنفس ما جرت به الأقلام حمد الله الواحد المنان، وإفراده بالتوحيد والتقديس على الدوام، والثناء عليه في كل آن، تنزه ﷾ عن الشبه والنظير، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، ثم الصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله المجتبى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه الكرام الذين حملوا القرآن ونشروا الإسلام في سائر البلدان، وبعد:
فإن من محاسن العرب، وتمام الأدب حسن اختيار الكلمات الفصيحة، والمفردات البينة الصحيحة، والجمل الواضحات البليغة لغرض التعبير بها في الدلالة على المقصود الذي يسعى إليه، أو يراد الوقوف عليه، خاصةً فيما انتظم العرب في خطبهم وأشعارهم، وابتكروه في قصصهم وأمثالهم، فإنهم يغترفون من مفردات اللغة العربية أعذبها، ومن الجمل أروعها وأنسبها، ليصلوا بذلك إلى قلوب الناس وعقولهم، وليحركوا أحاسيسهم ومشاعرهم، وأطيب ذلك يبهج القلب، ويفرح النفس، ويمتع الضمير، ويسر الخاطر، لأنه يظهر العلم، ويحث على العمل، ويصف الجمال، ويرشد إلى الصواب، ويحذر من القبيح، ويبعد عن الكسل، ويدفع الهم والحزن، ويرشد إلى تزكية
1 / 3
النفس، وإرضاء الخالق، وإسعاد المخلوق، ويبصّر على حسن التعامل مع الناس، وكم دفع الشوق محبًا لإسداء من يحب نصائح يعز نظيرها، فيسعد بها صغير القوم وكبيرها، وينتفع بها أميرها ووزيرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قلتَ: أين أنت من ذلك، ولست من فرسان هذا الميدان وليس لك إن أردت سباحة هذا البحر يدان؟
قُلنا: نحن من أقل الناس بضاعة، وأضعفهم صناعة، غير أن ذلك لا يمنع العاقل من محاولة اكتساب الفضائل، والتشبه بالكرام، وأهل الفضائل من الأنام، وقديمًا قيل:
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم ... إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فلاحُ (١)
ولعله من خير الأعمال السعي إلى مناصحة الإخوان، والعمل على نفعهم، وإدخال السرور عليهم، ومن هذا القبيل ما جمعناه واخترناه في هذا الكتاب مما لذَ وطاب، وإن لم يكن لنا فيه أكثر من اختيار وجمع ما افترق مما تناسب واتسق من عيون شعر العرب وأمثالهم، وقصصهم وأخبارهم، ووصاياهم ومواعظهم وأذكارهم، وبيان ما يناسب ذلك، ويتفق معه من كلام الله العزيز الحكيم، أو حديث رسوله محمد عليه وآله أفضل الصلاة والتسليم، أو كلام الصحابة والآل الميامين، أو العلماء الأعلام والباحثين، وتحقيق ذلك، وابتكار بعض الأمثال، والسير على نفس المنوال الذي سلكوه،
_________
(١) - هذا البيت يروى لأبي الفتوح يحيى بن حبش الحكيم شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة ٥٨٧هـ، ويروى لعبد الغني النابلسي المتوفى سنة ١١٤٣هـ، ويروى أيضا لأبي عبد الله محمد بن محمد الحراق الحسيني، المتوفى سنة ١٢٦١هـ ولكن بلفظ: إن التشبه بالكرام رباح. والله أعلم.
