Hulal Sundusiyya
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Genres
وما ضاعت الدنيا علينا وحسنها
ولكن عن أغصانه رحل الورد
هذا، وكان الفراغ من كتابة هذا التاريخ، ليلة السبت الواقع في السادس والعشرين من المحرم سنة خمس عشرة وثلاثمائة بعد الألف » ا.ه.
فأنت ترى أن الكتاب الأول قد مضى عليه أربعون سنة، وهي مدة تسمى عمرا، ولقد سمعت من كثير من أعيان الأمة العربية أنهم قرءوا كتابي ذاك في وقته وتتبعوا حوادث سقوط مملكة غرناطة وجلاء المسلمين الأخير عن الأندلس باهتمام عظيم، ودمع سجيم. وقال لي بعضهم إنهم قرءوه مرتين، وإن منهم من كان يبكي، ومنهم من كان يتلهب وجدا، ومنهم من كانت مهجته تذوب حسرة عند قراءته. وقد تضاعفت الآن هذه الذكرى، وبعد مضي هذه السنين الأربعين ازداد الولوع بتاريخ الأندلس، بازدياد الناشئة المقبلة على العلم، وبنمو الشعور العربي في جميع طبقات هذا الشعب، سواء منهم من في الشرق ومن في الغرب، ولا يزال هذا الشعور في نمو وما برحت هذه الهمم في سمو؛ ولا عجب فإن قوة الأمة هي على قدر ما مجت من مشارب العلم، وارتقت من درجات الثقافة الجم، والأمة العربية في هذه المدة قد اجتازت عقبات جيادا، وقطعت أشواطا طوالا، وسارت السير النجاء، وشمرت التشمير الباعث على الرجاء؛ فأخذت تخفي سؤال التاريخ عن ماضي أحوالها؛ كما صرفت معظم بالها، في توطيد استقبالها.
ولهذا رأيت أنه من أمثل ما يمكنني أن أخدم به هذه الأمة، قبل انصرافي من هذه الدنيا، هو أن أهدي ناشئتها عن هذه القطعة النفيسة من تاريخها، كتابا شافيا للغليل، جامعا لأقطار هذا البحث، ناظما بين القديم والحادث، مقابلا بين ما قاله العرب وما قاله الأفرنج.
وكنت قدمت بين يدي هذا التأليف رحلة قمت بها من ستة سنوات في أكثر أنحاء أسبانية، لأقرن الرواية بالرؤية، وأجعل القدم ردءا للقلم، ونويت أن أجعل الرحلة أساس الكلام، وواسطة النظام، وأن أضم التاريخ إليها، وأفرع التخطيط عليها.
ومن أجل ذلك كنت نويت أن أسمي هذا الكتاب «بالحلة السندسية في الرحلة الأندلسية» وأشرت إلى هذا الاسم في كتابي المنشور من سنتين، الموسوم «بغزوات العرب في جنوبي فرنسا وشمالي إيطالية وفي سويسرة وجزائر البحر المتوسط» الذي عددته جزءا من كتابي الأندلسي. إلا أني رأيت فيما بعد أن ما نحن بسبيله قد اتسع جدا عن الرحلة، وأن الاسم قد ابتعد عن المسمى، وأن الكتاب قد يقع في عدة مجلدات كبار، وقد يكون أوسع كتاب عربي كتب عن الأندلس؛ هذا إذا فسح الله في الأجل، ووفق للعمل، فعدلت إلى اسم آخر يشعر ما أنا متوخيه من الإحاطة بقدر الطاقة، وهو «الحلل السندسية في الأخبار والاثار الأندلسية» وآليت لأبلغن فيه جهيداي، وأعقل به ما شرد عن سواي. ولم أقصد في ذلك تنبلا على الخلق، ولا تزيدا فيما ليس بحق، وإنما أردت النصح ما استطعت، والتمحيص ما قدرت. والعلم أمانة، من حملها فقد حمل إدا وتجشم بهرا. والتاريخ من عالجه فقد رقى حزنا، وركب خشنا. فإن كنت قرطست أو قاربت، فقد بلغت من عملي المراد أو بعض المراد؛ وإن كان سهمي قد طاش، فكم فتى حام وما ورد، وغنى وما أطرب، ولكن شفع له الاجتهاد.
ولقد سهرت في هذا التأليف ليالي متمطيات بأصلابها، تحقيقا عن لفظ، أو تنقيبا عن اسم، أو ضبطا لرواية مختلف فيها، أو لعدد أقل فيه الواحد وأكثر الآخر، أو تعيينا ليوم واقعة من أي شهر أو من أي سنة، أو مقابلة بين ما قاله عربي وما قاله أوربي عن الحادثة الواحدة، أو تعريبا لعلم أسبانيولي على الوجه الذي كان يقوله العرب، أو تبيينا لعلم عربي كيف كان يتلفظ به الأسبانيول، وما أشبه ذلك مما أذبت له سواد العيون، وأحييت كثيرا من الليالي الجون. ولا أزعم مع ذلك أني بلغت به الأمد الذي ينجيه من تعنت الحساد، أو يعليه عن تصفح النقاد، ولكني بلغت فيه الجهد، وأبليت العذر، ولم أبق في القوس منزع ظفر.
ومما لا بد لي من الإشارة إليه في هذه المقدمة أني اخترت النقل عن المؤلفين ما استطعت، لتكون هذه الموسوعة في هذا الموضوع معرضا للآراء، ومجمعا للأفكار التي يطلع منها القارئ على الصور المختلفة التي كانت عن مملكة العرب في الأندلس، في أذهان الذين عاشوا في ذلك العصر وكتبوا عنه، أو في أذهان من كانوا على مقربة منه. ولم أشأ أن أصنع ما يصنعه الكثيرون من أخذ الشيء عن الآخرين وإبرازه للناس كأنه من ورى زنادهم، وفيض قرائحهم؛ فليس هذا مذهبي في الكتابة، ولا أراه الطريقة المثلى في التأليف؛ وإنما ينقل الإنسان ما يستطيع الاتصال به من آراء الناس ورواياتهم، ثم يشفعها برأيه الخاص، وبالرواية التي يكون قد جزم هو بها، أو رجحها على غيرها بحسب اجتهاده؛ وله أن يستدل على صحة رأيه أو ثبوت روايته بما وجد من قرائن، وآنس من شواهد، وللقارئ بعد ذلك أن يذهب في الترجيح والتجريح كيفما شاء بحسب ما يؤديه إليه نظره.
ولهذا نقلت ما قدرت أن أعثر عليه من الفصول المتعلقة بالأندلس، عن المسعودي، وابن حوقل، والمقدسي، والشريف الإدريسي، وابن الأثير، وياقوت الحموي، وابن عذارى، وابن بشكوال، وابن عميرة، وابن الأبار، وابن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، وصاعد الطليطلي، والهمذاني، والقلقشندي، والمقري صاحب نفح الطيب، وغيرهم من مؤلفي العرب؛ ونقلت أيضا عن دوزي المستشرق الهولندي، وعن رينو المستشرق الأفرنسي، وعن أيزيدور الباجي، وغيره من مؤلفي القرون الوسطى، وعن أصحاب الأنسيكلوبيدية الإسلامية، وعن لاوي بروفنسال من المعاصرين، وعن المسيو جوسه
Unknown page