مقدمة
تغريدة البجع
نار ونور
منهج جديد
فرار إلى مدينة الأحلام
سنوات التحول «1»
سنوات التحول «2»
سنوات التحول «3»
الصورة من بعيد
رؤية واضحة «1»
Unknown page
رؤية واضحة «2»
رؤية واضحة «3»
مطالع النور «1»
مطالع النور «2»
مطالع النور «3»
المطبوعة الزرقاء «1»
المطبوعة الزرقاء «2»
المطبوعة الزرقاء «3»
إرادة التغيير «1»
إرادة التغيير «2»
Unknown page
إرادة التغيير «3»
في سبيل الوضوح «1»
في سبيل الوضوح «2»
خيوط تلاقت «1»
خيوط تلاقت «2»
رؤية موحدة «1»
رؤية موحدة «2»
رؤية موحدة «3»
نهاية الطريق «1»
نهاية الطريق «2»
Unknown page
نهاية الطريق «3»
مقدمة
تغريدة البجع
نار ونور
منهج جديد
فرار إلى مدينة الأحلام
سنوات التحول «1»
سنوات التحول «2»
سنوات التحول «3»
الصورة من بعيد
Unknown page
رؤية واضحة «1»
رؤية واضحة «2»
رؤية واضحة «3»
مطالع النور «1»
مطالع النور «2»
مطالع النور «3»
المطبوعة الزرقاء «1»
المطبوعة الزرقاء «2»
المطبوعة الزرقاء «3»
إرادة التغيير «1»
Unknown page
إرادة التغيير «2»
إرادة التغيير «3»
في سبيل الوضوح «1»
في سبيل الوضوح «2»
خيوط تلاقت «1»
خيوط تلاقت «2»
رؤية موحدة «1»
رؤية موحدة «2»
رؤية موحدة «3»
نهاية الطريق «1»
Unknown page
نهاية الطريق «2»
نهاية الطريق «3»
حصاد السنين
حصاد السنين
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
أحس الكاتب أنه، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وانتابته عوامل الضعف والمرض، أنه قد اقتربت سيرته الثقافية من ختامها مما أوحى له بأن يكتب هذا الكتاب؛ ليقدم به إلى قارئه صورة للحياة الثقافية كما عاشها أخذا وعطاء، وهي حياة طال أمدها حتى بلغ - عند كتابة هذه السطور - ما يزيد قليلا عن ستين عاما، بدأت قبيل سنة 1930م، وطالت حتى أوشك الزمن على الدخول في سنة 1991م، ولقد حرص الكاتب أشد الحرص على أن يصور حياته العلمية والأدبية خلال هذه الفترة الطويلة، في نزاهة يتجرد بها عن الهوى ما كان ذلك في مستطاع البشر، وسوف يرى القارئ أنه إنما يشهد الحياة الثقافية المصرية العربية في عمومها، منظورا إليها بمنظار مواطن مصري عربي، شاءت له فطرته أن يجعل تحصيل العلم وكسب الثقافة، ثم نشر ذلك العلم فيمن تولى تعليمهم في قاعات الدرس، وكذلك نشر ما قد تشربه من ثقافة فيما كتبه لينشر في جمهور القارئين، حتى بلغت صفحات الكتب التي أخرجها ما يقرب من عشرين ألف صفحة، فيها ما هو علم أكاديمي اقتضته الحياة الجامعية، وما هو أدب خالص اقتضته طبيعته التي تميل به آنا بعد آن إلى تقديم ما يريد تقديمه إلى القارئ، في تشكيل فني يلتزم ما يلزم في عملية الإبداع الأدبي، ثم ما هو أقرب إلى أن يقع بين بين، وذلك حين يعرض أفكارا تمس حياة الناس في الصميم، عرضا لا هو في صرامة البحوث الأكاديمية من جهة، ولا هو في شكل الخيال الأدبي من جهة أخرى، وسيجد القارئ فصول هذا الكتاب في معظمها من هذا الطراز الثالث.
فأول ما يصادفه من الكتاب، عنوان الفصل الأول، وهو «تغريدة البجع» وهو عنوان ينطوي على دلالة غنية بمضموناتها، فأولا هو عنوان يوحي بأن الكاتب حين هم بكتابة هذا الكتاب، كان يضمر في نفسه أنه إنما يكتب آخر ناتج له، ثم يودع القلم، بل وما هو أوسع من هذا القلم وأشمل؛ وذلك لأنه قد عرف عن البجعة أنها وهي تلفظ أواخر أنفاسها، تخرج نغمة أجمل ما تكون النغمات وقعا في آذان البشر، إنها على أرجح الظن تئن أنين الحي وهو على حافة النهاية التي ينتقل بها من الحياة إلى الموت، ولكن أبناء آدم لا يأبهون بآلام البجعة المحتضرة في أنينها، إذا وقع ذلك الأنين في آذانهم وقع الأغرودة تطربه بحلاوة أنغامها، ومن هذا المعنى الذي تحمله تغريدة البجعة في أواخر أنفاسها، أخذ الكاتب عنوان الفصل الأول من هذا الكتاب.
ولقد كان الكاتب، وهو يكتب أول فصول الكتاب الذي اعتزم أن يكون كتابه الأخير، سبقه على آماد السنين نحو خمسين كتابا، يحس فعلا بشيء من حشرجة الأنين يتردد بين جوانحه إذ شاء له ربه أن يقع له في حياته من غدر «الأصدقاء» ما اهتز له كيانه البشري اهتزازا كاد يقتلع شجرة الحياة من جذورها اقتلاعا، ولكن من يدري؟ فرب ضارة نافعة كما يقولون؛ لأن تلك الصدمة الهادمة إن تكن قد تركت وراءها أنين المتألم فهو الأنين الذي ربما كان له عند القارئ نغمة يطرب لها ويفرح.
Unknown page
ولم يلبث الكاتب عند هذه الذكريات المحزنة طويلا، ليفرغ إلى رواية حياته الثقافية، فقد كانت أولى خطاها تلك الأعوام الأخيرة من عشرينيات القرن ثم استمرارها إبان عقد الثلاثينيات، وهي فترة كان الكاتب فيها مستمعا لما يقوله الآخرون أكثر منه ناطقا بما عنده يسمع الآخرون، وها هنا نراه يصف للقارئ كيف ازدحمت حياة الناس الثقافية في بلادنا، بالأفكار القوية، ينقلها كاتبوها عن الغرب الحديث أو القديم حينا وعن أسلافنا حينا آخر، وكان لا بد للقارئ الطموح يومئذ من المقارنة بين تلك الأفكار المعروضة؛ ليأخذ منها ما يراه صالحا لطبيعته، ويترك ما لا يصلح، وهنا يروي لنا الكاتب عن نفسه أنه قد مال بكل عقله وقلبه نحو فكرة «التقدم» من مجموعة الأفكار التي امتلأت بها الصحف والكتب، وفكرة «التقدم» هذه هي من الأفكار المركبة التي تحتوي على أبعاد كثيرة، فمنها أن الآخذ بها لا بد له أن يجعل نفسه على اعتقاد راسخ بأن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديدا تلو جديد مما أنتجته السنون، ومعنى ذلك ألا يكون «العصر الذهبي» وراء ظهورنا، بل يكون موضعه الصحيح هو في المستقبل الذي يعمل الناس على بلوغه، ومن هنا تكون فكرة «التقدم» محتوية على وجوب «التغير» مع متغيرات الحضارات المتعاقبة، و«التطور» الذي ينقل صور الحياة نحو ما هو أعلى، ومعنى ذلك وجوب الاهتمام ب «المصير» ولا ينفي ذلك الاهتمام أن تجيء قوائمه مستندة إلى تراثنا الذي تركه لنا السلف على ألا يكون في حياتنا الحاضرة بمثابة النهاية التي نقف عندها، بل يكون بين أيدينا نقطة ابتداء نجاوزها إلى مستلزمات حاضر حي ومستقبل مأمول.
كانت فكرة «التقدم» التي أخذ بها الكاتب اختيارا من كثرة الأفكار المعروضة على أقلام أعلامنا وأعلام الفكر من الغرب، ثروة عقلية تركت أثرها في نفسه، إذ يصاحبها بالضرورة كتابات طويلة عريضة عميقة عن القيم الكبرى التي بغيرها لا تتقدم حياة الإنسان خطوة واحدة، كالحرية والعدالة والمسئولية الخلقية للفرد، بما يجعله كائنا مستقلا لا تفرض عليه التبعية لأحد سوى ضميره، إلا أن تكون تلك التبعية باختياره الحر، وغير ذلك من «القيم» التي تستوجبها فكرة «التقدم»، لكن الكاتب إذ يعترف بفضل أعلامنا فيما كتبوه ونشروه خلال العشرينيات والثلاثينيات مما يجري في هذا السياق، لا يفوته أن يستدرك فيذكر لهؤلاء الأعلام أنفسهم نقيضة تركت بدورها أثرا عميقا في نفسه، وتلك هي أن هؤلاء الأعلام - وقد نشروا ما نشروه في سبيل تلك القيم الإنسانية العليا - لم يستطيعوا هم أنفسهم أن يقيموا حياتهم الاجتماعية على أسسها فكأنما أرادوا الحرية لأنفسهم دون سائر من يتعاملون معهم من عباد الله، وقل ذلك في جميع القيم التي بشروا بها، وواضح أن صاحب الدعوة إلى التقدم إذا لم يخضع حياته الشخصية لما يدعو إليه جاءت دعوته ضعيفة الأثر في حياة الآخرين.
وجاءت سنوات الأربعينيات مثقلات بما حملت من أحداث وتحولات وكان ذلك على مستويات ثلاثة: حياة الكاتب الصحفية وحياة الوطن المصري والقضية العربية، ثم العالم كله بجميع أطرافه، فأما حياة هذا الكاتب فقد حدث في مسارها تغير بدا كما لو كان تغيرا مفاجئا، لكنه في حقيقة الأمر كان أمرا متوقع الحدوث، وإن يكن قد تأخر وقوعه عما كان منتظرا، وهو أن سافر الكاتب في بعثة دراسية للحصول على الدكتوراه في الفلسفة، ولقد تحقق له ذلك والحرب العالمية الثانية ملتهبة السعير، فرأى هناك المسافة البعيدة بين كرامة الإنسان كيف تصان هناك مهما يكن شأنه من فقر أو غنى، ومن علم أو جهل، ومن ارتفاع في المنزلة أو انخفاض، وبين كرامة الإنسان في بلادنا كيف يمكن أن تهان، وأما على مستوى الوطن المصري والأمة العربية، فقد حدث في الأربعينيات الوسطى أن أنشئت الجامعة العربية، وحدث في أواخرها أن صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولم يمض بعد صدور القرار إلا بضعة أشهر حتى أعلن قيام دولة إسرائيل. في الفترة الفاصلة بين القرار وقيام الدولة الجديدة نشبت حرب بين العرب واليهود كان النصر فيها لليهود، ثم كان بعد ذلك ما كان، وما لا يزال كائنا من أحداث جسام يعرفها ويعانيها كل عربي، ومعظمها أحداث تصرخ من ثناياها العدالة، وماذا أنت صانع في دول قوية غنية جبارة كأنما أقسمت أمام الله أن تعلي الكلمة الظالمة؟! ونقول ذلك لتذكرة إذا ما شهدنا لتلك الدول نفسها بجبروت العلم وقوة الابتكار، وأما على المستوى الأعم والأشمل، وأعني مستوى العالم كله، وما قد شهده من تغير وقع بالفعل أو تغير في طريقه إلى الحدوث بعد حين، فقد رآه هذا الكاتب تغيرا من الجذور؛ لأنه يتضمن انتقالا من حضارة وهنت وذهب ريحها إلى حضارة جديدة تتأهب للظهور.
وفي ظن هذا الكاتب أن التغير الكبير الذي يسير بكوكب الأرض نحو حضارة جديدة قد تتكامل صورتها في القرن الحادي والعشرين، إنما هو تغير سبقته إرهاصات على طول القرن الماضي، ولك أن تمعن النظر في حقائق الحياة الواقعة إبان القرن التاسع عشر، لترى فارقا عجيبا بين حياة الفكر عند عمالقة المفكرين عندئذ، وبين صور الحياة الفعلية كما يعيشها الناس، فأما حياة الفكر النظري فقد شحنت بما يدل على انقلاب في وجهات النظر، إذ انتقل المفكرون - فلاسفة وعلماء وأدباء على حد سواء - انتقل هؤلاء جميعا بتصورهم للكون في حقيقة أمره، من أن يكون كتلة فيها قصور ذاتي لا يتيح لأي تغير أن يطرأ على أي شيء إلا إذا أحدثه له عامل خارجي عنه، إلى أن يتصوروه كونا كالكائن الحي، يأتيه التغير من ذاته هو، فهكذا خلقه خالقه ليكون التغير المتصل سنته.
كان ذلك التصور الدينامي للكون يقطع أشواطا بعيدة في حياة الفكر النظري إبان القرن الماضي، بينما كانت تجاوره حياة الناس العملية التي أخذت على نفسها أن تتحجر فيها التقاليد، بحيث لا يسمح لشيء فيها بأن يختلف يومه عن أمسه، أو يختلف غده عن يومه، ومثل هذا البون الشاسع من اختلاف الصورة بين رؤية الفكر النظري من جهة، وحقيقة الحياة في واقعها المرئي والمسموع، كان لا بد أن يثير القلق في النفوس، بحيث يصبح من الأرجح أن ينفجر هذا التوتر بين شطري الحياة: الفكر النظري والحياة كما هي واقعة، وماذا يكون ذلك التفجر إلا حروبا وثورات ؟ وذلك هو ما حدث، وكان نصيب هذا القرن العشرين هو أن يشهد ذلك الحدوث؛ إذ شهد بالفعل حربين عالميتين: أولى وثانية، كما شهد بين الحربين عددا كبيرا من ثورات الشعوب.
وعلى ضوء هذه الرؤية فلننظر إلى الحرب العالمية الثانية (انتهت سنة 1945) لنراها - كما رآها هذا الكاتب - مؤذنة بتغيرات عميقة في حياة الناس، وهي تغيرات من شأنها حتما محتوما أن تنتهي إلى صورة حضارية جديدة هي الآن في طريق التكوين، وما هذه الفترة الزمنية التي يحياها العالم الآن إلا فترة مخاض، ومن ثم فكل صور الحياة مرتجة متقلبة كأنما هي تبحث عن الوضع الجديد الذي يراد لها أن تستقر فيه.
ولقد شهدنا بالفعل منذ نهاية تلك الحرب حتى يومنا هذا حريات للشعوب والأفراد والجماعات على نطاق واسع، فكل الشعوب التي كانت مستعمرة استقلت عن مستعمريها، ونهض العمال في صحوة يطالبون فيها بحقوقهم الضائعة، وكذلك فعلت المرأة، وهكذا فعل الشباب، ولقد شهدت أعوام الأربعينيات إعلان الميثاق الذي يحدد حقوق الإنسان (في العاشر من ديسمبر سنة 1948) وشهدت قبل ذلك قيام منظمة الأمم المتحدة، وفي مثل هذا المناخ المليء بالتغيرات والتوقعات، كان هذا الكاتب، حيث كان، يدرس ويقرأ ويراجع ويتأمل، لإنجاز ما قد سافر من أجله أولا، ولكنه كذلك لم تأخذه غفوة تلهيه عن اقتناص سويعات يكتب فيها سلسلة من مقالات أدبية (وأعني بكونها أدبية أنها شكلت على نحو ما تبني مبدعات الأدب والفن في جميع أنواعهما) وكان يبني كل مقالة على مضمون يراد به أن يوقظ القارئ العربي على الكثير الذي فاته في عصر التحولات، وجاءت سنوات الخمسينيات وكان الكاتب قد عاد إلى أرض الوطن وفي ذهنه تصور واضح لما ينبغي أن ندعو إليه في دنيا الثقافة بصفة عامة، وفي مجال الفكر الفلسفي بصفة خاصة والعلاقة قريبة ووثيقة بين الجانبين؛ لأن الفكر الفلسفي لا يحقق ذاته إلا إذا كان مداره آخر الأمر تحليلا نقديا للحياة الثقافية القائمة، وهو تحليل من شأنه أن يرد الفروع المختلفة التي منها تتألف الحياة الثقافية في بلد معين وفي عصر معين، إلى محاورها العامة المشتركة؛ لأن هذه المحاور إذا تبينت حدودها، تبين معها الطابع المميز لذلك العصر في ذلك البلد، وبالتالي فإن ذلك يلقي الضوء على العصر في العالم أجمع - بدرجات متفاوتة بين أقطار العالم المختلفة - لأن العصر الواحد قمين أن يمد الروابط والصلات بين سكان الأرض جميعا، بدرجات متفاوتة كذلك.
ومن معالم الرؤية الواضحة التي عاد بها هذا الكاتب معتزما أن يجعلها برنامج عمل يهتدي به في نشاطه الفكري، أن ما قد تقدم به الغرب يمكن أن نتقدم به نحن، على مستوى الوطن المصري، وعلى مستوى الأمة العربية في آن واحد، دون أن تضيع منا الهوية هويتنا التي لازمتنا فميزتنا على امتداد عصور التاريخ، وما الذي تقدم به الغرب ثم فاتنا نحن فتخلفنا؟ إنه على وجه التحديد العلوم الطبيعية ومناهجها؛ لأن العلوم الطبيعية ومناهجها هما اللذان استحدثا مع النهضة الأوروبية، ولأسباب تاريخية وقف العربي حيث كان ولم يقدم على تلك الخطوة الجديدة، إذ على الرغم من التطور الذي تحقق في العلوم الرياضية خلال العصر الحديث، فقد كان في وسع العربي أن يساير ذلك التطور دون أن يشعر بشيء من الغرابة أو العسر؛ لأنه هو وجميع القوميات الأخرى في العالم كله، قد انتهجوا بصفة أساسية منهج التفكير الرياضي، الذي هو أن يبدأ العقل من مسلمات تؤخذ مأخذ الصواب، ثم يستخرج منها نتائجها، ولا بد لنا في هذا السياق من الحديث، أن نذكر التفوق الملحوظ في قدرة العقل العربي على هذا الضرب من الاستدلال الرياضي، سواء أكان موضوع البحث رياضة بالمعنى المألوف لنا جميعا في الرياضيات، من حساب وهندسة إلى جبر كان للعرب فضل إيجاده بعد أن لم يكن موجودا، أم كان موضوع البحث شيئا آخر، لكنه ينتهج منهج توليد النتائج من مقدمات مسلم بصحتها مقدما.
أما العلوم الطبيعية فشيء نستطيع أن نقول عنه في غير حرج، إنه جديد جدة شبه كاملة إذ إنه قد ولد مع النهضة الأوروبية، ولا ينفي هذا التعميم الجارف أن يكون عالم في العلوم الطبيعية قد ظهر هنا أو هناك من أقطار الأرض التي أسهمت في إقامة البنيات الحضاري؛ لأن العصور لا يتميز طابعها الخاص بفرد لم تنشأ قبله ولا نشأت بعده حركة يتكون منها تيار دائم، شأنها في ذلك شأن الربيع، لا نقول عنه إنه قد حل إذا رأينا عصفورا واحدا كالتائه الذي ضل السبيل.
وإن الأمر ليزداد وضوحا إذا تذكرنا أن العلوم الطبيعية في عصرنا هذا قد أخذت صورة لم يكن يحلم بها السابقون، حتى أولئك الذين ظهروا في النهضة الأوروبية، وما بعدها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فهؤلاء لم يكادوا يستخدمون الأجهزة في حياتهم العلمية إلا بصورة بالغة البساطة والندرة بالقياس إلى ما تتميز به تلك العلوم في عصرنا هذا، إذ الأجهزة في عملية البحث العلمي، ثم الأجهزة التي تنتجها البحوث العلمية لتدخل في حياة الناس العملية، أصبحت أمرا جوهريا لا يكون العلم علما بغيرها.
Unknown page
وليست المسألة هنا هي مجرد المظهر والشكل، بل إن تغيرا جوهريا في طبيعة العلم ذاته قد حدث فميز العلم الطبيعي المعاصر عن سلفه منذ بدأ تاريخ البشر حتى هذا القرن العشرين؛ وذلك لأن أجهزة البحث العلمي تزداد مع الأيام دقة، ومعنى ذلك أن الأرقام القياسية التي تبنيها عن الظواهر الطبيعية الموضوعة تحت البحث، تتغير كلما ازداد الجهاز المعين دقة، فإذا كنا نقيس السرعة، أو الوزن، أو الطول أو غير ذلك، جاءتنا أرقام مختلفة باختلاف درجة الدقة التي يعلنها الجهاز المعين في صورته الجديدة، ويترتب على ذلك أن تكون الحقائق العلمية نسبية مرهونة بظروف زمانها وما قد وصل إليه من أجهزة متطورة.
وبهذه العلوم الطبيعية تفوق الغرب فازداد قوة، وثراء وحرية، نعم إنه ازداد حرية بمقدار ما استطاع أن يكشف عن أسرار الكون بتلك العلوم ومنهاجها التقني (التكنولوجيا)؛ لأنه كلما باحت له الطبيعة عن سر من قوانينها، استطاع الإنسان أن يستخدمها كما شاء بعد أن كانت هي التي تتحكم فيه بسلطانها المجهول.
لم يقتحم العربي هذا الميدان، فلم ينعم بثمراته، وترك لأهل الغرب الجمل بما حمل ، على أن يمد كفيه بعد ذلك راجيا من الغرب أن يبيعه كذا وكذا من آلات للسلم وللحرب على السواء، وأما الغرب فيعطيه أو لا يعطيه وفقا للموقف وما يقتضيه، فما الذي يمنع العربي أن يدخل عصره مقتحما ميادينه العلمية وغير العلمية، مما قد ثبت نفعه في عملية التقدم الحضاري؟ إن عقيدته الدينية تحضه حضا أن يتفحص ظواهر الكون المحيطة به تفحص من يريد الكشف عن سرها وليس تفحص من يجلس بين جدران بيته يحملق بناظرته في الخلاء.
على أن اقتحامنا لميادين العلم الطبيعي لن يتم لنا على الصورة الدافعة للمشاركة الإيجابية في البنيات الحضاري إذا اكتفى علماؤنا - كما هم يكتفون الآن - بالأخذ عن الغرب علومه بعد أن تتحقق في كتاب أو في جهاز؟ لأننا في هذه الحالة ملزمون أن ننتظر حتى يفرغ الغرب من إبداع ما يبدعه، ثم نرسل في طلبه، ومعنى ذلك أن نكون دائما وراءه بخطوة - على أحسن الفروض - وإذن فالمطلوب منا هو أن يواجه علماؤنا ظواهر الكون المراد بحثها واستخراج قوانينها فيشاركون في إبداع العلم مع مبدعيه، والخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في هذا السبيل هي أن نبث في شباب جامعاتنا ومعاهدنا روح «المنهج العلمي» وألا نقنع بالمادة العلمية التي أنتجها منتجوها هناك عن طريق استخدامهم لهذا المنهج؟ وما يقال عن العلوم الطبيعية يقال عن غيرها من مقومات الحضارة التي نحيا في ظلها، أي إن الجانب الذي ينقصنا في المقام الأول، هو اكتساب المنهج العلمي خلال سنوات الدراسة فنتوسل بما يتوسل به العلماء المبدعون.
لكن هذا المطلب الصعب لن يتوفر لنا من تلقاء نفسه لمجرد أننا نريده ونتمناه، بل لا بد من عمليات فكرية من القادرين عليها تتناول حياتنا الثقافية بالتحليل الدقيق الواضح لنرى في جلاء أين نحن وأين نود أن نكون، والتحليل التفصيلي الذي يكشف لنا عن حقيقة حياتنا الثقافية على هذه الصورة الهادية، هو نفسه ما يؤديه الفكر الفلسفي بمنهج هذا الفكر الذي يمكن تلخيصه بأنه هو الذي يرد فروع الحياة الثقافية ، على اختلافها وتنوعها، إلى الأصل الواحد الذي منه بنيت تلك الفروع، إذ قد يكون لكل شعب ينبوع خاص به يؤدي إلى ثقافة ذات طابع خاص، فإذا ما رفعنا الستار عن ينبوعنا فوجدنا في طبيعته ما يعوق دون الوصول إلى الروح العلمية المطلوبة اتجه مسعانا عندئذ إلى تغيير ذلك الينبوع عن طريق التعليم، ولا خوف في هذا التغيير على هوية الشعب الأصيلة أن يصيبها ما يفقدها جوهرها المتميز؛ لأن العناصر الأساسية التي يتألف منها هذا الجوهر، لا تتأثر إذا ما أضاف الإنسان نظرة علمية إلى ظواهر الكون بدل أن يكون عالة على أصحاب هذه النظرة من أقوام أخرى.