1 / 4
مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة من ذلك كله، فإن ذلك يكفي، فاختيار المرء كما قيل "قطعة من عقله تدل على تخلقه وفضله"، فربَ علوم تنفع حاملها ودارسها ومعلمها، وأعمال ترفع من شأن صاحبها إذا أخلص لله في ذلك النية، فإن الله مولى كل خيرٍ وموليه، وخافض كل شيءٍ ومعليه، وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعلمه، وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (١)، وفي الأمثال التي أوضحناها في كتابنا هذا مزيد بيّنة وبرهان، وفي أشعار العرب التي أوردناها حكمة وبيان، وما تحيى القلوب إلا بالإيمان، ولا تستيقظ إلا بنور الحكمة التي أرشد إليها القرآن، وإنما يسعد من الناس فلا يشقى من يطلب اكتساب ما لا ينفد ويبقى، وإذا كان الله جل وعلا قد أعلمنا بقوله: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، فإنه قد علمنا بأن الباقيات الصالحات خير وأبقى فقال: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (٢)، والعاقل إنما يملؤُ قلبه، ويمتع طرفه فيما يبقى أجره وذكره، ولم ينسَ نصيبه وحظه من الدنيا، ولعل من يعد عدّته ابتغاء تحصيل متعته يحتاج إلى جليس يواسيه ويسليه، واختيار سلاح ينفعه ولا يؤذيه، وسيجد المتتبع من فنون العلم التي أرشد إليها القرآن، وانتضته من العرب الفرسان خير سلاحٍ، فهو خير له من سلاح راج في الملا، وملئ به الفضاء، وشغل الناس به أوقاتهم، وأضاعوا فيه أعمارهم مما يجرح ويدمي، ويشوه النفس ويعمي،
_________
(١) - سورة المجادلة الآية (١١) .
(٢) - سورة الكهف الآية (٤٦) .
1 / 5
وقديمًا قيل: "رب سلاح يقول لحامله: ضعني، وكلمة تقول لصاحبها: دعني"، وربما أدرك عقلاء الناس وأصحاب الرأي فيهم أنما المرء معتبر بأكبر ما ينسب إليه عمله وإيمانه، فإن حسنا كان من المتقين الأخيار، وإن فسدا كان من الفسدة الأشرار، ولهذا كان من الإحسان أن يحسن الإنسان اختيار جليسه، وأن يصطفي أنيسه، وربما يجد المتتبع لفنون الأدب في أشعار العرب وأمثالهم من الأخبار النافعة ما تستظرفه العقول، وتستملحه النفوس، وفيه من محاسن الإنشاء، ودقة المعنى ما يوافق الشرع، وينفع الخلق، ويهدي إلى قيد الشوارد، وحفظ الشواهد، والعمل بالمواعظ، والاستفادة من المناسبات، والحرص على الانتفاع بالأوقات، والتفكر في المخلوقات مما يشرق به الأمل ويحث على العمل، وينتفي به الملل، ويقرب من الله ﷿، فالكيس من جعل دنياه سعادة، وأخرته فلاحًا وشهادة، وحَرِصَ وفيه بقية، أن تكون له نفس صالحة أبيّة تقية، ولله در القائل:
إِذا المَرءُ لَم يَحتَل وَقَد جَدَّ جَدُّهُ ... أَضاعَ وَقاسى أَمرُهُ وَهوَ مُدبِرُ
وَلكِن أَخو الحَزمِ الَّذي لَيسَ نازِلًا ... بِهِ الأَمرُ إِلا وَهوَ لِلأَمرِ مُبصِرُ (١)
ولن يضيع أوقات زمانه، ويتعالى بالزعامة، ويتدثر بما يورث الأسى والندامة، إلا من كان أشد حمقًا (٢) من النعامة، وحسب الرجل اللبيب أن يشغل أوقاته فيما ينفع ويفيد، أو يبصّر أخاه بالرأي السديد، ويدله على واضح الطريق، أو يرشده إلى اكتساب بضاعة يجيد فيها الصناعة.
_________
(١) - القائل لهذين البيتين: تأبط شرا.
(٢) - الحمق: هو السفه وقلة الرأي، وإنما قلنا: أشد حمقًا من النعامة، لأن النعامة تترك بيضها يداس وتحضن بيض غيرها.
