فما تَخْفَى هُضَيبةُ حين تُمسِي ... ولا إطعام سَخْلتها الكلابا
تُخرِّق بالمشاقِصِ حالِبَيْهاَ ... وقد بَّلتْ مَشِيمَتُها التُّرابا
وقد أجاز سيبويه في قوله: أعبدا أن يكون منادى، أو يكون منصوبا على الحال، كأنه قال: اتفخر عبدًا، أي في حال عبوديته، ولا يليق الفخر بالعبد!.
وشعبي: موضع، وغريبا: ينصب على النعت لعبد، أو على الحال من الضمير في حل.
وقوله: ألؤمًا لا أبالك، واغترابا: يكونان منتصبين على وجهين أيضًا؛ أحدهما: أن يكون التقدير أتلؤم لؤمًا، وتغترب اغترابا، فيكونان مصدرين منصوبين، بفعلين مضميرين.
والثاني: أن يكون التقدير: أتجمع لؤما واغترابا، فتضمر فعلا واحدًا، يعمل فيهما جميعًا، وهذا الوجه عندي أحسن من الأول.
والألف في قوله: ألؤما: ألف التوبيخ والإنكار كالتي في قول العجاج:
أَطَرَبًا وأنتَ قِنّسْرِيُ؟! ... وَإنما يأْتي الصِّبَا الصَّبيُّ!
وأنشد أبو القاسم في باب الاسمين اللذين لفظهما واحد، والآخر منها مضاف.
يا تَيْمَ عَدِيّ لاَ أَبَا لَكُمُ ... لا يُلْقَيَنَّكُمْ فِي سَوْأةٍ عُمَرُ!
هذا البيت: لجرير، بقوله لعمر بن لجأ.
وكان السبب في ذلك أن جريرًا مر بعمر بن لجأ، وهو ينشد أرجوزة له، والناس حوله يستمعون، فوقف ليستمع، فلما بلغ إلى قوله:
قد وردت قبل إني ضَحَائِها
تَفْترسُ الحيَّاتِ في خَرْشَائِهَا
تجرُّ بالأَهوان مَنْ أرَابَها
جرَّ العجوزِ جَانِبَيْ خِبَائها
قال له جرير: أسأت، وأخفقت فيما قلت!..
فقال له عمر: فكيف أقول؟ فقال له: قل: جر العروس الثنى من أردانها فخجل عمر وقال: أنت أسوأ حالًا مني حيث تقول:
لقَوْمِي أحْمَى للحقيقة منكُم ... وأضْربُ للجبَّار والنَّقْع ساطعُ
وأَوْثق عند المردَفاتِ عشيَّةً ... لحَاقًا إذَا ما جَرَّد السَّيْفَ قاطعٌ
وإنما قال جرير: عند المرهفات، فرواه عمر: عند المردفات -!.
ثم قال لجرير: أخذن غدوةً، وأدركتهن عشية، والله ما أدركتهن إلا وقد نكحن وفضحن!.
فقال جرير: والله لهذا البيت أحب إلي من بكري حرزة!، ولكنك محلت للفرزدق، وصيرت إليها علي، وستعلم!.
ثم قال جرير قصيدته التي يقول فيها:
خَلِّ الطريقَ لمن يبني المنارَ بِها ... وابرزْ بِبَرْزة حيث اضَّطَرّك القَدَرُ
يا تَيْمُ تيْمَ عَدِيٍّ لاَ أبَا لَكُمْ! ... لاَ يُلقيَنَّكُمْ في سَوْأة عُمَرُ
ما زِلْتَ تَنْطِقُ أقوالًا وتَبْلُغني ... ريحَ المريرة حتَّى أشْخَصَ المدَرُ
أحين كنتَ سَمَامًا يا بني لجأ ... وخاطرتْ بي عن أَحْسَانها مُضَرُ؟!
فأجابه عمر بن لجأ فقال:
لقد كذبْتَ وَشَرُّ القوْل أكْذُبهُ ... ما خاطرتْ بِك عن أحسابها مُضَرُ
ألَسْتَ نَزْوَةَ خَوَّارٍ عَلَى أَمَةٍ ... لاَ يَسْبِقُ الَحْلَبَاتِ اللؤمُ والخَوَرُ
ما قلتَ من مَرَّةٍ إلاَّ سأنقضها ... يا ابن الأتان بمثلي تنْقَضُ المرَرُ
ثم نصير إلى تفسير الشعر المتقدم: يا تيم تيم عدي فيه مذهبان: مذهب سيبويه: إن تيم الأول مضاف إلى عدي، وتيم الثاني مؤكد. اعترض بين الخافض والمخفوض، كاعتراض ما في قوله تعالى: " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ".
ومذهب أبي العباس المبرد: أن تيمًا الأول، مضاف إلى محذوف دل عليه ما بعده، كأنه قال: يا تيم عدي، يا تيم عدي.
وذهب الفراء إلى نحو هذا؛ فتكون الحركة في تيم الأول حركة إعراب، وفي تيم الثاني حركة إتباع على مذهب سيبويه، والحركتان على مذهب أبي العباس حركتا إعراب.
ومن اعتقد أن الاسمين معًا جعلا اسمًا واحدًا، بمنزلة حضرموت، وبعلبك، أضيفا إلى عدي: كانت حركة تيم الأول حركة بناء، وحركة تيم الثاني حركة إعراب.
وأجاز السيرافي أن تكون بمنزلة بازيد بن عمرو، وجعل فيه الموصوف مع صفته بمنزلة اسم واحد، فيجري زيد في هذا الرأي مجرى عطف البيان الجاري مجرى الصفة: وقوله: لا أبالكم: لا تبرئة حذف خبرها، كأنه قال: لا أبالكم موجود في الدنيا.
فإن قلت: فما الذي يمنع أن يكون لكم هو الخبر؟، فلا يحتاج إلى إضمار؟
1 / 36