How to Invite Pagans to Allah in the Light of the Quran and Sunnah
كيفية دعوة الوثنيين إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
Publisher
مطبعة سفير
Publisher Location
الرياض
Genres
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
كيفية دعوة الوثنيين إلى اللَّه تعالى
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في «كيفية دعوة الوثنيين المشركين إلى اللَّه تعالى» بيّنت فيها بإيجاز الأساليب والوسائل والطرق الحكيمة في دعوتهم إلى اللَّه تعالى.
واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس ٢٥/ ٢/١٤٢٥هـ
1 / 3
تمهيد:
الوثني: من يتدين بعبادة الوثن (١)، يقال: رجل وثنيٌّ، وقوم وثنيُّون، وامرأة وثنية، ونساء وثنيَّات (٢)، واسم الوثن يتناول كل معبود من دون اللَّه. سواء كان ذلك المعبود قبرًا، أو مشهدًا، أو صورة، أو غير ذلك (٣).
وكل من دعا نبيًّا أو وليًّا أو ملكًا أو جنيًّا، أو صرف له شيئًا من
_________
(١) الوثن: الصنم، والجمع وثن وأوثان وهو التمثال يعبد، سواء كان من خشب، أو حجر، أو نحاس، أو فضة أو غير ذلك. وقد كان الوثنيون يزعمون أن عبادته تقربهم إلى الله - تعالى -، كما بين - سبحانه - ذلك عنهم بقوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾. (سورة الزمر، الآية: ٣). انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الواو، ص١٥٩٧، وباب الميم فصل الصاد ص١٤٦٠، والمعجم الوسيط، مادة (وثن) ٢/ ١٠١٢، ومادة (صنم) ١/ ٥٢٦، والمصباح المنير، مادة (وثن) ص٦٤٧، ٦٤٨ ومادة (صنم)، ص٣٤٩ ومختار الصحاح، مادة (وثن)، ص٢٩٥، ومادة (صنم)، ص١٥٦.
(٢) انظر: المعجم الوسيط، مادة (وثن) ٢/ ١٠١٢، والمصباح المنير، مادة (وثن) ص٦٤٨.
قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من خشب، أو حجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد. والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين. انظر: النهاية في غريب الحديث ٥/ ١٥١ و٣/ ٥٦ ثم قال: وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم قال: أتيت النبي ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: >يا عدي اطرح عنك هذا الوثن<. أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب سورة التوبة ٥/ ٢٧٨، برقم ٣٠٩٥، وانظر: صحيح الترمذي ٣/ ٥٦.
(٣) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ص٢٤٤.
1 / 4
العبادة فقد اتخذه إلهًا من دون اللَّه (١)، وهذا هو حقيقة الشرك الأكبر، الذي قال اللَّه - تعالى - فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ (٢).
والمشركون يُدعَون إلى اللَّه - تعالى - بالحكمة القولية على حسب عقولهم وأفهامهم.
وسأبين ذلك - بإذن اللَّه تعالى - في المباحث الآتية:
المبحث الأول: الحجج والبراهين العقلية القطعية على إثبات ألوهية اللَّه تعالى
المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون اللَّه من كل الوجوه.
المبحث الثالث: ضرب الأمثال الحكيمة.
المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله المستحق للعبادة وحده.
المبحث الخامس: التوحيد دعوة جميع الرسل، عليهم الصلاة والسلام.
المبحث السادس: الغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم.
المبحث السابع: الشفاعة المثبتة والمنفية.
المبحث الثامن: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده.
المبحث التاسع: البعث بعد الموت.
_________
(١) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، ص٢٤٢.
(٢) سورة النساء، الآية: ٤٨.
1 / 5
المبحث الأول: الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية اللَّه تعالى
من البراهين القطعية التي ينبغي للدعاة إلى اللَّه تبيينها وتوضيحها لمن اتخذ من دون اللَّه آلهة أخرى، قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (١).
فقد أنكر – سبحانه – على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجارًا أو خشبًا، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون اللَّه! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ والجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كانت في السماوات والأرض آلهة تستحق العبادة غير اللَّه لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئًا والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة!، وذلك:
- لأنه يستحيل وجود مرادهما معًا، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعًا للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء
_________
(١) سورة الأنبياء، الآيات: ٢١ – ٢٣.