1 / 6
ولم يزل الأدب من بين علوم العرب في المقام الأعلى، والمحل الأسمى ثماره بالخير يانعة مادته وصياغته في جميع الصور التي تمثل نتاجه، وتزخر بها أمواجه، وتجوب بها مفاوزه وفجاجه، سواءً كان ذلك مما يتمثل في تصوير إحساسات وخلجات نفس تجاه عظمة الله جل وعلا، وما أودعه الكون بما فيه من جمال وأسرار هي آية لأولي العقول والأبصار، أم حيال آلام الإنسانية في هذه الحياة وآمالها الخيرة في هذا الاتجاه، أم أن ذلك كان تعبيرًا عن أفكار ترشد الفرد أو المجتمع أو الإنسانية بأسرها إلى مفاوز الخير والصلاح والنجاح والفلاح، أو تبعدها عن طرق الشر بأشكاله المختلفة، ويستوي أن يكون ذلك الإنتاج الأدبي قد جاء في شكل شعرٍ منظوم، أو مثل سائرٍ مفهوم، أو قصةٍ أو فلسفةٍ تكشف عن واقع، أو توصل إلى حقيقة، حتى وإن كان ذلك تصويرًا لنماذج من حالات الإنسان ومواقفه المختلفة، أو غير ذلك، فإننا قد حاولنا أن نودع شيئًا من ذلك فيما ضمّنَّاه في فصول كتابنا هذا، كل فصل حوى لونًا مما تقر به عين الناظر، ويسلو به خاطره، وتطيب حاله في سفره وحضره مما سجعت به بلابل أقلام العرب، وتداوله الثقات الأعلام من الباحثين الكرام، فأضاءت به الأيام من غير استقصاءٍ لكلامهم أو تطويلٍ في نقل أبحاثهم أو إيجاز يخل بكلامهم، وإن لم نشأ التوسع في ذلك فلكي لا يدرك القارئ الملل، إذ لو أردنا التوسع والاستقصاء لكان كل فصل في مادته التي يحوي مما يحتاج إلى كتاب، بل إلى كتب، وليس من المرغوب والمحبب للنفس أن يتعمق الإنسان فيما لا طائل تحته،
1 / 7
حتى لا يضلل القارئ في متاهات الفلسفة، ومعمعات الأفكار المجردة، ولا أن يستقصي بالتتبع والتحليل لكل ما يجد لما في ذلك من الإرهاق، والإضاعة للوقت، لأنه إذا أدرك الإنسان ما ينفع ويفيد فقد أفاد، ولذلك اكتفينا بما رأينا فيه البلاغ والوصول إلى ما نريده من المناصحة للإخوان بالشكل الذي يجذب القارئ ولا ينفره، وعلى نحو يرسم في ذهنه، ويسجل في وعيه وإدراكه فائدةً تكسبه خيرًا أو تدفع عنه شرًا في دنياه أو أخرته، ولنا أمل أن يجد كل ذلك طريقه إلى قلوب القراء لامتلاكه من البيان عنصره وأساسه، فعنصر المادة والصياغة في الأدب مقومان من مقوماته، وهما له كالروح والجسد للإنسان، وفي تلازمهما شرف الحياة، ولعل القارئ سيجدهما في كتابنا هذا برهانًا على ما قصدناه، وعونًا على ما أردناه، والله نسأل أن ينفع بذلك فهو ولي ذلك والقادر عليه.
1 / 8
الفصل الأول
العِلْم
1 / 9
العلم هو إدراك الشيء بحقيقته (١)
العلم نور يدرك به الإنسان حقيقة الأشياء ويخرج به من ظلمات الجهل والعمى، ويصل به إلى الدرجات العلا، امتنَّ الله به على آدم ﵇ حين علمه الأسماء، وأسجد له جميع الملائكة في الأرض والسماء، فما أعظمه من تكريم نكص عنه إبليس اللعين؛ فصار عدوًا للناس أجمعين، لا يتقي شره، ولا يسلم ضره؛ إلا من لجأ إلى خالقه وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأخذ من العلم ما ينفعه ويرفعه، ويمنع عنه شرور الشيطان ووسواسه، ويقيه مصرعه، وشكر لله نعمة السمع والبصر؛ فهما وسيلة إدراك العلم وتعلمه؛ قال جل وعلا: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (٢) . وقديمًا قيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع سواءً كان ذلك الشيء من المحسوسات أو المغيبات، وهو حياة القلوب، وغذاء النفوس، ونور العقول والأبصار، وهو مقدمٌ على العمل، فمن استجلب الخير في جميع أحواله بالعلم وجمله بالعمل فقد ظفر بمراده، وأخذ من كل شيء بأسبابه، واستعد للسفر بعدته وزاده.
