Hubb Ibn Abi Rabica Wa Shicruhu
حب ابن أبي ربيعة وشعره
Genres
فإن كريما من تضم الصفائح
وبعد فقد رأيت أن أضيف إلى هذه الطبعة فصولا عن حب ابن أبي ربيعة وشعره، أفصل بها بعض ما أجملت في تلك المحاضرات الثلاث، فأثبت رائيته التي أعجب بها ابن عباس مصحوبة بالشرح والتفسير، وأترجم مصعب بن عبد الله الذي انفرد بين القدماء بتقديم مزايا شعره إلى الجمهور، وأتحدث عن معشوقاته اللائي أضرمن في قلبه نار الحب، وهدينه إلى سواء النسيب، وأذكر بعض الفكاهات التي اتصلت به وجرت مجرى الأمثال.
غير أني أحب أن أنتهز هذه الفرصة لأعرض لك رأيي في إيثار الأدب المكشوف، إذ كنت واثقا من أنك سترى في جملة هذا الكتاب ما أخشى أن تتحرج منه، أو تتنكر له، مع أن الأدب كالفن يجب أن يسمو عن الأوضاع والتقاليد، حتى لا يفتر ويضوى بوضعه تحت رحمة المتزمتين من رجال الدين، ورعاية المتحرجين من دعاة الأخلاق.
ألا ترى أنك لو عمدت إلى امرأة جميلة فصورتها وهي في لباس المصرية، أو الفارسية، أو التركية، أو الإنجليزية، أو الألمانية لكان لذلك اللباس أثر سيئ في وضع تلك الصورة في حدود ضيقة، تحبسها حيث يليق ذلك الزي ويقبل ذلك الهندام؟ ولكنك لو صورتها عريانة حيث صاغها الحسن، ورسمها الدلال لبقيت «إنسانة» تروق الإنسانية في جميع البقاع.
ولأمر ما وضع الأقدمون «فينوس» عارية الجسم، غانية عن الحلي واللباس! إنهم وضعوها كذلك لتبقى منية الأفئدة، ونهبة العيون، في جميع الممالك، وعلى اختلاف الأجيال.
وكذلك الأدب يسمو بقدر ما يتحرر من قيود الزمان والمكان، فالقصيدة أو الرسالة التي تعبر عن معنى من المعاني الإنسانية أبقى على الدهر من التي تعبر عن نزعة مصرية أو إنجليزية، فإن النزعات الموضعية عرضة للتغير والزوال، ولكن الميول الإنسانية جديرة بالخلود، والأدب المستور إنما يغشى بالحجب المحلية التي لا ندري أتبقى سائغة مقبولة، أم يعدو عليها البدع المستطرف فيلقي بها في مهاوي الخمول؟
ولقد ظن الناس، حين شاهدوا المناظرة التي قامت بين الأستاذ سلامة موسى والأستاذ توفيق دياب، أن هذه أول مرة يختلف فيها أدباء اللغة العربية في المفاضلة بين الأدب المستور والأدب المكشوف، ولكن الواقع أن هذه المسألة بعينها كانت مثار الجدل عند المتقدمين تحت اسم آخر هو الخصومة بين من يوجبون أن يكون الكلام جدا كله، وبين من يؤثرون أن يمزج حيث يقتضي الحال بشيء من الدعابة والمجون.
ولو عدنا إلى رجال الأدب في تلك العصور التي نهضت فيها اللغة العربية، ولفتت أنظار العالم في الشرق والغرب إلى ما فيها من عناصر القوة وأصول الحياة، لوجدنا أكثرهم من أنصار الأدب المكشوف، فهذا أبو الفرج الأصبهاني يودع كتاب «الأغاني» كل ما عرض له من أخبار الخلفاء والشعراء والكتاب بعبارة حرة صريحة مكشوفة، لا يثقلها قيد ولا يحجبها قناع، وهذا النويري يكتب نهاية الأرب بحرية خالصة لا يشوبها تحرج، ولا يحدها تنسك، وهذا الجاحظ يأبى أن يحرم القارئ من ثمار اطلاعه التي جمعت ما تفرق من شهوات العقول، وهذا الثعالبي يفرط في تصيد ما شرد من روائع الملح والفكاهات، ونوادر الساسة والملوك، ولا ننس ابن منظور الذي أشعر الناس بأنه جبار أهل الجد حين وضع لسان العرب، ثم رجع فراعهم بدعابته حين وضع أخبار أبي نواس.
على أنه من الخير أن نقدم للقارئ بعض ما يقوله هؤلاء الأفذاذ في إيثار الأدب المكشوف، ولنكتف بقول ابن قتيبية في مقدمة «عيون الأخبار»:
وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة، وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه، أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به.
Unknown page