وقيل: بل عرض له بجارية أن يهبها له، ويدع التغزل بعزة، فأبى من ذلك، ثم ندم على ما فعل، ثم قال شعره الذي يقول فيه:
وإنّ ابنَ لَيْلَى فَاهَ لي بمقالةٍ ... ولو سِرْت فيها كنتُ ممن يَنيِلُها
فلما تَدَبَّرْتُ الأمورَ وقد بَدَتْ ... نصيحتُهُ ودَّعْتُها ووبيلَهَا
عجبتُ لِترْكي خُطَّة الرّشد بعدما ... بَدَا لِي مِنْ عبدِ الْعَزيز قَبوُلها
وإنّي صَعْبَات الأمورِ أَرُوضها ... وقد أمْكنَنَيِ يومَ ذَاكَ ذلوُلها
حلفتُ بربّ الراقصَات إلى مِنَي ... تغُول البلادَ نَصُّها وذَمِيلُها
لئن عَادِلِي عبدُ العزيز بمثلهاوأمْكَنَنِي مِنْها إذًا لا أُقيلُها
فهل أنت إن راجعتكَ القولَ مرَّةًبأحسن منها عائد ومُنِيلُها؟!
وأنشد أبو القاسم في باب مسائل أن الخفيفة الناصبة للفعل:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنَّوا بألْفَيْ مدَجَّج ... سرَاتُهم بالْفَارِسيّ الْمسَرَّد
هذا البيتك لدريد بن الصمة.
ودريد: اسم منقول، يمكن أن يكون من الدرد - الذي هو سقوط الأسنان، أو تصغير: الأدرد، على جهة الترخيم.
والصمة: اسم منقول أيضًا من الصمة - التي يراد بها السد - والصمة أيضًا: الشجاع.
وهذا البيت من شعر رثى به أخاه: عبد الله، وكان غزا غطفان فغنم وانصرف، فلما وصل إلى منقطع اللوى، نزل، فقال له دريد: إن هذا ليس بموضع نزول، فإن أصحاب هذه الغنيمة، لا يتركون إتيانك وطلبك! فقال له عبد الله، لا ابرح حتى أنتقع، وأرتصع واجيل السهام! فلم يقدر دريد على عصيانه، وأمر ربيئة، فصعد على شرف الأرض، وقال له: انظر، وأخبرنا بما ترى.
فمكث ساعة، وقال: أرى خيلا، عليها رجال كأنهم الصبيان، رماحهم بين آذان خيولهم! فقال عبد الله: هذه فزارة، ولا بأس! ثم قال الربيئة: أرى قوما كأن ثيابهم غمست في الجأب.
فقال عبد الله: هذه أشجع، وليست بشيء! والجأب: المغرة.
ثم قال الربيئة: أرى قوما سودا يقلقلون الأرض، دوابهم سوادهم، ويجرون الأرض بأقدامهم ورماحهم! فقال عبد الله: فهذه عبس، قد حاكم الموت الزؤام، فاركبوا! فتلاحق القوم، واقتتلوا قتالا شديدا، وعمد ذؤاب بن أسماء، إلى عبد الله فطعنه، فسقط إلى الأرض، واستغاث بأخيه دريد فاقبل دريد، فدافع الخيل عنه ساعةً وكشفها، وطعن دريد وصرع، وقتل عبد الله، وانهزم أصحابه، واستعيدت الغنيمة، فقال دريد - ويسمى هذا اليوم يوم اللوى -:
وقلتُ لِعارِضٍ وأصحابِ عَارضٍ ... وَرَهط بني السَّودَاء والقوم شُهَّدَى
وقلت لهم: إنّ الأحاليف كُلُّها ... قُعُودٌ على مَاءِ الْبُلَيْل فَتَهْمِدِ
وقلت لهم: ظُنُّوا بألفَيْ مدَّجج ... سَراتُهم بالفارسيّ المْسرَّدِ
فلما عصوني كنت منهم وقد أرَى ... غِوايتَهم، أو أنَّنِي غيرُ مهتدِي!
أمرتهم أمْرِي بمنْعَرجَ اللِّوىَ ... فلمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْد إلا ضُحى الغد
وهل أنَا إلاَّ من غَويَّة أن غَوتْ ... غَويْتُ وإن تَرشُد غويّة أرْشُدِ
والمدجج: الكامل السلاح، يقال بكسر الجيم وفتحها، وفرق بينهما بعض اللغويين، فقال.
المدجج - بالكسر - الفارس، والمدجج - بالفتح - الفرس؛ لأنهم كانوا يدرعون الخيل.
وأراد ب الفارسي: درعًا يصنع بفارس، والمسرد: المنسوج بالحلق وسراتهم: أشرافهم، واحدهم: سري، وكأنه جمع سارٍ، لأنه يقال: سرى الرجل يسري، ويسرو؛ إذا شرف، واسم الفاعل من سرى: سارٍ، كما يقال: غزا، فهو غازٍ، واسم الفاعل من سرو يسرو: سرى، كما يقال: ظرف فهو ظريف، قال الشاعر:
تَلْقَى السَّرِيَّ من الرّجال إذا سَرَا ... وابْنُ السَّريِّ إذا سَرَى أسَرَاهما
وكان القياس أن يقال: سراتهم - بضم السين - كما يقال: قضاة، وغزاة، ولا يجمع فاعل: على فعلة مفتوحة الفاء، إلا ما كان صحيحًا نحو: كافر، وكفرة، وما كان معتل العين، نحو: خائن، وخونة، وحائك وحوكة، وحائز وحوزة، ولكنهم أجروا معتل اللام مجرى معتل العين، لا تفاقهما في الإعلال.
وقد حكي: سراة - بضم السين:
1 / 48