تَكَنَّفَنِي الْوُشاةُ فأزْعَجُونِي ... فيا للَنَّاس لِلْوَاشِي المْطَاعِ
هذا البيت: لقيس بن ذريح، وقد ذكرنا اسمه فيما تقدم. وكان تزرج لبني وأبوه كاره لذلك، فأمره بتطليقها، فأبى، وأقسم أبوه ألا يكنه سقف حتى يطلقها، ثم استلقى في الرمضاء - وهي الرملة التي قد حميت بحر الشمس - وقال: والله لا برحت من هذا الموضع حتى تطلقها أو أموت!.
فعنفه قومه: لحقوق أبيه، وقالوا: إن مات أبوك على هذه الحال كان ذلك سبة عليك، فأرضه بطلاقها، وسترغب إليه بعد ذلك في أن تراجعها - فطلقها كارهًا!.
ثم زال عقله، وندم أبوه على ما فعل، فأبى والد لبنى، وسأله أن يراجعها، فأبى وأنكحها غيره! فقال في ذلك:
أيا كَبِدَا وعاوَدَنِي رُدَاعِي ... وكانَ فراقُ لُبْنَى كالجُداع
تكَنَّفني الْوشاةُ فأزعجوني ... فيا لَلّه لِلْواشي المطاع
فأصْبحتُ الغداةَ ألُومُ نَفْسِ ... عَلَى شَيْء وَلَيْسَ بمستطاع
كمغْبُونٍ يَعُضُّ على يَدَيْه ... تَبَيَّن غَبْنَه بَعْد البِياعِ
بدار مَضِيعةٍ تركتُكَ لُبْنَى ... كَذَاك الجُيْن يَهْدي للمضَاعِ
وقد عشنا بلذِّ الْعَيْشَ حِينًا ... لو أنَّ الدّهر للإنسان راعي
ولكن الجميع إلى افتراقٍ ... وأسباب الحتُوف لها دواعي
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
يَبْكيكَ ناءِ بَعِيدُ الدَّارِ مُغْتَرِبٌ ... يا لَلْكُهُولِ ولِلشُّبَابِ لِلْعَجَبِ
هذا البيت: لا أعلم قائله.
والنائي: البعيد، وأراد هاهنا: بعده منه في النسب؛ لأنه ذكر بعد مكانه من مكانه!.
ووصف ناءٍ: وهو نكرة: ببعيد الدار ال مضاف إلى معرفة، لأن إضافته في نية الانفصال، لأن الدار فاعلة في المعنى، وإن كانت مخفوضة اللفظ، لأن التقدير: بعيد داره: يقول: يبكي عليك الغريب، ويسر لموتك القريب، وذلك أحد الأعاجيب، كما قال الآخر:
يَبكي الْغَريبُ عليْه ليْس يعرفُهُ ... وذُو قرابته في الحَيِّ مسْرورُ!
وقد استغاث بهم، كما استغاث بالكهول.
وكسر لام الشبان، لأن أصل هذه اللام الكسر، وإنما فتحت فرقًا بين المستغاث به، والمستغاث من أجله، فلما عطفت أحد الاسمين على الآخر علم أنه داخل في حكمه، لأن من خاصة الواو أن تشرك بين المعطوف، والمعطوف عليه لفظًا ومعنى، فأغنى ذلك عن فتحها، فجاء بها على الأصل، وهذا ليس في كل موضع، وإنما تكون فيما لم يكن فيه حرف النداء مكررًا، كقولك: يا لزيد ولعمر وللعجب، فإذا كررت حرف النداء قلت: يا لزيد ويا لعمرو - بفتحها معًا، لن الكلام صير جملتين، قال الشاعر في التكرير:
يا لَقومي مَنْ لِلْعُلَى والمسَاعِي ... يا لَقَومي مَنْ للنَّدَى والسَّمَاحِ
يا لَعَطَّافِنَا ويا لَرياح ... ولأبي الحشْرَجِ الفتى النَّفاح
ويروى: وأبي الحشرج الفتى النفاح: وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
حارِ بنَ كَعْب أَلاَ أحْلام نزجُركم ... عَنَّا وَأَنْتُم مِنَ الجُوفِ الجماخيرِ؟!
هذا البيت: لحسان بن ثابت، وقد ذكرت اسمه فيما تقدم.
وكان سبب قوله هذا الشعر: أن النجاشي هجا بني النجار من الأنصار، بشعر يقول فيه:
لَسْتُمْ بني النَّجَّار أكْفاءَ مثْلَنا ... فابْعِدْ بكم عنَّا هنالك أبْعِد!
فإنْ شِئْتُمْ نافَرْتُكمْ عَنْ أبيكُمُ ... إلى من أردْتُم من تهام ومنُجَدِ
ألم يكُ فينا يَنْفُخ الكِيرَ باسْتِهِ ... كأنّ بشدقيه نُفَاضَةَ إثْمِدِ؟!
فقالت الأنصار لحسان بن ثابت: يا أبا الوليد: أتهجو النجاشي؟ فقال: أين أنتم من ابني عبد الرحمن؟! فقالوا إياك أردنا، فقد راجعه عبد الرحمن، فلم يصنع شيئًا!.
فوثب حسان فضربه بالباب فشجه على حاجبه، فقال: باسم الله، الهم أخلف في رسولك اليوم، ثم قال شعره الذي يقول فيه:
أبَنِي الحِمَاسِ أليس منكم ماجد ... إنَّ المْروءة في الْحِمَاسِ قليل
ثم قال: والله ما أنجزت بما قال!! ثم قال: اسمعوا:
حَارِ بْنَ كعب أَلاَ أحْلامَ تَزْجُرُكُم ... عَنَّا وأنتم من الجوف الجماخِيرِ؟!
1 / 40