لم يكن قد بقي من أعوام الستينيات إلا عامان حين تلقى الكاتب دعوة من جامعة الكويت أن يكون أستاذا للفلسفة بها، وكان عندئذ أستاذا غير متفرغ بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وذلك بعد أن بلغ سن التقاعد (كما يسمونها) وهي حالة قد تصدق على مختلف ضروب العمل، ولكنها لا تصدق على رجال العلم، ومن ثم كان من رأي الجامعات أن تستبقي رجالها في الاضطلاع بعملهم العلمي مع تغيير العنوان، فبدل كونه «أستاذا» يصبح «أستاذا غير متفرغ» «أستاذا متفرغا» التي معناها أن يمضي الأستاذ في واجباته العلمية كما كان لكنه لا يشارك في المناصب الإدارية، فلما جاءته دعوة جامعة الكويت استأذن جامعة القاهرة فأذنت وسافر وقد جعل خطته أن يستغل فراغه هناك في مراجعة متأنية متأملة لعيون التراث العربي مما يمكن أن يندرج تحت العنوان «ثقافة»، وهناك أخذ يجمع النصوص التي يراها دالة على روح الثقافة العربية إبان ازدهار العقل العربي وأصالة مبدعاته بعد نزول الإسلام، وبهذا النشاط الذي لم يفتر، حقق الكاتب ما أراد تحقيقه لنفسه، وهو أن ترتسم له لوحة متماسكة لسيرة الثقافة العربية بعد أن كانت حصيلته الغزيرة من تلك الثقافة، مفرقة في أشتات لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط مكان وزمان وعلاقات تضم جانبا إلى جانب، وإنه ليتعذر على حامل الأشتات المفرقة - مهما كثرت تفصيلاتها - أن يكون لنفسه «وجهة نظر» يتوحد فيها المشهد ، ويصبح في مقدور المشاهد أن يكون له رأي فيما يرى.
وعلى ضوء هذا الرأي الذي تكون لهذا الكاتب خلال خمس سنوات قضاها مجتهدا في تهيئة الأسباب التي تمكنه من الحق في أن يكون ذا رأي في التراث العربي بعرضه على الناس، أقول: إن على ضوء هذا الرأي الذي بلغ نضجه في الأعوام الأولى من السبعينيات، أخذ يكتب فيما تصوره من وجوب إيجاد صيغة جديدة للمواطن العربي بصفة عامة، والمواطن المثقف بصفة خاصة، وهي صيغة لا بد لها أن تدمج جانبين في كيان واحد موحد، فمن التراث ما لا بد أن يبقى ليضمن للعربي استمرارية تاريخية في حياته الثقافية، وهي استمرارية ضرورية لتظل للعربي هويته في جوهرها، لكن هذه الصلة الحيوية بين حاضر العربي وماضيه لا تكفي وحدها لتمكين العربي من اقتحام عصره الذي كتب له وكتب عليه أن يعيش فيه، ومن أهم ما يميزه من عصور التاريخ السابقة كلها توجيه الاهتمام الأكبر نحو العلوم الطبيعية التي هي وسيلة الإنسان الوحيدة للكشف عن قوانين الطبيعة من مختلف ظواهرها، وإن الإنسان لتكون له السيادة على تلك الظواهر حقا، بمقدار ما قد عرفه من قوانينها، وإذا كانت العلوم الطبيعية سمة بارزة من سمات العصر، فكذلك الحال بالنسبة إلى «منهج» البحث العلمي المتبع في الكشف عن تلك القوانين؛ لأنه منهج يبتكر له «الأجهزة» التي تعين على الدقة المطلوبة، بدرجة لم يعهد التاريخ أن يرى عشر معشارها في ساحة العلم حتى أصبحت هذه التقنيات (التكنولوجيا) جزءا لا يتجزأ من صورة عصرنا، فلئن كانت العصور الماضية قد قصرت نفسها على «الكلمة» أداة لكل جوانب الفكر العلمي وغيره من أوجه الحياة الثقافية، فإن «الآلة» هي التي حلت محل «الكلمة» في مجال العلوم، سواء أكانت الآلة جهازا من أجهزة البحث العلمي، أم كانت هي الناتج الصناعي الذي نتج ليستخدمه الناس في حياتهم العلمية، وبهذا المميز أصبح مجال «العلم» مختلفا كل الاختلاف عن المجال الآخر في نسيج الحياة الثقافية الذي هو المجال المعني بحياة الإنسان الداخلية الخاصة ، من عقيدة وعاطفة، وغريزة وسائر مكونات التيار الشعوري الباطني، وهو مجال تتساوى أهميته، بل ربما كان أهم للإنسان من جانب العلوم العضلية وما يترتب عليها، لكنه بحكم طبيعته لا يزال وسوف يظل معتمدا على «الكلمة» وسيلته الوحيدة، ومن هنا أصبح الفارق بين قناتي الإدراك وهما «العقل» و«الوجدان» واضحا وضوحا لم يعد لأحد ما يبرر الخلط بينهما، وهما مع هذا الفارق إنما يلتقيان بل يلتحمان التحاما في كل فرد من أفراد الناس.
ومنذ عام السبعين، أخذ الكاتب يصدر كتابا في إثر كتاب، ومقالا بعد مقال، ليشرح ما يراه من الصيغة الثقافية المطلوبة، التي نضفر فيها خيطين معا؛ أولهما: الجانب الذي استبقيناه من ثقافة أصيلة زرعت في أرضنا العربية وأثمرت، وثانيهما: جانب متصل بالعلوم في صورتها الجديدة، والمنهج التقني المميز لهذا العصر، وغير ذلك مما هو حيوي لإقامة الحضارة على الصورة التي منها يتألف عصرنا في المقام الأول، فهذا كله يجب استزراعه في أرضنا من شتلات نستوردها من مراكز الحضارة الجديدة في الغرب ومن الجانبين: ما هو أصيل أنتجناه نحن على امتداد تاريخنا، وما هو مجلوب من بناة الحضارة الجديدة، تتألف الصيغة الثقافية الجديدة للوطن العربي.
لم يكد هذا الكاتب يعود إلى مصر ليستأنف نشاطه فهو في الجامعة أستاذ متفرغ وهو اللقب الجديد الذي أضيف في الحياة الجامعية، ثم هو مشارك في الحياة الثقافية العامة كدأبه منذ صدر شبابه، حتى حدث أن جاءته دعوة كريمة من جريدة الأهرام ليكون عضوا في أسرتها الأدبية، فرحب بالدعوة أيما ترحيب؛ لأنها تحقق له منبرا هو أعلى المنابر المعروفة في الشرق العربي كله، ومن هذا المنبر أخذ الكاتب خلال أعوام السبعينيات والثمانينيات، يكتب ويكتب ثم يكتب، ليلقي الأضواء على جوانب الصيغة الثقافية المرجوة للمواطن العربي، والتي هي - بكل بساطة ووضوح - أن يكون عربيا وأن يكون في الوقت نفسه قادرا على مواجهة عصر علمي تقني بلغ به الطموح حدا يحاول به اختراق الفضاء الكوني، حتى لقد جاوز في هذا السبيل حدود المجموعة الشمسية بكل كواكبها وأفلاكها ... إلى أين علم ذلك هو عند علام الغيوب.
وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
Unknown page
زكي نجيب محمود
يناير 1991م
تغريدة البجع
يقال عن البجعة: إنها إذا ما دنت من ختام حياتها سمعت لها أنات منغومة تطرب آذان البشر، ولا يمنع طربها أن تكون تلك الأنات صادرة - على الأرجح - من ألم يكويها، ومن هذه التغريدة الجميلة قبيل موتها جاء التشبيه عند أدباء الغرب الذي يصفون به عملا جيدا أنجزه صاحبه ليختم به حياته، إذ يقولون عنه: إنه تغريدة البجعة، وقد أراد هذا الكاتب أن يقولها عن نفسه؛ لأنه لا يتوقع أن يقولها عنه سواه.
ففي هذه المجموعة من الأحاديث، اجترار منسق ومدبر، لحياة أعطت فكرا وأدبا، وظلت تعطي ستين عاما، ولا يذكر صاحبها يوما أخذها فيه يأس أو ملل، ولم يكن ليلومها لو قعد بها القنوط، فهي حياة بشرية يعتورها ضعف الغرور، الذي يوهم الإنسان آنا بعد آن، أنه يستطيع لو جد وأجاد أن ينتزع المجد انتزاعا ولو كره المخالفون، أو قل: ولو كره الذين أغمضوا أعينهم، وصموا آذانهم، وألهتهم شواغل الدنيا حتى لم يعد لديهم فراغ من وقت يقدحون فيه أو يمدحون، اللهم إلا إذا رأوا في قدح هذا ومدح ذاك أسبابا للصعود، لا، إن صاحب هذه الحياة لا يذكر لها يوما ألم بها فيه ملل أو يأس؛ لأنها أعطت عطاءها صدوعا لفكرة غالبة، إنه ليعجز إذا أراد أن يتعقب تلك الفكرة الغالبة إلى مصادرها، فمن أين جاءته، وكيف جاءته؟ لكنها هناك تملأ صدره وتهز قلبه وتحرك عقله، ما تحركت قدماه أو وقفت، وما اضطرب فؤاده أو سكن.
والفكرة الغالبة الدافعة التي أعنيها، فكرة بسيطة غاية البساطة، كبيرة غاية الكبر، فهي فكرة تسأل حاملها وتلح في السؤال: كيف جاز أن يلتئم ذلك التاريخ الطويل المجيد، مع هذا الحاضر الذليل العقيم؟ بل هو ذليل لأنه عقيم، فالسادة هناك في أعالي البحار ينتجون علما وفنا وثراء وسلطانا، والأتباع هنا قد جعلوا غاية المنى أن ينقلوا عن السادة نفحات متقطعة من علم وأدب وفن، تاركين لهم الثراء والسلطان، نعم كيف جاز لتاريخنا ذاك، في عزه ومجده، أن يلد لنا هذا الحاضر في عقمه وذله؟ وإنه لسؤال لا يأتيه الجواب في سطر من كتاب، بل لا بد له من نظر يمعن، ومن شجاعة تواجه الصعب، أما أن تثمر ثمارها هذه الشجاعة الجسور، أو ذلك النظر الممعن، فذلك مرهون بتوفيق من الله، على الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح، وفي وسع الفارس الذي تخونه قواه، أن يعتذر بما اعتذر به شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:
لا تلم كفي إذا السيف نبا
صح مني العزم والدهر أبى
كان صاحبنا منذ أوائل شبابه طلعة (بضم الطاء وفتح اللام) يرى، ويسمع، ويقرأ، فضلا عن دراسته النظامية، وقد لحظ في نفسه، منذ تلك السنين الباكرة، إقبالا شديدا على الأفكار التي من شأنها أن تغير من حياة الناس، لتنقلها من قديم إلى جديد، ونفورا من الأفكار التي تعمل على ركود الحياة وجمودها، وقد تنبه منذ ذلك العهد البعيد، إلى أن الفكر - بل والثقافة كلها بجميع أطرافها - ليس ترفا يلهو به صاحبه ليزجي به ساعات الفراغ، وليلهي معه الناس بأن يقدم لهم وسائل لتسرية النفوس عن همومها، بل الفكر السوي القوي السليم هو أداة للعمل، إذ هو - حتى وهو في أعلى درجات تجريده - يرسم ما يشبه الخرائط الجغرافية، فيهتدي العاملون بها في طرق الحياة العملية، الفرق الحقيقي بين مجتمع جمدت دماؤه في شرايينه فتخلف عن موكب الحضارة، ومجتمع آخر توقدت فيه الصحوة وتوثبت الهمم، هو فرق بين مجموعة الأفكار التي حصلها واختزنها أفراد الناس في كل من الحالتين.
وصاحبنا منذ أوائل شبابه - كما أسلفت عنه - كان على يقظة كافية تحثه على أن يرى ويسمع ويقرأ، فكان له بهذا كله أن تجمعت لديه أفكار من هنا وهنا وهناك، تتفق أحيانا، وتتعارض أحيانا، وقد كان يمكن أن يقف عند هذا الحد من التحصيل الذي يجمع ولا يعرف كيف ينتقي ويختار، وما أكثر ما تصادف بين الدارسين والقارئين من وقف عند عملية الجمع والتحصيل والحفظ ، لكن صاحبنا بتوفيق الله قد وجد في تكوينه دوافع داخلية تدفعه إلى مجاوزة تلك المرحلة إلى ما بعدها، وأعني مراجعة المحصل مراجعة نقدية تقبل هذا وترفض ذاك وتعدل من ذلك، حتى يحس بنفسه وقد اطمأنت لوجهة من النظر تستريح لها، فتشعر وكأنما جات تلك الرؤية ثمرة طبيعية من إبداعها، وليست شيئا غريبا أقحم عليها.
Unknown page
وكان لا بد لتلك النفس مع تعاقب الأعوام وامتدادها، أن يعاودها القلق آنا بعد آن، حول فكرة كانت قد اطمأنت إليها في مرحلة سابقة من مراحل العمر، فلم يكن صاحبنا يتردد في تصحيح فكره، فليس هو من ذلك الصنف الذي يتوهم بأن كرامته تقتضي أن يتمسك بفكرة ثبت له بطلانها، ولم يعد لها - فيما أصبح يراه ولم يكن يراه - قوة عملية تطبيقية في ظروف جديدة استحدثتها الأيام، ومن هنا قد نجد له فكرة أخلص لها في عهد من عهوده، ثم تنكر لها في عهد آخر، وليس في ذلك ضير، بل الضير هو في عكسه، والذي يحسن بالإنسان السوي أن يثبت عليه ثباتا نسبيا، هو الغاية البعيدة، (وهي ما نصفه اليوم عادة بكلمة «الاستراتيجية») وأما الوسائل التي نراها مؤدية بنا إلى تحقيق تلك الغاية، فيجوز لنا، بل يجب علينا، أن نغيرها كلما وجدنا وسيلة أفضل منها على تحقيق الغاية المقصودة، فليست حقيقة الإنسان شبيهة بالحقائق الرياضية، كالمثلث والمربع والدائرة، فإذا كان لكل هذه الحقائق الرياضية «تعريف» لا يتغير ولا يتبدل باختلاف المكان أو الزمان أو ما يحيط بهما من ظروف، فإن حقيقة الإنسان حياتية (بيولوجية) عضوية، خلقت لتواجه ما حولها مواجهة تساعد على بقائها وازدهارها، وانظر إلى أبسط الكائنات الحية في عالم النبات ودع عنك عالم الحيوان وما هو أرقى في عالم الإنسان - وأعني تلك الأنواع النباتية الهلامية التي تنمو في مياه البحار، ويكاد ألا يكون قد اكتمل لها شكل محدد المعالم - أقول: انظر إلى هذه الكائنات النباتية البسيطة، تجدها تغير من نفسها كل لحظة، بما يساعدها على التقاط الغذاء، أو التعرض للضوء، وغير ذلك مما يقيم لها الحياة.
عاش صاحبنا طوال حياته الواعية في عالم «الأفكار» أكثر مما عاشها مع الناس، لكن هذه السمة تريد شيئا من التحديد حتى لا يساء فهمها، ويأتي تحديدها الشارح لها من عدة جوانب، وأحد هذه الجوانب هو أن دنيا «الأفكار» التي يحياها من يحياها من أفراد الناس، الذين وجدوا في أنفسهم ما يميل بهم نحو الاهتمام ب «الفكرة» والاحتفال بها، لا يقتضي العزلة الكاملة عن الحياة اليومية الجارية، وما تقتضيه هذه الحياة من عمل، وأداء للواجبات الاجتماعية، وانتماء إلى الوطن الكبير، وإلى القرية الأم، وإلى الأسرة، وإلى من اصطفاهم من أصدقاء، بل إن صاحبنا قد عرف بحرصه على إقامة هذه الروابط بينه وبين الآخرين، فهو مشغوف بوطنه ومواطنيه، ودود مع أصدقائه ينعم بلقائهم نعيما لا تحده حدود، وإن تكن بساطة طباعه التي كثيرا ما بلغت به حد السذاجة، قد أوقعته في «صداقة» مزورة ندم عليها فيما بعد أشد الندم، بعد أن لم يعد ينفع الندم، نعم، إن دنيا «الأفكار» لمن يحياها أكثر مما يحيا مع الناس، لا تعني تلك العزلة عن المواطنين والأقربين والأصدقاء، لكنها تعني أولوية «الفكرة» على قضاء المصالح المادية في تيار الحياة العملية، وهناك كلمة في اللغات الأوروبية، يقال إنها روسية الأصل ثم انتقلت إلى سائر اللغات في أوروبا أولا، وفي أمريكا بعد ذلك، وهي كلمة «أنتلجنتسيا» يطلقونها ليشيروا بها إلى تلك الفئة من أفراد الناس، الذين يعلون من شأن «الأفكار» حتى يجعلوها تسبق في اهتمامهم عالم الأشياء في تيار الحياة الجارية، وإنه ليتعذر أن نجد مرادفا دقيقا في اللغة العربية لكلمة «أنتلجنتسيا» هذه، فلا كلمة «مثقف» ولا كلمة «مستنير» ولا - حتى - كلمة «مفكر» تعطيك المعنى المطلوب في دقته، ولا مفر لنا من اللجوء إلى جملة شارحة إذا أردنا الوصول إلى ذلك المعنى، وهو - كما أسلفت - أن يكون لعالم «الأفكار» أولوية وأعلوية على عالم الأشياء، وليس ذلك استغناء عن عالم الأشياء، كلا، بل هو من أجل أن نفهم عالم الأشياء فهما أدق وأصدق، فليس الأجدر بزعامة المجتمع ، هو رجل غمس نفسه من الرأس إلى القدمين في بحر التفصيلات كما تقع في الحياة الفعلية كما تراها الأعين وتسمعها الآذان، بل الأجدر بتلك الزعامة هو من قبض على «الفكرة» قبضا واعيا، لينتقل منها إلى تفصيلات التطبيق، وأظنه هو «هرقليطس» - أحد فلاسفة اليونان فيما قبل سقراط - الذي قال ليصف نفسه، إنه لو خير بين «فكرة» جديدة يقع عليها، وبين عرش فارس، لاختار الفكرة، وإنه لقول يحدد المعنى الذي نريده أدق تحديد؛ ذلك - إذن - هو أحد الجوانب الشارحة لمعنى إيثار العيش في دنيا «الأفكار» على العيش في دنيا الناس، وجانب ثان يتلخص في أن صاحبنا لا يملك منع نفسه من محاولة «التعليل» لأي شيء يلفت نظره في ظواهر الحياة كما يراها متمثلة في مسالك الأفراد أو الجماعات، إنه يبحث لكل ظاهرة سلوكية عما يفسرها، وهو بحث يتم أكثره في صمت، ويخرج أقله إلى العلانية قولا منطوقا في أحاديثه مع من يجالسهم، أو كتابة منشورة ليقرأها من أراد، المهم عند صاحبنا هو أن يقع على تفسير ما يراه وما يسمعه، تفسيرا يرد به الواقعة الجزئية إلى قانونها العام، وربما أوغل صاحبنا في تحليلاته الصامتة حتى يرد ذلك القانون العام الذي فسر به الواقعة الجزئية إلى «المبدأ» الأعم والأشمل، الذي يطوي تحت جناحيه ذلك القانون وغيره مما يقع معا في أسرة عقلية واحدة.
وجانب ثالث من تلك العزلة التي مالت بصاحبنا نحو أن يعيش حياته مع «الأفكار» أكثر مما يعيشها مع الناس، وهو جانب لا يجوز إغفاله إذا أردنا للصورة أن تكتمل، ونعني به تلك الرغبة الشديدة في أن يعتصم بجدران بيته، وأن يوغل فينكفئ على دخيلة نفسه يجتر من مكنونها ما عساه يطفو على سطح الوعي من ذلك المكنون.
وهي عادة رسخت عنده، حتى لنراه يحاول عبثا أن يقلع عنها فلا يستطيع، ولماذا يحاول هذه المحاولة ولا يترك نفسه تجري على سجيتها؟ ألم يمده ذلك المكنون الطافي بكثير جدا مما أوحى له بفكر عرض بعضه على الناس، والجواب هو أن شيئا ما في طبيعته، يجذبه جذبا نحو أن يلتقط من مخزون الذاكرة، كلما بسط في دخيلة نفسه شريط حياته بأحداثها التي رسخت عنده آثارها كما ترسخ النقوش المنقورة على جذوع الأشجار، لا بل إن تلك النقوش لتكبر وتتسع كلما عمرت تلك الجذوع أعواما بعد أعوام، أقول إن شيئا ما في طبيعة صاحبنا ذلك، يجذبه جذبا كلما بسط ذلك الشريط ليجتر مما فيه مضغة يلوكها في مسرحية، نحو أن يلتقط اللحظات المرة الأليمة، وهي في مخزون ذاكرته تعد بالألوف إذا شئت العدد، ولها من القوة الجارفة ما تطغى به على ما عداها من ساعات الضحك والمرح، فكم ألف مرة سمع من الناس ما يؤلمه ويؤذيه، ولو كانوا من غمار الناس لقلنا إن العدوان هو من طباع الغمار، ولكنهم كانوا - أو كان بعضهم - من الصفوة التي امتازت بثقافتها، ممن كان لا بد لصاحبنا أن يلتقي بهم خلال حياته التي غلبت عليها صلات اجتماعية في مجال الثقافة، من لجان تجتمع، ومجلات تنشر، وأحاديث تذاع، وكتب تطبع، وما يدور في هذا الفلك من أوجه النشاط، بالإضافة إلى زملاء العمل في الجامعة، ولما كان صاحبنا ممن إذا أصابهم سوء جمدت أعضاؤهم بما يقرب من الشلل، فلا تتحرك منه ذراع أو قدم، ولا ينطق لسانه بنبرة، بل إنه كثيرا ما يحس بجفاف لسانه وشفتيه، وتفصد جسده بالعرق، أقول: إنه لما كان صاحبنا من هذا الطراز عند المفاجأة بما يسيء من قول أو فعل، فسرعان ما يمسك الآخرون بهذا الخيط فيستغلون ويستذلون، إذا لم يسرع هو إلا ملاذه ليحتمي وراء الجدران، وأمثال هذه اللحظات هي التي تقدم نفسها إليه كلما سرح في فراغه مستعيدا أحداث ماضيه.
ورب ضارة نافعة - كما يقولون - فقد كانت محصلة تلك النفس وطبيعتها المنطوية، أن اتسعت ساعات الفراغ أمام صاحبها، اتساعا أخذ يزداد معه كلما تقدم به العمر، فازدادت تبعا لذلك فرصة القراءة الجيدة المتمهلة، ألا ما أسرع ما ينسى الناس أن الكتاب المقروء هو إنسان يتحدث إلى قارئه بأحسن ما عنده من مادة للحديث ! إن الوحدة العددية لمن يعتكف، وأعني حين يكون الإنسان في هدوء عزلته، ليست بالضرورة غربة يغترب فيها عن الناس وما يحيون به ويفكرون فيه، بل إنها كثيرا ما تكون هي الفرصة الذهبية للاتصال بخيرة الناس يستمع إليهم فيما يقولونه شرحا لأفكارهم وتعبيرا عن وجدانهم، وإنها لأفكار، وإنه لوجدان، لم ينزع من خلاء، بل استصفاه واستقاه هؤلاء المؤلفون من صميم الحياة التي يحيونها في دنيا الفعل والتفاعل، إذن فنحن إذا قلنا: إن صاحب تلك النفس المنطوية على ضلوعها بكل ما يكمن وراء تلك الضلوع من ذكريات تسعده أو تشقيه، قد اتسعت له ساعات اللقاء مع خيرة البشر، وأعني العلماء والأدباء الذين رصدوا في مؤلفاتهم ما قد دار في رءوسهم من فكر، وفي قلوبهم وصدورهم من مشاعر، فقرأ على مهل، وتدبر ما قرأ، فقبل ما قبله، ورفض ما رفضه، وعدل ما عدله، مستعينا في قبوله ورفضه وتعديله بالغاية التي خلص إليها منذ زمن بعيد، لتكون هي المعيار الاستراتيجي الذي على أساسه تقام الموازين.
