وما إن أخذ الملك على الأمراء العهد والميثاق، حتى فوض الأمر لابنته هيليني، فوقع اختيارها على مينيلاوس شقيق أغاممنون ورضيته زوجا لها. واحترم الأمراء رغبتها، واستوثق بعضهم من بعض أن يكونوا عند عهدهم الذي قطعوه، وألا ينقضوا الميثاق الذي أخذوه، وأن يبذلوا ما استطاعوا من جهد للوفاء به.
في ذلك الحين كانت الشيخوخة قد أخذت تزحف على الملك تنداريوس - والد هيليني - بمتاعبها ومشكلاتها وذكرياتها؛ فآثر أن يتخفف من أعباء الملك، ويلقي بها على كاهل من يستطيع النهوض بحملها، والوفاء بتبعاتها، ويحسن تدبير شئون الملك، ويجيد تصريف أموره، ويسوس الرعية خير سياسة، ويقودها أفضل قيادة. فلم يجد خيرا من صهره مينيلاوس زوج هيليني، فتنازل له عن العرش. ومنذ ذلك الوقت أصبح مينيلاوس ملكا لإسبرطة.
وعلى بعد بعيد من إسبرطة، عبر البحر الإيجي، كانت تقع مدينة طروادة. وهي مدينة ذائعة الصيت، واسعة الشهرة، يتربع على عرشها الملك برياموس. وهو ملك عظيم، عريض الثراء، شديد البأس، بالغ القوة والنفوذ، أنجبت له زوجته هيكابي ولدا هو هكتور. ولما حملت للمرة الثانية رأت حلما مزعجا، سبب لها ولزوجها الملك كثيرا من الفزع والهلع. فقد رأت أنها أنجبت شعلة متوهجة من النار، سرعان ما انتشرت في أرجاء طروادة؛ فأتت على الأخضر واليابس، وتركتها رمادا تذروه الرياح.
خشي الملك برياموس على نفسه وعلى عرشه، كما خشي على زوجته ووطنه، ونفرت نفسه من هذا الجنين أشد النفور. فلما وضعته هيكابي تقاذفتهم الأفكار، وتناوشتهم الخواطر: ماذا يصنعون به؟ وكيف يتخلصون منه؟ حفاظا على أنفسهم من شره، وعلى طروادة من ضره. وكانت فكرة قتله أشد الأفكار سيطرة عليهم، ولكنهم لم يجدوا الشجاعة الكافية لتنفيذها، ففكر الملك في وسيلة أخرى ينقذ بها نفسه وزوجه وعرشه وبلده، فحمل الطفل بين ذراعيه، وذهب به إلى خارج المدينة، وهناك فوق قمة جبل إيدا ترك حمله على الأرض؛ أملا في أن تفترسه الوحوش الضارية، أو تلتقمه الطيور الجارحة، أو يهلك من الجوع والعطش. ولكن ظنونه ذهبت بددا ؛ فقد عثر عليه أحد الرعاة، فالتقطه ليكون له ولدا، وأحاطه برعايته وعنايته بين أبنائه، وسماه باريس.
عاش باريس في كنف هذا الراعي حياة الرعاة البسيطة، يحترف حرفتهم، وينطلق بين أحضان الطبيعة انطلاقهم. لا يعرف إلا أنه واحد منهم، وأنه ابن لذلك الراعي البسيط، ولا يدري أنه أمير جليل، وابن للملك برياموس العظيم. وكذلك من حوله لا يدرون عن حقيقته شيئا! حتى إذا ما اشتد عوده، وأزهر شبابه، واستحصدت قوته، وقع حادث كان له أكبر الأثر في توجيه حياته، وتغيير مسارها؛ فقد تزوج بيليوس ملك المورميدونيين ثيتيس إحدى ربات البحر، وأقيم لهذا الزواج حفل رائع باهر، شهده الأرباب جميعا، يتقدمهم زيوس، رب الأرباب وكبير الآلهة، ومعه زوجته هيرا، وكذلك أثينة، ربة الحكمة، وأفروديتي، ربة الجمال والحب. كلهم بارك هذا الزواج، وسعد به، غير ربة واحدة لم تدع إلى الحفل، هي ربة الشقاق إيريس؛ خشية أن تفسد بهجته، بما قد تبذره من بذور الخلاف. فعز عليها إهمالها، وأوغر صدرها عدم الاهتمام بها. فأضمرت في نفسها شرا، وعقدت العزم على إفساد متعتهم بالحفل وهي غائبة عنه. فليس ضروريا لكي تنفث سمومها أن تكون بين المدعوين بشخصها، ولكنها ستكون حاضرة بينهم بحقدها. ولذلك ألقت على المائدة التي يجلس إليها المدعوون تفاحة ذهبية، كتبت عليها عبارة مثيرة مغرية بالاختلاف والنزاع: «إلى أجمل النساء طرا»، وهي تعرف ما يمكن أن تشعله هذه الجملة في نفوس الربات من غيرة وشقاق، فكل واحدة منهن تظن نفسها أجمل النساء، سواء كان الجمال جمال البشرة والجسد، أو جمال العقل والحكمة، أو جمال السمو والرفعة. وما واحدة منهن براغبة في أن تتنازل للأخرى عن التفاحة؛ إذ كل واحدة منهن تود أن تحظى بهذا اللقب الجميل المثير.
