تشدها الأيادي فتسقط، يتهاوى جسمها ويغرق في الضباب، ثم ترى نفسها تمشي فوق الأسفلت، يذوب تحت قدميها من شدة الحر، تعلق بكعب حذائها قطعة من القطران لها رائحة النفط، تسرع الخطى وهي تلهث، وتدخل في بناية سوداء، بلا نوافذ ولا أبواب، إلا الأعمدة الحديدية، والرائحة خانقة، الإزميل داخل حقيبتها، والحزام فوق كتفها تشد عليه، قدماها تصعدان السلالم، توشك على الانزلاق، تستعيد توازنها دون أن تمسك شيئا، لم يكن هناك درابزين، والسلم حلزوني ضيق، لا يسمح بمرور جسمها، تندفع داخل باب صغير ينفتح فجأة، فإذا بها داخل الغرفة العارية من الأثاث، إلا مقعد يدور حول نفسه، ومنضدة يتحلق حولها عدد من الرجال، لا يظهر منهم إلا النتوءات البارزة في عظام الوجه، الجبهة، الخدان، الفكان، عظمة الأنف، والذقن.
لم يرفعوا رءوسهم حين دخلت، عاكفون في استغراق فوق كتاب، يقلبون أوراقه بأصابع مفاصلها بارزة، يبدءون من الغلاف حتى الصفحة الأخيرة، ثم يبدءون من جديد. - أهذا هو اسمك؟
الصوت يشبه زوجها، لكن الغليون الأسود في الفم يؤكد أنه رئيسها في العمل، دار حول نفسه وهو جالس في المقعد، أصبح أمامها مباشرة، رأت وجهه وأدركت أنه المحقق في البوليس، دب الصمت، سمعت قرقعة الأوراق، وسحب الدخان تتصاعد إلى السقف، أصبعه يشير إلى الاسم فوق غلاف الكتاب. - إنه اسمك أليس كذلك؟ - نعم. - والكتاب؟! - عن الإلهات. - أليس ذلك تجديفا في حق الآلهة.
أرادت أن ترفع يدها وتسأل، ما هو التجديف، وأين المجداف، لكن الضباب أعاقها عن الرؤية، وسمعت ضجة مفرقعة صادرة عن أوراق تتكسر، ملأت أنفها رائحة دخان، كان الورق يحترق، طارت شرارة من فوهة الغليون المشتعل، امتد الحريق إلى براميل النفط، انفجر الواحد وراء الآخر وارتفعت ألسنة النيران في السماء.
حين فتحت عينيها كان أنفها مملوءا بالدخان، الرجل جالس في مكانه يحدق فيها، تصور أنها سرقت سيجارة من جيبه وهو نائم، قبل أن ينام كان يعد السجائر، والقروش في جيبه الداخلي، والزجاجة يخبئها في مكان لا تعرفه، لكن الدخان كان يغرق المكان، يزحف فوق بيوت القرية كالشبورة السوداء.
خرجت الصحف تعلن أن الحريق تم بفعل الشيطان، رفع أهل القرية أذرعهم نحو السماء، يرجمون الشيطان بالحجارة، ارتفعت أصواتهم كهدير الرياح، لكن السماء لم تسمع دعاءهم، كان الشيطان يتمشى فوق الجسر، ترمقه عيون النساء من وراء الشيش، تنتفض أجسادهن داخل الجلاليب السود، يربطن رءوسهن بالمناديل، تشد الواحدة منهن المنديل، وتلفه ثلاث مرات، تعقده فوق جبينها على شكل رأس الثعبان، تدور حول نفسها وتضرب الأرض بقدميها: «يا ستنا الطاهرة!» ترتفع أصوات النسوة، ودقات الطبول، وصياح الأطفال، وقرقعة العصا في أيدي الرجال، ونقيق الضفدع في البركة، ونباح الكلاب تجري هنا وهناك، والغبار يتصاعد في السماء، ويمتلئ الكون بضباب أسود، يزحف متدفقا كالشلال، لا هو بالسائل ولا هو بالدخان، ولا يمكن الإمساك به بين أصابع اليد. - أين أخفيت الزجاجة؟
قالتها وهي تصحو فجأة من النوم، حلقها تشقق من الظمأ، والسخونة في جوفها كالحريق، كان الرجل راقدا وجهه للحائط، دست يدها تحت رأسه، لم يكن هناك إلا عقب سيجارة محترق، تسللت على أطراف أصابعها، فتحت الباب وخرجت، لكن الهواء لم يعد له ملمس الهواء، يدها حين تمتد أمامها تصطدم بشيء صلب، تراجعت إلى الوراء خطوة وراء خطوة، حتى دخلت بظهرها من الباب، حركة لم يألفها جسمها منذ الطفولة، كانت تمشي إلى الأمام ووجهها إلى الخلف، أو تخرج من الباب بظهرها، في تلك اللحظة تكون خالتها واقفة أمامها، تحدق فيها بعينين يرتعش لهما البدن، لم تكن فعلت شيئا سوى أن سألتها: هل صحيح يا خالتي الشيطان يتمشى فوق الجسر؟ فانقلبت عيناها إلى الداخل ثم إلى الخارج، كانت العاصفة في أوجها، والمطر يهطل وانطفأت كل الأضواء، ولم تعد تسمع إلا صفير الريح، وصوت خالتها يدوي في ظلمة الليل: «ما شيطان إلا بني آدم.»
قبل الفجر سمعت الكلاب تنبح، وقرقعة العجلات مع صفير الريح، هجم الرجال على خالتها وحملوها إلى العربة، قفزت خلفهم تجري، تمد ذراعها عن آخره لتمسك يدها، قدماها تغوصان في البركة حتى الركبتين، العجلات تشق المياه السوداء وتختفي في الظلمة، الكلاب تسبح من خلفها، لا يظهر منها إلا رءوس سوداء مستطيلة مثل سرب من الضفادع، وهي تغوص في البركة، تمتلئ أذناها بطين أسود وأصوات تأتي من بطن الأرض. - امرأة لا تؤمن بوجود الشيطان؟! - إنها مجنونة يا صاحب الجلالة. - بل كافرة! - نعم يا صاحب الجلالة، والكفر والجنون شيء واحد.
كانت قد غاصت تماما، ولم يظهر منها في ضوء الشفق إلا ذراع ممدودة عن آخرها، وأصابعها الخمسة متقلصة، تقبض على قطعة من الطين المتجمد.
امتدت إليها الأذرع تشدها إلى الخارج، كأنما يشدونها خارج الرحم.
Unknown page