_________
(١) - المفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني، ص٣٤٧، الناشر: دار المعرفة بيروت الطبعة الثالثة ١٤٢٢هـ٢٠٠١م.
(٢) - سورة النحل الآية (٧٨) .
1 / 11
ويرحم الله القائل:
العلم مجلبة للخير أجمعه ... ودافع عن بنيه الشرَّ والوصبا (١)
فالإنسان يشبه الحيوان المفترس فإذا تعلم عمل ونفع وعقل وأفاد واستفاد، وقد جاء في محكم التنزيل: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾ (٢) . ورحم الله احمد شوقي (٣) حيث يقول:
فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ ... سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابا
وَكانَ لِقَومِهِ نَفعًا وَفَخرًا ... وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذىً وَعابا
فَعَلِّم ما اِستَطَعتَ لَعَلَّ جيلًا ... سَيَأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابا (٤)
ويكفي في شرف العلم وفضله ما خاطب الله به محمدًا عبد الله ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ (٥) فرتب على العلم معرفته وتوحيده والعلم به، والمراد بالخطاب محمدًا ﵌ وأمته.
_________
(١) - هذا بيت من قصيدة للعلامة يحيى بن محمد الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في القرن الماضي، يحث فيها ولده على طلب العلم.
(٢) - سورة العنكبوت الآية (٤٣) .
(٣) - أحمد شوقي: (١٢٨٥-١٣٥١هـ/١٨٦٨-١٩٣٢م) أحمد بن علي بن أحمد شوقي. أشهر شعراء العصر الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة، كتب عن نفسه: (سمعت أبي يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب) نشأ في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق، وأرسله الخديوي توفيق سنة ١٨٨٧م إلى فرنسا، فتابع دراسة الحقوق في مونبلية، واطلع على الأدب الفرنسي وعاد سنة ١٨٩١م فعين رئيسًا للقلم الإفرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي. وندب سنة ١٨٩٦م لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجينيف. عالج أكثر فنون الشعر: مديحًا، وغزلًا، ورثاءً، ووصفًا، ثم ارتفع محلقًا فتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق والعالم الإسلامي وهو أول من جود القصص الشعري التمثيلي بالعربية وقد حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد. وأراد أن يجمع بين عنصري البيان: الشعر والنثر، فكتب نثرًا مسجوعًا على نمط المقامات فلم يلق نجاحًا فعاد إلى الشعر.
(٤) - انظر ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب العلامة الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ج١ص٦٠٨، الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشروالتوزيع القاهرة.
(٥) - سورة محمد الآية (١٩) .
1 / 12
ومما يزيد العلم رفعة قوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (١)، وقوله ﵌: (إن العلماء ورثة الأنبياء) (٢)، وفي حديث ابن مسعود: (أن من قرأ قول الحق ﵎: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٣)، فإنه يجاء به يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إليَّ عهدًا وأنا أحق من وفَّى ادخلوا عبدي الجنة) (٤) .
ومن أطرف ما قيل في المحاورة بين العلم والعقل قول بعض الشعراء:
علم العليم وعقل العاقل إختلفا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعقل قال: أنا أحرزت غايته ... والعلم قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحًا وقال له: ... بأينا الله في فرقانه اتصفا
فبان للعقل أن العلم سيِّده ... فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا
_________
(١) - سورة طه الآية (١١٤) .
(٢) - رواه الإمام الحافظ أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي، (٢٠٢ـ٢٧٥هـ) في سننه باب الحث على طلب العلم حديث (٣٦٤١)، الناشر: دار بن حزم، الطبعة الاولى ١٤١٩هـ، ١٩٩٨م، والإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (٢٠٩- ٢٧٩هـ)، في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (٢٦٨٦)، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (١٣٥٧هـ - ١٩٣٨م) . الناشر: المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ، والإمام الحافظ ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (٢٠٧- ٢٧٥هـ)، في سننه باب فضل العلماء حديث (٢٢٣)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ١٣٩٥هـ-١٩٧٥م، الناشر: دار احياء التراث العربي.