فما هي الفكرة الاستراتيجية الكبرى، التي اختارها لتكون عنده غاية الغايات، أي أن تكون هي الغاية التي ليست وراءها غاية ترجى في هذه الحياة الدنيا؟ لقد كان هذا القرن العشرون في عشرينات أعوامه، عندما كان صاحبنا كذلك في عشرينات عمره، وكانت تلك الفترة مزدحمة بالأفكار والمشاعر، المتفقة حينا والمتضاربة حينا آخر، إنها فترة توسطت الطريق بين حربين عالميتين ذبحت فيهما عشرات الملايين من رقاب البشر، وكانت فترة غصت بالثورات الوطنية، وبالثورات المذهبية وبالحروب الأهلية، كانت فترة أراد العالم فيها أن ينتقل من حضارة إلى حضارة، ومن نظام إلى نظام، ففيما سبق تلك الفترة، كانت حياة الناس قد استقرت على قوائمها التي قرت في النفوس فاكتسبت بذلك هالة من التقديس، والويل لمن أراد أن يغير منها شيئا، فالجنس الأبيض جنس أبيض، وسائر ألوان الجلود البشرية هي ما هي في سوادها وسمرتها وصفرتها، فللأبيض يكون الحكم وعلى سائر الألوان أن تتبع، وكانت حقوق الناس وثقافاتهم تقاس بذلك المقياس نفسه، فالحقوق تكون كاملة بجميعها لمن يحكم، وتتناقص كلما نزلت خطوة على السفوح المحكومة، والثقافة تكون في أعلى ذراها عند الأبيض وعند من يحكم تحت مظلته، ثم توزن أقدار الثقافات الأخرى بعد ذلك بدرجة قربها أو بعدها عن تلك الذرى، لكن كان أيضا فيما قبل تلك الفترة استقرار اقتصادي كاستقرار الجبل على أرضه، فالغني غني والفقير فقير، كل أسرة تستطيع أن تتنبأ بمراحل مسيرتها المقبلة على درجة كبيرة من الدقة وتبني تخطيطها على ذلك التصور المسبق وهي آمنة من المفاجآت، تدخر من دخلها ما يمكنها ادخاره، دون أن يحدث ارتفاع في سعر العملة أو انخفاض؛ لأن العالم كله يومئذ - فيما أظن - كان يعتمد في تقويم عملاته على رصيد من الذهب، وقيمة الذهب ثابتة ثباتا نسبيا ... إذ لم يكن يغيرها إلا زيادة المستخرج من مناجمه، نعم، كانت حياة الناس فيما قبل الفترة التي أشرنا إليها ثابتة ثبات الصخرة الصماء، ومن ثم انعدمت الآذان التي تسمع صرخات المظلوم، وعميت الأبصار عما كانت ترزح تحته ملايين الكادحين، مسخرين أو كالمسخرين، وبالطبع كانت هنالك تقاليد وأعراف مرعية، لا يجرؤ على اختراقها إلا مقامر لا يبالي ما سوف يلحق به من صنوف الأذى، وهي تقاليد وأعراف استمدت قوتها الحديدية من كونها تخدم الأغنياء وأصحاب السلطان.
وجاءت فترة ما بين الحربين، التي شهدها صاحبنا، في أوائل شبابه الواعي، فازدحمت ساحاتها الثقافية بالأفكار والمشاعر على أقلام الكاتبين، وصاحبنا يتابع ذلك ما وسعته المتابعة، كان اللسان عربيا أم كان إنجليزيا، فهو على شيء من القدرة في اللغتين، وكان يستعرض ما تكتبه الأقلام هنا وهناك، وكأنه ينظر إلى طاولة البلياردو تتدحرج فوقها الكرات منسابة آنا متصادمة آنا: الحرية بكل أنواعها، السياسي منها الذي تطالب به الشعوب المستعمرة (بفتح الميم الثانية) وغير السياسي، كحرية التعبير وحرية الاقتصاد، وحرية التعليم، وغير ذلك من صور، وحقوق الإنسان لمن سلبت منه تلك الحقوق، كالمرأة والعامل والطفل، وفردية الفرد المسئول، بكل ما تعنيه هذه العبارة من بناء الشخصية الإنسانية المستقلة الحرة المسئولة غير التابعة لسادتها تبعية العبيد ، ثم كانت هنالك أفكار كبرى غزيرة المضمون متعددة الجوانب والأبعاد كفكرة «التطور» بشتى صورها التي لم يعرف منها معظم المثقفين إلا صورة البيولوجية التي تنسب إلى «دارون» في كتابه «أصل الأنواع» وانعكاساتها التطبيقية على كثير من جوانب الحياة الاجتماعية، كما أوضحها بصفة خاصة «هربرت سبنسر»، وكان أبرز من عرض الفكرة في صورتها الداروينية: إسماعيل مظهر، بترجمته الكاملة لكتاب «أصل الأنواع»، كما كان أبرز من أشاع جوانبها التطبيقية في المجال الاجتماعي، نقلا عن هربرت سبنسر «شبلي شميل»، وازدادت الفكرة شيوعا بعرضها عرضا موجزا متكاملا على يدي سلامة موسى، لكن فكرة التطور لم تقتصر في تلك الحقبة الزمنية على صورتها البيولوجية وانعكاساتها الاجتماعية، وهي الصورة التي شاعت وعرفها الناس، بل كانت لها صور أخرى أهم وأعمق وأشمل أفقا، وهي صور تناولت التطور الكوني بصفة عامة، أو تطور «الحياة» من حيث هي حياة تبدع أشكالها وترتقي على امتداد الدهور درجة كيفية بعد درجة، كل ذلك عرضه فلاسفة تلك الحقبة «برجسون»، و«لويد مورجان» و«صموئيل إسكندر» و«وايتهدا» ممن اقتصر العلم لهم على الدراسين لفلسفاتهم المختلفة، التي قدمت صورا فكرية رائعة لهذا الكون العظيم: كيف تطور مما يشبه العدم حتى أصبح على ما هو عليه، وليس الذي يهمنا في هذا السياق، ما الذي قالوه، وإنما يهمنا أن نعلم كيف كانت روح العصر النزاعة نحو أن يتحطم ذلك الجمود الثابت، الذي تحجرت به حياة الناس في قوالب من حديد لا يجرؤ على تغييرها إلا المغامرون، أقول: إن الذي يهمنا هنا هو أن نرى في تلك الأفكار الكبرى كيف كانت روح العصر تنادي بضرورة تحطيم الجمود، ولن يكون ذلك إلا بالتمهيد له بإقناع الناس بأن كل شيء، من الكون العظيم، إلى أصغر كائن من كائناته يتطور ويتغير في صور تتلاحق مع الزمن.
وإننا اليوم لنستطيع - خلال هذه الخلفية الفكرية التي سادت النصف الأول من هذا القرن العشرين بصفة عامة - أن ندرك قيمة الأدوار التي اضطلع بها أعلام الفكر والأدب في حياتنا إبان تلك الفترة، وبصفة خاصة ما شهدناه منها خلال العشرينات من أعوام القرن، ومن عمر صاحبنا في آن واحد، فقد كان هؤلاء الأعلام يجسدون بأشخاصهم وبأعمالهم روح هذا العصر الجديد، كل منهم في جانب من جوانب تلك الروح: أحمد لطفي السيد بما نادى به من وجوب الحرية الفردية المسئولة، رجلا كان ذلك الفرد أو امرأة، وطه حسين بما عمل على إشاعته في النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ، فالتاريخ الأدبي إذا روي عن شعراء عاشوا في فترة ماضية، كان من حق الناقد العصري أن يتثبت من روايته، بدءا من حقيقة وجود الشاعر، فإذا ألف المعاصرون منا أن يروا في الأسلاف بشرا من البشر، جاء ذلك كسبا لحرية الفكر والاعتداد بالنفس، وعباس محمود العقاد بمجموعة دواوينه الشعرية، إنما قدم للناس تطبيقا مجسدا للفردية المستقلة الحرة التي اضطلع لطفي السيد بالدعوة إليها في مجال السياسة، ويمكن القول كذلك - ما دمنا نتحدث عن الشعر - بأن أمير الشعراء أحمد شوقي قدم إلى الأمة العربية شعرا يرسخ في قلوبهم روح الانتماء القومي، وكان ذلك منه ظاهرا في الشكل وفي المضمون معا، ولئن كان شعر العقاد تعبيرا عن الفردية في وجودها السياسي، فإن جماعة «أبولو» التي تكونت في أوائل الثلاثينات، حرصت على أن تمثل بشعر شعرائها روح الفردية من جانبها الوجداني الخاص، وهكذا نستطيع أن نجد في روادنا من أعلام الجيل الماضي مرايا تعكس صورة العصر من شتى جوانبه.
لم تكن تلك الروح النزاعة نحو أن يتغير الإنسان تغيرا يهدم به صورة حضارية تحجرت صورها وأشكالها في أوضاع سياسية أقرت أن يكون بين الناس - جماعات وأفرادا - سيد ومسود، أقول: لم تكن الروح التي طالبت بأن تهدم الصورة الحضارية التي تعفنت بحلول هذا القرن، تقتصر علينا، بل العكس ربما كان أقرب إلى الصواب، أنها كانت قبل ذلك مشتعلة عند أعلام أوروبا من رجال الفكر والأدب، وجاءتنا نحن ومضات من ضيائهم، بما كان قد تود من صلات بين رواد حياتنا الثقافية ورواد حياتهم هناك في الغرب، إلا أن انعكاس الضوء على مرآتنا قد جاوز حدود الأصل ليثور على ذلك الأصل الوافد نفسه، كلما تعارض مع ركائز ثقافتنا، ومن هنا رأينا بين روادنا من شغل نفسه بالرد الرافض لما يكتب عبر البحر أو يقال على غرار ما فعل الأفغاني في «الرد على الدهريين» والشيخ محمد عبده في الرد على «هانوتو» و«رينان» والعقاد في الرد على كثير مما قاله مستشرقون كتبوا عن الإسلام والمسلمين، وإلى جانب هؤلاء الذين تأثروا بما كتب أو قيل في الغرب وتولوا الرد عليه، كانت هنالك جماعة تتخذ أسلوبا آخر في إيجاد التوازن الثقافي الذي يصون الهوية العربية الإسلامية حتى لا تنجرف مع تيار الفكر المنقول، وتتمثل تلك الجماعة في أفراد عرفوا كيف يكتبون بأقلام عربية قوية رصينة، مادة عربية وإسلامية أصيلة، كالذي نراه عند مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، والشيخ عبد العزيز البشري وغيرهم.
في هذه الدوامة الفكرية ووسط إعصار من رياح التجديد والتغيير، وقف صاحبنا في شبابه الطموح، وقفة من أراد أن يلتهم الأضداد جميعا، لعله يحيط بعصره من يمينه وشماله، لكنه آخر الأمر قد أمسك بطرف الخيط الذي يهديه إلى الطريق.
Unknown page
نار ونور
كان صاحبنا في الخامسة والعشرين، عندما انتقل من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته، لكن النقلة هنا لم تكن من عقد إلى عقد من عقود السنين وكفى، بل كانت ذات أبعاد أخرى وأغوار، فقد انتقل من دنيا التدريس ومن التحرك في أوساط الشباب من أنداده إلى التحرك في أوساط الرجال الراشدين، وأي رجال هم؟ إنهم صفوة من صفوة المثقفين، وذلك أن أخانا كان قد بدأ يكتب وينشر لسنوات خلون، ولا بد أن تكون كتابته قد اشتملت على شيء يستوقف أنظار الأئمة الرواد، فضلا عن جماعات المثقفين؛ لأنه تلقى دعوة شفوية لينضم عضوا في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان ذلك في الأعوام الأولى من الثلاثينيات، وهي لجنة ثقافية تألفت سنة 1914م، وتولى رياستها الأستاذ أحمد أمين منذ يومها الأول وإلى أن توفي سنة 1954م، وأما أعضاؤها عندئذ فهم جماعة من ألمع ما سطعت به الحياة الثقافية من نجوم، واسمها دال على أهدافها وهي أهداف ثلاثة تذكرنا بالأهداف الثلاثة التي استهدفها رفاعة رافع الطهطاوي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وهذا معناه أن الأعوام المائة التي تقع بين الوقفتين لم تغير مما أرادته النهضة الثقافية لنفسها، فهي تريد قناتين تنتهيان إلى ثالثة تغذيانها بما تحملانه من حريق، والقناتان هما: إحياء الماضي الذي يستحق الإحياء ونقل من ثقافة الغرب لما يستحق أن ينقل، فيكون الأمل المرجو بعد ذلك هو أن يتلاقى الغذاء آتيا من نفائس آبائنا من قناة الإحياء، وآتيا من نتاج الغرب قديمه وحديثه على السواء، من قناة الترجمة، فإذا صادف ذلك المركب الغذائي موهبة أبدعت جديدا، بوحي مما استقبله من هنا ومن هناك، فكهذا أراد الطهطاوي عندما أنشئت له مدرسة الألسن، لتكون دارا للترجمة عن أوروبا، أضاف هو إلى الترجمة نشاطا آخر لنشر مختارات من عيون التراث، ثم جاءت مؤلفاته هو نموذجا بما يمكن أن يكون ضلع الإبداع من أضلاع المثلث الثقافي، وهكذا أيضا أراد مؤسسو لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو أن تنقل بالترجمة عن الغرب ما تختاره من نتاجه وأن تقوم على نشر ما ترى نشره من التراث وذلك بعد تحقيقه، ثم تترك للمواهب المبدعة أن تؤلف من لدنها ما تثمره تلك المواهب، وكان أحمد أمين هو المهندس الأول الذي يضع المطبوعة الزرقاء لما ينبغي أن تسير عليه خطوات البناء، فهو بحق طهطاوي القرن العشرين في مصر.
كانت هذه الخطة الثلاثية التي سارت عليها نهضتنا الثقافية، هي نفسها القاعدة التي لو جعلها من أراد تثقيف نفسه خطة يهتدي بها في تكوين بنيانه، لانتهى بنفسه إلى هوية متكاملة البناء سواء جاء ذلك البناء قليل الطوابق أو كثيرها، ثم هي هي الصورة التي يمكن اتخاذها ميزانا توزن به أقدار المثقفين خفة ورجحانا، فلو تعقبت أعلامنا الرواد جميعا لوجدت السمة المشتركة بينهم، هي أن يكون كل رائد منهم على علم واسع ودقيق بجانب من ميراث أسلافنا، كل في مجاله، وأن يكون في الوقت نفسه على معرفة بلغة أوروبية واحدة على الأقل تمكنه من متابعة ما ينتجه أصحاب تلك اللغة هناك من جديد يستحق العناية، فإذا تذكرنا أن اللغات الأوروبية ينقل بعضها عن بعض أهم ما ينتجه المبدعون في كل ميدان أدركنا أن معرفة لغة أجنبية واحدة تكفي صاحبها ليلم بجوانب الثقافة الأوروبية - والأمريكية بعد ذلك - أيا ما كان مصدرها، وإلى جانب العلم بما يهم ويكفي من تراث الآباء، والعلم بما يجدر العلم به من نتاج الغرب صاحب العصر وحضارته، ترى لكل رائد من أعلامنا ناتجا أبدعته قريحته، مستلهما فيه محصوله الذي جمعه من القناتين، وبالميزان الثلاثي نفسه، يمكن معرفة وجه التقصير والقصور فيمن أفلتت من أيديهم الصورة الثقافية وهي في حالة اكتمالها، وهؤلاء صنفان، فإما أن ترى الواحد منهم قد اكتفى بدارسة شيء من التراث ولم يلتفت إلى شيء من ثقافة الغرب، أو اكتفى بدراسة ما جاءه عن ثقافة الغرب، ولم يلتفت إلى إرث ماضيه، وفي كلتا الحالتين عرج يتعذر معه أن يجيء خطو السائر كما ينبغي له أن يجيء.
كانت تلك هي لجنة التأليف والترجمة والنشر، برئيسها وبأعضائها وبخطتها وبإنتاجها، وباجتماعاتها الأسبوعية كل خميس، التي كانت تجتذب كبار القوم من مصريين وغير مصريين من سائر أجزاء الوطن العربي، وفي تلك اللجنة أضحى صاحبنا عضوا من أعضائها، يملأ صدره وهم مخيف، بأنه قامة قصيرة وضعت بين قامات طوال، لكن ذلك الوهم لم يمنع أن يكون الشاب قد خرج من عقد العشرينات، حيث تكاثرت أمام ناظريه أفكار كبرى تأتيه من كل حدب وصوب، فخرج منها بواحدة جعلها محورا لنشاطه الفكري، ولا أظن أن ذلك المحور الأساسي قد تبدل مع أعوام بلغت به الستين منذ انتهت العشرينيات إلى أن بدأت من القرن تسعينياته، وذلك المحور الأساسي هو فكرة «التقدم»، فقد رآها تجمع له كثيرا جدا من العناصر التي لا غناء له عنها إذا هو أراد حقا أن يخدم أمته بفكره، فها هو ذا عصرنا تدوي جنباته بضجة النداء إلى تغيير حضاري شامل كامل، يهدم القديم العتيق من أساسه ليقيم الجديد مكانه ، وانظر حولك الآن - أعني الثلاثينيات - فثورة سياسية (1919) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أعقبتها ثورات فرعية خلال العشرينيات، في الاقتصاد، وفي الموسيقى، وفي الفن التشكيلي، وفي الشعر، وفي النقد الأدبي، وفي التعليم، وفي الأوضاع الاجتماعية، وإنما جاءت تلك الثورة المصرية وتفريعاتها في عالم امتلأ بالثورات: فالحركة الفاشية في إيطاليا، والحركة النازية في ألمانيا، والحركة الشيوعية في الروسيا، وغاندي في الهند وعصيانه المدني، والحرب الأهلية في إسبانيا، كلها جاءت لتغيير أسس الحياة من الجذور، ولا يعنينا هنا أن يكون بعضها قد طفا وبقي وأجحف الميزان، إذ نركز أبصارنا في نقطة واحدة، هي وجوب الهدم ليتاح لنا البناء على طراز جديد، وكان إلى جوار هذه الحركات السياسية حركات ثقافية تساعد على قوة المد في الاتجاه نفسه، وكما ذكرنا في حديثنا الماضي كان الفكر الفلسفي يتجه معظمه نحو رؤية «التطور» وقد أخذ بأطراف الكون كله، ثم ضاقت دوائره لتشمل كل كائن من كائنات الكون، وذهبت فكرة كان لها فيما مضى سيادة كلما أراد الإنسان أن يفهم الكون وكائناته، وحلت محلها فكرة أخرى تريد لنفسها الشيوع، وأما تلك التي ذهبت وذهب زمانها فهي افتراض الثبات في حقيقة الشيء المعين - كل شيء وأي شيء - لكن كيف يكون ثبات للنهر، والشجرة، وكوكب الأرض وأي شيء تختاره، إذا كنا ننظر فنرى رؤية العين أن كل شيء يتغير لحظة بعد لحظة: الماء في النهر قد جرى ليحل محله ماء آخر، الشجرة تتغير أوراقها وأزهارها وثمارها، الكوكب الأرضي يتناوبه الليل والنهار، كما تتبادله فصول السنة الأربعة: صيف، فخريف، فشتاء، فربيع؟ أين يكون ذلك الثبات المزعوم إذن؟ آه - كان الجواب فيما مضى - أن لكل شيء «جوهرا» لا تراه عيناك ولكن عقلك يدركه - وذلك الجوهر يحمل الصفات الأساسية التي تجعل أي شيء هو ما هو، فيكون القط قطا والعصفور عصفورا، والإنسان إنسانا، وهكذا، ومثل هذا «الجوهر» في الشيء المعين ثابت، ومن ثباته يستمد الكائن ثباته، هكذا كان يجيء الجواب لمن يرى الأشياء تتغير أمام عينيه، فيسأل: أين هو الثبات المزعوم؟
فجاءتنا فلسفة عصرنا هذا برؤية أخرى تتلاءم مع فكرة «التطور» التي تسود، وهي أن أي شيء في هذا الوجود، بل الوجود كله، في مجموعه، إنما هو «سيرة» أي إنه «تاريخ» بمعنى أنه يتألف من حالات - تختلف أو تتشابه - يعقب بعضها بعضا في تلاحق سريع، والذل يوهمك بأنه «واحد» و«ثابت» أن له عندك «اسما» واحدا، وأن حالاته المتغيرة المتلاحقة قد يضمها «إطار» يوهم بوحدانيتها، كأفراد النحل في الخلية، ومن هذين العاملين يجيئك وهم الواجدية في شيء ما، فإذا قلنا - مثلا - «جامعة القاهرة» سبق إلى الظن بأن هذا الاسم يشير إلى كائن واحد ثابت، لكن دقق النظر تجد «جامعة القاهرة» إنما هو اسم يشير إلى عالم يعج بتفصيلاته وأفراده وتغيراته لحظة بعد أخرى، فالأمر في كل شيء شبيه بمعزوفة موسيقية، أو بمسرحية تشاهدها على المسرح، فالمعزوفة «امتداد» زمني تتوالى فيه الأنغام، لكل نغمة وجودها الخاص، والمسرحية أحداث تتلاحق لكل حدث منها وجوده الخاص، وعلى هذا التصور راجع رؤيتك للكائنات وفهمها على الوجه الصحيح.
على أنه لا ينبغي لنا أن ننسى بأن هذا التصور الجديد لحقائق الأشياء، هو مجرد «حالات» تتغير وتتلاحق متتابعة، وليس في ذلك ما يدل على «التقدم»، وإذن فلا بد لنا من إضافة نضيفها إلى مجرد التغير لنجعل منها «تقدما» فماذا نضيف؟ الجواب في كلمة واحدة - كما تصوره صاحبنا وهو في مرحلة انتقاله من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته - هو «الهدف» الواحد يشيع بين مبدعي الثقافة، فيتجه إبداعهم نحو ذلك الهدف، كل بلغة مجاله الذي يبدع فيه الأنغام عند الموسيقي، والكلمات عند الشاعر، والأديب، والألوان والخطوط عند الفنان التشكيلي، والحجر والخشب والحديد مع منوعات من معادن أخرى، عند النحات والمعماري، وقد كان المناخ العام - كما رآه أخونا عندئذ - ينبئ بأن التوحد النسبي للهدف الذي شهدته سنوات العشرينات وما قبلها بقليل، قد أخذ يتفكك، ويتكثر، فهنالك نشأت جماعة الإخوان المسلمين تنادي بالعودة إلى الماضي لنأخذ منه الهدف، وهنالك متوازية مع تلك الدعوة وليس تأثرا بها، ولا نتيجة لها ، شغل أعلامنا في كثرتهم الغالبة بالتوجه نحو ينابيع إسلامية يستمدونها موضوعات للكتابة، بل - وأحيانا - مناهج للتفكير، وكانوا في ذلك كأنهم في سباق، ونحن في هذا السياق من الحديث لا نريد الموافقة أو المعارضة، بقدر ما نريد إثبات الرؤية التي رأى بها صاحبنا أحداث عصره واستجاب لها تأييدا أو تفنيدا، ولقد كانت رؤيته يومئذ لذلك التحول الذي بدأت تتحول به أعلام الثلاثينيات عن أعوام العشرينيات هي المعارضة، فذلك التحول من شأنه أن يؤدي إلى نتيجتين؛ إحداهما: أن تتعدد الأهداف بين المبدعين، فهذا يشد الأبصار إلى ما فات وذلك يشدها إلى ما هو آت، وأما النتيجة الثانية: فهي أن الرجوع إلى الماضي لالتقاط أهدافنا من تصورات الأمس، هو بمثابة رفض صريح لفكرة «التقدم» التي هي من أبرز ما يميز الوجه الثقافي لعصرنا هذا.
وإن هذا الكاتب لعلى يقين بأن القارئ ستأخذه الدهشة من هذا القول العجيب، ففكرة «التقدم»، في ظن الكثرة الكاثرة من الناس، فكرة تمليها البديهة الفطرية، يدركها كل إنسان في كل عصر، كما يدرك ضوء الشمس بمجرد اللفتة بالبصر، فكيف تزعم أنها وليدة هذا العصر؟ وسوف أتقدم بالجواب بعد قليل، إذ لا مندوحة لنا قبل التعرض لفكرة التقدم؟ وما يراد بها عن توضيح نقطة تستحق الوضوح، فقد قدمنا لك بأن أبرز ملامح الفكر المعاصر كله: رؤيته للكون والكائنات بمنظار «التطور»، فبعد أن كان الظن في كل شيء هو أن الأصل فيه سكون وثبات، حتى يطرأ عليه من خارجه عامل يحركه من سكونه ويبث فيه التغير بعد ثباته وسباته أصبح الظن هو أن الأصل في كل شيء حركة وتغير، إلا إذا جاءه عامل من خارجه فأوقف حركته ورده إلى سكون، وأزال عنه التغير ليصبه في قالب الثبات، ولقد أنبأتك عن صاحبنا بأنه كان قبل انتقاله إلى أعوام الثلاثينيات، قد عبأ رأسه بقدر كاف من نظريات التطور في صورته العامة وبقدر كبير من المذهب الذي جعل كل شيء - والكائنات الحية بما فيها الإنسان بصفة خاصة - هو في حقيقته «سيرة» تتعاقب فيها الأحداث والحالات، وليس «جوهرا» يتصف بالدوام والصمود، وهنا من حق السائل أن يسأل: إذا كانت حقيقة «الإنسان» - كغيره من الكائنات حية وجامدة على السواء - هي أنه سيل يتدفق بأحداث متفرقة وحالات متغيرة، فما الذي «يتقدم» فيه أو يتأخر؟ إن «التقدم» أو «التأخر» لا يدلان على معنى مفهوم، إلا إذا جاءت الصفة منهما لتصف هوية معينة محددة، مما لا يتيسر قيامه في وجود ليس فيه إلا تيار دافق من متفرقات، وهذا صحيح، إلا أن الذي يحدث بالفعل، إذا ما أريد للإنسان - أو أي كائن آخر - أن يبقى له جانب من جوانبه على ثبات يصمد ويدوم، عمل ولي الأمر على تربية تمسك بما شاء من صفات، فيحول بينها وبين أن تتغير، فتصبح تلك الصفات هي «هويته» التي يعرف بها، وذلك هو ما يحدث حيث ثبت في الناس كل يوم، بل كل لحظة من كل يوم، أن يفعل كذا وألا يفعل كيت وأن يقول كذا وألا يقول كيت، على أن هذا الجانب الذي يعمل ولي الأمر على تثبيته فيمن يربيه لا يستعصي فيما بعد على علماء النفس أن يمحوه ويغيروه، وكلنا يعلم ما يسمى ب «غسل المخ» فهو إجراء عم وشاع في عصرنا، بحيث أصبح في مستطاع ولي الأمر، أن يشكل هوية إنسان على أي نحو أراد، بل إن تلك هي إحدى الكوارث التي قد يكرث بها دكتاتور أفراد شعبه، مستعينا بوسائل الإعلام، فيصوغ هؤلاء الأفراد ليتشابهوا جميعا وكأنهم سيارات من طراز معين، أخرجها مصنع واحد على طراز واحد.
