إني أسر إلى جلالتكم أن الكونت فرزن قد تقبلته الملكة قبولا حسنا، حتى أساء الكثيرون ظنا بذلك. وأنا أعترف بأنها تحبه؛ فقد رأيت على ذلك البراهين التي لا يتسرب إليها الشك؛ ففي الأيام القليلة الأخيرة لم تحول الملكة نظرها عنه، وكانت عيناها طول ذلك الوقت مملوءتين بالدموع. وأرجو جلالتكم أن تتحفظوا بهذا السر.
وكانت الملكة تبكي لأن فرزن قد أجمع على أن يسافر إلى أمريكا؛ ضنا بشرفها وعرضها أن تلوكهما الألسن؛ فقد رأى أن العيون ترمقه وتلحظه لحظا ذا معنى، فأراد أن يقطع عن حبيبته مع شدة تعلقه بها ألسنة الناس، فعزم على مبارحة فرنسا للالتحاق بجيش لافاييت الذي كان يعاون الأمريكيين على نيل حريتهم من الإنجليز، وأذاع قبيل سفره أنه قد عزم على أن يتزوج من إحدى الأسوجيات المثريات.
وبقي فرزن في أمريكا ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى فرنسا، وعادت علاقته بالملكة. وكان تيار الثورة قد أوشك أن يطغى بالملوكية، وجاء الجزاء العادل للمظالم الغابرة، فحاول فرزن في سنة 1791 أن يأخذ الملك والملكة، ويفر بهما، حتى يخرج من الحدود الفرنسية، ودبر لذلك التدابير اللازمة، ولكنه أخفق على حدود فرنسا، وقبضت العامة على الملك والملكة، وعادوا بهم يتغنون بأناشيد الثورة.
وجاءت سنة 1792، فأخذ الملك، وفصل رأسه بالمقصلة، وقضت الملكة بعد ذلك مدة في السجن، وهي عرضة لمختلف الإهانات المتنوعة من وحوش الثورة الفرنسية، حتى أخذت هي أيضا إلى المقصلة وقطع رأسها.
وعاش بعدها فرزن عشرين سنة، ومات هو الآخر في شوارع ستوكهولم على أيدي الرعاع، الذين مزقوه وهم في جنون الحنق والغيظ، فكانت موتته تشبه موتة الملكة؛ إذ مات كلاهما على أيدي الرعاع، وكان قد عاش بعد موت الملكة، أمينا على حبها، لا يذكر سواها، ولا يتعزى بشيء آخر.
شارلوت كورداي
كانت شارلوت كورداي فتاة فرنسية تنتمي إلى أسرة شريفة قديمة، يعد منها كورناي الشاعر. ولكن الدهر أخنى على الأسرة، حتى صار جملة من أفرادها في عداد الأكارين، ولكنها نشأت في وسط بعيد عن الريف والطبيعة؛ فقد قضت صباها في أحد الأديار، حيث لقنت القراءة والكتابة، وجال فكرها جولة صغيرة في الكتب المقدسة. وخرجت من الدير، فلزمت عمة لها عجوزا، وكان بمنزلها بعض الكتب فالتهمتها التهاما، وكان أحب الكتب إليها تراجم فلوطرخس وتاريخ الرومان، حتى امتلأ رأسها بقصص المجد والبطولة والتضحية، فكان مناها أن تخدم بلادها، ويخلد ذكرها في صحف التاريخ، وتقرن ترجمتها إلى تراجم أولئك الأبطال الذين قرأت عنهم.
وشبت الثورة الفرنسية وهي في حوالي العشرين من العمر، فاهتمت لها، وأخذت تدرس أسبابها، وترقب تطورها، وكانت تعطف على العامة لقيامهم على الحكومة، ورغبتهم في قلبها؛ لأنها رأت بعينها عسف النبلاء والموظفين بالأهالي، الذين كانوا يئنون من الضرائب الباهظة، يلي بعضها بعضا طوال العام، حتى عم الفقر البلاد، وشمل الشقاء جميع الطبقات، عدا الأشراف والموظفين وكل متصل بالبلاط.
ولكن الثورة الفرنسية تولى قيادتها فئة من الغلاة، أخذت في التقتيل واضطهاد المخالفين لمذهبها، القائلين بالتؤدة والاعتدال، فضج الناس من ظلمها؛ إذ بعد أن قتلت الملك والملكة، وأتبعتهما بعدد كبير من الزعماء وقادة الرأي، أخذت تبث العيون بحثا عن الخونة، و«الخونة» في عرف هذه الفئة لم يكونوا سوى كل معتدل يجرؤ على نقد رجالها وأعمالهم.
وكان «مارات» زعيم الفئة السفاكة، قد بدأ حياته بمزاولة الطب، ودرس العلوم الطبيعية، وبرع في هذا الدرس بعض البراعة، أقر له جوته، الأديب الألماني، وفرانكلين العالم الطبيعي المعروف، بما أداه من الخدمة في درس الكهربائية، ولكن ما نشبت الثورة الفرنسية حتى نفض مارات عنه رداء العلوم، وتقمص ثوب السياسة، وانغمس في حمأتها، حتى جلب على نفسه عداء عدد كبير من الناس، لغلوه في الدعاية إلى الجمهورية، واضطهاد المعتدلين القائلين بتقييد الملكية بدستور على النحو الإنجليزي. وأخذ أعداؤه في مناوأته، والبحث عن أذاه، حتى اضطر إلى الهجرة إلى الريف خوفا منهم، وبقي هناك مدة، عاد بعدها إلى باريس خفية.
Unknown page