مد ذراعه الطويلة كالعصا الخشبية وأمسك ذراعها، قرب فمه من أذنها وراح يزعق: يا مره! رائحة نفاذة تدفقت من فمه، خليط من اللعاب الأسود يسيل من الزاوية بين الشفتين. - من أنت؟ - أنا باحثة محترمة و... - من أين أتيت؟!
استدارت وأشارت برأسها إلى الطريق الذي جاءت منه، بدا مثل سرداب طويل مظلم، طمسته المياه السوداء كالطوفان، أغمضت عينيها ثم فتحتهما. - خرجت في إجازة و... - لم نسمع هذا من قبل. - يمكنني العودة. - لا يوجد طريق في هذا الوقت. - أيمكنني تأجير غرفة حتى الصباح؟ - أنت وحدك؟
هز الرجل رأسه عدة مرات: لا يمكن، ابتعد عنها يضرب الأرض بقدميه.
فتحت الحقيبة وأخرجت الخريطة، هل أخطأت المكان؟ انحنى جسمها فوق الأرض، بدت لمن يراها من بعيد أنها مقبلة على النوم، لكنها استغرقت طويلا في تحديد المكان، عثرت على بقعة حددتها بالقلم، أمسكت الإزميل وحفرت.
تدلى رأسها وهي تحفر فيما يشبه الإعياء، ربما كان المكان صحيحا وقد تكون واحدة من الإلهات مختفية، لكن الظلمة حالكة والذرات السوداء تتراقص أمام عينيها، أزاحت الطين ولمحت شيئا يشبه قرن بقرة، قبل أن تمتد ذراعها سمعت الأصوات من خلفها؛ طابور من الرجال يطل عليها، يرتدون الجلاليب، رءوسهم ملفوفة بغطاء أبيض، من خلفهم طابور من النسوة داخل العباءات السوداء، أخرجت واحدة من تحت العباءة ثديها العاري، أخذت تشد الحلمة السوداء بين أصبعها حتى اندفع من الثقب خرطوم رفيع أسود اللون، ثم أخرجت من تحت العباءة طفلا صغيرا، قبض بكفيه الصغيرين على الحلمة وراح يرضع بصوت مسموع.
أصوات الرجال بدأت تنخفض كأصوات النسوة، جلسوا القرفصاء على شكل حلقة، في الوسط حجر كبير جلس عليه رئيسهم، في أصبعه الصغير خاتم تلمع من فوق رأسه صورة لصاحب الجلالة، تحوطها اللمبات الملونة، ومكبر للصوت على شكل القمع. - بمناسبة عيد صاحب الجلالة أمرنا بالصرف.
الصوت هو صوت جلالته، شفتاه تتحركان في الصورة، فركوا عيونهم بأصابعهم، زوايا الجفون متآكلة يشوبها الاحمرار، يتبادلون النظرات، يرددون في نفس واحد: «قادر على كل شيء.» ثم يدب الصمت، يدعك كل منهم زاوية عينه، يتأمل الذرات السوداء العالقة بطرف أصبعه، يمسحه في جلبابه، ثم يدعك عينه الثانية.
غمغم صوت صاحب الجلالة من خلال القمع، كلماته متآكلة الحروف، لسانه معوج، ولم يفهم أحد ماذا يقول، هز رئيسهم رأسه علامة الإعجاب، هزوا رءوسهم، ثم توقف رأسه عن الاهتزاز، توقفت رءوسهم، نهض من فوق مقعده، فنهضوا، اختفى في عتمة الليل واختفوا من خلفه، ومن خلفهم النسوة.
لم يبق إلا صورة صاحب الجلالة، معلقة في السماء بلا أعمدة، ومن فوقها البوق، ورجل واحد يكنس الأرض، اقترب منها بخطوات بطيئة، كان هو الرجل ذو النمش، والكوفية السوداء، تمخط بصوت عال. - لا بد من إخلاء المكان. - وأين أبيت؟ - تعالي معي.
قادها إلى الطريق المنحدر، يسبقها بخطوة أو أكثر، كلما أسرعت لتمشي إلى جواره ترمقها عيناه فتبطئ السير لتصبح في المؤخرة، هبط المزلقان يلقي بنصفه الأعلى إلى الأمام، ويده تهرش ظهره.
Unknown page