والآن وقد أجبنا على سؤال السائل عن جانب الثبات من كيان الإنسان، الذي يجوز لنا أن نتحدث عنه بلغة «التقدم» بقي علينا أن نواجه دهشة المتعجب من أن يكون «التقدم» منسوبا إلى عصرنا، فهل كانت هذه البدهية مجهولة للسابقين، حتى كشف عنها هذا العصر؟ والجواب هو بالإيجاب، نعم، لم يكن السابقون يديرون حياتهم ... حول محور «التقدم» بالمعنى المراد بهذه الكلمة اليوم، وأول جانب من جوانب هذا المعنى، هو أن ينظر إلى كل مرحلة لاحقة، من حياة الإنسانية على أنها لا بد لها أن تكون أعلى درجة من أية مرحلة سبقتها في ذلك التاريخ، فالمرحلة اللاحقة - عند الأخذ بفكرة «التقدم» - أعلم وأفضل وأقدر وأقرب إلى الكمال كما يتصوره خيال الإنسان، من المراحل السابقة، وبالطبع قد تحدث نكسات في الطريق، إلا أن المنحنى العام هو في جملته متجه إلى صعود، كما يفترض النمو في الطفل ولا يبطل هذا النمو أن يعترضه مرض يوقفه إلى حين، حتى يصح فيستأنف نموه من جديد، ولم تكن هذه هي نظرة السابقين في مقارنة حاضرهم بماضيهم، فالإطار الفكري العام عند الإنسان إذا ترك لفطرته، هو أن يجعل «العصر الذهبي» فيما قد انقضى، فأبطال الماضي في كل الميادين لا يتساوى معه أبطال الحاضر، فلا القديس هو القديس، ولا القائد هو القائد، ولا الشاعر هو الشاعر ولا الحكيم هو الحكيم، وهو موقف ينتج بالضرورة لمن يسقط فكرة «التطور» من حسابه، إذ هو في هذه الحالة ينظر إلى الكون بكل ما فيه، فنظرته إلى أثاث البيت، كان أول عهده جديدا سليما نظيفا، ثم أخذ مع الأيام يفقد جدته ورونقه، فلا ألوانه تبقى على لمعانها، ولا المقاعد والمناضد تسلم لها قوائمها، وكل شيء فيه باهت وعتيق.
ولعل قارئنا يلتفت إلى أهمية الفكرة التي أسلفناها عن حقيقة «الهوية» من ناحية الخصائص التي تخلع عليها الثبات النسبي، سواء أكانت هوية فرد معين، أم هوية شعب بأسره دامت له خصائصه الأساسية على امتداد الزمن، وأعني التفاته إلى حقيقة كون الخصائص الثابتة تستمد ثباتها ذاك بفعل التربية والنشأة في ظروف أسرية واجتماعية وبيئية معينة، فمعنى ذلك هو أن هوية الشخص الواحد، أو الشعب الواحد، أمر مكتسب وليس هو مغروسا بغراء في جبلة الإنسان، وإذا كنا قد أصبنا في هذا الزعم، كان لهذه الحقيقة المزعومة أهمية كبرى في موقفنا الاجتماعي الراهن - سواء أخذنا المصري في مصريته، أم أخذناه مواطنا عربيا - وذلك لأننا نود أن تكون الأولوية الحاسمة في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا لغرس الخصائص التي تهيئ العربي لمواجهة عصره قويا، واثقا في نفسه، يأخذ من معاصريه ويعطيهم ، ويا ليته يعطي أكثر مما أخذ، فإذا كانت تلك الخصائص الملائمة لعصر العلم الطبيعي والصناعة بتقنياتها الجديدة موجودة بالفعل في الهوية العربية المتوارثة فذلك خير، وأما إذا لم تكن كان علينا أن نبثها في الناشئين لتندمج في كيانهم عنصرا جديدا في مكونات الهوية المصرية العربية، فذلك أمر تربوي وارد وواجب، ولا تناقض فيه.
انتقل صاحبنا من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته، كما انتقل في الوقت نفسه من مرحلة الطلب في دور التعليم إلى مرحلة النضج الذي يضطلع بنصيبه في الإنتاج الثقافي وقد تصادف - كما قلنا - أن تزامن هذا الانتقال (تقريبا) مع انضمامه عضوا في أعلى لجنة ثقافية في تلك الفترة الزمنية، فوجد نفسه مع صفوة العقول وأئمة المبدعين وكان ممتلئ الرأس بقطوف من دراساته ومطالعاته عن أهم تيارات الفكر في الغرب، و«الغرب» عندئذ كان يعني عندنا أوروبا وحدها؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدخل مسرحنا الفكري بدرجة ملحوظة إلا في أربعينيات القرن، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأهم ما انتقل به صاحبنا من أفكار تشغله ويتحمس لها فكرة «التطور»، ومن ثم ففكرة «التغيير» وبالتالي فكرة «التقدم» بالمعنى الذي أسلفناه، والذي هو أن يكون بين مسلماتنا الثقافية اعتقاد بأن الحاضر - دائما - أفضل وأكمل من الماضي، اللهم إلا في عصور النكسات التي تتجمد فيها حركة التاريخ، أو تشتد النكسة فيرتد التاريخ منكفئا على ماضيه.
Unknown page
ولم يلبث صديقنا الشاب، وقد أدخلوه في أهل الذروة الثقافية ليكون من الوجهة الشكلية واحدا منهم، أقول إنه لم يلبث أن رأى - من الوجهة العملية - أمرا عجبا، وهو أن تلك الصفوة الثقافية الممتازة لم تستطع أن تجعل معيار الرفع والخفض ثقافيا خالصا ما داموا جمعية ثقافية في أساسها، بل لازمتهم عقدة «السلطة» التي هي داؤنا التاريخي العتيد الذي لم يجد له حتى هذه الساعة دواء، فمن كان ذا منصب أعلى بمقياس الدواوين الحكومية، كان عندهم أعلى مرتبة في جماعة المثقفين كذلك، حتى ولو لم يحمل قلمه مرة واحدة ليخط به كلمة واحدة مما تعرف الناس على أنه «ثقافة » بأي معنى من معانيها، وعلى الصغير بمقياسهم ذاك أن يظل صغيرا حتى ولو ملأ لهم الدنيا فكرا وأدبا، وقد بدا لصاحبنا الشاب حقائق الموقف بوضوح، وهي أنه في جماعة تحتذي حذو خلايا النحل، نحلة فيها بحكم الطبيعة سلطة الحاكم، ونحلة أخرى فيها بحكم الطبيعة أيضا ذلة المحكوم، لكن صاحبنا بعد أن لحظ ما لحظه، طواه بين ضلوعه لأنه كان على بينة من هدفه، وهدفه هو أن يضع نفسه في «النور»، نور الفكر الرفيع، فإذا لم يكن في مستطاعه أن يضيف من عنده نورا إلى نور، فلا أقل من أن ينعم بنور الآخرين من الهداة الكاشفين.
والله أعلم هل أصاب أخونا في اختياره أو أخطأ، فالناس طبائع واهتمامات وأهداف، وقد حدث بعد ذلك ببضعة أعوام أن التحق باللجنة صديق أديب شاعر كان على طبع مختلف، فلم يكد يرى ما كان صاحبنا قد رآه، حتى ضجر وأخذه القلق وتحدث إلى صاحبنا ذات يوم يكاشفه بما يشعر، قائلا: إنه يرفض أن يقف أمام المذود كالثور الغبي، ينتظر حتى يقذف له سيده بما شاء من الدريس، فسأله صاحبنا: وماذا تريد؟ قال مجيبا: أريد أن نترك هذه اللجنة لأصحابها، وننشئ أخرى نكون نحن أصحابها. فلم يتردد صاحبنا في الرد القاطع: كلا، يا صديقي فأنا باق مع هؤلاء معترفا أمام نفسي بأن في الناس كبيرا وصغيرا.
ولماذا أقول هذا نقلا عن خبرة لصاحبنا امتزجت له فيها النار والنور؟ إنني أقوله لأعلن به عن علة قاتلة تكمن جراثيمها في قلوب قلوبنا، فماذا تنفع ثقافة في تغيير الناس نحو الأعلى والأقوى والأفضل، إذا كان حامل تلك الثقافة وناشرها لا يؤمن بها، ولو آمن لغير من نفسه قبل أن يطالب الناس بالتغيير:
يأيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
هكذا تساءل شاعر عربي، وهكذا نتساءل معه، إنه هو «التقدم» الذي كان يريده صاحبنا قبل أن يلتحق بتلك الجماعة وبعد أن التحق، والتقدم تغيير نحو الأكمل، ولو سئل هذا الكاتب: ما الذي تراه علة العلل في وجودنا الاجتماعي الضعيف؟ أجاب بغير تردد: إنه هو حب التسلط على الآخرين ... «السلطة» متمثلة في مناصب الحكم، هي عندنا القيمة الأولى بين القيم، قل لي كم لك من نفوذ تخترق به القوانين بلا رادع ولا عقاب، أقل لك أين يكون موقعك من درجات المجتمع، وكان الأمل أن تعمل أقلام الكاتبين عمل الفئوس، تحطم هذا البناء الذي يقام على افتراض مسبق بأن يكون للطغيان مكانة أولى في سلم القيم، فماذا تقول؟ إن حملة الأقلام على نقيض ما يبشرون به من وجوب قيام العدل أساسا لبناء المجتمع يريدون لأنفسهم مكانة الطاغية والويل ثم الويل لمن نشأ في مجتمعنا على ميل نحو التواضع؟ لأنه بين غمضة عين وانتباهتها واقع لا محالة مواقع الفرائس ينهش لحمها حلالا بلالا بغير مقابل أو بالنزر اليسير.
ربما كان في هذا التصوير تهويل تورط فيه القلم، لكنه يعين على إيضاح المناخ الثقافي كما شهده صاحبنا، حين اقترب من الصفوة شابا امتلأ رأسه وقلبه معا بما درس وطالع من فكر ووجدان يصلحان لتحقيق «التقدم» والنهوض، ولقد وفق بالفعل إلى مشكاة فيها مصباح، إلا أن المصباح لم يكن في زجاجة، فاختلط فيه الأمر بين نار ونور.
منهج جديد
كان الزمن لا يزال في أعوامه الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين يزحف في بطء مثقلا بأحداثه، عندما فرغ صاحبنا من ترجمة المحاورات الأفلاطونية الأربع، التي يطلق عليها أحيانا اسم المحاورات السقراطية؛ لأن شخصية سقراط فيها لم تقتصر - كما أراد لها أفلاطون في سائر محاوراته الأخرى - على أن تكون وسيطا ينطق بفكر أفلاطون، بل هي محاورات أربع موضوعها هو شخص سقراط، مدافعا عن نفسه في المحكمة التي ساءلته عن أفكاره التي كان يبثها فيمن يحاورهم من الشباب الأثيني، وشارحا لموقفه من قوانين المدينة، كيف كان موقف من يحترمها وينصاع لها عن طواعية، مع الدعوة إلى وجوب تغييرها لما كان يراه فيها من قصور، ومعلنا عن شوقه إلى عبور البرزخ الذي يفصل بين الحياة الدنيا وخلود الحياة الآخرة، ولقد كان مشهدا مثيرا لأنصاره من الشباب الذين أحاطوا به، وقد جرع السم الذي أعطاه إياه حارس السجن، ولم يعد إلا أن يسري ذلك السم في جسمه ليكون الختام، لكنه قبل تلك النهاية بلحظة قصيرة رفع الغطاء عن وجهه، وطلب ممن كانوا حوله أن يقدموا ديكا إلى أسكلبيوس نيابة عنه، وكان أهل أثينا قد اعتادوا أن ينسبوا شفاء الحمى، إلى سحر أسكلبيوس، فيقدم له من كان مريضا ديكا ضحية ترمز إلى عرفانه بجميل الشفاء، وقد قصد سقراط بإشارته تلك إلى مريديه بأن يقدموا تلك الضحية نيابة عنه، أن يعلن شعوره بالخلاص من حمى الحياة الدنيا.
كان صاحبنا قد فرغ في أوائل ثلاثينيات القرن، من ترجمة المحاورات السقراطية الأربع، وقد تركت فيه أعمق الأثر من عدة وجوه: فأولا وقبل أي شيء آخر، كانت تلك الوقفة مع شخص سقراط كما تجلى في محاوراته تلك، هي بمثابة الخطوة الأولى على طريق تربيته تربية منهجية، تمهد له السبيل إلى نشاط فكري مستقيم، وذلك أن الفيلسوف قد حاول مع محاوريه - لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني - أن يحددوا معاني الكلمات التي يستخدمونها في مجالات الحياة الجارية، وإلا فهل يعقل أن يتحدث ناقد عن أثر من آثار الفن وهو لا يدري بأي الخصائص يتميز «الفن»؟ وهل يعقل أن يتشدق سياسي بالديمقراطية، حتى إذا ما سئل عن الديمقراطية عجز عن الجواب؟ وهل يعقل أن يجد الشاب «أوطيفرون» في المحكمة مطالبا بإنزال العقاب الملائم على أبيه؛ لأن أباه قد طرح بأحد عبيده في خندق فقتله، حتى إذا ما سأله سقراط ليحدد له معنى «التقوى» التي اتهم أباه بالخروج عليها، لم يجد الشاب عنده للسؤال جوابا، سوى أن قال لسقراط: إن التقوى هي عمل كهذا الذي أقوم به الآن، وهنا قدم الفيلسوف للشاب في إيجاز، ما يعلمه بأن «العلم» الصحيح بحقيقة من الحقائق لا يكون بذكر جزئية تندرج مع غيرها من جزئيات السلوك، لتكون هي الأمثلة العابرة على الحقيقة العلمية لفكرة من الأفكار، فقد كان واجبا عقليا على أوطيفرون، قبل أن يتهم أباه في المحكمة بأنه قد خرج على حدود «التقوى»، فاستحق العقاب، أن يعلم أولا تعريف «التقوى» تعريفا محكما، يكون بعد ذلك هو المرجع الذي تقاس إليه جزئيات السلوك البشري، لنميز فيها بين التقي والفاجر.
Unknown page
فكان هذا هو أول الدروس التي تعلمها صاحبنا خلال ترجمته لتلك المحاورات الأربع، ومع ذلك فما لبث طويلا بعد هذا الدرس، حتى وجد في التحليلات المعاصرة ما يضيف إليه إضافات تزيده اقترابا من الدقة العلمية كما ينبغي لها أن تكون، وشرح ذلك في إيجاز، هو أن سقراط - وجميع فلاسفة اليونان مع معظم الفلاسفة قبل عصرنا هذا، الذي نراه متمثلا في القرن العشرين كله، وما قبله من أواخر عقود القرن الذي سبقه - أقول إن هؤلاء جميعا كانوا على ظن بأن المعنى الكلي الواحد، يعد حقيقة عقلية مستقلة بذاتها، ويمكن تعريفها وتحديدها، كالمعنى الكلي الذي شغل به سقراط مع الشاب الذي قابله في ساحة المحكمة يتهم أباه، وهو معنى «التقوى» ويجري مجراه كل المعاني العامة: الحرية، العدالة، المساواة، الصدق، الوفاء ... إلخ إلخ، ولم يكن أحد من هؤلاء قد أدرك حقيقة الأمر، كما كشف عنها التحليل المنطقي الرياضي في العصر القائم ألا وهي: إن أي معنى، من هذه المعاني العامة، إن هو في واقع أمره إلا تكثيف لجملة كاملة ضغطت في مفرد لغوي واحد، فإذا أردنا أن نرفع عن الفكرة تكثيفها لتظهر عناصرها المضمرة اضطررنا عندئذ أن نبحث عن «مبتدأ» للخبر الموجود في المعنى المتمثل في الوحدة اللغوية التي بين أيدينا، فبدل أن أجاز الشاب أوطفرون لنفسه أن يستخدم كلمة «تقوى» وكأنها حقيقة كاملة قائمة برأسها مكتفية بذاتها، كان لزاما عليه أن يستحضر في ذهنه الخصائص الجوهرية في سلوك الإنسان، الذي يقال عنه إنه «تقوى»، وبهذا تكتمل الفكرة مبتدأ وخبرا، إذ تصبح على هذه الصورة: كذا وكذا وكيت من العناصر السلوكية هو التقوى، وبعبارة أخرى: إنه لا يجوز لصاحب الفكر العلمي أن يستخدم اسما ما، إلا إذا سبق ذلك علمه بما يسميه ذلك الاسم، وإنه لكثيرا جدا ما يحدث لصاحب الفكر الغامض المهوش، أن يملأ شدقيه بكلمات وعبارات على حساب أنها فكر من الفكر بمعناه الصحيح، فإذا طالبته أن يصور لك تفصيلات الموقف الحي، الذي يتصور وجوده من خلال كلماته، عجز عن التصوير نتيجة لعجزه عن التصور، ومن هنا ندرك دقة الفقهاء المسلمين حين أدركوا أن «الحكم على شيء فرع عن تصوره» - كما قالوا - أي إنك لا يحق لك حكم، ما لم تكن قد كملت لك الصورة الذهنية لحقيقة من الحقائق، بتفصيلاتها الأساسية التي تتيح لك أن تتصور كيف يكون موقع الأشياء في عالم الأشياء إذا صدق ذلك التصور الذهني المزعوم.
لقد كان ذلك هو نفسه ما يتضمنه منهج الفكر الرياضي، والفكر العلمي المتصل بالعلوم الطبيعية كذلك، على ما بين الحالتين من أوجه اختلاف، ففي الفكر الرياضي لا يحل لصاحبه أن يستخدم أسماء كالنقطة والخط والسطح والمثلث إلخ، إلا إذا بين لنا ما «يفترض» وجوده من خصائص في كل اسم من هذه الأسماء، كأن يقول: إن النقطة هي ما ليس له أبعاد، والخط هو طول بغير عرض، والمثلث هو سطح مستو يحيط به ثلاثة خطوط مستقيمة وهكذا، ولعلك قد لحظت أني وضعت كلمة «افترض» بين حواصر لتلتفت إلى أن الأمر كله عند الفكر الرياضي افتراض لمعان يطلب التسليم بما تعنيه بغير بحث؛ لأنه هو الأساس الذي سوف تقام عليه النتائج الرياضية فيما بعد، وأما في العلوم الطبيعية، فالأسماء تحدد أيضا بتفصيلات مسمياتها، لا على سبيل «الافتراض» الذي يسلم بدون بحث، بل على سبيل الواقع الفعلي كما يقع، فإذا استخدم اسم «الماء» أو «الهواء» أو «الخشب» أو «القمح» أو ما شئت، كان على رجل العلم أن يحدد العناصر الداخلة في تكوين ما أراد معرفته معرفة علمية، والمقدار الذي يجيء به كل عنصر، وبغير هذه المعرفة التحليلية، يبقى الأمر بين الناس مجرد «خبرة» بالأشياء في استعمالاتها العملية، والفرق بعيد بين الحالتين.
كان سقراط، ومعظم الفلاسفة السابقين، إذ هم يبحثون عن دقة المعنى لأي معنى من المعاني العامة، مثل قولنا «حرية» و «عدالة»، بل وفيما يختص بالأسماء التي نشير بها إلى أنواع الكائنات مثل قولنا «شجرة» و«نهر» يفكرون على منهاج الفكر الرياضي، ففي العلوم الرياضية تنتقل الحركة العقلية من فكرة إلى فكرة دون أن يعنى الرياضي بالوقائع الفعلية التي تقع في دنيا الأشياء، إذ العملية الفكرية الرياضية تكون صحيحة على أساس سلامة الاستدلال وليس على أساس التطابق الفعلي مع واقعة معينة، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ومعها في ذلك العلوم الإنسانية، وهكذا كان الفلاسفة فيما مضى، يغلب عليهم الأسلوب الرياضي في التفكير، سواء أكان موضوع البحث هو فرع من فروع الرياضة حقا، أم كان موضوعا يختص بظاهرة من ظواهر الطبيعة؛ وذلك لأن الرأي عندئذ كاد يجمع على أن منهج التفكير السليم واحد مهما تغير موضوع البحث، وما هكذا الموقف المنهجي اليوم؛ لأن فروقا جوهرية بين طريقة العالم الرياضي وطريقة العالم في مجال العلوم الطبيعية تبينت تحت مجهر التحليل، مما اقتضى أن يكون لكل من مجموعتي العلوم منهاجها الخاص.
وبناء على هذه التفرقة في المنهج، تفرقة تدور مع اختلاف الموضوع المبحوث، يصبح تحديد المعاني في موضوع مثل «حرية» و«ديمقراطية» وفي موضوع مثل «شجرة» و«نهر» لا يتساوى مع الطريقة التي نحدد بها المعاني في موضوعات رياضية كالمثلث والمربع في الهندسة، والصفر والواحد في الحساب؛ ففي الحالة الأولى يجب البحث في دنيا الواقع عن العناصر الحقيقية التي إذا اجتمعت في سلوك الإنسان قيل: هذه «حرية» أو هذه ديمقراطية مما يقرب جدا من قولنا: هذا «نهر» وهذه «شجرة»، على أساس ما كنا قد جمعناه من تفصيلات أساسية منها تنسج الحرية والديمقراطية، أو النهر والشجرة، وأما في العلوم الرياضية فالأمر جد مختلف؛ لأن المعاني التي تؤديها «الرموز» لا تستمد من الواقع كما يحدث، بل هي فروض يفرضها العقل يبني عليها ما يبنيه من نتائج، وقد تنطبق بعد ذلك على الواقع أو لا تنطبق، أي إن العقل الرياضي هو الذي يفرز مادته، التي ينصب عليها الفكر، ليخرج معادلة من معادلة إخراجا صحيحا بمقدار ما روعيت فيه مبادئ الاستدلال، لكنه لا يضمن له آخر الأمر أنه هو الذي يصور حقائق الواقع، وهذا الذي نقوله يتمثل على مستوى الإبداع العلمي في أرفع درجاته، كما يتمثل شيء منه في العمليات الرياضية التي نمارسها في حياتنا الجارية، فافرض مثلا أن استوقفك في الطريق عابر سبيل، وطلب منك أن تراجع له فاتورة حساب أخذها من تاجر عن بضاعة اشتراها منه، لترى إذا كانت عمليات الحساب كالجمع أو الطرح صحيحة، فتراجع له هذه العمليات الحسابية كما هي واردة في الفاتورة، وتجدها صحيحة كلها، فها هنا تكون صحتها «رياضية»، لكنها لا تضمن للرجل أي شيء خاص بالبضاعة نفسها، هل سلمت إليه بالمقادير المذكورة في الفاتورة أم حدث اختلاف بين المكتوب وواقع الأحداث.
