وزعم قوم: أن مية لقبته بذلك ولك أنه مر بخبائها قبل أن يشبب بها، فرآها فأعجبته، فأحب الكلام معها، فخرق دلوه، وأقبل إليها، وقال: يا فتاة؛ اخرزي لي دلوي!.
فقالت: إني خرقاء، والخرقاء: هي التي لا تحسن العمل - فخجل غيلان، ووضع دلوه على عنقه، وهي مشدودة بحبل بالٍ، وولى راجعا، فعملت منه ما أراد، فقالت له مية: يا ذا الرمة انصرف، فانصرف!.
ثم قالت: إن كنت أنا خرقاء، فإن أمتي صناع، فاجلس حتى تخرز دلوك!.
ثم دعت أمتها وقالت: اخرزي الدلو، فكان ذو الرمة يسمى مية: خرقاء، لقولها: إني خرقاء، وغلب عليه ذو الرمة بقولها: يا ذا الرمة.
هذا قول ثعلب.
وقد قيل: إن خرقاء غير مية، وأنها امرأة من بني عامر، رآها، فاستسقاها، فخجلت، وأبت أن تسقيه، فقال لأمها: قولي لها، فلتسقني!.
فقالت لها أمها: اسقيه يا خرقاء! فلذلك قال ذو الرمة:
تمامُ الحْجّ أنْ تَقِفَ المطَايَا ... على خَرْقاءَ واضعة اللِّثَامِ
وقال أبو العباس الاحول: سمي ذا الرمة؛ لأنه خشي عليه العين، وهو غلام، فأتى به إلى شيخ من الحي يصنع له معاذةً، وشدت في عضده!. وهذا أبعد الأقوال، والمشهور هو القول الأول، وقوله: وهل يرجع التسليم ... وصف أنه وقف على منزل مية وسلم عليه، ثم أنكر على نفسه ما فعل، فقال: وهل يرد على السلام أو يكشف ما بي من غماء الهوى، الذي حملني على زيارة المنازل، أو السلام عليه: ربع خالٍ من أهله، ليس فيه إلا الأثافي وهي حجارة القدر، والرسوم البلاقع، وهي الخالية؟! وقبله:
أمنزليّ مَيّ سلامٌ عليكما ... هل الأَزْمُنُ الَّلائي مضين رَوَاجِعُ
ولك أن ترفع الثلاث الأثافي بالفعل الأول، وهو اختيار الكوفيين، وبالثاني، وهو اختيار البصريين.
وأصل أثافي الشديد، ولكن استعمالها مخففةً أكثر، على ألسنة العرب.
ويروي بيت زهير مشددًا ومخففًا.
أثافِيّ سُفْعًا في مُعرَّس مِرْجَلٍ ... ولُؤْيا كجِدْمِ الحَوْضِ لم يَتَثَلَّمِ
ويقال للواحد من الأثافي: أثفية - بضم الهمزة وإثفية - بكسرها - واختلف النحويون في وزنها.
فقال بعضهم: وزنها أفعولة، أصلها أثفوية، ثم قلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، وكسرت الفاء من أجل الياء.
واستدلوا بأن الهمزة زائدة بقول العرب؛ ثفيت القدر، إذا جعلتها في الأثافي، وبقولهم: امرأة مثفاة، وهي التي كان لها ثلاثة أزواج، شبهوها بالأثافي وبقول الكميت:
وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا ... ولا ثُفِيتْ إلاَّ بنا حِينَ تُنْصَبُ
وقال بعضهم: وزنها فعلية والهمزة أصلية، واستدلوا على ذلك بقول النابغة:
لاتَقْذِفَنِّي بركن لا كفَاءَ لَهُ ... وإن تأَثَّفَك الأعداء بالرِّفد
فوزن تأشفك: تفعلك، ولو كان من ثفيت لقال: أثفاك. ومن حجتهم؛ أنه يقال: أثفت الرحل أثفا، إذا ابتغبته، وهي من مسائل البصريين المشكلة وتقتضي كلاما أكثر من هذا، ولكن ليس هذا موضعه.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
ما زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إِزارَهُ ... فَسَمَا فأدرك خْمسَةَ الأشْبَارِ
هذا البيت: للفرزدق: يمدح به يزيد بن المهلب، وقبله:
وإذا الرَّجال رَأوْا يزيدَ رأيْتَهم ... خُضعَ الرِّفاب نَواكِسَ الأَبْصَار
ومعنى سما: ارتفع، ومعنى فأدرك خمسة الأشبار: ارتفع وتجاوز حد المشي؛ لأن االفلاسفة زعموا: أن المولود إذا ولد أيام مدة الحمل، ولم تعتوره آفة في الرحم، فإنه يكون في قدر ثمانية أشبارٍ، من شبر نفسه، وتكون سرته بمنزلة المركز له، فيكون منها إلى نهاية شقه الأعلى أربعة أشبار بشبر نفسه، ومنها إلى نهاية شقه الأسفل أربعة أشبار: ومنها إلى أطراف أصابعه من يديه جميعًا أربعة أشبار، حتى أنه لو رفد على صلبه، وفتح ذراعيه، ووضع ضابط في سرته، وأدير كان يشبه الدائرة.
قالوا: فم زاد على هذا أو نقص؛ فلآفةٍ عرضت له في الرحم، فإنك تجد أن من نصفه الأعلى أطول من الأسفل، ومن نصفه الأسفل أطول من نصفه الأعلى، ومن يداه قصيرتان، ومن يده الواحدة أقصر من الأخرى!.
فإذا تجاوز الصبي أربعة أشبار، فقد أخذ في الترقي إلى غاية الطول! وزعم قوم: أنه أراد الخيزرانة التي كان الخلفاء يحبسونها بأيدهم.
وخبر ما زال في بيت آخر بعد هذا وهو:
1 / 29