وقال لي: «أنت يا ولد! أنت تصطاد السمك، أليس كذلك؟» «بلى.» «كما اعتقدت. حسنا، اسمع: إذا أردت الصيد، يمكنك أن تأتي بصنارتك وتحاول في البركة بالأعلى خلف القصر؛ فهناك الكثير من أسماك الأبراميس والشيم، ولكن لا تخبر أحدا بما قلته لك، ولا تحضر معك أيا من هؤلاء الأوغاد الصغار الآخرين، وإلا فسأسلخ ظهورهم.»
قال ذلك ثم ذهب يعرج حاملا جوال الذرة فوق كتفه، كما لو كان يشعر أنه قد قال الكثير بالفعل. بعد ظهيرة يوم السبت التالي، ذهبت بدراجتي إلى منزل بينفيلد وجيباي مليئان بالديدان والنغف، وبحثت عن العجوز هودجز في كوخه. كان منزل بينفيلد في ذلك الوقت غير مأهول منذ عشر سنوات أو عشرين سنة؛ فالسيد فاريل - المالك - لم يعد يتحمل تكاليف العيش فيه، ولم يستطع أو يرد تركه، فعاش في لندن على دخل إيجار مزارعه وترك المنزل والأراضي خربة. كانت جميع الأسيجة خضراء وبالية، وكانت الحديقة في حالة فوضى ومليئة بنبات القراص، وكان الزرع كالغابة، وحتى الحدائق انحسرت إلى مروج، ولم يتبق سوى بعض شجيرات ورد قديمة كثير العقد شاهدة على حيث كانت الأحواض. لكنه كان منزلا بديع الجمال، ولا سيما إن نظرت إليه من بعد. كان منزلا ضخما أبيض اللون بصف أعمدة في الأمام ونوافذ طويلة، وقد بني على ما أظن في عصر الملكة آن تقريبا على يد شخص سافر إلى إيطاليا. إذا ذهبت إلى هناك الآن، فسأشعر على الأرجح بشعور معين من السعادة لتجولي حول ذلك الخراب العام، والتفكير في الحياة التي كانت في ذلك المكان يوما ما، وفي الناس الذين بنوا مثل تلك الأماكن؛ لأنهم تخيلوا أن الأيام الجميلة ستدوم للأبد. عندما كنت صبيا، لم أكن أفكر في المنزل أو الأراضي، بل كنت أبحث عن العجوز هودجز، الذي كان في ذلك الوقت قد انتهى لتوه من تناول غدائه وكان عابسا بعض الشيء، وطلبت منه أن يريني الطريق إلى البركة، التي كانت على بعد عدة مئات من الياردات خلف المنزل، وكانت مختفية بالكامل وسط غابة أشجار الزان. ولكن حجمها كان جيدا، تكاد تقترب في حجمها من حجم بحيرة؛ إذ كان عرضها يقترب من المائة والخمسين ياردة. كان من المذهل، حتى بالنسبة لي وأنا في مثل هذا العمر، أنه يمكنك الاستمتاع بالعزلة هناك؛ فأنت على بعد اثني عشر ميلا من ريدينج وأقل من خمسين ميلا من لندن. ستشعر في ذلك المكان بعزلة كما لو أنك على ضفاف نهر الأمازون؛ فالبركة كانت محاطة بالكامل بأشجار الزان الضخمة، التي كانت في إحدى البقاع تنزل إلى الحافة، وتنعكس صورتها في الماء. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك رقعة من العشب بها تجويف من أحواض النعناع البري؛ وفي الأعلى عند أحد أطراف البركة كان ثمة مصف قوارب خشبي قديم بال وسط عشب البرك.
