وكانت هذه الفتاة تدعى نل جوين، عاشت طوال حياتها وهي لا تعرف لها أبا أو أما، نشأت على الدعارة، تكري نفسها لمن شاء ، لم تعرف قط معنى الطهارة؛ فقد كان يعيش في أيامها عصابات من الأشرار يختطفون الفتيات ويؤجرونهن، وكانت هي إحدى هؤلاء البائسات، فكانت تنتقل من صاحب يملها إلى آخر يستظرفها، ثم يملها، وهكذا.
فلما كان اليوم الثاني من لقائها بالملك استدعيت إلى القصر، وباح لها شارل بحبه، فعاشت من ذلك الوقت في كنفه، وأخلصت له الحب إخلاصا لم يجد ما يماثله فيمن عرفهن؛ فقد كان هم كل امرأة عرفها أن تثري، وتثقل نفسها بالجواهر، وتقتني القصور، عدا هذه الفتاة، فإنها على الرغم من أنها عاشت طول حياتها بين الفجرة من اللصوص والغواة، كانت لا تزال نفسها سليمة ساذجة، فلم تتطلع إلى اقتناء الأموال من الملك، بل كانت لا تهتم إلا بمصلحته.
ويحكى أن شارل جلس يوما، وأخذ يتضجر من أن الناس غير راضين عن حكمه، فقالت له نل جوين على الفور: «اطرد نساءك، وانظر في الواجبات التي تجب على الملك وهم يحبونك.»
ومما يؤثر عنها أنها كانت السبب في إنشاء مستشفى كلزي؛ فقد رأت أن الجنود الذين قتلوا في سبيل شارل الثاني وأبيه المقتول شارل الأول، قد أسنوا وعجزوا عن كسب معاشهم، فأسست لهم هذا المستشفى يأوون إليه.
وربما كان أكبر شاهد على فضل هذه المرأة التي فقدت طهارتها الجسمية ولكنها لم تفقد طهارتها الروحية، أنها عند وفاة شارل لم تكن تملك شيئا، حتى يقال إن الملك وهو يحتضر، والناس حوله وقوف، أخذ يعتذر إليهم لأنه أتعبهم لطول ما يقضي من الوقت في الاحتضار، ثم صاح وهو في السكرات الأخيرة: «أرجو ألا تدعوا نل المسكينة تموت جوعا.»
ماري ملكة اسكوتلاندا
بين كليوبطرة وماري شبه عظيم من جملة وجوه؛ كلتاهما كانت ملكة، وكانت الفتنة في جمال كل منهما ناشئة عن الشخصية لا عن قسامة الوجه ووسامة الأعضاء، فكان أول ما يراهما إنسان لا يجد فيهما شيئا من الجمال، فإذا ما أخذتا في الحديث رأى من الخفة والرشاقة ما يجذبه إليهما، ويجعله يعترف بفتنتهما، وتتشابهان أيضا من حيث أن كلا منهما لقيت حتفها عن سبيل الحب، وقد كانت حياتهما موضوع الشعراء والقصصيين والدراميين.
كانت ماري ابنة ملك اسكوتلاندا جيمس الخامس، وكانت أمها من نبيلات اللورين الواقعة بين فرنسا وألمانيا، امرأة ضخمة طوالا، يزيد ارتفاعها عن ست أقدام. وكان ملك إنجلترا يحاول أن ينال يدها، ويبعث إليها بالسفراء لكي تقبل الزواج به، وكان يقول: «أنا رجل ضخم، أحب أن أتزوج امرأة ضخمة مثلي.»
ولكن ملك اسكوتلاندا كان أذكى منه وأركن فطرة؛ فقد عرف أن العامل الشخصي في الزواج هو أهم العوامل؛ ولذلك عمد إلى اجتذابها بنفسه، ورحل إليها، وأخذ في تعشقها حتى رضيته زوجا وتزوجته وجاءت ابنتهما ماري مديدة القامة بيضاء، تكاد تكون شاحبة، حتى كان يقال عندما شبت وتزوجت، إنها كانت عندما تشرب النبيذ يتراءى للناظر بلونه الأشهب خلال عنقها الصافي البشرة. ومات أبوها في السنة الأولى من عمرها، فصارت بذلك ملكة اسكوتلاندا. وكانت فرنسا في ذلك الوقت بلاد الحضارة، يرسل أشراف ألمانيا وإنجلترا أبناءهم إليها للتعلم فيها، والتأديب بآداب باريس، والحذق في معرفة عوائد الأشراف والطبقات الراقية، فما كادت ماري تشب حتى أرسلت إلى ملك فرنسا. وكان حاكم فرنسا الحقيقي زوجته الإيطالية كاترين دومديشي، وكان البلاط الفرنسي في ذلك الوقت شبكة عاتية من الدسائس السياسية ومسارقات الغرام، والتأنق في إشباع الشهوات الجنسية. ونشأت ماري في هذا الوسط، فاصطبغت أخلاقها به، وعرفت منه شجرة الخير والشر.
وكانت ذكية الطبع، فلم يمض عليها وقت طويل حتى حذقت الفرنسية والإيطالية واللاتينية، وتدربت على الفروسية، وتعلمت الرسم والنظم، ثم حدث لها ما عجل في إذكاء قريحتها؛ فقد صارت زوجة لولي عهد فرنسا ولما تبلغ السابعة عشرة، ولم يكن زواجها به عن حب، وإنما روعيت فيه المصلحة؛ فقد كانت هي ملكة اسكوتلاندا، وكان هو ملك فرنسا. وكانت إليصابات ملكة إنجلترا عانسا لم تتزوج، فكان عرش إنجلترا لا بد مقضيا عليه بأن يئول إلى السلالة الحاكمة في اسكوتلاندا للصلة القديمة بين ملوك إنجلترا واسكوتلاندا، فكانت النية من هذا الزواج أن تجمع الأقطار الثلاثة في مملكة واحدة يحكمها هذان الزوجان.
Unknown page