إنك إذا أمسكت بقبضة قوية على الفارق الذي يميز هاتين الحالتين من صور الترابط بين أجزاء الكلام، وإذا قلنا أجزاء الكلام فقد قلنا جوانب الفكرة أو الأفكار المعروضة في ذلك الكلام، أقول: إنك إذا أمسكت بالفارق بين الصورتين فقد أمسكت حقا بمفتاح منهجي، يبين لك الاختلاف من جذوره بين تفكير ساد العصور القديمة كلها تقريبا، وهو نفسه الذي ما زال يسود تفكيرنا نحن أبناء الأمة العربية إلى حد كبير، وبين تفكير آخر، هو الذي انتقلت به أوروبا من عصورها الوسطى إلى العصر الحديث وإلى يومنا هذا، ولكي أزيدك إيضاحا بذلك الفارق أضرب لك مثلين صغيرين: فانظر - مثلا - إلى هذه العبارة: «إن تضحية المواطن لوطنه تضحية تتفاوت درجاتها من تقديم شيء قليل من ماله في سبيل الجهود الذاتية للتعمير والإصلاح.» انظر إلى العبارة مدققا، تجدها قد جعلت مبدأ «الانتماء» أساسا أوليا، تتولد عند نتيجة هي وجوب التضحية من المواطن لوطنه، وعن هذه النتيجة تتولد نتيجة فرعية هي تفاوت الصور التي تجيء عليها التضحية كما وكيفا، وهذا التسلسل الفكري مستطاع حتى لمن عاش عمره حبيس داره لم تقبس عيناه قبسا واحدا من وقائع الدنيا من حوله، ولا ينفي ذلك كونه مسلسلا فكريا صحيحا في ذاته، إلا أنه قائم كله على معرفة مفردات لغوية، وليس فيه ما يقتضي دراسة ظاهرة من ظواهر الكون كائنة ما كانت، وهو بأكمله متوقف على معنى المبدأ الذي جاء في صدر العملية الفكرية، وأعني مبدأ الانتماء، فإذا تبين - وكثيرا جدا ما يتبين - أن صاحب هذه العبارة إذا ما سئل عن تعريف «الانتماء» الذي جعل أساسا لتفكيره، عجز عن الجواب، ومن هنا يتبدى لنا جوهر الرسالة السقراطية التي أشرنا إليها في أوائل هذا الحديث، فما دام اللفظ الذي جعلناه سندا للعملية الفكرية هو بهذه الأهمية كلها وهذه الخطورة كلها فلا مناص لنا من دقة تعريفه تعريفا يتساوى في دقته مع تعريفنا للمفاهيم الرياضية كالمثلث والمربع، ولهذا يقال عن رسالة سقراط إنها كانت محاولة منه ليجعل المعاني الأخلاقية وكأنها من أسرة الفكر الرياضي، ولو استطاع الإنسان ذلك لتخلص من مشكلات تثقل حياته بهموم أثقل، من رواسي الجبال، فكل الحروب التي نشأت بين الفرق المتخاصمة إنما ترجع إلى اختلاف بينها في فهم «مبدأ» لفظي معين، استخلص منه كل من الفريقين نتائج تختلف عما استخلصه الفريق الآخر، وانظر إلى أقطار الأمة العربية كيف تجتمع كلها على مبدأ «الوحدة العربية»، لكنها تفرقت في تصورها لمعنى الوحدة؛ فتفرقت النتائج، وحدث التشقق والصراع.
تلك - إذن - صورة مصغرة لإحدى الحالتين من عمليات التفكير، وهي حالة - كما رأيت - تدور كلها بين جدران الألفاظ وثناياها، فتبدأ بكلمة أو كلمات، ثم تنتقل من كلام إلى كلام، وأما الحالة الثانية فهي تلك التي تبدأ من لقطات تلقطها بالحواس بادئ ذي بدء، حتى تتكون منها مشاهدات وتجارب، تتمركز حول ظاهرة معينة من ظواهر الكون، كظاهرة الضوء، أو الكهرباء، أو الجاذبية، أو تكوين الصخور في طبقات القشرة الأرضية، أو مصادر الطاقة المختلفة كالفحم والبترول والقوة النووية ... إلخ، فنقطة الأساس التي ستقام عليه العملية الفكرية، في هذه الحالة، ليست كلمة أو كلمات يفهمها كل على طريقته، بل هي وقائع شوهدت ورصدت ووصفت، ثم فسرت باستخلاص ما هو متضمن فيها من قوانين تضبط مسارها، وأظنه قد بات واضحا، مما ذكرناه، أن طريقة التفكير في الحالة الأولى رياضية الطابع ، أعني أنها تنحصر في «توليد» النتائج من مقدمات على نحو ما وضع مبدأ «الانتماء» - في المثل الذي أسلفناه - ثم استنبطت منه نتائجه، ولا فرق، من حيث الجوهر، في الطريقة الرياضية أن تكون مركبات «الرموز» التي توضع مقدمات، وما يتولد عنها رموزا كالأعداد والأشكال وأحرف الهجاء، وبين أن تكون مركبات «الرموز» المستخدمة كلمات تتألف منها جمل، فالمهم هنا هو التشابه في طريقة التوليد، وهكذا كانت صورة الفكر في العصور القديمة كلها. أما قراءة الواقع الطبيعي لاستخراج قوانينه، فلم يعرفه الإنسان معرفة تجعل له السيادة والشمول، إلا في عصر النهضة الأوروبية، وبالطبع لا ينفي هذا القول حقيقة أن يكون العالم القديم قد أقام البناء، وصنع كذا وكيت؛ لأن ثمة فرقا بين ما يقام على «خبرة» الحياة العملية، وبين ما يقام على تنظير علمي، بل ولا ينفي هذا القول أن يكون قد ظهر هنا وهناك، آنا بعد آن، عالم شغل بظاهرة طبيعية مثل ظاهرة الضوء (كابن الهيثم) أو عالم شغل بالتجارب الكيماوية (مثل جابر بن حيان) لأن السيادة المطلقة في منهج التفكير، إنما كانت للطريقة الرياضية في التفكير، ولا عجب - إذن - إن ظهر من القدماء مبدعون في العلم الرياضي يضعهم تاريخ العلم في أعلى درجات التفوق.
وبعد هذا الذي عرضناه عن بعض اللفتات المنهجية التي أضيفت إلى الوقفة السقراطية تجاه تحليل المدركات لتحديدها وتوضحيها، نعود إلى صاحبنا في الأعوام الأولى من ثلاثينيات هذا القرن، وكان قد فرغ من ترجمة أربع محاورات لأفلاطون، وكلها وثيقة العرى بحياة سقراط الحقيقية، قبل محاكمته، وفي محاكمته، وبعد محاكمته إذ حكم عليه بالموت، فخرج صاحبنا من تلك الترجمة ومصباح جديد في يده، هو المصباح الذي يتغلغل بضيائه في المدركات العقلية ذات الأهمية الخاصة في قدرة الإنسان على فهم المعاني فهما صحيحا ودقيقا في مجال الأخلاق بصفة خاصة، وأعني مجال الأحكام التي يطلقها أبناء المجتمع بعضهم على بعض فيما يتعلق بالفضيلة والرذيلة، لكن المجال يتسع ليشمل كذلك أحكام الناس في مجال السياسة والفن وغيرهما مما ينشغل به المثقفون في كل مجتمع وفي كل عصر، على أن المصباح المنهجي الذي خرج به صاحبنا من معايشته لسقراط بضعة أشهر هي الأشهر التي ترجم فيها تلك المحاورات الأربع، لم يتجاوز منهج التفكير كما عرفته العصور السابقة جميعا قبل النهضة الأوروبية، اللهم إلا استثناءات متناثرة لا تؤدي إلى حكم عام، وأعني ذلك المنهج «الرياضي» الذي يضع فروضه في أي موضوع أراد أن يجعله مجالا لبحثه، ثم يستخرج من تلك الفروض المقدمة نتائجها بطريقة التوليد، أي طريقة الاستنباط ترى الباحث على منهاجها يستنبط مادة المقدمات ليخرج ما فيها من «نبط» تماما كما نفعل اليوم على صعيد العالم المادي حين نحفر الابار استنباطا لما احتوت عليه من «نفط».
ومع ذلك فليس الذي خرج به صاحبنا قليل الشأن، بالرغم من أنه كان لا بد له أن ينتظر نحو عشرين عاما بعد ذلك، ليسعده الحظ بأن تقدم إليه الدراسات الحديثة ما يكمل به المنهج السقراطي، فتكتمل له الصورة «رياضة» و«طبيعة» وما يندرج تحتمها من فروع العلم والمعرفة على اختلافها، نعم، لم يكن المصباح السقراطي الذي خرج به قليل الشأن في تنويره، وحسبنا أن قد كان هو نفسه المصباح الذي اهتدى به سقراط، وكذلك كان صاحبنا تلميذا له ومغترفا منه - نظريته المعروفة في ربط «المعرفة» ب «الفضيلة» وهي نظرية ما أحوجنا نحن أبناء الأمة العربية اليوم إلى تشربها قطرة قطرة حتى نفرغ وعاءها في خلايا أدمغتنا وأنسجتها وتلافيفها، لماذا؟ لأننا في الأساس أبناء حضارات عريقة قامت قوائمها على «الأخلاق» - و«الأخلاق ركن جوهري من رسالة الدين» - إلى الحد الذي يكاد يشلنا إزاء الحضارة الجديدة في عصرنا؛ إذ وجدناها حضارة «علم»، فأخذتنا الخشية أن تكون علمية العصر صارفة له عن «الأخلاق» التي ندين بها ونجريها في دمائنا.
والنظرية السقراطية في «المعرفة» وارتباطها الوثيق ب «الأخلاق» خلاصتها أنه إذا عرف الإنسان كيف يحدد معنى اسم ما، يطلق على فضيلة معينة، كأن نقول «الوفاء» - مثلا - أو «التقوى» أو «الصدق» إلخ، أقول: إن الإنسان إذا عرف معنى الاسم الذي يشير إلى فضيلة من تلك الفضائل معرفة تحقق له التحديد الدقيق الذي عهدناه بالنسبة إلى حقائق الرياضة كمعنى، «مثلث» و«سبعة» و«نصف» وما إلى ذلك من مفردات اللغة الرياضية، فإنه يصبح محالا على ذلك الإنسان، الذي حدد لنفسه معنى الاسم الذي يشير إلى فضيلة معينة، أن يقترف ما يخالفها، أي إن مجرد «معرفة» الإنسان معرفة بالدقة الرياضية لما تعنيه «فضيلة» معينة كفيل للعارف أن يجتنب ما ينقضها، فإذا عارضت في ذلك قائلا: لكني كثيرا جدا ما أعرف معاني فضائل دون أن أستطيع التزامها في الحياة العملية، أجابك سقراط عندئذ، بأن ما قد أسميته «معرفة» لم يكن من المعرفة في شيء؛ لأن شرطها هو التجديد الواضح القاطع، وأما ما أسميته ب «معرفة» فقد كانت بغير شك مشوبة بالغموض والخلط، وإلا لكانت ألزمتك بتنفيذها في مسالك الحياة العملية، لماذا؟ لأن منها يتضح لك في جلاء أنها سبيلك إلى الخير والأمان، وهل رأيت إنسانا يكره لنفسه الخير والأمان وطمأنينة النفس؟
وهذا معناه: أن «الحق» (= المعرفة الصحيحة و«الخير» = السلوك على منهج الفضيلة وما ينتج عنه) يلتقيان في هوية واحدة، إن «الحق» و«الفضيلة» ليسا شيئين، بل هما شيء واحد، وإن يكن ذا جانبين، فإذا علمت عن معنى فضيلة ما علما دقيقا وصحيحا وكاملا، كنت بالتالي سالكا على نهجها، وإذا سلكت على نهجها، كنت بالتالي عالما بها، فلماذا - إذن - أسلفت لك قولي بأننا نحن أبناء الأمة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى هذه الرؤية التي تدمج الحق والخير في كيان واحد؟
Unknown page
قلت ذلك لأني أعلم كم نحرص أشد الحرص على الإشادة بالفضائل من حيث هي «أسماء» وكم تغرينا ضرورات الحياة العملية بسلوك يتناقض مع ما نشيد به كلاما، مما يوقعنا في تناقض يضطرنا اضطرارا إلى ازدواجية المعايير، فنتحدث مع الناس على صورة تتفق مع المثل العليا، ونختبئ وراء الجدران لنسلك في الخفاء على صورة أخرى، وسر ذلك - خلال الرؤية السقراطية - هو أننا لم نكن قد عرفنا معنى ما نقوله عن الحياة الخلقية، بكل الدقة التي نعرف بها ما نعرفه عن الهندسة والحساب.
والسعي وراء مزيد من المعرفة بطبائع الأشياء وحقائق المعاني، هو بمثابة الجوهر في حركات «التنوير»، فكلما زدنا أبناء الأمة إدراكا للمعارف الصحيحة عن دنياهم، زدناهم بالتالي «نورا»، وعكس ذلك هو الظلمة والظلام والظلم، نعم، نعم، إن «الظلم» صنو «الظلام» لغة ومعنى، فإذا رأيت الظلم قد باض وأفرخ في هذا الركن أو ذاك من أركان الوطن العربي، فاعلم أن علة ذلك هي أن عتامة قد حجبت «النور» عن الأفئدة لقلة ما يعرفونه، ومع القلة جاءت كذلك أغشية من ضباب الخلط والغموض، ومن أجل هذا قامت في الناس حركات «التنوير» كلما دعت دواعيها، ولب «التنوير» هو مزيد على مزيد من معرفة صحيحة واضحة.
ولست أدري على وجه اليقين، هل كان مثل هذا الوعي بضرورة «التنوير» هو الذي دفع صاحبنا دفعا منذ شبابه إلى الانخراط بقسط كبير من جهده في حركة التنوير، التي نهضت بها حياتنا بعض النهوض إبان عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، أم كانت هي المصادفة التي صنعت له ميوله نحو نشاط كالذي نشط به منذ ذلك الحين، وهي نفسها الميول التي مالت به نحو أن يترجم المحاورات السقراطية الأربع، وهو لم يزل في أوائل خطواته على الطريق؟
أضاف صاحبنا ما أضافه إلى الأسس السقراطية، وكان له ذلك مع ازدياد علمه بماء جاءت به مراحل التطور الفكري خلال القرن العشرين، إلا أن الصورة السقراطية ما زالت حتى اليوم تجذبه جذبا قويا، حتى ولو طرأت عليها تعديلات يقتضيها عصرنا الجديد؛ كأن تحل رسائل الإعلام في الوصول إلى الناس محل التجول في طرق المدينة وميادينها وأسواقها لمحاورة الشباب محاورات تقشع عن أدمغتهم شوائب الغموض، ومع ذلك فربما أراد صاحبنا أن يتحوط في انجذابه نحو سقراط وطريقته في أداء دوره، بتحفظات لا تورطه فيما لا يجب أن يتورط فيه؛ فقد لوحظ على سقراط أنه غض نظره عن ظلم الطغاة لأثينا في أواخر حياته، وصاحبنا لا يريد أن يغض النظر عن طاغية، وكذلك لوحظ على سقراط أنه كان يفضل الروح العسكرية في مدينة إسبرطة، على روح الحياة الديمقراطية التي تعلقت بها أثينا، كأنما لمس فيها ضربا من التراخي لم يكن يريده لمواطنيه، ومن هنا قال عن نفسه إنه يؤدي في مجتمعه مثل الدور الذي تؤديه الذبابة القارصة التي تلسع لعل لذعاته توقظ الشباب الأثيني من ترهله، وصاحبنا لا يحب للروح العسكرية أن تسود مجتمعا استنار وتحضر، لكنه يرى ضرورة أن يصحو الشباب من غفوته إذا غفا.
فرار إلى مدينة الأحلام
ما زال صاحبنا في الأعوام الأولى، من ثلاثينيات هذا القرن، عندما أخذته الرغبة الشديدة في أن يسافر إلى القدس الشريف في فلسطين، لم يكن يعلم أن الرحلة تبدأ بإجراءات إدارية قد تثبط أصحاب العزائم الضعيفة؛ فينصرفون عما اعتزموا على أدائه، لكن أخانا لم يكن من هؤلاء، فاخترق كل ما وجده من عقبات، وهو ما زال حتى يومه هذا، يذكر أن القطار قد غادر به القاهرة ساعة الغروب وأن عبور القناة وركوب قطار آخر قد استغرق بضع ساعات، وأن هذا القطار الثاني قد وصل به إلى محطة «اللد» عند مطلع الفجر، فنزل ليستقل قطارا من «اللد» إلى القدس، وكان عليه أن ينتظر في محطة «اللد» حتى يجيء هذا القطار، ولم يكن هناك إلا رجل واحد، ارتدى زيه «الكاكي» الذي كان شبيها بأزياء الجنود، وكان الرجل بلا حقائب، شبك يديه خلف ظهره وهو يمشي على رصيف المحطة جيئة وذهابا، واعترضه صاحبنا بسؤال على ظن منه أن الصلة الكلامية في مثل هذا الظرف أمر واجب، حتى ولو لم يكن الكلام يحمل معنى مفيدا، فحياه أولا: صباح الخير (قالها بالإنجليزية) فأجابه بتمتمة لا تتبين فيها حروف، فعاد وسأله: ما جنسيتك؟ وهنا أجاب الرجل في شيء من الخشونة التي تنبئ بشر: أنا يهودي، ومرة أخرى عاد صاحبنا ليسأل: إني لا أسألك عن ديانتك، بل أسألك عن جنسيتك، فصرخ الرجل من غيظ، وأجاب: نعم، جنسيتي هي أني يهودي. ومضى يستأنف مشيته على الرصيف رائحا وغاديا.
لم يستطع صاحبنا على طول ما فكر، وهو في القطار الذاهب به إلى القدس، ماذا عناه ذلك الرجل عندما جعل جنسيته ويهوديته مترادفتين؟ لكنه تجاهل حيرته لعل الأيام تكشف له ما يفسر له الغامض، ووصل إلى القدس، وألقى بحقيبته في أقرب فندق استطاع النزول فيه، وخرج مسرعا ليجلس في مقهى ازدحم بالناس جلوسا ووقوفا، وقد ينسى صاحبنا كثيرا من أحداث ماضيه، لكنه لن ينسى تلك اللحظة التي أخذ فيها مجلسه وسط الزحام، والنشوة تملؤه، والفرحة ترسم على وجهه ملامح ضاحكة، ولم تمض إلا دقائق معدودات حتى جاءه شاب وسيم مشرق المحيا، حسن الهندام، وبعد أن حياه تحية النهار، سأله: أجئت إلينا زائرا؟ فأجابه: نعم، وقد وصلت لتوي آتيا من مصر. فسأله الشاب وكان من عمره في مثل صاحبنا من عمره، قال: هل تأذن لي بالجلوس معك؟ فأجابه القادم المصري: إن ذلك يجعل فرحتي فرحتين. وبدأ الفلسطيني الشاب يقدم نفسه إلى الزائر، فقال إنه تخرج من كلية الحقوق منذ عامين والتحق بمكتب محام في القدس ليقضي به فترة التدريب، ورد عليه الشاب المصري تعريفا بتعريف، وكان أول سؤال ألقاه الفلسطيني على أخيه المصري، هو: ما أخبار «القضية» في مصر؟ فرد المصري على السؤال بسؤال: أية قضية تعني؟ فعاد الفلسطيني إلى السؤال، وعلى وجهه علائم دهشة وتعجب قائلا: «القضية» يا أخي! إنها القضية العربية!
لم يفهم المصري عن زميله شيئا إلا بعد أن أفهمه ذلك الزميل ما لم يكن قد فهمه وأعلمه ما لم يكن قد علمه عن قضية العرب أهل فلسطين، فيما قد نشأ لهم من مشكلات مع الأقلية اليهودية في فلسطين، يشد أزرها المندوب البريطاني.
عاد صاحبنا إلى مصر، وقد عرف ماذا قصد إليه الرجل الذي التقى به في محطة «اللد» حين قال إن جنسيته هي نفسها يهوديته، وكذلك عاد صاحبنا إلى مصر وقد أدرك أنه برغم أنه قارئ يتابع أعلام القلم فيما يكتبونه لم يقع قط على شيء يشد انتباهه إلى «القضية» التي رأى الفلسطيني الشاب أنها هي القضية محددة بأداة التعريف، حتى ليغنيه أن يقول «القضية» ليفهم سامعه إنها هي القضية العربية التي أخذت تتعقد بما نشط بها اليهود في فلسطين يؤازرهم حاكم بريطاني، وأحدثت هذه المفرقة عند صاحبنا أثرا، إذ أخذت تضطرب في صدره أسئلة غامضة عما يعتور حياته الثقافية من أوجه النقص التي يستحيل أن يعود وزرها إليه وحده، ولا بد أن يشاركه في هذا الوزر حملة الأقلام الذين كانت لهم الريادة عندما كان صاحبنا شابا يتلقى.
وتمر الأيام بصاحبنا أعواما بعد أعوام وذكرى ذلك النقاش مع الفلسطيني الشاب في مدينة القدس، عما أسماه ب «القضية» عالقة في ذهنه، تناديه بأن يبحث عما يقرؤه عن تلك «القضية» التي لم تكن عند أصحابها تحتاج إلى بيان، وفجأة خطر له أن يقرأ شعر إبراهيم طوقان؛ فهو الشاعر الفلسطيني المبدع المجيد - أولا - وهو الذي لا شك منبئ في شعره عن روح «القضية» لما جاء وقعها على قلب مرهف حساس، فقد نظم ذلك الشاعر الثائر شعره خلال الأعوام التي كانت تتجمع فيها غيوم النكبة ظلمات بعضها فوق بعض، فصاح في قومه محذرا من فادحة توشك أن تقع، فكان كأنه يقرأ لهم عن مقبل الأحداث في كتاب مفتوح.
Unknown page
مات إبراهيم طوقان والحرب العالمية الثانية مستعرة الأوار، وترك شعره مفرقا في دفاتر وأوراق، فجمعه له شقيق وفي، وقدمته إلى القراء شقيقة شاعرة، وبفضلهما أصبح ديوان شعره بين أيدينا فاتحته قصيرة رائعة، ترسم لقارئها لوحة تصور شهيدا عربيا في فترة كان الشهداء فيها يخطون مستقبل بلادهم بكلمات من دم مسكوب، وهو شهيد رآه الشاعر يبتسم للخطوب حين تدهم، ويقتحم الأهوال إذا تطغى، فكأنما تجمعت في همته قوة خضم هائج ورسوخ جبل أشم، إنه العربي المجاهد، خلقه ربه فسواه من عنصر الفداء، ثم أرسله جذوة من الحق، تلفح بحرارتها جنوب الطغاة، حتى تظفر بحريتها أمم مقيدة، إنه العربي المجاهد، الذي لا يبالي في سبيل بلاده شيئا.
ولا تفرغ من القراءة عن هذا الشهيد المجهول، حتى تجدك من الديوان أمام رائعة الروائع، وهي قصيدة «الثلاثاء الحمراء» التي نظمت عن الثلاثة الشهداء الأبرار وهم: فؤاد حجازي من صفد، ومحمد جمجوم وعطا الزير من الخليل، الذين أعدموا في سجن عكا، صبح الثلاثاء السابع عشر من شهر يونيو (حزيران) سنة 1930م إثر حادث «البراق»، ذلك الحادث المفجع الذي أشعل أول ثورة عمت أرجاء فلسطين عام 1928م، و«البراق» عند المسلمين هو «حائط المبكى» عند اليهود، أرادوا الاستيلاء عليه، وكان في حوزة المسلمين، فثار المسلمون، وامتدت ثورتهم من القدس إلى سائر مدن البلاد وقراها، حتى اضطرت حكومة الانتداب البريطاني إلى قمع الثورة بالقوة، وأصدرت أحكاما بالسجن على ثمانمائة عربي، وأحكاما بالإعدام على عشرين، ونفذ الحكم صباح الثلاثاء التي أسماها الشاعر إبراهيم طوقان ب «الثلاثاء الحمراء» ونظم فيها رائعته - عن الشهداء الثلاثة الذين أسلفنا ذكرهم - وهي رائعة من الشعر نراها فريدة في طريقة بنائها الفني؛ فهو يقسمها إلى مقدمة وثلاث ساعات وخاتمة، أما المقدمة ففيها تهيئة للنفوس بجو أقتم يتناسب مع الفاجعة التي شهد ذلك اليوم هولها، على ثلاث ساعات متواليات، وجاءت المقدمة في ثماني مقطوعات، في كل مقطوعة خمسة أبيات: الأول والثاني على قافية والثالث والرابع مجزوءان وعلى قافية أخرى، والخامس على قافية وحده، تتفق مع القافية في الأبيات الخوامس، كلها من المقطوعات الثماني، فتجيء ضرباتها كأنها دقات الطبول الفاجعة في جنازة الشهداء، وقد رسم لنا الشاعر يوم المأساة وكأنه يطل على سوالف الأيام جميعا، باحثا فيها عن يوم ينافسه في عمق المأساة وسوادها، فتصدى له أول ما تصدى يوم من أيام محاكم التفتيش، التي شهدت ما شهدته من إحراق الآدميين الأبرياء، مع تعذيب وتنكيل يشيب لهما الرضع في حجور الأمهات، لكنه برغم هذا البغي كله، فإن يوم محاكم التفتيش هذا لم يكد ينظر إلى يوم مأساتنا، حتى استدرك مقرا بأنه لم يلق ليومنا في الجور شبيها، وتوارى في تواضع، لعل يوما آخر من أيام المنكر والبغي أن يتصدى للتحدي.