كانت البركة تعج بأسماك الأبراميس، الصغيرة منها فقط، التي كانت بطول أربع إلى ست بوصات. وبين الحين والآخر، قد ترى إحداها تستدير على جانبها وتومض بلون بني ضارب إلى الحمرة أسفل الماء. كانت ثمة أسماك كراكي أيضا، ولكن لا بد أنها كانت كبيرة. لم أرها قط، ولكن أحيانا كانت تستدير إحداها بينما تتشمس بين العشب، وتغمر المكان برذاذ الماء كما لو أن طوبة قد ألقيت في الماء. لم يكن ثمة طائل من محاولة اصطيادها، ولكنني بالطبع كنت أحاول دائما في كل مرة أذهب فيها إلى هناك. حاولت اصطيادها باستخدام سمك الداس والمنوة الذي اصطدته في نهر التيمز واحتفظت به حيا في برطمان مربى؛ حتى إنني حاولت اصطياده بطعم دوار مصنوع من بعض الصفيح، ولكن السمك كان يأكل بنهم ولا يعض على الصنارة، وعلى أي حال كان سيكسر أيا من أدوات الصيد التي كانت معي. لم أرجع قط من البركة دون اثنتي عشرة سمكة أبراميس صغيرة على الأقل. وفي بعض الأحيان في إجازات الصيف، كنت أذهب إلى هناك وأقضي اليوم بأكمله، ومعي قصبة الصيد ونسخة من صحيفة «تشامز» أو مجلة «يونيون جاك» أو غيرهما، ورغيف من الخبز والجبن لفته لي أمي. وكنت أقضي عدة ساعات في الصيد، ثم أستلقي في التجويف العشبي وأقرأ مجلة «يونيون جاك»، ثم تثيرني مرة أخرى رائحة معجون الخبز وارتطام الأسماك قافزة في الماء، فأرجع إلى البركة في جولة صيد أخرى، وهكذا طوال اليوم في فصل الصيف. أفضل ما في الأمر أن تكون وحدك، وحدك تماما، على الرغم من أن الطريق لم يكن يبعد أكثر من ربع ميل. لقد كنت كبيرا بما يكفي لمعرفة أنه من الجيد أن يختلي المرء بنفسه بين الحين والآخر. وسط الأشجار في كل مكان حولك، بدت البركة كما لو أنها لك وحدك، ولا شيء يتحرك أبدا سوى السمك الذي يطوف في الماء والحمام المار فوق رأسك. على أي حال، في السنتين تقريبا اللتين كنت أذهب فيهما للصيد هناك، ترى كم مرة ذهبت للصيد؟ لا يزيد ذلك على اثنتي عشرة مرة؛ فقد كانت البركة تبعد مسافة ثلاثة أميال بالدراجة عن المنزل، وكان الأمر يستغرق مني فترة ما بعد الظهيرة كلها على أقل تقدير. وفي بعض الأحيان كانت تطرأ بعض الأمور، وأحيانا أخرى كانت تمطر عندما أنوي الذهاب. تعلم بالتأكيد كيف تسير الأمور.
في أحد الأيام بعد الظهيرة، لم تكن الأسماك تلتقط الطعم، وبدأت أستكشف نهاية البركة الأبعد عن منزل بينفيلد، حيث فاض الماء قليلا وأصبحت الأرض سبخية، وواجهت صعوبة في شق طريقي عبر ما يشبه غابة من شجيرات توت العليق الأسود وفروع الأشجار الميتة التي سقطت من الأشجار. تخطيت كل ذلك في عناء لمسافة ما يقرب من خمسين ياردة، ثم فجأة وجدت أرضا مقطوعة الأشجار وبركة أخرى لم أسمع بوجودها من قبل. كانت بركة صغيرة لا يتعدى عرضها عشرين ياردة، وكانت داكنة اللون بعض الشيء بفعل فروع الأشجار التي كانت تتدلى عليها، لكن الماء كان شديد الصفاء والعمق، وكان بإمكاني أن أرى لمسافة عشر أقدام أو خمس عشرة قدما أسفل السطح. تسكعت هناك قليلا، كما يفعل الأولاد، مستمتعا بالنداوة والرائحة السبخية، ثم رأيت شيئا كاد ينتزع روحي من جسدي.