(٣) - سورة آل عمران الآية (١٨) .
(٤) - رواه الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، (٢٦٠-٣٦٠هـ) في المعجم الكبير تحقيق حمدي السلفي، ج١٠ص١٩٩ حديث (١٠٤٥٣)، الناشر دار إحياء التراث العربي.
1 / 13
والعلم زينٌ بين الأخلاء، وسلاح على الأعداء، وقد روى أبو طالب في أماليه (١) (حكاية) قال: حكى لنا أبو الحسن علي بن مهدي الطبراني أن الأصمعي روى عنه قال: رآني أعرابي فقال: يا أخ الحضر عليك بلزوم ما أنت فيه فإن العلم زين في المجالس، وحلية بين الاخوان، وصاحب في الغربة، ودليل على المروءة، ثم أنشأ يقول:
تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِمًا ... وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ
فَرُبَ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ ... صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ
وقديمًا قيل:
العلم زين يا فتى ... والخط طوق من ذهب
بقاء العلم
إذا كان المال ينفد ويفنى؛ فإن العلم ينفع ويبقى، ولهذا فإن العقلاء من الناس يسعون لاكتسابه، ويعملون على احتساب ذخره وثوابه، قال الشاعر:
العِلمُ كَنزٌ وَذُخرٌ لا نَفادَ لَهُ ... نِعمَ القَرينُ إِذا ما صاحَبَ صُحبا
قَد يَجمَعُ المَرءُ مالًا ثُمَّ يُسلَبُهُ ... عَمّا قَليلٍ فَيَلقى الذُلَّ وَالحَرَبا
وَجامِعُ العِلمِ مَغبوطٌ بِهِ أَبَدًا ... وَلا يُحاذِر مِنهُ الفَوتَ وَالسَلبا
يا جامِعَ العِلمِ نِعمَ الذخرُ َجمَعُهُ ... لا تَعدِلَنَّ بِهِ دُرًّا وَلا ذَهَبا (٢)
_________
(١) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب، تأليف القاضي العلامة احمد بن سعد المسوري ص١١٠، الطبعة الأولى منشورات مكتبة الحياة، بيروت لبنان.
(٢) - هذه الأبيات نسبت لأبي الأسود الدؤلي (١ ق. هـ-٦٩هـ/٦٠٥-٦٨٨م) ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني. تابعي، واضع علم النحو، كان معدودًا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان والحاضري الجواب. قيل أن الإمام علي بن أبي طالب ﵁ رسم له شيئًا من أصول النحو، فكتب فيه أبو الأسود، وفي صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير، سكن البصرة في خلافة عمر ﵁ وولي إمارتها في أيام علي ﵁ . ولم يزل في الإمارة إلا أن أستشهد الإمام علي ﵁، وكان قد شهد معه (صفين) ولما تم الأمر لمعاوية قصده فبالغ معاوية في إكرامه، وهو في أكثر الأقوال أول من نقط المصحف، مات بالبصرة. وتنسب هذه الأبيات أيضًا لصالح بن عبد القدوس والله أعلم.
1 / 14
وقال بعض الفصحاء: "العلم كنز عظيم لا يفنى، والعقل ثوب جديد لا يبلى" (١) .
وفي الأمثال السائرة: "العلم خير ما وعيت، والشر أخبث ما أوعيت، وعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر".
وقديمًا قيل: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا". (٢)
وروي أن الإمام علي بن أبي طالب (٣) كرم الله وجهه ورضي عنه قال: "بالعلم حياة القلوب من الخطايا، ونور الأبصار من العمى، وقوة الأبدان على البنيان، وبالعلم يطاع الله، وبالعلم يعرف الله ويوحّد، وبالعلم تفهم الأحكام، ويفصل به بين الحلال والحرام، يمنحه الله السعداء، ويحرم منه الأشقياء". (٤)
_________
(١) - الفرائد والقلائد تأليف أبي الحسين محمد بن الحسن الأهوازي، دراسة وتحقيق د. احسان ذنون الثامري، ص١٢، الناشر: دار ابن حزم بيروت الطبعة الأولى ١٤٢٧هـ٢٠٠٦م.
