كم من أخ لِي كعِدْل الموت مُهْلكُهُ ... أَوْدَى، فكانَ نَصِيبِي بَعْدهُ الذِّكرُ
يا جفنة كنضيح الحوض قد كُفِئَتْ ... ببطْن صِفِّين يعلو فوقها الْعَفْرُ
يقول: من الحواث ما قد لقيه الإنسان، ومنها ما ينتظره، ولا يشك في أنه يلقاه، إذ كان الإنسان مخلوقًا للفناء عالمًا بأنه لا سبيل له إلا البقاء! وعدل الشيء - بكسر العين: نظيره من جنسه، تقول: عندي عدل ثوبك، أي: ثوب مثله، وعندي عدله - بفتح العين - أي: قيمته ويجوز مهلكه بفتح الميم - فيكون مصدرًا بمعنى الإهلاك ويجوز مهلكه بفتح الميم - فيكون مصدرًا بمعنى الهلاك.
ومفعل إذا كان الفعل ثلاثيًا، فميمه مفتوحة، وإذا كان من فعل قد تجاوز الثلاثة، فميمه مضمومة.
وإذا فتحت الميم من مهلك، فلك أن تكسر اللام، ولك أن تفتحها، ويقرأ: " ما شهدنا مهلك أهله ".
والمضيح: الحوض الكبير، وكفئت قلبت والعفر: الغبار، ويقال: كفئت جفنة فلان، وصفرت وطابه، إذا مات، وذلك أن السيد: كان إذا مات كسرت جفنته، التي كان يطعم فيها، وتركت وطابه فارغة، لا يمحض فيها لبن، ولذلك قال امرؤ القيس:
وأَفْلتَهُنَّ عِلْباءٌ جريضًا ... ولو أدركْتُه صَفِراْ لوِطَابُ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
قِفِي يا أَسْمُ هَلْ تَعْرِفينَه ... أهَذَا المغَيْرِيّ الَّذي كَانَ يذْكَرُ؟؟
هذا البيت: لعمر بن أبي ربيعة، وقد ذكرنا اسمه وكنيته.
وهذا البيت: من قصيدته المذهبة، وهي ثمانون بيتًا، وقبله:
عَلَى أنَّها قالتْ غَداةَ لَقِتُهاَ ... بمدْفَع أكْنَانٍ أهَذا المُشَهَّرُ؟!
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب.
يا مرْوُ إنَّ مَطِيَّتي مَخْبُوسَةٌ ... تَرْجُو الحِبَاءَ، وَرَبُّها لَمْ يَيْأَسِ
هذا البيت: للفرزدق، وقد ذكرنا اسمه وكنيته فيما تقدم.
وكان سبب قوله هذا الشعر: أنه كان مقيما بالمدينة، وكان أزنى الناس، فقال شعرًا، يقول فيه:
هُما دَلَّيَاني مِنْ ثمانين قامةً ... كما انْفضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيش كاَسِرُه
فلما اسْتَوَتْ رِجْلاَي في الأرض قَالتَا: ... أحَيٌّ فَيُرْجَى، أَمْ قتيل نُحاذِرُه؟
فقلت ارفعا الأَسْبابَ لا يَشْعُروا بِنَا ... وأقبلتُ في أَعجاز ليل أُبادِرُه
أحاذر بَوَّابَيْن قد وُكلاَ بِنَا ... وأَسْود مِنْ سَاجٍ تَبِصُّ مسامِرُه
فعيره جرير بذلك في شعر له طويل فقال:
لَدْ ولدتْ أمُّ الفرزدق فاجِرًا ... فجاءت بَوَزْوَازٍ قَصير القوائمِ
يُوَصِّل حَبْلَيْه إذا جَنّ ليلهُ ... لَيَرْقى إلى جَارَاتِه بالسَّلاَلِمِ
تدلَّيْت تَزْني من ثمانين قَامَةً ... وقَصِّرتَ عَنْ بَاعِ العلاَ والمكارم
هو الرّجس يا أهل المدينة فاحذروا ... مداخل رجْس بالخبيثات عَالم
لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ... طَهورا لما بين المصَّلى وواقِم
فاجتمع أشراف أهل المدينة إلى مروان بن الحكم، وكان واليها، فقالوا له: ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج النبي ﷺ، وقد أوجب على نفسه الحد!! فقال مروان: لست أحده أنا، ولكن أكتب إلى من يحده، فأمره مروان بالخروج من المدينة، وأجله ثلاثة أيام، وفي ذلك يقول الفرزدق:
توعَّدِني واجَّلَني ثَلاثًا ... كما وُعِدَتْ بمهلكها ثمود
ثم كتب له كتابا إلى عامله، فأمره فيه بأن يحده، ويسجنه، وأوهمه أنه كتب له بجائزة!.
ثم ندم مروان على ما فعل!، فوجه إليه رسولا، وقال: إني قلت شعرا، فاسمعه، فأنشده:
قلْ للفرزدقِ والسَّفاهَةِ كاسْها ... إنْ كنتَ تارِكَ ما أمرتُك فاجلس
ودعْ المدينَ إنِّها مذمومةٌ ... واقصِدْ لمكَّةَ أو لِبَيْت المقْدِسِ
وإن اجتنبْت مِنَ الأمورِ عظيمةً ... فخذَنْ لنفسِكَ بالرباع الأكيس!
ففطن الفرزدق لما أراد، فرمى الصحيفة. وقال:
يا مَرْوُ إنّ مطيتي محبوسة ... ترجو الحِبَاءَ ورَبُّها لم يَيْأَسِ
1 / 42