جلست القرفصاء دون أن تلامس مؤخرتها الأرض، ولم تشأ أن تلوث ثوبها، فتحت الحقيبة وأخرجت الإزميل، ضربت الأرض عدة ضربات، لكن الرائحة كانت غير محتملة، وضعت المنديل فوق أنفها، عنقها يلتوي إلى أسفل، في القاع البعيد كانت الأرض تتسع، والظلمة تزداد كثافة، وهي تمشي نحو القاع، من يراها يظن أنها لم تكن تمشي، ارتطمت يدها بجدار من الطين، يشبه جدران البيوت في القرية، سمعت في الداخل أصواتا، كانت واقفة تستند بيدها على الجدار، يدها الثانية تقبض على الإزميل، وأنفاسها تلهث.
انفتح باب في الجدار، أحدث صوتا يشبه صرير الساقية، مفاصل حديدية صدئة أو طقطقة خشب قديم، وظهرت امرأة شابة داخل عباءة سوداء تحمل فوق رأسها برميلا ضخم الحجم، منتفخ البطن يداها مشققتان، قدماها كبيرتان داخل خف جلدي، كعباها يطلان لونهما أسود، تلف رأسها بمنديل أسود مربوط فوق جبينها على شكل عقدة، حاملة فوق رأسها البرميل بشكل مائل، مملوء حتى الحافة يوشك على السقوط، دون أن يسقط، تلوي وتحرك رأسها دون أن تمسكه بيدها، دون أن تسقط منه قطرة واحدة.
كانت المرأة تحملق إلى الإزميل في يدها، لم تر في حياتها امرأة تحمل آلة حادة، تراجعت إلى الوراء خطوة. - إنه إزميل. - ماذا يا أختي؟ - أحفر به الأرض وأبحث عن الإلهات. - ماذا؟ - الإلهة سخمت مثلا. - سخماط؟!
أصاب المرأة اضطراب، بدأ جسدها ينتفض، لكن البرميل كان ثابتا في مكانه، متربعا فوق رأسها رابط الجأش. - قليل من الماء أرجوك. - ماذا؟ - ماء ... ماء ...
راحت تصرخ وهي تردد: ماء ... ماء ... والمرأة واقفة ترمقها بعينين متسعتين من خلال الثقبين، كأنما هي ترى قطعة من الغنم تمأمئ، هبت في تلك اللحظة عاصفة جديدة كادت تقتلعها من الأرض، والمرأة واقفة تهز رأسها والبرميل ثابت متربع فوق رأسها. - من أنت؟
رأت الشك في عيني المرأة، أخرجت من حقيبتها بطاقتها الشخصية، الاسم، والجنس، ولون العينين، والمهنة، باحثة في قسم الحفريات، حسنة السير والسلوك، متزوجة، بدون أطفال، تقاريرها السرية لا غبار عليها، سددت أقساط التأمينات والضرائب، ليس عليها ديون، وليس لها سوابق، لم تصدر ضدها أحكام حتى الآن.
حملقت المرأة في البطاقة كأنما لا تعرف القراءة، تأملت صورتها المشبوكة بدبوس. - لماذا لا تسترين وجهك؟ أليس عندك حياء؟!
أعادت إليها البطاقة واستدارت، مضت بخطوة بطيئة مبتعدة على امتداد المنخفض، تمصمص بشفتيها وتطرقع بالخف الجلدي، كعباها أسودان يحركان الغبار في الجو، فوق ظهرها نتوء يشبه صنم الجمل، من حولها تجمعت النسوة فوق رءوسهن البراميل، تقرب كل منهن رأسها من الأخرى، يدور الهمس بصوت كالغمغمة، نهضت واحدة منهن، بدت من بعيد كالطفلة، عادت بعد لحظة ومن حولها عدد من الرجال، يرتدون الجلاليب الواسعة، فوق رءوسهم أغطية بيضاء.
ظلت أصوات النساء منخفضة لا تزيد عن الهمس، ارتفعت أصوات الرجال، كانوا يتكلمون في نفس واحد، كل منهم يحرك ذراعيه في الهواء، يضرب الأرض بقدميه، غبار كثيف يتصاعد، ثم توقفت الأصوات كلها فجأة، عم الصمت، لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، استدارت لتمضي في طريقها، أسرعت الخطى تشد بيدها فوق الحزام المعلق على كتفها، لكن الأصوات كانت تتبعها، واستوقفها رجل يلف حول عنقه كوفية سوداء، فوق وجهه التصق ذرات سوداء كالنمش. - إنت يا مره!
ارتطمت كلمة «مره» بأذنيها مثل شفرة زجاج، تصلبت عضلات وجهها، كيف يمكن لرجل أن يستوقفها في الطريق ويسبها، أدارت له ظهرها ومضت في طريقها، تبعها وهو يضرب الأرض بقدميه، صوته لا يكف عن ترديد تلك الكلمة النابية.
Unknown page