ذلك هو فحوى المقطوعة الثانية، وتليها المقطوعة الثالثة، وفيها ينهض للحديث، يوم راسف بقيوده، هو اليوم الذي كان الرقيق - أبيضه وأسوده - يباع فيه لكل من شاء الشراء من ذوي الثراء، وظن ذلك اليوم المكبل بحديده أنه قرن، أي قرن ليوم مأساتنا، فهاله أن رأى عجبا من العجب، فبعد أن تحرر البشر من ذل الرق عاد أدراجه إلى أسوأ ما شهده التاريخ، وذلك أن من زعم لنفسه تحرير الرقيق ومنع بيعه وشراءه، هو نفسه - اليوم - من أمسك بالأحرار ونادى بأن يشترى.
وتأتي المقطوعة الرابعة بيوم آخر، يحسب أن قد بلغت به المأساة أبلغ مداها، ولكنه سرعان ما أقر - بدوره - ليوم مأساتنا بأنه أبشع وأفظع، كأنه هو يوم المحشر، وأما المقطوعات الأربع الأخيرة من مقدمة القصيدة، فيخصصها الشاعر لجانب آخر من جوانب المأساة الدامية هو التوسل إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين ليعفو عن الأبرياء الثلاثة الشهداء، ويظل الرسول رائحا غاديا ولا رجاء، فما كان الأجدر بنا إذن أن نخص أنفسنا بالإباء، وبهذا تختم المقدمة.
وبعد المقدمة تجيء الساعات الثلاث، ساعة تلو ساعة، ففي كل ساعة منها يشنق شهيد، فتفاخر كل واحدة منها أختيها بشهيدها، على نحو ما رأينا الأيام السود التي شهدت مآسيها، إذ رأينا كل يوم منها ينعي نفسه، حاسبا أنه أحلك أقرانه سوادا، إلا أن عويل النعي هناك، يقابله ما يشبه غناء الأناشيد هنا، فكل منها تتغنى بمجدها الذي تستمده من مجد شهيدها، وقد خصت بكر الساعات الثلاث بالشهيد فؤاد حجازي، ثم جاءت الساعة الثانية مفتخرة بشهيدها محمد جمجوم، الذي لم يكفه استشهادا أن يموت في سبيل وطنه، بل زاد على ذلك باستباق ليأخذ المكانة الثانية، فبقيت ثالثة الساعات للشهيد الثالث عطا الزير، فكان أن جاء نشيد الساعة الثالثة مشيدا بحسنات ثالث الشهداء بادئا بقوله: «أنا ساعة الرجل الصبور» أنا ساعة القلب الكبير ... إلخ، وخرج صاحبنا من ديوان إبراهيم طوقان، وقد امتلأت مشاعره ب «القضية العربية»، كانت كذلك لحظة راجع فيها مع نفسه الحساب ليرى أن حملة الأقلام من كبار الرواد عندئذ، برغم قاماتهم السامقة وشموخهم العظيم، قد تعرضوا فيما بذلوه وقدموه لضروب من المفارقات، ربما ألزمتهم بها طبيعة المرحلة التاريخية التي أحاطت بهم ، فقد أخذ صاحبنا يتبين ما لم يكن قبل ذلك قد تبينه في وضوح من ضروب الازدواج التي تظهر في أعمالهم وفي حياتهم، كما نقرأ عنها في تراجمهم، مما يصعب تفسيره من جهة، ويقلل من أثر رسالتهم الثقافية من جهة أخرى.
كان من حسن الحظ لأعلامنا الكبار في الجيل الماضي، وهو الجيل الذي شهده صاحبنا في مطلع شبابه وما بعد المطلع ببضع سنوات، أن شاركوا بأقلامهم القادرة في ميدان السياسة عندما كانت قضيتنا الأولى هي التحرر من الاحتلال البريطاني؛ إذ كانت تلك المشاركة منهم في قضية تشغل جمهور الناس فردا فردا، كائنة ما كانت منزلتهم من درجات الثقافة والتعليم، وبذلك استطاع روادنا أن يجدوا طريقهم إلى مواطنيهم جميعا في ريف وفي حضر، أقول: إن ذلك كان من حسن الحظ لهؤلاء الرواد، لكنه كذلك كان حظا حسنا لجمهور الناس، إذ أتيح لهم، وهم في خضم الجهاد السياسي، أن يطالعوا ما يكتبه سادة الكلمة عندئذ، فإذا لم يكن في مقدورهم أن يطالعوه استمعوا إلى من يطالعونه لهم، فتهيأت بهذا كله فرصة عظيمة أمام صفوة المثقفين من كبار الأعلام أن ينتقلوا - يوما واحدا على الأقل كل أسبوع - من ميدان السياسة إلى ميادين الثقافة الخالصة، فيجدوا قراءهم في انتظارهم، وهم أنفسهم القراء الذين ما كانوا ليأبهوا مقدار خردلة لو أن هؤلاء الكتاب واجهوهم بجانبهم الثقافي وحده دون أن تمهد له شهرة بلغت أوجها في الكتابة السياسية، ومع ذلك فقد أدرك صاحبنا، فيما بعد ذلك بسنوات، كم ضيع روادنا على أنفسهم وعلى جمهور الناس جميعا فرصة ذهبية سنحت، فتركوها تتبدد مع الهباء، بسبب ما قد وقعوا فيه من ازدواجيات في المعايير، وكيف كان ذلك؟
كان ذلك من وجهين على الأقل؛ أولهما: أنهم لم يجعلوا - في أغلبهم - من ثقافتهم الرفيعة أداة لتغيير أشخاصهم بحيث يتخلقون في حياتهم العملية مع الناس، بالأخلاق التي يبشرون بها في ثنايا ما يكتبونه وأقول: في «ثنايا» ما يكتبون؛ لأنهم في الحقيقة قد بذلوا الشطر الأكبر من جهدهم في عرض ما كتبه فلان ، من الأسلاف أو ما كتبه علان من جهابذة الغرب، وبالطبع لم يكونوا يتخيرون لنا من يتخيرون من هؤلاء وأولئك إلا نفرا من العظماء الأخيار، الذين جاءوا إلى الناس ينشرون فيهم قيم الحق والعدل والحرية والمساواة وغير ذلك من أشرف المعاني، لكن هل استطاع روادنا أن يتعاملوا مع مواطنيهم على أسس المعايير التي بثت في ثنايا ما يعرضونه على قرائهم؟ إن حقيقة الأمر الواقع في حياتنا، هي أن التعامل بين الأفراد لا يجري على أساس «المساواة» بين الأفراد، فإذا كان الموقف المعين من مواقف ذلك التعامل، يشتمل على طرف ذي سلطان مع طرف آخر من عابري السبيل لم يتوقع أحد من الطرفين أن تكون المساواة بينهما مدار القول والفعل، وهكذا قل في سائر القيم العليا من حرية وعدالة إلى آخر هذه المعاني الشريفة، أقول: إن حقيقة الأمر في حياتنا هي أن هذا التفاوت موجود بالفعل بين الأفراد، برغم كل ما تنادي به في الدساتير وفي الشرائع وفي القوانين، والسؤال مرة أخرى هو: هل استطاع روادنا في الجيل الماضي الذين أخذوا أنفسهم بعرض خلاصات من تراثنا ومن نوابغ الغرب تحمل في ثناياها تلك القيم العليا، هل استطاعوا أن يحيوا مع عباد الله من مواطنيهم على أسس ما يبشرون به، أم غلبتهم العنجهية الموروثة، في طبائعنا، منذ اللحظة الأولى التي يرون أنفسهم فيها وقد كسبوا شيئا من السلطان أو من الثراء، أو من القوة في أية صورة من صورها الكثيرة؟ أما صاحبنا فيشهد شهادة صدق بناها على خبرة مباشرة بأن روادنا من أعلام الجيل الماضي، برغم ما كانوا يعرضونه مبثوثا في ثنايا ما يكتبونه من قيم الحرية والعدالة، والمساواة ... إلخ قد كانوا - على الأعم الأغلب - أحرص الناس على أن تبقى مسافات بعيدة بينهم وبين من يتعاملون معهم من سواد الناس، ومعنى ذلك أنه إذا لم تكن رسالة الكاتب قد أحدثت أثرها في شخصه هو فهل يتوقع لها أن تحدث أثرها في الآخرين؟
إذن فقد كانت هناك فجوة عميقة بين الصحائف كما كتبها كاتبوها ونشرها في الناس ناشروها وبين وقع الحياة الجارية، ولقد أسلفت نبأ الرحلة التي ارتحلها صاحبنا بعد تخرجه بعامين إلى مدينة القدس، وكيف كان أول ما فوجئ به هناك أن ثمة قضية عربية كبرى، يكتفى فيها بأن يشار إليها مقيدة بأداة التعريف، فيقال: «القضية» ويفهم الناس إلى أي شيء تشير، ولم يكن صاحبنا قد قرأ عنها حرفا فيما قرأ، وهو ممن كانوا يتابعون بالقراءة المتصلة كل ما كان ينشره روادنا، فهل كتبوا عن القضية العربية وأفلت منه ما كتبوه؟ هذا جائر بالطبع، لكنه ظن يومئذ أن ذلك أمر بعيد الاحتمال، فكانت هذه - في حسابه - علامة أخرى تضاف إلى ما قد لحظه من فجوة بين الرواد في كتاباتهم من ناحية، وفي محافظتهم على ما تواضع عليه المجتمع من عدم المساواة وعدم العدالة الاجتماعية وعدم الحرية إلخ، أقول: إن صاحبنا قد جمع في نفسه العلامة التي رآها في القدس، التي دلته على أن روادنا شغلهم ما ينقلونه تلخيصا من الكتب، عما تجري به حياة الناس من فواجع، إلى هذه العلامة الثانية فيما بدأ يلحظه من تناقض بين ما يكتبونه وما يسلكونه، فأوشك أن ينتهي إلى نتيجة يوقن بها أن جبابرة الكلمة في شبابه إنما كانوا يكتبون بعقولهم، وأما قلوبهم وما تؤمن به، فكانت متخلفة هناك، تنبض بما كان سائدا مما زعموا أنهم إنما كتبوا ليغيروه.
من ذا يلوم شابا عربيا طموحا لنفسه ولأمته، يبذل الجهد ما وسعه الجهد، ويتابع ما استطاع المتابعة تيارات التثقيف والتنوير كما أجراها أعلامنا الرواد، إذا رأى ومضات الضياء تسري في أنهر المجلات والصحف مبشرة بقيم جديدة ليست جديدة في تاريخ ولادتها، لكنها جديدة بالنسبة إلى ما كان بحياة الناس في الوطن العربي، ومع ظهورها على أقلام كتابنا، فلم يستطع هؤلاء الكتاب أنفسهم أن يحيوها مع مواطنيهم، أقول: من ذا يلوم ذلك الشباب، وقد انطبعت نفسه بما حوله على هذا النحو - إن صدقا وإن كذبا - إذا ضاق صدرا بما هو فيه؟ حقوق الإنسان يقرأ عنها ولا يجدها، الحرية والعدالة والإخاء والمساواة، ينادي بها الخطباء على منابر السياسة، ويشيد بها الأدباء والمفكرون، فيصدق صاحبنا ما يقرؤه وما يسمعه وينقل القول إلى حياته، فيناله ما يناله جزاء بلاهته، وهو أشبه شيء ب «دون كيخوته» حين قرأ عن الفروسية والفرسان، فنقل المقروء إلى حياته، فبات أضحوكة الضاحكين، وإن صاحبنا ليذكر جيدا تلك اللحظة في ساعة مبكرة من صباح يوم شتوي بارد، وقد كان عندئذ في طريقه من البيت إلى العمل، فأحس بقوة العزيمة في جوفه تهز كيانه هزا، وصوت باطني ينطق له في خفاء ليسمع، قائلا: لا بد من الخروج من هذا الطريق المسدود، ولكن كيف السبيل إلى الخروج؟ آه! اترك ذلك إلى ساعة تهدأ فيها نفسا وعقلا. هكذا همس صاحبنا لنفسه، ثم استطرد ليقول: لماذا لا تقضي عامك هذا في فرار إلى مدينة الأحلام، انتظارا للفرج يأتيك من رب العالمين؟
وقد قصد صاحبنا بما أسماه «مدينة الأحلام» تلك الصور الحالمة التي رسمتها عقول قادرة، نعم فللعقول القوية القديرة أحلامها، يضيق أصحابها من كبار المفكرين بالحياة كما تجري حولهم، فيصورون للناس ما يتمنونه للإنسانية إذا هي أفاقت من خلالها، وعاد صاحبنا إلى بيته يومئذ، ليبدأ بالبحث عما يقرؤه من مؤلفات هؤلاء الحالمين، وكانت نقطة البدء «جمهورية أفلاطون» التي رسم فيها ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم صورة للدولة المثلى كما رآها، ثم تسلسلت المؤلفات الطوباوية التي اختارها صاحبنا ليهرب في صفحاتها من حياة ثقلت رحاها على صدره، فكان اختياره الثاني هو «يوتوبيا» تأليف «تومس مور»، وأما اختياره الثالث فكان أطلنطس الجديدة الذي كتبه «فرنسيس بيكون» الفيلسوف الإنجليزي في عصر النهضة، وقفز صاحبنا بعد ذلك إلى ما كتب في العصر الأحدث، خلال القرنين الأخيرين؛ فقرأ «جنة أرضية» من تأليف «وليم مورس» و«بلد لا وجود له» تأليف «صموئيل بتلر» و«يوتوبيا حديثة» بقلم «ه. ج. ولز» ولم يكن قد نسي «آراء أهل المدينة الفاضلة للفيلسوف العربي أبي نصر الفارابي» ... حقا لقد نعم صاحبنا بضعة أشهر بالأجواء الحالمة التي عاشها على صفحات تلك الكتب، وكان يلخص ما قرأه في موجزات تبين الخطوط العريضة لما حلم به أولئك الحالمون، ولم يكن يريد لتلك الموجزات إلا إثباتا لمقروءات قد يعود إليها ذات يوم على سبيل الذكرى، لكن شاء الله، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ألا يمر عام بعد تلك القراءات إلا ويقرأ صاحبنا إعلانا في الصحف عن مسابقة بين الشباب في التأليف الأدبي، وقفزت الفكرة إلى رأسه: لماذا لا نعيد كتابة تلك الموجزات في صورة حية تربطها جميعا في لوحة واحدة، يظهر فيها تطور الإنسان حتى في أحلامه؟ نعم، فإن نظرة مقارنة سرعان ما تهدينا إلى أن تصوره لإنسان حالم يوناني قديم ليس هو ما تصوره لإنسان حالم عصري، يحس للحياة نبضا جديدا وآمالا جديدة، وحسبنا أن نلحظ بأن الحالمين القدامى قد تصوروا مثلهم الأعلى في «مدينة» ثم جاء حالمون آخرون أيام النهضة الأوروبية، فتصورا مثلهم الأعلى في «جزيرة»، وأخيرا جاء الحالم في عصرنا فلم يكفه في مثله الأعلى إلا أن يكون الكوكب الأرضي كله وطنا واحدا للناس جميعا، لا تقام بينهم حواجز القوميات التي تشعل نيران الحروب، وأنجز صاحبنا فكرته في جمع تلك الصور في صورة، وتقدم بها في تلك المسابقة الأدبية، وكان أن ظفر بجائزتها الأولى.
Unknown page
لم يكن صاحبنا في مقره ذاك الذي لاذ به من ضيق نفسه، قارئا سلبيا يتلقى ولا يضيف، بل أخذ يقارن ويختار، فكانت درة الدرر عنده هي فكرة «فرنسيس بيكون» في «أطلنطس الجديدة»، ولنلحظ هنا أنه اختار هذا الاسم، ليضمنه إشارة إلى جزيرة خيالية كان أشار إليها أفلاطون في بعض ما كتب، وأسماها «أطلنطس» فجاء «بيكون» ليبدع بخياله «أطلنطس الجديدة»، والحق أن صاحبنا إذ تأثر بما رواه «بيكون» عن أحلام عقله، لم يكن تأثره مما يزول عنه بعد يوم أو بعد عام أو عشرة أعوام، بل هو تأثر باق معه إلى يومنا هذا؛ إذ يرى في الصورة المرسومة ما يتساءل إزاءه قائلا: لماذا لا يتحقق للإنسان هذا الحلم؟ وما الذي يتميز به حلم «أطلنطس الجديدة» دون سائر الأحلام؟ إن أهل هذه الجزيرة قد استبدلوا بالدولة السياسية دولة علمية، فبدل أن تتولى الحكم وزارة من رجال السياسة، تتولى الحكم في أطلنطس الجديدة وزارة من العلماء المتخصصين في فروعهم، وبدل أن يقال وزارة الخارجية ووزارة الداخلية ووزارة الزراعة ... إلخ، يقال: وزارة الفيزياء ووزارة الكيمياء ووزارة الجيولوجيا ... إلخ، والمكاتب في هذه الدولة العلمية هي «معامل» البحوث العلمية، والقرارات التي تصدرها الحكومة هي القوانين العلمية في شتى فروع العلم التي يكشف عنها في المعامل وهكذا، ورئيس الدولة هو كبير العلماء.
إنه لو وفق الإنسان في تحقيق هذا الحلم العظيم لانتفت الحروب، وانمحت الصغائر التي تشغل حتى أعلام الرواد، وأما الحروب فتنفى لأن الإنسان في أطلنطس الجديدة لا يحارب الإنسان ليقهره، وإنما يحارب الطبيعة لينتزع منها أسرارها فيسودها، وأما الصغائر التي تشغل الناس، حتى كبار العظماء منهم، فتنمحي لأن المفاضلة بين إنسان وإنسان لن تكون على أساس السلطة وجبروتها، بل على أساس القدرة العلمية في الكشف عن الجديد.
على أنه لم يكن لصاحبنا بد من صحوة يعود بها من فراره في مدينة الأحلام، ليواجه واقعه الصلب العنيد، محاولا أن يستبدل به واقعا جديدا.
سنوات التحول «1»
جاءت سنوات الأربعينيات لتكون مرحلة للتحول العظيم، وهو تحول شمل العالم كله وما زال إلى هذه الساعة يشمله، متجها نحو أن يقتلع نمطا من الحياة كانت له السيادة في ظل حضارة بلغت ذروتها في أوروبا القرن التاسع عشر، مع بضع سنوات من هذا القرن العشرين، يريد اقتلاعها من جذورها، ليقيم مكانها حضارة أخرى ينتج عنها نمط آخر لحياة الإنسان فردا ومجتمعا، ولقد شاء الله لصاحبنا أن تكون تلك السنوات نفسها مرحلة تتحول بها حياته الفكرية، على نحو يوثق الروابط بينه وبين تيارات عصره، قابلا مرة، رافضا مرة، باحثا عن صيغة جديدة تصلح له مرة ثالثة.
فقد كان سنوات الأربعينيات من هذا القرن، هي التي شهدت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وقيام هيئة الأمم المتحدة بأجهزتها المختلفة، وفي تلك السنوات أنشئت الجامعة العربية، وزرعت إسرائيل على أرض عربية، وصدرت وثيقة حقوق الإنسان ، وبدأ الاستعمار الأوروبي رحيله عن الأقطار المستعمرة في آسيا وأفريقيا، وأما ما تحولت به الحياة عند صاحبنا، فأهمه السفر في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وكان ذلك في قلب الحرب العالمية، فأتيح له أن يرى الغرب من قريب، وأن يرى وطنه من بعيد، فأطلعته الرؤية القريبة على سيئات الغرب وحسناته، كما أظهرت له الرؤية البعيدة أين تكمن القوة في أمته وأين يكمن الضعف والقصور.
لم تكن الحرب العالمية الثانية حربا كل ما فيه حديد ونار وتقتيل وتخريب ودمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تريد لوجه العالم أن يتغير لتتغير معه صورة الحياة، فلقد كانت أوروبا إبان القرن الماضي تحمل في جوفها نقيضين، وكان محالا على طابع الأمور أن يظل النقيضان متجاورين في سلام، أو لا بد لأحدهما أن يهدم الآخر ويمحوه: فبينما سارت صور الحياة الاجتماعية على سكون وجمود لا يسمح لأحد بأن يغير من الأوضاع المألوفة شيئا، كان هنالك تحت سطح البحر الهادئ تيار فكري جار يعمل على التغيير، فإذا كان الناس قد استقرت لهم الحياة في ظاهرها على رؤية سكونية تجعل «الثبات» أساسا، فلا يسأل سائل عن شيء ثبت على صورة معينة قائلا: ما الذي أدى إلى ثباته؛ فقد ظهر لهم من بينهم مفكرون يقلبون الوضع رأسا على عقب، بحيث يجعلون لهم «الحركة» أصلا، والسكون فرعا، فلا يكون السؤال هو: ما الذي حرك ذلك الموقف الثابت ليعرضه إلى التغير، بل السؤال هو: ما الذي جمد ذلك الموقف المعين، بعد أن كان الأصل في وجوده أن يتحرك ويتغير، ولقد امتدت الدعوة إلى هذا الانقلاب الفكري خلال القرن الماضي كله، بادئة بفكرة هيجل عن جدلية الأفكار، بمعنى أن تصورنا لفكرة ما يستوجب بالضرورة تصورنا لنقيضها، فإذا ما أخذ العقل ينتقل بانتباهه من أحد النقيضين إلى النقيض الآخر، وجد نفسه أمام طرف ثالث تولد عنهما، وأخذ أشد الأفكار تجريدا وتعميما، وهي فكرة «الوجود» المطلق الذي لا يتعين بأي مضمون معين يقيده، تجد أن فكرة الوجود - أو العدم - قد نشأت من تلقاء نفسها، متولدة من فكرة «الوجود » ذاتها، فإذا أخذت تنقل فكرك بين هذين التصورين: الوجود من ناحية، واللاوجود من ناحية أخرى، تولد لك تصور ثالث، يجمع في آن واحد بين الوجود واللاوجود، وهو ما يسمونه ب «الصيرورة»، وهي حالة تتحقق بالفعل في كل كائن من كائنات العالم المخلوق، فانظر إلى النهر - مثلا - تجده موجودا معدوما في آن واحد، فهو هو النهر المعين، تراه اليوم كما رأيته بالأمس، وكما سوف تراه في الغد، لكن هل مياه اليوم هي مياه الأمس أو مياه الغد؟ ثم انظر إلى نفسك، فأنت اليوم هو الذي كنت بالأمس والذي سوف تكونه غدا (لو أراد لك الله أن تحيا إلى غد) لكن هل تبقى تفصيلات أفكارك وأعضائك ومشاعرك هي هي اليوم كما كانت بالأمس أو ما سوف تكون عليه في الغد؟ وهكذا وهكذا تستطيع أن تدقق النظر فيما شئت من كائنات، لتجد في كل كائن ما يخلع عليه هوية تدوم ولو إلى حين، كما تجده - في الوقت نفسه - متغير التفصيلات على نحو لا يمكنه من الثبات على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، وبهذا المعنى نقول إنه في حالة من الصيرورة المستمرة، أي إنه في كل لحظة موجود ومعدوم معا.
وإنه لمما يضيء لنا هذه الفكرة الجدلية، أن نقف عندها قليلا لنقارنها بما قد كان قبلها، لنفهم التغيير الذي طرأ على الإنسان في رؤيته للعالم وكائناته منذ القرن الماضي، فانتقل بسببه من عصر فكري استنفد دوره في التاريخ، إلى عصر فكري جديد بدأت طلائعه ليكتمل له كيانه بعد حين، وقد يفيدنا في وضوح التصور لما نحن بصدد عرضه من تغير في المناخ الفكري، أن نقارن بين تعريفنا لأية حقيقة رياضية - كالمثلث مثلا - من جهة، وأية حقيقة بيولوجية - كالشجرة - ففي الحالة الأولى، نقول عن المثلث إنه سطح مستو محيط به ثلاثة خطوط مستقيمة، وهو تعريف مقطوع بصوابه (في حالة استواء السطح) لا يتغير منه شيء بتغير المكان أو بتغير الزمان، فهو هكذا على سطح الأرض، وعلى سطح القمر أو المريخ، ثم هو هكذا في عصرنا، وفي كل عصر مضى، وفي كل ما سيأتي من زمان، لكن قارن ذلك بتعريفنا للشجرة، تلمس أوجه الاختلاف من فورك، فبينما الحقيقة الرياضية المتجسدة في «المثلث» هي حقيقة سكونية ثابتة ودائمة، نرى أنفسنا أمام «الشجرة» حيال كائن متغير، يولد وينمو ويذبل ويموت ويثمر أو يجدب من الثمر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالشكل الهندسي الذي نحن بإزائه، إما أن يكون مثلثا تام التكوين، وإما ألا يكون مثلثا، لكن ما هكذا الحال بالنسبة إلى الشجرة؛ لأنها لا تبدأ تامة التكوين بل تولد نبتة صغيرة وتأخذ في النمو نموا يأتيها باعتمال حيويتها من الداخل، ولا يأتيها بإضافات يضيفها إليها أحد من الخارج، وعلى ضوء هذه المقارنة بين تعريف المثلث وتعريف الشجرة نقول: إن وجهة النظر في العصور القديمة كانت تريد للعلم أن يحدد حقيقة الكائن أيا ما كانت طبيعته، على الأساس الرياضي، ولا فرق بين مثلث وشجرة، بل لا فرق بين فكرة وفكرة، ففكرة «الشجاعة» أو «العفة» أو «الوفاء» أو «العدل» أو «الفن» أو «الحرية» إلخ يجب أن تجد لها عند العقل تعريفا قاطعا محددا يجعلها ثابتة على مر الدهور، وفي أي مكان ظهرت، وكان ذلك كله طلبا للمحال، ثم كان في الوقت نفسه فكرا عميقا يحكم على حياة الإنسان بالجمود، فلا تغير ولا تطور.