1 / 6
الواحد حيًّا ميتًا، متحركًا ساكنًا.
- وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية.
- وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر، والآخر عاجز ضعيف مخذول.
- واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن.
وحينئذ يتعين أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده من غير مُمانع ولا مُدافع، ولا مُنازع ولا مُخالف ولا شريك، وهو اللَّه الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا ذكر – سبحانه – دليل التمانع في قوله ﷿: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (١).
وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباط بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ (٢). وكل ذلك مسخر، ومدبر بالحكمة لمصالح الخلق كلهم – يدل على أن مدبره واحد، وربه واحد،
_________
(١) سورة المؤمنون، الآيتان: ٩١ - ٩٢.
(٢) سورة الملك، الآية: ٣.
1 / 7
وإلهه واحد، لا معبود غيره، ولا خالق سواه (١).
المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون اللَّه من كل الوجوه
من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عُبِدَ من دون اللَّه من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئًا من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عز أو ذل، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسأل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا (٢).
وقد بيّن اللَّه ﷿ ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال – سبحانه -: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (٣)، ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا
_________
(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ٩/ ٣٥٢، ٣٥٤، ٣٣٧ - ٣٨٢، ١/ ٣٥ - ٣٧، وتفسير البغوي، ٣/ ٢٤١، ٣١٦، وابن كثير، ٣/ ٢٥٥، ١٧٦، وفتح القدير للشوكاني، ٣/ ٤٠٢، ٤٩٦، وتفسير عبد الرحمن السعدي، ٥/ ٢٢٠، ٣٧٤، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري، ٣/ ٩٩، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض، الألمعي ص١٥٨ - ١٦١.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير، ٢/ ٨٣، ٢١٩، ٢٧٧، ٤١٧، ٣/ ٤٧، ٢١١، ٣١٠، وتفسير السعدي، ٢/ ٣٢٧، ٤٢٠، ٣/ ٢٩٠، ٤٥١، ٥/ ٢٧٩، ٤٥٧، ٦/ ١٥٣، وأضواء البيان للشنقيطي، ٢/ ٤٨٢، ٣/ ١٠١، ٣٢٢، ٥٩٨، ٥/ ٤٤، ٦/ ٢٦٨.
(٣) سورة المائدة، الآية: ٧٦.
1 / 8
وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ* وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ (١).
وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا﴾ (٢).
ومن المعلوم يقينًا أن ما يعبده المشركون من دون اللَّه من: الأنبياء أو الصالحين أو الملائكة أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى اللَّه بالعمل الصالح، والتنافس في القُرب من ربهم، يرجون رحمته ويخافون عذابه،
_________
(١) سورة الأعراف، الآيات: ١٩١ - ١٩٨.
(٢) سورة الإسراء، الآية: ٥٦.
1 / 9
فكيف يُعبَدُ من هذه حاله؟ (١) قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ (٢).
وقد أوضح وبيَّن سبحانه أن ما عُبِدَ من دونه قد توفرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس للَّه من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (٣)، قال ﷿: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ..﴾ (٤).
المبحث الثالث: ضرب الأمثلة الحكيمة
ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير، ٣/ ٤٨، وتفسير السعدي، ٤/ ٢٩١.
(٢) سورة الإسراء، الآية: ٥٧.
(٣) انظر: تفسير ابن كثير، ٣/ ٣٧، وتفسير السعدي، ٦/ ٢٧٤.
(٤) سورة سبأ، الآيتان: ٢٢ - ٢٣.
1 / 10
بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم فسأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود كالآتي:
١ - قال اللَّه ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (١).
حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبد من دون اللَّه لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون اللَّه؟!
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل اللَّه – تعالى – في بطلان الشرك وتجهيل أهله (٢).
_________
(١) سورة الحج، الآيتان: ٧٣ - ٧٤.
(٢) انظر: أمثال القرآن لابن القيم، ص٤٧، والتفسير القيم لابن القيم، ص٣٦٨، وتفسير البغوي، ٣/ ٢٩٨، وابن كثير، ٣/ ٢٣٦، وفتح القدير للشوكاني، ٣/ ٤٧٠، وتفسير السعدي، ٥/ ٣٢٦.