لقد كانت سمكة ضخمة. ولا أبالغ إذ أقول إنها كانت ضخمة؛ فقد كان طولها من طول ذراعي تقريبا. عامت بسلاسة في البركة، ثم غاصت في أعماق المياه، ثم صارت ظلا واختفت في الماء الأكثر دكانة على الجانب الآخر. شعرت كما لو أن سيفا قد اخترق جسدي، فقد كانت أكبر بكثير من أكبر سمكة رأيتها يوما، حية أو ميتة. ووقفت هناك دون أن أتنفس، ثم بعدها ببرهة انسابت سمكة ضخمة وسميكة أخرى في الماء، ثم سمكة أخرى ثم سمكتان أخريان معا؛ كل منهما بالقرب من الأخرى. أصبحت البركة مليئة بالأسماك، وقد كانت على ما ظن أسماك الشبوط، ولربما كانت أبراميس أو تنش، ولكنها على الأرجح أسماك الشبوط؛ لأن أسماك الأبراميس أو التنش ليست بهذا الحجم الضخم. أعلم ما حدث؛ فقد كانت هذه البركة موصولة في وقت ما بالبركة الأخرى، ثم جف المجرى وأحكمت الأشجار الخناق على البركة الصغيرة فنسيت. إنها من الأمور التي تحدث بين الفينة والأخرى؛ تنسى إحدى البرك على نحو ما، فلا يعود أحد يصطاد فيها لسنوات أو لعقود، فتنمو الأسماك إلى أحجام ضخمة. قد يرجع عمر الكائنات التي كنت أشاهدها إلى مئات السنين، ولم يعلم بأمرها أحد غيري في العالم، فأغلب الظن أن أحدا لم ينظر إلى تلك البركة منذ عشرين سنة، وربما حتى العجوز هودجز ووكيل أملاك السيد فاريل قد نسياها.
حسنا، لك أن تتخيل ما شعرت به. بعد وقت ليس بالطويل، لم أستطع تحمل عذاب المشاهدة. فهرولت إلى البركة الأخرى ولملمت أدوات الصيد؛ فلم تكن ثمة فائدة من محاولة صيد تلك المخلوقات الضخمة بالأدوات التي كانت معي، ولربما التقطوها كما لو كانت شعرة، ولم أعد أستطيع أن أرجع لصيد سمك الأبراميس الصغير. ولكن أشعرتني رؤية سمك الشبوط الكبير بألم في بطني كما لو كنت على وشك أن أمرض. ركبت دراجتي وانطلقت أسفل التل ذاهبا إلى المنزل. كان سرا من الرائع أن يحظى به طفل، تلك البركة المظلمة المخفية في الغابة والسمك الضخم الذي يعوم في أرجائها؛ سمك لم يقترب أحد منه بصنارة، وسيلتهم أول طعم تقدمه إليه. كان الأمر يتطلب خيط صيد قويا للغاية للتمكن من صيده. وقد رتبت لكل شيء بالفعل، فقد خططت أن أشتري الأدوات التي يمكنني بها صيده إن سرقت بعض المال من درج النقود. بطريقة ما، لم أكن أعلم كيف، كان علي الحصول على نصف كراون، وشراء خيط صيد حريري طويل مخصص لسمك السلمون وبعض الأحشاء أو الأسلاك السميكة والخطافات رقم خمسة، والذهاب ببعض الجبن والنغف ومعجون الطحين ودود القمح ودود الأرض والجنادب وكل طعم قد يستهوي سمك الشبوط. ونويت أنني بعد ظهيرة يوم السبت التالي مباشرة سأرجع وأحاول صيد تلك الأسماك.
ولكن ما حدث هو أنني لم أرجع إلى هناك قط، فلا يرجع المرء إلى تلك الأماكن أبدا. لم أسرق قط بعض المال من درج النقود، ولم أشتر خيط صيد السلمون، ولم أحاول صيد سمك الشبوط هذا؛ فقد حدث بعد ذلك مباشرة شيء منعني من ذلك، ولكن إن لم يكن قد منعني ذلك الشيء لكان قد منعني شيء آخر؛ فهكذا هي الحياة.
أعلم، بالطبع، أنك تعتقد أنني أبالغ في وصفي لحجم تلك الأسماك، ولربما تعتقد أنها كانت مجرد أسماك متوسطة الحجم (بطول قدم واحدة مثلا)، وأنها كبرت بالتدريج في ذاكرتي. ولكن لم يكن الأمر كذلك؛ فالناس تكذب عند وصف الأسماك التي اصطادوها، ويكذبون أكثر عند الحديث عن الأسماك التي التقطت الطعم وهربت منهم، ولكنني لم أصطد أيا منها أو أحاول حتى أن أصطادها، وليس لدي دافع للكذب. أقول لك بحق إنها كانت ضخمة.
5
الصيد!
Unknown page