فَهَذِهِ أصُول أعطانيها رَبِّي من أتقنها استجلى أَحْوَال أهل الله، ومبلغ كمالهم، ومطمح إشارتهم عَن أنفسهم، وَخرج مَرَاتِب سلوكهم:
﴿ذَلِك من فضل الله علينا وعَلى النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون﴾ .
(بَاب فِي أَسبَاب الخواطر الباعثة على الْأَعْمَال)
اعْلَم أَن الخواطر الَّتِي يجدهَا الْإِنْسَان فِي نَفسه، وتبعثه على الْعَمَل بموجبها لَا جرم أَن لَهَا أسبابا كَسنة الله تَعَالَى فِي سَائِر الْحَوَادِث.
وَالنَّظَر والتجربة يظهران أَن مِنْهَا - وَهُوَ أعظمها - جبلة الْإِنْسَان الَّتِي خلق عَلَيْهَا، كَمَا نبه النَّبِي ﷺ فِي الحَدِيث الَّذِي روينَاهُ من قبل.
وَمِنْهَا مزاجه الطبيعي الْمُتَغَيّر بِسَبَب التَّدْبِير الْمُحِيط بِهِ من الْأكل وَالشرب وَنَحْو ذَلِك، كالجائع يطْلب الطَّعَام، والظمآن يطْلب المَاء، والمغتلم يطْلب
النِّسَاء، وَرب إِنْسَان يَأْكُل غذَاء يُقَوي الْبَاءَة، فيميل إِلَى النِّسَاء، وَيحدث نَفسه بِأَحَادِيث تتَعَلَّق بِهن، وَتصير هَذِه مهيجة لَهُ على كثير من الْأَفْعَال، وَرب إِنْسَان يتغذى غذَاء شَدِيدا، فيقسو قلبه، ويجترئ على الْقَتْل: ويغضب فِي كثير مِمَّا لَا يغْضب فِيهِ غَيره، ثمَّ إِذا ارتاض هَذَانِ أَنفسهمَا بالصيام وَالْقِيَام، أَو شَابًّا وكبرا، أَو مَرضا مَرضا مدنفا تغير أَكثر مَا كَانَ عَلَيْهِ، ورقت قلوبهما، وعفت نفوسهما، وَلذَلِك ترى الِاخْتِلَاف بَين الشُّيُوخ والشباب، وَرخّص النَّبِي ﷺ للشَّيْخ فِي الْقبْلَة وَهُوَ صَائِم وَلم يرخص للشاب.
وَمِنْهَا الْعَادَات والمألوفات فَإِن من أَكثر مُلَابسَة شَيْء، وَتمكن من لوح نَفسه مَا يُنَاسِبه من الهيئات والأشكال - مَال إِلَيْهِ كثير من خواطره.
وَمِنْهَا أَن النَّفس الناطقة فِي بعض الْأَوْقَات تَنْفَلِت من أسر البهيمية، فتختطف من حيّز الْمَلأ الْأَعْلَى مَا ييسر لَهَا من هَيْئَة نورانية، فَتكون تَارَة من بَاب الْأنس والطمأنينة، وَتارَة من بَاب الْعَزْم على فعل.
1 / 66