1 / 11
٢ - ومن أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ﴾ (١).
فهذا مثل ضربه اللَّه لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين – سبحانه – أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون اللَّه أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتًا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، وكذلك من اتخذ من دون اللَّه أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفًا إلى ضعفهم (٢).
٣ - ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيَّنه تعالى بقوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للَّهِ
_________
(١) سورة العنكبوت، الآيات: ٤١ – ٤٣.
(٢) انظر: تفسير البغوي، ٣/ ٤٦٨، وأمثال القرآن لابن القيم، ص٢١، وفتح القدير للشوكاني، ٤/ ٢٠٤.
1 / 12
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (١).
فهذا مثل ضربه اللَّه - تعالى - للمشرك والموحد، فالمشرك لمَّا كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب.
والموحِّد لما كان يعبد اللَّه وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبدًا (٢).
المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده
بعد أن عرفنا صفات الآلهة الباطلة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها ضرًّا ولا نفعًا، فهي لا تستحق العبادة، وإنما الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء، والإحاطة بكل شي، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيء، والعلم بكل
_________
(١) سورة الزمر، الآية: ٢٩.
(٢) انظر: تفسير البغوي، ٤/ ٧٨، وابن كثير، ٤/ ٥٢، والتفسير القيم، ص٤٢٣، وفتح القدير للشوكاني، ٤/ ٤٦٢، وتفسير السعدي، ٦/ ٤٦٨، وتفسير الجزائري، ٤/ ٤٣.
1 / 13
شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه فإنه حقيق بأن يُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ولا يُشرك معه غيره (١).
وصفات الكمال المطلق للَّه - تعالى - لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال.
١ - المتفرد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا اللَّه وحده، الحي الذي لا يموت أبدًا، القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السماوات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ (٢).
ومن تمام ملكه وعظمته وكبريائه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه قد حفظهما
_________
(١) انظر: تفسير البغوي، ١/ ٢٣٧، ٣/ ٧١، ٢/ ٨٨، ٣٧٢، وابن كثير، ١/ ٣٠٩، ٢/ ٥٧٢، ٣/ ٤٢، ٢/ ١٢٧، ٤٣٥، ٥٧٠، ١/ ٣٤٤، ٢/ ١٣٨، وتفسير السعدي، ١/ ٣١٣، ٧/ ٦٨٦، ٢/ ٣٨١، ٣/ ٣٩٧، ٤/ ٢٠٤، ٦/ ٣٦٤، ١/ ٣٥٦، ٢/ ٣٧٢، وأضواء البيان، ٢/ ١٨٧، ٣/ ٢٧١.
(٢) سورة مريم، الآيتان: ٩٣ - ٩٤.
1 / 14
وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العلي بذاته على جميع مخلوقاته، والعلي بعظمته وصفاته، العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دل على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ...﴾ الآية (١).
٢ - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها، وإنسها وجنّها وملائكتها ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (٢).
٣ - وهو الإله الذي بيده النفع والضر، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقًا لم ينفعوه إلا بما كتبه اللَّه له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إذا لم يرد اللَّه ذلك ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ٢٥٥.
(٢) سورة آل عمران، الآية: ٨٣.
1 / 15
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (١).
٤ - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (٢).
٥ - إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون (٣)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾ (٤)، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (٥)، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (٦)، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (٧).
ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال
_________
(١) سورة يونس، الآية: ١٠٧.
(٢) سورة يس، الآية: ٨٢.
(٣) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ٣٤٤، ٢/ ١٣٨، والسعدي، ٢/ ٣٥٦، ٢/ ٣٧٢.
(٤) سورة آل عمران، الآية: ٥.
(٥) سورة يونس، الآية: ٦١.
(٦) سورة الأنعام، الآية: ٥٩.
(٧) سورة الأنفال، الآية: ٧٥.
1 / 16
والعظمة، فإنه سيعبد اللَّه وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة.
المبحث الخامس: التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام
يجب أن يُبلّغ كل من أشرك باللَّه - تعالى - أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - دعوا أقوامهم إلى عبادة اللَّه وحده دون ما سواه، وأن الحجة قد قامت على جميع الأمم، وما من أمة إلا بعث اللَّه فيهم رسولًا، وكلهم يدعون إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له (١)، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (٢)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾ (٣)، وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ (٤).
