الثائر
«نحن كذلك أغنياء بالأفكار فقراء في الأعمال.» «إنسان منطو على الدوام، عابس الملامح.»
1
هكذا صور هلدرلين نفسه فيما بعد، عندما أطبق عليه ليل الجنون المظلم ما يقرب من نصف حياته.
أخفق حبه الأول كما رأينا، وكتب إلى حبيبته الأولى رسالة فيها من العذاب بقدر ما فيها من الكبرياء .. ولكنه اضطر كذلك إلى تبرير تصرفه أمام أمه التي ظلت تتمنى له الراحة والدفء والاستقرار. فبعث إليها بسطور يقول فيها إنه صمم منذ سنوات على عدم الزواج. وسواء جاء هذا التصميم عن خيبته في الحب أو سوء حظه أو غيبة الظروف والفرص المواتية، فلا شك أنه كان يتفق مع طبيعته وينبع من إحساسه بنفسه، ولا شك أيضا أنه بقي وحيدا في رحلة الحياة والعذاب. ولعله كان يشعر شعورا قويا بالقدر المظلم الذي ينتظره، ويعتز بالهدف الذي رسمه له وحيه ووجدانه. ها هو ذا يستطرد في رسالته إلى أمه ويقول: «إن طبعي العجيب، وأهوائي المتقلبة، وميلي إلى المشروعات البعيدة، (ولأعترف لك بالحقيقة كاملة) وطموحي، كلها ملامح لا يمكن أن تمحى من الوجود بغير آثار خطيرة، وهي لا تجعلني أتوقع السعادة في الزواج الهادئ ...»
ولكنه لا يريد أن يزيد الأم حزنا على حزن، فيختم رسالته بقوله: «ومع هذا فقد يغير المستقبل ذلك.» ولم يغير المستقبل شيئا، لأن العبارة لم تكتب إلا رحمة بالأم.
والطموح الذي يذكره هلدرلين في هذه الرسالة بما يشبه الاعتذار يدل في الحقيقة على الصراع الذي كان يعانيه وهو يحس إرادته تتمرد على وجدانه، وروحه تصطدم بجدران الكآبة المتسلطة عليه. ولا بد أنه كان يريد التعبير عن هذا الصراع حين وصف طبعه بأنه عجيب، وحين قال عن نفسه في صباه المبكر إنه أحمق وطائش وهو قول لا يملك من يعرف الآن قصة حياته إلا أن يرتعش لسماعه وتختلج كل جارحة فيه.
كان عليه إذن أن يحتمل هذا الصراع طوال حياته، ويعيش هذا التوتر الذي جعله يتمزق بين التهور والاتزان، والتمرد المفاجئ والاستسلام المبكي. والذين التقوا به يحكون عن هدوئه وطيبته والسحر المنبعث من قسمات وجهه اللطيف، وقامته المديدة، وهندامه الجميل، وإشاراته المهذبة، وتعبيرات ملامحه التي تنم على النبل والسمو، ومشيته التي «تشبه مشية أبوللو في بهو المعبد» .. ولكن يبدو أن نعمة الهدوء التي تشع منه لم تكن إلا القشرة الناعمة التي تخفي وراءها جمرات الحزن واليأس. وهو نفسه يعبر عن هذا بكلام يختلف عما يقول رواته، وينضح بالشكوى من كآبته الملازمة؛ فهو في عين نفسه «أحمق»، و«لوح».
2
وهو يسأل: «أأنا وحدي هكذا؟ أأظل إلى الأبد، إلى الأبد أتصيد النزوات والأهواء؟ لقد قال عني الدير كله
Unknown page