(٢) - ورد في نهج البلاغة ونسب المثل في التمثيل والمحاضرة وفي محاضرات الأدباء للنبي ﵌، وفي أدب الدنيا والدين لابن مسعود.
(٣) - أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن، (٢٣ق. هـ-٤٠هـ/٦٠٠-٦٦٠م)، ابن عم النبي ﵌ وأخوه وصهره، زوج فاطمة بنت رسول الله ﵌ سيدة نساء العالمين، وأول الناس إسلامًا، ولد بمكة وربي في حجر رسول الله ﵌ ولم يفارقه وشهد جميع المشاهد معه ما عدا غزوة تبوك فإن رسول الله ﵌ استخلفه على المدنية، وكان له بلاء عظيم وأثر حسن، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، وقد ولي الخلافة بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁ سنة (٣٥هـ)، وأقام عاصمة خلافته بالكوفة ومكث فيها إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم.
(٤) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب ص١١٠.
1 / 15
وقد جاء في الحديث أن النبي ﵌ قال: (إِذَا مَاتَ العَبدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) (١) وفي لفظ: (يَسْتَغفِرُ لَهُ) (٢) .
العلم عون الدين
العلم عون الفتى على أمور دينه ودنياه، وقد جاء في شعر أحمد زكي أبو شادي:
العلم عون الدين في نور الحجى ... أهلوه أطهار به أبرار (٣)
أما شبلي الملاط فهو يرى أن الدين مصباح الهدى وأن العلم ريحان الوجود حيث يقول:
الدين مصباح الهدى ومناره ... والعلم ريحان الوجود وغاره (٤)
_________
(١) - أخرجه البخاري: الإمام الحافظ المحدث شيخ الحفاظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه المولود يوم الجمعة ١٣ شوال سنة (١٩٤هـ-٨١٠م)، المتوفى سنة (٢٥٦هـ-٨٧٠م)، في الأدب المفرد الجامع للآداب النبوية حديث (٣٨) ص٣٤، الناشر: دار المعرفة بيروت لبنان الطبعة الثالثة ١٤٢٤هـ٢٠٠٣م، وقال السيوطي ضعيف، وأورده العجلوني في كشف الخفاء وقال رواه أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الادب المفرد عن ابي هريرة، وزاد بعضهم على ذلك أشياء وردت في احاديث، ونظم الجميع الجلال السيوطي بقوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من خصال غير عشر
علومٌ بثها ودعا نجلٍ ... وغرس النخل والصدقات تجري
وراثةُ مصحف ٍورباط ثغر ... وحفر البئر أو اجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرانٍ كريم ... فخذها من احاديث بحصر
(٢) - كتاب العلوم الذي جمعه الامام محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي المسمى ابو جعفر احد الفقهاء المعمرين، قيل انه تعمر ١٥٠سنة، وقد تضمن كتاب العلوم هذا فقهًا كثيرًا ورواية واسعة وغلب عليه اسم امالي احمد بن عيسى، والامام احمد بن عيسى هو الامام العالم الفاضل المعروف بفقيه آل محمد له فقه كثير ورواية واسعة تضمن جلها كتاب العلوم، توفي سنة٢٤٧هـ، ج٤ص٣٥٨، طبعة مكتبة المؤيد الطائف الطبعة الأولى.
(٣) - ديوان الشفق الباكي، ص٢٣٣، الناشر المطبعة السلفية مصر.
(٤) - ديوان شبلي الملاط، ص٨٨، الناشر: دار الطباعة والنشر بيروت.
1 / 16
ومعلوم أن الدين لا يؤتى إلا بالعلم، ولهذا أخبر الله تعالى عن صحابة محمد ﵌ بأنهم الذين أوتوا العلم فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (١) .