فبيّن سبحانه في هذه الآيات عن طريق العموم أن جميع الرسل
_________
(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ٩/ ٣٤٤، وتفسير ابن كثير، ٢/ ٥٦٧، والسعدي، ٤/ ٢٠٢، وأضواء البيان للشنقيطي، ٣/ ٢٦٨.
(٢) سورة النحل، الآية: ٣٦.
(٣) سورة الأنبياء، الآية: ٢٥.
(٤) سورة الزخرف، الآية: ٤٥.
1 / 17
دعوا إلى «لا إله إلا اللَّه»، وخلع جميع المعبودات من دون اللَّه (١)، وفصَّل ذلك في مواضع أخرى من كتابه، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٢)، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٣)، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٤)، ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٥)، ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ (٦).
وهذا بلاغ مبين من اللَّه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فالداعية إلى اللَّه – تعالى – يقوم بإيصال هذه الحكم القولية إلى الناس، ويبين لهم ذلك، فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما
_________
(١) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ٣/ ٢٦٨.
(٢) سورة الأعراف، الآية: ٥٩.
(٣) سورة الأعراف، الآية: ٦٥.
(٤) سورة الأعراف، الآية: ٧٣.
(٥) سورة الأعراف، الآية: ٨٥.
(٦) سورة المائدة، الآية: ٧٢.
1 / 18
ربك بظلام للعبيد.
المبحث السادس: الغلو في الصالحين سبب شرك البشر
من أعظم الحكم القولية في دعوة من تعلق بغير اللَّه - تعالى -، أن يبين لهم أن الغلو في الصالحين هو سبب الشرك باللَّه - تعالى - فقد كان الناس منذ أُهبط آدم ﷺ إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس ﵀: «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام» (١).
وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين، ودب الشرك في الأرض، فبعث اللَّه نوحًا ﷺ يدعو إلى عبادة اللَّه وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (٢)، وردّ عليه قومه: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ (٣).
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك
_________
(١) أخرجه الطبري في تفسيره، (٤/ ٢٧٥، رقم ٤٠٤٨)، والحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، ٢/ ٥٤٦ - ٥٤٧، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، ١/ ١٠١، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري، ٦/ ٣٧٢.
(٢) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، ١/ ١٠٦.
(٣) سورة نوح، الآية: ٢٣.
1 / 19
أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت «(١).
وهذا سببه الغلو في الصالحين، فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على اللَّه بها، وشأن اللَّه أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون اللَّه، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (٢).
ولهذا حذَّر اللَّه عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله اللَّه – تعالى – كما قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ (٣)، ولهذا حذَّر رسول اللَّه ﷺ
_________
(١) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة نوح، ٨/ ٦٦٧، برقم ٤٩٢٠.
(٢) انظر: تفسير الطبري، ٢٩/ ٦٢، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص٢٤٦.
(٣) سورة النساء، الآية: ١٧١.
1 / 20
عن الإطراء، فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله» (١)، وقال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (٢).
وحذر ﷺ عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة اللَّه عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة ﵄ لرسول اللَّه ﷺ كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة».
ومن حرص النبي ﷺ على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: «لَعْنَةُ اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت عائشة ﵂: يحذر ما صنعوا (٣).
وقال قبل أن يموت بخمس: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور
_________
(١) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ...﴾، ٦/ ٤٧٨، (رقم ٣٤٤٥)، ١٢/ ١٤٤، وانظر شرحه في الفتح، ١٢/ ١٤٩.
(٢) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، ٥/ ٢٦٨، (رقم ٣٠٥٥)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، ٢/ ١٠٠٨، (رقم ٣٠٢٩)، وأحمد، ١/ ٣٤٧.
(٣) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، ١/ ٥٣٢، (رقم ٤٣٥، ٤٣٦)، ٣/ ٢٠٠، ٦/ ٤٩٤، ٧/ ١٨٦، ٨/ ١٤٠، ١٠/ ٢٧٧، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، ١/ ٣٧٧، (رقم ٥٣١).
1 / 21