وجاء القرن الماضي بأفكاره الكبرى لينقل الإنسان إلى تصور دينامي جديد، وضح في أشكال مختلفة باختلاف عمالقة الفكر على امتداد ذلك القرن، فهو وإن تكن بدايته «هيجل» وما طرحه من منطق الجدل بين النقائض ليتولد عنها جديد، إلا أن الفكرة التطورية هذه قد أخذت صورا مختلفة: عند دارون، وماركس، وفرويد، وسبنسر، وشوبنهور، ونيتشة، وبرجسون، ثم عند صموئيل ألكساندر، ولويد مورجان، وألفرد نورث وايتهد، وغيرهم، ممن ركزوا الانتباه على جانب «التغير» و«التطور» و«النمو» و«الإبداع» في هذا الكون وكائناته، متخلصين من الرؤية الرياضية إلى الأفكار والأشياء، وهي الرؤية التي ترى الحق في الثبات والدوام، لا فرق في ذلك بين شيء وشيء، ولا بين فكرة وفكرة.
على أن تلك الأفكار الكبرى، التي ساورت عمالقة المفكرين، خلال القرن الماضي وجزء من أعوام هذا القرن، لم تمنع أن يحيا الناس حياتهم العملية وكأنهم صبوا في قوالب من حديد، لا يريدون للتقاليد الشكلية أن يتغير منها شيء، ومن ثم فقد سارت حياة الفكر وحياة الجمود الاجتماعي جنبا إلى جنب، الأولى تجعل التغير والتطور محورها المحتوم، والثانية تقيس كل الحقائق على نماذج سالفة ثابتة مسحت بمسحة من التقديس، وكان لا بد لهذا الاختلاف بين الحياتين أن يحدث توترا ينتهي آخر الأمر بانفجار يقضي على أحدهما ليبقي على الآخر، وتمثل هذا الانفجار خلال النصف الأول من هذا القرن، في حربين عالميتين، وقعت بينهما ثورات وانقلابات وحروب أهلية.
Unknown page
وعودة بنا إلى ما قد أسلفنا ذكره عن الحرب العالمية الثانية، التي شغلت النصف الأول من سنوات الأربعينيات، من أنها لم تكن حربا تقتصر على الحديد والنار والتخريب والتقتيل والدمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تبشر بوجوب التغيير في الحياة الإنسانية من أسسها وجذورها، وكان أول التغيير أن تتحرر الشعوب المقيدة، وهكذا كان، حتى أصبحنا اليوم في عالم زال عنه الاستعمار زوالا تاما (تقريبا) من الوجهة الصورية على الأقل، على أن ما يهمنا في المقام الأول - في سياق هذه الأحاديث الثقافية - هو ما ترتب على الاستقلال السياسي للشعوب في آسيا وأفريقيا، من استقلال ثقافي لمن استطاع إليه سبيلا، فبعد أن كان الموقف قبل الحرب، هو أن تكون ثقافة الغرب معيارا تقاس به درجات المثقفين أينما كانوا ارتفاعا وانخفاضا، فمن قرب من النموذج الغربي كان بالضرورة - بحكم ذلك المعيار - أعلى ثقافة ممن بعد عنه، أما بعد الحرب واستقلال الشعوب، فقد رفعت أولوية الاستقلال الثقافي أيضا، فلكل ثقافة على وجه الأرض قيمتها، إذ الثقافة - على خلاف العلم - تستمد مضمونها من خصوصية أصحابها ومبدعيها، فإذا كان العلم لا خلاف عليه بين شعب وشعب، فلا بد للثقافة أن يتغير لونها ومزاجها ومذاقها من شعب إلى شعب.
كان «ديبوا» في أول هذا القرن، قد تنبأ بأن القرن العشرين سيشهد ثورة «اللون»، فبعد أن كان للرجل الأبيض (الأوروبي) سيادة مطلقة على سائر الألوان البشرية: الأصفر في الشرق الأقصى، والأسود في أفريقيا، والأسمر هنا وهناك من أقطار الأرض، توقع «ديبوا» أن هذا القرن سيشهد اليوم الذي تثور فيه الشعوب الملونة على التفرقة اللونية، وتحقق ما تنبأ به، وكان تحققه أولى النتائج التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية؛ وذلك لأنها كانت نتيجة محتومة لاستقلال الشعوب الملونة في آسيا وأفريقيا عن سيطرة المستعمر الأوروبي الأبيض، واسترداد تلك الشعوب لحريتها التي أرادتها لهم فطرة الإنسان، وكما تساوت الثقافات المختلفة في إثبات ذاتها، تساوت كذلك ألوان البشرة مع حق المساواة للبشر.
لكن مقاومة تلفت النظر وتتطلب شيئا من التأمل والتفكير الهادئ، نشأت عن تلك المساواة نفسها، فلقد أقيمت هيئة الأمم المتحدة لتضم شعوب الأرض جميعا (إلا من كانوا يحاربون الحلفاء ويناصرون محور النازية والفاشية) وكان لكل شعب صوته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن تلك المساواة نفسها جعلت أصحاب القوى الكبرى يتحوطون لصون امتيازهم، فعملوا على أن يقام مع الجمعية العمومية، التي تضم شتى الأمم على قدم المساواة، مجلس أطلقوا عليه اسم «مجلس الأمن» ليكون «أمنا» لهم مما عسى أن يهددهم من أخطار تلك المساواة المطلقة، وهناك في «مجلس الأمن» يكون الحل والربط في مشكلات العالم، رهنا بمشيئة كل دولة من الدول الكبرى على حدة، هذه واحدة، وأما الأخرى فظاهرة «ثقافية» لها مغزاها، وهي أن الوفود التي تذهب من مختلف أنحاء الأرض لتمثل شعوبها في اجتماعات الأمم المتحدة إنما تذهب مسلحة بكل ما يؤكد للآخرين هويتها الوطنية المتميزة عما سواها، فيغلب على أعضاء تلك الوفود أن يرتدوا ثيابهم الوطنية، وأن تحتوي حقائبهم على كلمات يلقونها على سائر الشعوب، وهي كلمات أعدت مقدما لتؤكد للآخرين وجهة النظر القومية التي يتعصبون لها تعصبا يسد المنافذ دون محاولات التفاهم والتوفيق بين الأطراف المتعارضة، ولقد شهدت الدنيا ألف برهان وبرهان، عل أن اتحاد الأمم المتحدة لم ينفع إلا في أوجه النشاط الحضارية، كالثقافة والزراعة والصحة وما إلى ذلك (وهو كسب كبير على كل حال) وأما مشكلات السياسة، فهي - أولا - حكر على القوى العظمى في مجلس الأمن، وهي - ثانيا - مما يمكن لدول صغرى أن تتمرد على ما يوجه إليها من قرارات تلك الدول الكبرى نفسها، وكأن أمور الناس الحيوية قد تركت لتصبح أقرب إلى لعبة شيطانية مكشوفة تسخر بها جماعة من الأبالسة على شعوب لا حول لها ولا سلطان.
لم يكن صاحبنا ذا مزاج سياسي بالمعنى الذي نراه متحققا في الساسة المحترفين، فكانت المشكلات السياسية عنده تتحول إلى مشكلات فكرية نظرية، وكأنها تخص أهل كوكب آخر غير هذه الأرض من كواكب المجموعة الشمسية، ومن ثم فهو كثيرا جدا ما يأخذه العجب مما يسمونه «سياسة» لكثرة ما يراه فيها من مجافاة لمنطق العقل، وحتى إذا حدث له أن أبدى رأيا كهذا في موقف معين، قال له المحترفون: إن هذه هي «السياسة»، وقد شاءت مصادفات الأيام لصاحبنا أن يوضع عضوا في أحد الوفود، في أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة، كان ذلك في لندن، أوائل سنة 1949م، وقصة ذلك، أنه كان عندئذ دارسا في جامعة لندن، وكان قد تقرر لهيئة الأمم المتحدة أن تعقد أولى دوراتها السنوية في لندن؛ لأن مقرها الذي اتفق عليه أن يقام في نيويورك لم يتم إعداده، وحدث أن إحدى الدول العربية الشقيقة، لم يكن الحد الأدنى من عدد الأعضاء (وهو ستة مقابل اللجان الست) متوافرا لها، فطلبت من السفارة المصرية هناك، أن تختار لها ثلاثة أعضاء من المصريين المقيمين في لندن، الذين ترى فيهم الصلاحية للاضطلاع بتلك العضوية، وكان صاحبنا أحد الثلاثة المختارين لذلك، فأتاحت له تلك المشاركة خبرة بحقيقة «السياسة» كما رآها متمثلة في أضخم رجال السياسة الذين ملأت شهرتهم يومئذ أسماع الدنيا وأبصارها، وتابع صاحبنا في شغف ما تدور به المناقشات، وما يوصل إليه من الحلول، وخرج من ذلك كله بنتيجة غرست في رأسه غرسا، وهي نتيجة أيدت له ظنه السابق في «السياسة» وطبيعتها، فهي لا تقل ولا تزيد عن أن تكون للدولة القوية إرادة ما، جاءت بها إلى الاجتماع، وتكون المهارة السياسية بعد ذلك، هي في أن تصاغ لتلك الإرادة صيغة لغوية مقبولة شكلا عند الأطراف المتعارضة، أما إنها ستعمل على حل المشكلة المعروضة للحل، فمسألة لا هي واردة، ولا هي في حسبان الأقوياء من أصحاب الإرادات.
نعم، كانت سنوات الأربعينيات قد تركت عند صاحبنا انطباعا، بأن سمة من أوضح سمات العصر، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تكون سمة التذبذب بين «أفكار» العقلاء من جهة، و«رغبات» الراغبين من جهة أخرى، و«الفكرة» و«الرغبة» طرفان قد يلتقيان عند الأسوياء، فالعواطف تميل بصاحبها نحو «رغبة» ما، وإذا هي في الوقت نفسه مما يتفق مع منطق العقل، لكنهما كذلك قد يتنافران، فتجيء رغبة العاطفة متنافية مع ما يوجبه منطق العقل، وقد أسلفنا لك القول، بأن عمالقة «الفكر» في القرن الماضي، قد أبدعوا أفكارا كبرى تتحول بها الدنيا من رؤية سكونية إلى أخرى حركية (دينامية)، لكنهم لم يستطيعوا، بل ربما هم لم يحاولوا أن يجروا أفكارهم تلك مجرى التاريخ، أعني أن يعملوا على تجسيدها في حياة الناس الفعلية، فظلت على مستواها النظري طوال القرن الماضي وبضع سنوات من هذا القرن، يمكن أن يجعل نهايتها قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وبحذاء ذلك المستوى النظري، بقيت الحياة السلوكية العملية على جمودها، بل أسرفت إسرافا شديدا في التشبث بالتقاليد المرعية حفاظا على «أشكالها» الظاهرة، حتى ولو اضطر الناس بدوافع من عواطفهم وغرائزهم أن ينقضوها في الخفاء، فلما أن جاءت الحربان العالميتان في هذا القرن، الأولى والثانية، وما توسطهما من ثورات وصور للتمرد الجماعي في بعض الأقطار نجحتا في دك الأشكال الجامدة العتيقة، لتفسح الطريق أمام الأفكار الجديد لتلتمس حظها من التطبيق وتغيير وجه الحياة، إلا أن نجاح ترك الأفكار الجديدة مع حظها في المحاولة، معرضة للصواب حينا وللخطأ حينا، وهو أمر طبيعي عند أية محاولة كبرى يهم بها إنسان إزاء القديم المألوف، ليستبدل به جديدا غير مألوف، لكنه أكثر صلاحية، فها هنا يغلب التردد على سلوك الإنسان في عملية العبور من القديم إلى الجديد، وها نحن أولاء قد رأينا كم كان عسيرا، حتى على كبار الساسة في العالم، أن يقعوا على نقطة تتم عندها مصالحة بين الروح «الوطنية» بمفهومها الضيق، والروح «الدولية» بالمعنى الذي تخيلته الأمم عندما أرادت أن تقيم منظمة دولية تتحد الأمم المختلفة أوطانها، في ساحاتها وفوق منابرها، لعل الوفاق السلمي يحل محل الحروب، فرأينا كبار الساسة - فضلا عن صغارهم - يتعثرون بين الإبقاء على مشاعرهم «الوطنية» متسترين خلف أقنعة «دولية»، وكان أمهر الساسة هو أكثرهم توفيقا في تلك اللعبة التي استهدفت الجمع بين الضدين.
وإذا شاء العربي أن يرسم لنفسه صورة صحيحة تبين له كيف تدور تروس تلك الآلة الكبرى التي يطلق عليها اسم «الأمم المتحدة» وأعني التروس المخبوءة في الضمائر بغض النظر عن الميثاق ومواده، ولقد أسلفنا لك شرحا لمعنى «المهارة السياسية» إذ رأيناها أقرب إلى القدرة على صياغة الألفاظ على نحو تقبله كل الأطراف المتعارضة في وقت واحد، مما يقطع أن تكون تلك الصياغة أبعد ما تكون عما يقتضيه منطق العقل فيما يراد له أن يكون فكرا على منهج العلم أقول: إننا رأينا فيما أسلفناه كيف تكون المهارة السياسية أقرب إلى قدرة «الحاوي» الذي يخرج من كمه أرانب ومناديل وبيضا وقطع النقود، منها إلى دقة المنهج العلمي الذي يتطلب أول ما يتطلب أن تكون مفردات اللغة أو غير اللغة من الرموز واحدية المعاني، بمعنى أن يكون للاسم المعين مسمى واحد، وألا يكون لهذا المسمى إلا اسم واحد هو الاسم الذي تصطلح عليه جماعة العلماء ذات الاختصاص الواحد، نقول: إنه إذا أراد عربي بأن يرسم لنفسه صورة للطريقة التي تدور بها تروس الأمم المتحدة في خفاء الصدور، فأين يجد الصورة المنشودة إن لم يجدها في قصة الأمم المتحدة ومواقفها من الأمة العربية وشعب إسرائيل؟
وإن صاحبنا ليكرر القول مرة بعد مرة، بأنه لم يخلق للسياسة وألاعيبها، فهو إذا وقف عند مسألة من مسائلها، فإنما يقف وقفة عقل منطقي إزاء مشكلة فكرية، وهكذا ينظر إلى حكاية العرب وإسرائيل والأمم المتحدة، أو قل الدول الكبرى صاحبة حق النقض في مجلس الأمن، فيحكى أن لورد بلفور، وكان وزيرا في الوزارة البريطانية سنة 1917م، كان مسئولا عن المستعمرات وشئونها، وكان ونستن تشرشل وزيرا أيضا في الحكومة البريطانية عامئذ، ثم يحكى أن بلفور أراد أن يجد مخرجا يعد به أن يقام وطن لليهود في فلسطين، ودخل عليه زميل ذات يوم، فوجده قد نشر خريطة فلسطين على مكتبه، والقلم في يده يبحث عن موضع ملائم يرسم بها خطوطا تحدد ذلك الوطن اليهودي المنشود، وعلم زميله بما يحاوله فسأله: وماذا أنت صانع بسكان هذه المنطقة من غير اليهود؟ فأجابه بلفور دون أن ينظر إليه: وهل لهذه المنطقة سكان؟! قالها ساخرا، وكأن الذي بين يديه لوحة الشطرنج يحرك أحجارها كيفما شاءت مهارته السياسية، ثم جاء يوم عرض فيه المشروع على مجلس العموم البريطاني، وربما كان له بين الأعضاء معارضون، فوقف الوزير ونستن تشرشل شارحا للمجلس بعض الأهداف التي قد تخفى على أعضاء المجلس، فقال ما معناه: إن وراء هذه الخطة هدفين؛ أولهما: أن قيام وطن يهودي من شأنه أن يمتص الثورة العربية، فبدل أن يتجه العرب بانفعالاتهم نحو بريطانيا، سيتحولون بها نحو الوطن اليهودي، وأما الهدف الثاني: فهو أن قيام وطن يهودي في المنطقة المقترحة من أرض فلسطين، من شأنه أن يقسم الوطن العربي قسمين تنقطع بينهما الصلة الجغرافية الميسرة فيدب بين العرب نوع من الفرقة بسبب ذلك التفريق.
كان ذلك كله سنة 1917م أي قبل وجود منظمة الأمم المتحدة سنة 1946م، وبعد قيامها بعام واحد - وهو العام الثاني لوجودها، والأول بعد انتقالها إلى مقرها الدائم في نيويورك - صدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما للعرب من أهل فلسطين والأخرى لليهود، وبعد نحو ستة أشهر من هذا القرار، أعلن عن قيام الدولة اليهودية، وأن يطلق عليها اسم «إسرائيل».
إلى هنا وليس في منطق العقل ما يرفض شيئا من هذا، ما دام الأمر مشروطا بألا يضر التقسيم أحدا من أهل البلاد، وهو شرط يتولد عنه بالضرورة ألا يهاجر اليهود من أنحاء الأرض إلى فلسطين، إلا بما تسمح به مساحة الوطن اليهودي، فماذا تقول إذا علمت أن الدول الكبرى صاحبة النفوذ في الأمم المتحدة، هي نفسها التي عملت، وما زالت تعمل، على أن تفتح أبواب الهجرة اليهودية على مصاريعها؟ وليست تلك الدول - بالطبع - من البلاهة بحيث يفوتها ما لا بد أن ينتج عن ذلك من رغبة في توسع الدولة اليهودية على حساب دولة عربية، فإذا ارتفع صوت يعارض تلك الهجرة اليهودية المفتوحة، لما يتحتم أن تحدثه من أضرار بحقوق الجيران، ردت تلك الدول الكبرى بوجوب رعاية «حقوق الإنسان»، وكان تعريف «الإنسان» عندهم لا يشمل العرب، فمثل هذا التناقض فيما تصنعه هيئة الأمم المتحدة، هو ما ينفر منه منطق العقل.
وتساءل صاحبنا ذات عام فيما بعد قيام إسرائيل، وما تبعه من متناقضات ومفارقات يثور لها العدل والعقل معا: وماذا فعلت الجامعة العربية يا ترى تجاه حلقات العدوان الطاغي بغير حساب؟ وهنا دفعه حبه للمعرفة أن يقرأ شيئا عن نشأة الجامعة العربية وأسلوب عملها، فاهتدى إلى مجموعة من محاضر الجلسات التي عقدتها الحكومات العربية وهي في سبيلها إلى إنشاء الجامعة العربية، ووقف طويلا عند المناقشات التي دارت حول أن تكون قرارات الجامعة ملزمة للدول الأعضاء أو غير ملزمة، وأحس بحرارة المعارضين لفكرة الإلزام، حتى انتهى الأمر بأن تصبح القرارات بمثابة توصيات، من شاء أخذ بها ومن لم يشأ أهملها كأن شيئا لم يكن، فهمس صاحبنا لنفسه قائلا: كفى، كفى، فلا فرق بين أن تقوم للدول العربية جامعة، أو ألا تقوم، إذ لا يعدو شأنها في مجرى الأحداث، أن تتحول إلى دردشة لا تغير من أحداث العالم شيئا.
Unknown page
كان صاحبنا عند انتقاله في عقود السنين إلى سنوات الأربعينيات، وهي السنوات التي شهدت تحولات عميقة في حياة الشعوب بصفة عامة، وفي حياته هو الشخصية بصفة خاصة، قد ترك الثلاثينيات مثقل الصدر بهموم حقوق الإنسان الضائعة، حتى على أيدي روادنا الأعلام ، فماذا وجد في عقد الأربعينيات عن تلك الحقوق؟ وكيف جاء رد فعله لما وجد؟
سنوات التحول «2»
ألقت الحرب العالمية سلاحها سنة 1945م، وكان صاحبنا عندئذ في بعثته الدراسية التي جاءته متأخرة بعد تخرجه بأربعة عشر عاما، لم يكن قد أضاع منها يوما واحدا فارغ البال، إذ جرت حياته في ثلاثة خطوط متوازية، كان كل خط منها كافيا وحده أن يملأ الحياة عملا: فهو في أحدها معظم نهاره كاسبا لرزقه، حتى إذا ما فرغ من ذلك غمس نفسه في القراءة والكتابة كاتبا ليشارك في الحياة الثقافية، ثم هو آخر الشوط يختم نشاطه بدراسة يستعد بها لقدوم اللحظة المجهولة، التي إذا حانت، ظفر بحقه المرجأ في السفر إلى الخارج ليكمل دراسته العليا، وكان من طبيعة تلك الحياة المزدحمة أن تترك في صدر صاحبها مزيجا من الأمل واليأس، والحق أنه كان اليأس أقرب حلولا في نفسه من بوارق الأمل، فما أكثر ما أوحى إلى نفسه بأنه إنما ينفخ في رماد، هيهات أن تتوقد له من تحته جذوة فتبعث فيه الدفء، وربما كان بعض ذلك راجعا إلى كثرة ما امتلأ به طريقه من عقبات تدعو إلى الإحباط، فقد كان من أندر النادر في مجتمعنا، الذي لا نستثني معه أعلامنا الرواد، أن يجيء الحق إلى صاحبه بقوة الحق وحدها، فإما أن تعامل الناس والعصا في يدك، واللفظ الخشن بين شفتيك، وإما أن يصيبك الإهمال إلا أن يتولاك ربك برحمته وعدله، ولم يكن صاحبنا قد عرف الطريق إلى العصا، ولا اعتاد لسانه اللفظ الغليظ لينطق به في حينه فيستريح، حتى وإن أفلتت منه وسائل النجاح.
ولقد حدثناك عنه، فيما أسلفناه من أحاديث، كيف انتقلت به السنون من ثلاثينيات القرن إلى أربعينياته مثقل القلب بهموم اليأس من أن تجد حقوق الإنسان سبيلها ميسرة إلى من يستحقها، وكان مصدر يأسه أن روادنا الكبار قد غلب عليهم أن يكتبوا بالأقلام ما لا يفعلون، فهم يدعون إلى الحرية والعدل والمساواة وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى، حتى إذا ما دخلوا في معاملات من سواهم، لم يكن لكل ما يدعون إليه إلا أضعف الأثر، فحرية الفكر والقول لهم وليس لمن دونهم، ومن ثم فلا عدالة، ولا مساواة، ولا كرامة، إلا وهي حبر على ورق، وسافر صاحبنا في بعثته الدراسية وملء صدره غيوم من هذه الهموم، ليجد مجتمعا آخر يتعامل أفراده بعضهم مع بعض على نحو ما كان يتمنى أن يراه في قومه، وهنالك أشرق عليه المعنى القوي الناصع، للعبارة التي قالها الإمام الشيخ محمد عبده، عندما زار إنجلترا سنة 1905م، حين قال إنه وجد في تلك البلاد إسلاما بغير مسلمين، بعد أن ترك وراءه في بلده مسلمين بغير إسلام.
