وعلى الرغم من إعيائه النفسي والجسدي، وتفكك أفكاره، وغموض كلامه، وعنائه في البحث عن الكلمة، وانصرافه الساعات الطويلة إلى تأمل السماء في الليالي القمرية من النافذة، فقد أعجب كل من رآه أو تحدث إليه بسمو فكره، ودهش لأصالة تعبيره ونقاء روحه، وأحس بوحدته العميقة المخيفة التي جعلت الاتصال به مستحيلا، وحبسته بين جدران وجدانه أشبه بالميت يرقد في تابوت، أو لؤلؤة نائمة في جوف محار أو صدفة.
راح الشاعر يتجول في ليل الجنون المظلم كمن يحلم حلما مخيفا ويسير في نومه بعيون مفتوحة. وكان جنونه الطويل أشبه بموت طويل. ويبدو أنه أسلم نفسه للموت قبل أن يأتي إليه ويأخذه، واتحد بالطبيعة الإلهية قبل أن يرجع إليها ويذوب فيها بجسده وروحه. ولعله قد عمل بوصية «إمبادوقليس» لأهل مدينته، في الفصل الثاني من مسرحيته عن موت هذا الفيلسوف الشاعر والساحر اليوناني القديم.
هلدرلين في الخامسة والخمسين من عمره (من رسم يوهان جورج شرينر).
وصمت الشاعر صمته الطويل عندما أحس - كما أحس إمبادوقليس - بأن الطبيعة الإلهية الحاضرة أبدا لا تحتاج للكلام. ولعله قد صمت عندما أحس أيضا أنه قال كل ما أرادت الروح أن تقوله على لسانه، وأعلن النبوءة التي أوحت بها الآلهة إليه: «لا بد أن يذهب من تكلمت الروح من خلاله ...» هكذا قال في مسرحيته. فهل كان مصيره عقابا له على الإفشاء بالسر المقدس كما كان مصير الحلاج،
2
أم كان جزاء له على صبره وشجاعته؟ هل أسرف في حبه للآلهة أم بالغ في التشبه بهم والتطلع إلى حياتهم الخالدة فحق عليه ما قاله هو نفسه على لسان الكاهن «هرموقراطيس» في حديثه عن عدوه إمبادوقليس:
3
لقد أحبته الآلهة حبا شديدا،
ومع ذلك فليس أول من ألقوه
من ذروة ثقتهم واعتزازهم
Unknown page