فماذا يعني هذا؟ يعني أن الله تفضل وتكرم بأن صاغ هذه المعاني العلية الحكيمة وقرن الكلمات اقترانا مبينا ليعقله الناس في صياغة لفظية عربية.ولقد جاء في الآية الأولى بكلمة أنزلناه قرآنا عربيا وفي الثانية بكلمة إنا جعلناه قرآنا عربيا فلماذا اختار (أنزلناه) في يوسف، و(جعلناه) في الزخرف.
إن جعل في اللغة تعني حول الشيء إلى شيء آخر، وعليه: فإن جعل هنا تعني أن النظام القائم عليه خلق الله والميزان الذي وضعه لكل شيء وحي في الخلق قد حوله الله إلى كلمات عربية تفصح وتبين لما يريده الله للإنسان من نظام وعلو وحكمة يتفق مع نظام الكون الذي لا يختل وينسجم مع ميزان الخلق الذي لا يطغى ولهذا قال الله بعد ذلك في سورة الزخرف : (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف:4].
إنه بدأ السورتين بكلمة كتاب مبين، ففي يوسف (الر * تلك آيات الكتاب المبين)، وفي الزخرف (حم * والكتاب المبين) والكتاب هو النظام المبين الواضح لمن تأمل الخلق ولكن الله حوله إلى كلمات مفصحة وألفاظ مبينة عنه فجعله قرآنا عربيا.
لعلنا نفصل حكمة هذا النظام والميزان ونفهم عظمة هذا الإتقان فنسير عليه ونلتزم به وننسجم معه وينضم في موكبه العلي الحكيم المتزن المستقيم إذن فالقرآن كلمات وألفاظ عربية مبينة اختارها الله تفضلا لتكون مبينة عما أراده وليعقلوا ما يريده الله منهم وهذا هو السراط المستقيم إلى إقامة الميزان والقسطاس في حياة الناس في التعامل بين الكون والناس وبين الناس والناس، وعلى هذا الأساس فإن كلمة قرآن يطلق على مجمل الكتاب الذي بين أيدينا كما تطلق الكلمة على بعض منه، يقول الله:
(وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) الى آخر (الآية: 61من سورة يونس) فالضمير في منه يعود إلى مجمل القرآن وكلمة قرآن بعده تعني ما يتلوه من القرآن فقد أطلقت الكلمة على البعض كما أن قوله تعالى : (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) تفيد بأن كلمة القرآن تعني بعضه فإن ما يوحى إليه هو بعضه لكنه سمى البعض قرآنا. وكذلك قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالإخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45].
فإن كلمة القرآن هنا تعني بعض القرآن فهو لا يتلوه في كل حين كاملا، وهذا يؤكد لنا أن المراد بالقرآن هي الألفاظ والكلمات المقترن بعضها ببعض وهنا قد يبدر سؤال وهو إذا كانت كلمة القرآن تعني الألفاظ والكلمات في هذا الكتاب فما هي المفردة التي تعني المعاني التي في القرآن؟.
الجواب هو أن الكلمة التي تعني ذلك هي كلمة (ذكر) أو (الذكر) فإذا وردت كلمة الذكر أو ذكر فهي تعني المعاني التي تحتويها هذه الألفاظ وتعني العلم الذي تفصح عنه تلك الكلمات.
ولهذا جاء في سورة (يس) (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [يس:69].
فقد جمع بين كلمتي ذكر وقرآن وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لم يعلم رسوله إلا علما لكم أيها الناس ولكن هذا العلم جاء مصاغا في كلمات مبينة ليتضح لكم العلم المنزل من ربكم فهذه الكلمات تسمى قرآنا ولهذا وصف القرآن في الآية بأنه مبين. فقال (وقرآن مبين) قد يسأل سائل فيقول: ألا تعلم بأن السورة بدأت بقوله تعالى: (يس * والقرآن الحكيم)
وهذا يعني أن القرآن هو المحتوي للحكمة فكيف تقول أنه اسم للألفاظ؟ لكن الجواب سهل فالألفاظ هي التي تدل على المعنى وإذا دلت فقد احتوت الحكمة فهو إطلاق مجازي أطلق المحل وأراد الحال. فالكلمات محل للحكمة لكن الحكمة ليست هي الكلمات بل الكلمات تفصح عنها وهذا هو الذي قصدناه بل قصده الله، بأن جعل حكمته وعلمه وكتابه في لفظ عربي يسمى قرآنا ليعقل الناس هذا العلم والحكمة وليعرفوا هذا النظام ويعلموه.
Unknown page