العلم يرفع الله به الوضيع
إن صلاح الإنسان وفلاحه، وفوزه ونجاحه واجتنابه للشبهات، وابتعاده عن المحرمات، وارتفاعه إلى أعلى الدرجات إنما يكون بالعلم، وإنما وصل من وصل إلى الفضاء وصنع الدبابات والطائرات والصواريخ العابرة للقارات بالعلم قال الشاعر:
العِلمُ يَنهَضُ بِالخَسيسِ إِلى العُلا ... وَالجَهلُ يَقعُدُ بِالفَتى المَنسوبِ
وَإِذا الفَتى نالَ العُلومِ بِفَهمِهِ ... وَأُعيَنَ بِالتَشذيبِ وَالتَهذيبِ
جَرَتِ الأُمورُ لَهُ فَبَرَّزَ سابِقًا ... في كُلِّ مَحضَرِ مَشهَدٍ وَمَغيبِ (٢)
فالعلم عنوان المكارم والأخلاق، المرشد إلى كمال قدرة البديع الخلاق: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ
_________
(١) - سورة الروم الآية (٥٦) .
(٢) - ديوان دعبل الخزاعي ص٥٢. دعبل الخزاعي (١٤٨ - ٢٤٦ هـ / ٧٦٥ - ٨٦٠ م) دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل الخزاعي، أبو علي. الشاعر المشهور، قال ابن حجر: كان جده رزين مولى عبد الله بن خلف الخزاعي والده طلحة الطلحات ويقال إنه من ولد بديل بن ورقاء الصحابي، وانظر لسان الميزان ج٢ص٤٣٠، وأصل كلمة دعبل: لقب وهو بكسر أوله وثالثه وسكون المهملة بينهما، وآخره لام وهو اسم الناقة الشارف ويقال أيضا للشيء القديم، وقال ابن حجر: أصله من الكوفة، ويقال انه من قرقيسيا وأقام ببغداد. في شعره جودة، كان صديق البحتري وصنّف كتابًا في طبقات الشعراء وكتاب الواحد في مثالب العرب ومناقبها، وله ديوان شعر مطبوع، طال عمره فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك، وكان طويلًا ضخمًا. توفي ببلدة تدعا الطيب بين واسط وخوزستان.
1 / 17
وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (١) .
العلم عنوان العز
العلم عنوان العز، ومعين البر، وباب العلا، ونور الحق، والخل الوافي، والصاحب الصديق الموصل إلى الجنة، ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يَنفَعُني ... قَلبي وِعاءٌ لَهُ لا بَطنُ صُندوقِ
إِن كُنتُ في البَيتِ كانَ العِلمُ فيهِ مَعي ... أَو كُنتُ في السوقِ كانَ العِلمُ في السوقِ (٢)
وقال آخر:
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما ... تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ
والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر (٣)
_________
(١) - سورة الرعد الآيات (١٩-٢٢) .
(٢) - ديوان الإمام الشافعي، طبعة مؤسسة الزعبي ودار الجيل، والشافعي (١٥٠-٢٠٤هـ/٧٦٧-٨١٩ م) هو الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة ١٩٩ فتوفي بها وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراآت، وقال الإمام ابن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منّة. كان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة، برع في ذلك أولًا كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب ثم أقبل على الفقه والحديث وأفتى وهو ابن عشرين سنة، وانظر ديوان الإمام الشافعي جمع وتعليق الدكتور احمد احمد شتيوي، ص١٢٨، الناشر: دار الغد الجديدة المنصورة مصر الطبعة الأولى ١٤٢٤هـ٢٠٠٣م.
(٣) - العقد الفريد ج٢ص١٨٣.
