وهذا اعتذار لهذه الرواية؛ لئلا يقال لمن روى هكذا: كيف تخفض بمذ ما مضى، وإنما كان حكمها أن ترفع ما مضى، وتخفض ما أنت فيه؟! على أن الأبيات الثلاثة التي في أول هذا الشعر، لم يصح أنها لزهير!.
وقد روي: أن هارون الرشيد، قال للمفضل بن محمد: كيف بدأ زهير شعره بقوله:
دَعْ ذَا وَعدِّ القَوْلَ في هَرِمٍ ... خيرُ البُدَاةِ وسَيِّد الحضرِ
ولم يتقدم قبل ذلك شيء ينصرف إليه؟ فقال المفضل: قد جرت عادة الشعراء بأن يقدموا قبل المديح تشبيبًا، ووصف إبل، وركوب فلواتٍ، ونحو ذلك، فكأن زهيرًا هم بذلك، ثم قال لنفسه: دع الذي هممت به - مما جرت به العادة - واصرف قولك إلى مدح هرم؛ فهو أولى من حبر فيه القول ونظم، وأحق من بدئ بذكره الكلام وختم!.
فاستحسن الرشيد قوله؟.
وكان حماد الرواية حاضرا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا أول الشعر، ولكن قبله:
لمَنْ الديار بقنة الحْجْرِ ... أَقْويْنَ من حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ
لَعِبَ الزمان بها وغيَّرها ... بعدي سَوَافِي المُورِ والقَطرِ
قَفْرا بمنْدَفع النحائت مِن ... ضَفْوَيْ أُولاتِ الضَّالِّ والسَّدْرِ
فالتفت الرشيد إلى المفضل، وقال: ألم تقل إن دع ذا ... أول الشعر؟ فقال: ما سمعت بهذه الزيادة إلا يومي هذا، ويوشك أن تكون مصنوعة!.
فقال الرشيد لحماد: اصدقني!.
فقال: أنا زدت فيه هذه الأبيات!.
فقال الرشيد: من أراد الثقة والرواية الحسنة الصحيحة، فعليه بالمفضل، ومن أراد الاستكثار والتوسع، فعليه بحماد!.
وقد احتذى الشعراء المحدثون كلام المفضل هذا، فقال ابن الرومي:
عَدِّ عنك المنازلَ الطُّلُولَ والموَات، لاَ؟؟!
إنَّ في المدْحِ في أبي الصَّقْر مِنها لَشَاغِلاَ!
وقال المتنبي:
إذا كان مدح فالنَّسِيبُ المقَدَّمُ ... أَكُلُّ فصيح قال شعرًا مُتَيَّم
لحَبُّ ابنِ عَبْدِ اللهِ أوْلَى فإنَّهُ ... بِهِ يُبْدَأُ الذكر الجميلُ ويُخْتمُ
وأنشد أبو القاسم في هذا الفصل:
تبكي على لُبْنَى وأَنْتَ تركْتَها ... وكنتَ عليها باْلمَلاَ أنتَ اقْدَرُ؟!
هذا البيت: لقيس بن الذريح الكناني، وهو أحد عشاق العرب المشهورين، وصاحبته التي شهر بها لبنى.
وقيس، والذريح، ولبنى: أسماء منقولة: أما قيس فقد تقدم، وأما الذريح فإنها الهضاب، واحدتها: ذريحة والذريح، والذرح: الطعام يجعل فيه الزعفران.
وأما اللبنى فهو ضرب من الطيب، يقال: إنها الميعة، وقد ذكر هذا امرؤ القيس في قوله:
وَبَانًا وأَلويًّا من الهنْدِ ذَاكِيا ... وَرَندًا ولُبْنَى، والكِبَاءَ الْمقَتِّرَا
والملا: المتسع من الأرض، والملا: موضع بعينه، قال امرؤ القيس:
أمنْ ذكر نبهانِيَّة حلَّ أهْلُها ... بجرع الملاَ عيناك تَبْتَدِرَانِ؟
وإنما قال: وأنت تركتها، لأنه كان تزوجها، فكلفه أبوه وأمه طلاقها، فآلى أبوه، ووضع نفسه في الرمضاء، وقال: والله لا برحت من هذا الموضع حتى أموت أو تطلقها - وهو يأبى طلاقها، لشدة كلفه بها!.
فقبح قومه إليه فعله، وقالوا: إن مات أبوك على هذه الحالة، كان عارًا عليك، فأرض أباك بتطليقها، ثم تراجعها بعد ذلك!.
فطلقها، ثم أراد أن يراجعها، فأبت حينذاك، وأبى أبوها، وأنكحها غيره! - فلذلك قال:
تَكَنَّفني اْلوُشَاة فأزعجوني ... فيا لَلّهِ لِلواشي اْلمُطَاع
وقال:
فإن تكن الدنيا بلُبْنَي تَغَيَّرت ... فللدَّهْر والدُّنْيا بطُون وأظْهرُ
لقد كانَ فيها للأمانَةِ مَوْضِعٌ ... ولِلْقَلبٍ مُرْتَادٌ وللعين مَنظَرُ
ومعنى قوله: فللدهر والدنيا بطون وأظهر: أراد أن أمور الدنيا منها ما يظهر لإنسان وجه الصواب فيه، ومنها ما يخفى عليه!.
وأنشد أبو القاسم في باب النداء:
فيا رَاكِبًا إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ... نَدَامَايَ مِنْ نجرانَ أن لاّ تلاقِياَ
هذا البيت: لعبد يغوث، بن وقاص الحارثي.
ويغوث: اسم صنم نسب إليه، وقاص إسم فاعل من قولهم:
1 / 31