وحدث ما توقعته ودبرت له ربة الشقاق من نزاع واختلاف بين الربات، كاد يتطور إلى شجار وعراك. ولكن زيوس كبير الآلهة أراد أن يحسم النزاع، فأصدر أمره بأن يحكم في هذا النزاع باريس راعي جبل إيدا. وأرسل إليه التفاحة مع إيريس، وأمرها بأن تخبره بأن يقدم التفاحة للربة التي يراها تفوق الأخريات جمالا في نظره.
بينما كان باريس، راعي جبل إيدا، يرعى أغنامه عصر يوم من الأيام، إذا بمفاجأة تذهله، وتكاد تفقده وعيه. فقد شاهد الربات الثلاث يقفن أمامه، ومعهن إيريس تنبئه بما وقع، وتبلغه رسالة زيوس. وعندئذ تكلمت هيرا، فقالت له: «أي باريس، إنك تجهل حقيقة أمرك. إنك أمير عظيم، ولست الراعي الخامل الحقير. أنت ابن ملك طروادة برياموس، ولسوف أجعلك - إذا أعطيتني التفاحة - أقوى الملوك بأسا، وأوسعهم ثراء، وأبسطهم جاها ونفوذا؛ فلا يكون في الدنيا كلها من يضارعك.»
وهزه قولها، فقد كشفت له عن حقيقته. فطالما أحس إحساسا غامضا مبهما، لم يستطع تحققه ولا تصوره؛ أنه لم يخلق لهذه الحياة التافهة الخاملة، حتى جاءت هذه الربة فأماطت له اللثام عن حقيقة أمره. إنها - إذا - جديرة بهذه التفاحة! وهم أن يمنحها التفاحة، لكن خاطرا هتف به أن يتريث في الأمر، وأن يتلبث حتى يستمع إلى قول أثينة وأفروديتي.
ووقفت أثينة في كبرياء وجلال تقول له: «أي باريس، إذا أعطيتني التفاحة فسأعلمك كيف تكون أرجح الناس عقلا، وأحسنهم تدبيرا، وأرزنهم حلما، وأكثرهم حكمة. سأجعل منك رجلا عظيما، يهابه الناس ولا يعصون له أمرا، لا من خوف ورهبة، بل عن حب ومودة.»
وكاد باريس يعطيها التفاحة، فقد رغب فيما عندها من الحكمة والرشد، يسوس بهما الناس، وفيما وعدته به من حب الناس له، يعطف قلوبهم نحوه. ولكنه فوجئ بأفروديتي - ربة الجمال والحب - تقف في دلال، وتتقدم منه في خيلاء، وترنو إليه بابتسامة رائعة، لم يستطع لسحرها مقاومة، ولا عليه امتناعا، وتقول له بصوت ندي رخيم، كأنما يعلن به الحب عن نفسه: «أي باريس، أعطني التفاحة، وسوف أهبك أجمل امرأة في العالم؛ لتصبح زوجة لك!» ولم يتمالك باريس نفسه، ولم يخامره التردد لحظة، بل اندفع مسرعا، وأعطى أفروديتي - ربة الجمال والحب - التفاحة. •••
Unknown page