1 / 18
وإنما يخشى الله ويبتعد عن الكبرياء والرياء وظلم الأبرياء من عباد الله العلماء؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ والمراد بالعلماء هنا علماء الشريعة والطبيعة وغير ذلك؛ لأنه جل شأنه ذكر العلماء بعد ذكر إنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات من الأرض، واختلاف ألوان الجبال والأحجار والناس والدواب والأنعام؛ فتأمل قول الحق ﵎: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (١)، فهؤلاء العلماء هم الذين ينبغي أن ينتظموا في سلك الإيمان والإيقان، فهم الذين يعلمون الخالق العظيم وقدرته، وشدة بطشه ونقمته، وقهره وعذابه وحلمه، وأنه على كل شيءٍ قدير، فهم يخشونه حق خشيته، ويعرفونه حق معرفته.
والعلم في ذاته غاية الغايات، ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك، ويدلك على ما ينجيك، ويطلق عقلك من عقال الأوهام، ويبعدك عن مشابهة الضالة من الأنعام، ويقاوم التعصب والتقليد والتقزم وحب الانتقام، ويجنبك الوقوع في المعاصي والآثام، ويوصلك إلى المعرفة الخالصة، والحق المجرد، فهو وسيلة سامية لغاية بالغة السمو.
_________
(١) - سورة فاطر الآيتان (٢٧-٢٨) .
1 / 19
فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجًا سليمًا محكمًا، وبغير العلم لا تستطيع أن تحمي نفسك، أو تنقذها من التعالي على الناس والإساءة إليهم، أو تدفع عنها إيذاء المؤذين وعدوان المعتدين، فالعلم إذًا يجمع بين الحق والقوة، والسعادة والسيادة، والعظمة والسلطان.
فبالعلم استطاع الإنسان -في دفاعه عن نفسه- أن يستعمل اللسان والسنان، وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء والبحار والكهرباء حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في إصبعه خاتم سليمان، ولهذا أوجب الله على الناس سؤال العلماء فقال سبحانه: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (١)، فمن كمل دينه وتم عقله فقد تحلى بالمكارم، واتصف بالمحامد، وكان في صدره على ذلك أكبر شاهد، قال جل شأنه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (٢) .
أشرف العلوم
إن أشرف العلوم هي العلوم الشرعية المتعلقة بمعرفة الحق ﷾ بأسمائه وصفاته وأفعاله وعظيم حقه، وكذلك ما تعلق من العلوم بمعرفة الحلال والحرام والأوامر والنواهي، وما أتى من العلم لبيان شئون المعاد في يوم الحساب، يوم البعث والجزاء والجنة والنار، ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بعلم الأبدان كالصحة والرياضة وبشئون الحياة وعمارتها وإدارتها. وقد جعل الإمام ابن القيم مبادئ العلم الشرعي وأقسامه ثلاثة، وذلك حيث يقول:
_________
(١) - سورة النحل الآية (٤٣) .
(٢) - سورة العنكبوت الآية (٤٩) .
1 / 20
والعلم أقسام ثلاثٌ ما لها ... من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمنِ
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاءه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالقرآنِ
والله ما قال أمرء متحذلق ... بسواهما إلا من الهذيانِ (١)
وقال أبو حاتم ﵀: يجب على العاقل أن لا يطلب من العلم إلا أفضله لأن الازدياد من العلم آثر عند العاقل من الذكر بالعلم، والعلم زين في الرخاء، ومنجاة في الشدة، ومن تعلم ازداد. (٢)
مبادئ العلوم
إن الطالب لأي علم ينبغي له معرفة حدّه -أي أصله- أو الوصف المحيط الكاشف عن حقيقته وماهيته، ومعرفة موضوعه، وثمرته -أي الفائدة المرجو الحصول عليها منه-، ونسبته إلى أي العلوم ومعرفة واضعه، وهل هو فرض عين أو فرض كفاية؟ وقد جاء في كلام بعض الشعراء الإشارة إلى ذلك:
إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبه والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
_________
(١) - انظر: شرح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم، تحقيق الدكتور خليل هراس ج٢ص٢٤٠، والموسوعة الشعرية للعلامة والأديب والواعظ الخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر، ص٢٠١. الناشر: دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى ١٤٢٧هـ٢٠٠٦م.
(٢) - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة ٣٥٤هـ، تهذيب ابراهيم بن عبد الله الحازمي، الطبعة الثانية ١٤١٨هـ، ص٣٦.
1 / 21