ولم يكن قد مضى على نهاية الحرب العالمية الثانية إلا ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، حتى أعلنت أمام العالم وثيقة حقوق الإنسان، في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948، فتلقاها صاحبنا بفرحة وكأنه يتلقى بارقة تزيح عن صدور الناس في أنحاء الأرض كوابيس الظلام، وماذا قالته تلك الوثيقة عن «حقوق الإنسان»؟ إنها رددت ما يمليه الإدراك الفطري السليم، فليس الذي ينقصنا هو «معرفة» الحقوق، بل هو التربية التي تدربنا على النط السلوكي الذي يصون تلك الحقوق، فأول ما نادت به الوثيقة، هو حق «الحرية»، ومن ذا ينكر على الناس حقهم في «الحرية» ما دام أمرها مقصورا على اسمها؟ لا أحد، لكن تأمل حياتهم العملية لترى كيف تفهم الحرية وكم يتحقق من معانيها، فهي في بلادنا - على أحسن الفروض - تفهم من جانبها السلبي وحده، إذ تفهم بمعنى التحرر من القيود، ومن القيود السياسية بصفة خاصة، ومثل هذا التحرر واجب محتوم، لكنه إذا اكتفي به لما كسب الإنسان من حريته شيئا إلا الشكل الخارجي، فبعد أن كان القيد يغل قدميه أزيل القيد، إلا أن القدمين ما زالتا عاجزتين عن السير، لماذا؟ لأن السير يريد هدفا يوصل إليه، ولأن الوصول إليه يتطلب «معرفة» بالوسائل، فإذا كان لا هدف هناك، أو كان هنالك الهدف ولا معرفة يستعان بها على خلق الوسائل المحققة لذلك الهدف، إذن فيا خيبة الرجاء، وهذا هو ما قد حدث بالفعل في معظم الأقطار التي فكت عنها قيود المستعمر، قطرا بعد قطر، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية سلاحها، إذ ماذا يجدي إذا أزيلت الأغلال عن الأقدام، وبقيت أغلال تقيد العقول؟ ماذا يجدي أن تظفر أمة بحريتها السياسية، حتى إذا ما همت بعد ذلك تبني قوائم حياتها الجديدة وجدت نفسها في حاجة إلى ذلك المستعمر نفسه تطلب منه أن يعينها بعلمه وخبرته، وأجهزته؟ أليس سيد الأمس هو نفسه سيد اليوم، ولم يغير من الأمر شيئا أن تنتقل الأغلال من الأقدام إلى الرءوس؟
وحرصت وثيقة حقوق الإنسان منذ فاتحتها، على أن تطالب لكل إنسان بكل الحقوق، ولنتأمل هذا المعنى جيدا؛ لأننا لم نألف العيش في مجتمع لا يتفاوت فيه الأفراد بامتيازات تعطى لزيد ويحرم منها عمرو، ولست أعني بالامتياز ذلك التفوق الذي يظفر به صاحبه بمواهبه وبجهده، فهذا امتياز لا مأخذ عليه، بل وأراده لنا رب العالمين، وإنما قصدت إلى امتيازات تؤخذ سرقة ونهبا، وتعطى قسرا وتجبرا واعتسافا.
ويطالب إعلان «حقوق الإنسان» بحق «الحياة» وقد نسرع إلى الظن بأنه حق يضمن للإنسان أن يتنفس، فلا يغتاله أحد، أما صاحبنا حين طالع إعلان الحقوق فور صدوره، وأخذته الفرحة بما طالع، فقد ذهب بفكره بعيدا في فهم «الحياة» التي هي حق لكل إنسان، وساعده على هذا التوسع في فهم المعنى، ما كان يعرفه عن معنى «الحياة» في الفكر الإسلامي فصفة «الحي» اسم من أسماء الله الحسنى، ويذهب نفر من فقهاء المسلمين - ومنهم أبو حامد الغزالي - إلى أن الصفات المتضمنة في أسماء الله الحسنى، هي في الوقت نفسه صفات تلزم الإنسان المسلم بأن يتخلق بها، مع الفارق الواسع بين الحالتين، فبينما تفهم الصفة وهي منسوبة لله جل وعلا بمعناها المطلق الذي لا تحده حدود، تكون وهي منسوبة إلى الإنسان محدودة ومقيدة، فصفة «الحي» في كلتا الحالتين تتضمن - كما شعر الغزالي - صفتي «الإرادة» و«العلم»، إلا أن الله الحي - سبحانه وتعالى - مريد بمشيئة مطلقة ومحيطة بالكائنات جميعا، وهو كذلك «عليم» بعلم يسع السموات والأرض، وأما الإنسان فهو وإن تكن «حياته» الإنسانية متميزة دون الحياة في أي كائن آخر، بكونها مشتملة على القدرة المريدة والقدرة الإدراكية الواعية لما تدركه، إلا أن ذلك مقيد بحدود، وما دام الأمر كذلك، فحق «الحياة» بالنسبة إلى الإنسان، لا يقتصر على حصانة تمنع اغتياله أو قتله بأية صورة من الصور، بل يضيف إلى ذلك حق الإنسان في أن يكون ذا إرادة حرة، يسعى إلى العلم بمخلوقات الله ما وسعته القدرة على تحصيل ذلك العلم، فليس الناس سواء في قدراتهم الإدراكية وفي مواهبهم المختلفة، ومن حق الإنسان الحي في امتلاك هاتين الخاصتين - وهما أن يريد بإرادة حرة، وأن يحصل من المعرفة ما استطاع تحصيله - تنبثق حقوق أخرى انبثاقا يجعل تلك الحقوق جزءا من الفطرة الإنسانية، وليست هي موهوبة له من أحد سوى خالقه الذي فطره على ما فطره من خصائص: فمن كون «الحياة» الإنسانية مريدة بطبيعتها، ينتج بالضرورة أن تكون للإنسان «الحرية» التي يختار بها ما يريد، فإذا حرم من حق الاختيار الحر بين البدائل المتاحة، فكأنه حرم من إرادته التي هي جزء من فطرته، ومفهوم بالطبع أنه لما كان الفرد عضوا في مجتمع بحكم الضرورة، وجب أن تتوازن حريات الأفراد بحيث لا تطغى إرادة منها على أخرى، ومن هنا جاءت الشرائع والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها في كل موقف من مواقف الحياة والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها المشتركة، وكذلك ينبثق من كون الحياة الإنسانية - في الفكر الإسلامي - مميزة بتحصيل العلم، حق «التفكير» و«التعبير» عما قد انتهى إليه ذلك التفكير، فليس لأحد على أحد سلطان يقيد به فكره، أو يصادر به حقه في أن ينشر في الناس ذلك الفكر، ولعل أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، أن الفكر الإسلامي حين جعل «الحياة» الإنسانية مؤلفة من «إرادة» ومن «علم»، قد افترض افتراضا مسبقا لم يجعله موضع مجادلة بين قبول ورفض، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد خلق لذاته ، ولم يخلق من أجل ذات بشرية أخرى، وبذلك يكون من معاني حق «الحياة» أن يكون الإنسان غاية مقصودة، وهو مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عما يعمل، بغض النظر عن سائر الأفراد، وكونه غاية في ذاته يستوجب رفض الرق الذي يوكل إلى السيد أن يسلب العبد إرادته فيسلبه - بالتالي - حياته الإنسانية فلا يبقى له من الحياة إلا جوانبها الآلية والحيوانية.
ويستخرج إعلان «حقوق الإنسان» بعض النتائج التي تتفرع عن حق «الحياة» لتكون بدورها حقوقا مسلما بها، منها ألا يكره إنسان على غير إرادته إكراها يلجأ إلى تعذيبه بأي نوع من أنواع التعذيب، سواء أكان إيلاما جسديا، أم كان إحراجا يحط من كرامته أمام الآخرين، كأن تهتك خصوصية حياته، الشخصية الخاصة، فمن حق كل إنسان أن تكون لحياته الخاصة حرمة تصان.
وهكذا يعلن ميثاق الحقوق عما يجب أن يتمتع به أفراد الناس جميعا، فلكل إنسان حق التنقل حيثما أراد، لا تحدد إقامته في مكان معين رغم إرادته، ولكل إنسان حق التملك لا ينازعه فيما كسبه بعمله منازع، وإذا كان لكل إنسان الحق في التفكير والتعبير، والحق في اختيار عقيدته، فإنه مما يلحق بذلك أن يكون له أيضا الحق في أن يغير من فكره ومن عقيدته إذا أراد لنفسه ذلك، ولكل إنسان الحق في العمل وفي حرية اختياره لنوع العمل الذي يراه ملائما لقدراته.
كما أن لكل إنسان الحق في وقت الفراغ، وذلك كله يستتبع أن تكون السلطة الحاكمة مسئولة عن تهيئة الظروف التي تكفل للعاملين درجة لائقة من مستويات العيش، وأن تدبر نظاما للتأمينات التي تكفل دوام ذلك المستوى في حالات البطالة والمرض والشيخوخة، وينص إعلان «الحقوق» بصفة خاصة على حقوق «الأمومة» و«الطفولة»، فالأم أم تستحق الرعاية والحماية، مهما تكن العلاقة التي أدت بها إلى تلك الأمومة، والطفل طفل تجب له العناية بغض النظر عن أي عامل اجتماعي أو طبيعي يحيط به. وللتعليم والثقافة نصيبهما في إعلان «الحقوق»، فلكل فرد حق في أن يتعلم وفي أن يجد زادا ثقافيا يلائمه، كما أن للقائمين بعمليات التعليم والتثقيف حقوقا ينص عليها الإعلان، تشمل فيما تشمله حقوق المؤلفين والمبدعين، كما تشمل حقوق الآباء في أن يكون لهم رأي في تعليم أبنائهم، وإلى جانب حقوق الأفراد التي ذكرنا بعضها، لم يفت الإعلان أن يذكر ما «للشعب» الذي هو مجموع مواطنيه، من حقوق، وعلى رأسها أن يكون الشعب مصدر السلطات جميعا، بما يكون لأبنائه من حقوق الانتخابات لمن ينوبون عنه في مواقع صنع القرار، لم يكن صاحبنا ولا كان غيره بحاجة حقا إلى إعلان لحقوق الإنسان لكي يعرفها بعد جهل، لكن جاء الإعلان ليوقظ الغافلين، فحقوق الإنسان أمور تكاد تمليها فطرة الإنسان، إلا أن تلك الفطرة فيها كذلك ما يملي التسلط والاستبداد والحقد والكراهية، وها هو ذا صاحبنا قد سافر في بعثته الدراسية محيطا بما وجده من خيبة الرجاء، حتى عند الرواد الكبار إذا ما اقتربت منهم لتراهم عن كثب، فلما أن استقر به المقام في الغربة، لم يستطع أن يقاوم إغراء القلم ليكتب فيما أثقل قلبه من أسى، لكنه حمل قلم الأديب، لأنه آثر أن يدخر قلم العالم ليجول به في مجال البحث العلمي، فماذا كتب الأديب بقلمه في سويعات فراغه هناك؟ إنه ابتكر لنفسه طرازا فريدا من المقالة «الأدبية» يصب فيها مرارة نفسه، وليست المقالة «الأدبية» موصوفة بهذه الصفة لمجرد أنها كلام مكتوب في لغة سليمة، أو بأسلوب متميز، وإنما هي «أدبية» لأنها صفة ضرورية لا يكون الفن فنا ولا الأدب أدبا إلا إذا توافرت فيه تلك الصفة، وقد يضاف إليها بعد ذلك صفات أخرى، أو لا يضاف، وتبقى هي شرطا ضروريا، وأعني بها الصورة، أو «الشكل» أو «التكوين» أو طريقة البناء، أو الإطار ... فهذه كلها أسماء تشير إلى طبيعة الصفة المميزة التي لا يكون الفن الأدبي، أو الفن من أي ضرب آخر، فنا إلا بها، فالفن إذا ما أراد أن يوصل إلى المتلقي حالة نفسية معينة، أو فكرة، لجأ إلى وسيلة تحمل تلك الحالة أو الفكرة المبثوثة إلى متلقيها، تصل إليه بطريق غير مباشر، لماذا؟ لأن الحالة النفسية أو الفكرة ينقصها التجسيد الذي يجعلها وكأنها شيء مما تراه الأبصار أو تسمعه الآذان أو تلمسه الأيدي، وعلى الفنان - في الأدب وفي غيره - أن يبحث عن وسيلة تجسيد ملائمة لموضوعه.
Unknown page
حمل صاحبنا - إذن - قلم «الأديب» ليصور ثورة نفسه على ما كان قد خبره في وطنه من روح التسلط والتعالي والظلم والخنوع والنفاق، وغير ذلك من الصفات التي يختفي منها كثير إذا ما نشأ المواطنون نشأة تبث فيهم الشعور بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن فقره وغناه، وضعفه وقوته، وما شئت من أوضاع اجتماعية تتبع ضروب العمل المختلفة، وأعجب العجب أن تسري في مجتمعنا هذه الأخلاق ولا يراها الناس، أو هم يتصرفون إزاءها وكأنهم لا يرونها، فلا المتسلط يرى في تسلطه شذوذا عن السواء، ولا الخانع أمام المتسلط يشعر بأنه قد أهدر آدميته بخنوعه وخضوعه لإنسان من البشر، نعم، أخذ صاحبنا ينشئ مقالاته «الأدبية» في غربته، ويرسلها إلى القاهرة؛ فتنشر وتحدث الصدى، فلكي يصور استعلاء بعضنا على بعض، بحيث إذا ظفر أحد منا على مقدار ذرة من قوة أو ثراء أو نسب أو ما شئت، تفنن في ابتكار الوسائل التي يتعالى بها على من دونه حتى ليطمس له حقوقه المشروعة من حيث هو إنسان ذو حقوق لا يضيعها حرمانه من أسباب القوة والسلطان، ومع ذلك فالشعب يلقن في الصباح وفي المساء بأنه قد بلغ من إنسانية الإنسان ما لم يبلغه شعب آخر ممن أعمتهم المادة والفساد! أقول إن صاحبنا لكي يصور تلك المفارقات، كتب ذات مرة يقول: «وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب علينا النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو إلى أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها، الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته ...» ثم يأخذ صاحبنا في تصوير نماذج من تعامل الناس أعلاهم مع أسفلهم، وفي صورة تقطر مرارة، أجرى مقارنة ساخرة بين قيمة الإنسان في مجتمعنا، وقيمته في مجتمع الغرباء الذي وجده في الغربة، كتب يقول: «... وجدت الناس هنا (أي في مجتمع الغرباء) لا يؤمنون بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كلا في فلك يسبحون، فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف، وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة «الإنسانية» التي تجعل الإنسان شيئا غير الكلب والحمار، فكن عندهم فقيرا ما شئت، أو كن عندهم غنيا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم ضعيفا ما شئت، أو كن عندهم قويا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم زارعا، أو صانعا، فأنت «إنسان»، كن عندهم خادما أو مخدوما، وأنت في كلتا الحالتين «إنسان»، كأنهم جماعة من النمل، لا تختلف فيها نملة عن نملة، وأقارن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي، أرادت زوجتي في جنتي، أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟» - بثينة يا سيدي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة ...
كان صاحبنا يحمل معه ذكريات كثيرة عن الحياة الاجتماعية في وطنه، وهي ذكريات كانت مزيجا مما يدعو إلى الحب والفخر، وما يدعو إلى السخط والغضب، لكن الكاتب في موقفه من حقائق الحياة كما يراها، يشبه الطبيب في موقفه من مريضه، فالمريض ليس مرضا كله، بل هو جمع بين مرض وصحة، إلا أن الطبيب إنما جاء ليستخرج مواضع العلة، لتكون هي مشغلته لعله يكون وسيلة لشفاء مريضه، وكذلك الكاتب، إذا هو ركز انتباهه على جوانب القوة من حياة قومه مرة، فهو يركزه على جوانب الضعف مرات، لعله يستطيع أن يلفت إليها الأنظار فيصيبها إصلاح، وعلى هذا الأساس كان صاحبنا، وهو في غربته، يجد الأحداث والمواقف التي تجري حوله هناك - وكانت الحرب العالمية في لهب سعيرها - أقرب إلى أن تثير في نفسه ذكريات الخلل في حياة أهله، منها إلى إثارة الذكريات الجميلة الدافئة، ومن أبرز الصور التي كانت تعاوده حينا بعد حين، صورة الرئيس المستبد الوقح، الذي ينتهز فرصة الشعور بالضعف والحاجة عند من هم في قبضته، ولم تكن «الرياسة تقتصر» عنده على رياسات الدواوين وما إليها، بل هي تجاوز ذلك لتشمل كل ذي سلطان، وكثيرا ما كان صاحبنا يذكر رأيه لأصدقائه وقرائه، بأن الإسراف في قيمة «السلطة» عند مواطنيه، هو العلة الأولى في حياتهم، ولو استطعنا أن نقلقل حب التسلط لننزل من ذروته في سلم القيم عندنا لانزاح عن صدورنا كابوس ثقيل، إذ يضيع من جهودنا في نشر الحرية، والعدالة، والديمقراطية إلخ جزء كبير، يذهب هباء ما دامت قيمة «التسلط» تتربع على عرشها بين القيم، ومن هنا وجه صاحبنا قلم الأديب الذي خصص له سويعات من وقته هناك، ليكتب ما يرسله لينشر في مصر، نحو «التسلط» يصوره في بشاعته لعله يثير شيئا من سخط قارئه، وكان ذلك الجهد الأدبي المبذول، في وسط الأربعينيات من أعوام هذا القرن، ولم يكن قد بقي على موعد الثورة سنة 1952 إلا فترة تقل عن عشر سنوات، فتجيء ترفع لواء «العدالة الاجتماعية». كان بين ما كتبه صاحبنا هناك، موضوع أسماه «تجويع النمر» يقول فيه لقرائه: إن بين أفراد الناس فئة تشبه صنوف الحيوان في تركيبها النفسي، بحيث إذا بقر بطونهم مبضع التشريح، وجد في الجوف نمر كامن، أو ثعلب، أو حمل، أو ضبع، أو كلب، وهكذا فترى صاحب هذا المكنون الجوفي يتصرف على طباع الحيوان الذي كمن فيه، ويهمنا من هؤلاء قبيلة النمور، فماذا أنت صانع بنمر بشري استبد بك في طريق حياتك لتنجو من شره؟ الحل بسيط غاية البساطة، وهو أن تلجأ إلى تجويعه ، فأنت تعلم أنه يقتات على ضعفك، فما عليك في هذه الحالة إلا حرمانه من الغذاء الذي يشبعه، فإذا رأيت بوادر التنمر قد أخذت في الظهور، اتركه ليجد أمامه هؤلاء في خلاء.
وعن «الظلم» الاجتماعي كتب صاحبنا صورة يصور بها غلاما في نحو العاشرة، سمع في الطريق العام بائعا متجولا يصرخ وهو في قبضة شرطي، قائلا: هذا ظلم، ولم يكن الغلام قد سمع هذه الكلمة بعد، فلما عاد إلى منزله، سأل أباه: ماذا تعني كلمة «ظلم»؟ فأجابه أبوه بأنها تعني مجاوزة فرد من الناس لحدوده المشروعة فيؤذي آخرين، كأن تجلس خادمتنا على مقعد من مقاعدنا ... فما هو إلا أن جاء الليل ونام أفراد الأسرة، ليستيقظوا في الصباح فيجدوا كلمة «ظلم» قد كتبت بالطباشير على قطع الأثاث كلها، ولم يكن عسيرا على الوالد أن يعلم بأن ولده هو الفاعل، فنهره وزجره وأمره بألا يعود إلى مثل هذا العبث، ومحيت الكلمة حيثما وجدت، لكن لم يمض إلا يوم واحد، ليجد الجيران أن مجهولا قد عبث بأبواب منازلهم ودرجات السلم وفي كل بقعة تصلح للكتابة، إذ رأوا كلمة «ظلم» قد كتبت بالفحم هنا وهناك، ودارت الشكوى، وأدرك الوالد أنه ابنه الذي اقترف الإثم، فجعل عقابه هذه المرة ضربات أوجعت الصبي، ولكنه لم ينطق بصوت، ومرة أخرى حذر الوالد ولده وأنذره وتوعده إذا هو عاد، ولكنه فوجئ بعد أيام قلائل بشرطي يدق على بابه، ممسكا بالغلام، فعلم الوالد من الشرطي أن ابنه قد ضبط في ساعة مبكرة من الصباح، يلطخ أبواب المتاجر المغلقة، وبعض النوافذ في مكاتب حكومية مجاورة، يلطخها بكلمة «ظلم» يكتبها بفرشاة كبيرة يغمسها في وعاء مليء بطلاء أسود ... وهنا لم يجد الوالد بدا من عرض ابنه على طبيب نفسي، فأوصى الطبيب بأن يأخذ الوالد ولده إلى مكان يستريح فيه ويهدأ، فسافر الوالد مع ولده إلى الإسكندرية بالقطار، وما كان أشد العجب يعجب به الوالد، حين سمع عجلات القطار تدمدم على القضبان وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم ... على هذا النحو أخذ صاحبنا يكتب مقالاته «الأدبية» خلال السنوات الوسطى من الأربعينيات، وذلك في هوامش سويعات الفراغ بعد تركيز الفكر في ساعات العمل، ولما أعلنت وثيقة «حقوق الإنسان» في اليوم العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948م، أحس بشيء من الرضا، إذ شعر كأنما كان بشخصه جزءا في التمهيد لظهور ذلك الإعلان.
سنوات التحول «3»
لم يكن صاحبنا نفسه يستطيع أن يرد ذلك القلق المؤرق إلى منابعه الأولى، وهو قلق محوره ما قد تصوره في صورة مكبرة، عن حرمان الإنسان في وطنه من حقوقه الأولية التي لا يكون الإنسان إنسانا بغيرها، لقد جاءه هذا الانطباع في السنوات الأخيرة من الثلاثينيات، وكان قبل ذلك على عقيدة أخرى، إذ كان هنالك في حياتنا ما يبرر له ولغيره رأيا يرى تلك الحقوق وقد رسخت في وعي الكثرة الغالبة من المواطنين، فهنالك حق الحرية قد أخذت تجري به الأقلام منذ رفاعة رافع الطهطاوي فصاعدا مع كبار الرءوس جيلا بعد جيل، كما قد أخذت تعيه في معناه السياسي أفئدة العامة من جمهور الناس، كما قد تجلى في ثورات وطنية تشتعل آنا بعد آن، ثم أخذ هذا الحق في الحرية يتفرع فروعا ليشمل ميادين أخرى غير السياسة في مجابهة الاحتلال البريطاني، كميدان الاقتصاد، وميدان الأدب، وميدان التعليم، وميدان المرأة، وميدان الحياة الشخصية للأفراد أمام الرأي العام.
وليس في كل هذا شك، فما الذي رآه صاحبنا بعد ذلك مما أثار فيه القلق؟ ربما كمن السر في أن المقارنة مع الشعوب الأخرى التي هي في موقع الريادة من حضارة هذا العصر وثقافته، قد أيقظته ليرى الفارق الكبير بين أن تجري أقلام الرواد بحق الحرية ووجوبه لكل إنسان، وبين أن يحيا هؤلاء الرواد أنفسهم على نحو ما يكتبون، فبينما ترى الواحد منهم، وقد أوشكت حروف كلماته أن تشتعل بحرارتها دفاعا عن الحرية والمساواة والعدالة ... إلخ، تنظر إليه في ساحات التعامل الفعلي يذل للكبار بقدر ما يستبد بالصغار، وقد رأى صاحبنا بعينيه وسمع بأذنيه، كيف لا يطيق حماة الحرية الفكرية أن يروا من هم دونهم وقد استباحوا لأنفسهم ذلك الحق نفسه، حتى إذا ما سافر صاحبنا وكذلك رأى هناك بعينيه وسمع بأذنيه كيف يتساوى في تلك الحقوق الأساسية كبار وصغار، بغير توتر أو شعور بالتحدي، كأنما هي عادات مألوفة لا تستلفت الأنظار، هنالك أدرك البون الشاسع بين سهولة القول وصعوبة العمل، وإنه ليذكر ذات يوم بعد نهاية الحرب بقليل، وقد أتيح له أن يرى هناك صفا من العاملين في ديوان حكومي وقف كل منهم في مكانه من الصف، يحمل في يده طبقا وشوكة وسكينا، وأخذ الصف يتحرك قليلا قليلا نحو منضدة كبيرة وقفت عندها مناولات يناولن من جاء دوره فنجان الشاي وقطعة الكعك، لكن كم كانت دهشة صاحبنا حين لمحت عينه فيمن وقفوا في الصف وزير الوزارة التي وقع في بهو ديوانها هذا المشهد، وكان الذي وقف أمامه أحد السعاة في ديوان تلك الوزارة نفسها، وما إن رأى هذا الترتيب المقلوب، حتى ركز بصره فيها لعله يجد أثرا للقلق عند الساعي، أو أثرا من الضجر عند الوزير، فلم تقع عينه على شيء من ذلك، فعاد إلى بيته مع المساء ليكتب قبل أن يأوي إلى فراشه، تحت عنوان «الكبش الجريح» قطعة من «أدب» المقالة ليبعث بها إلى وطنه، يصور بها ما كان ليحدث لو شاءت مصادفة عمياء أن يقع هذا الترتيب في الوقوف عندنا بين وزير وساع، وجوهر المأساة هنا، أن خيالنا قد يتصور وزيرا له من سعة الثقافة ما لا يقلقه أن يجيء دوره وراء دور خادمه، لكنه لا يتصور أن يجد الساعي الذي يرضى لنفسه أن يتقدم وزيره، خالطا في ذلك بين أن يكونا مواطنين يتساويان في غير مجال العمل، ولا يتساويان في مجال العمل، فللوزير عندئذ أن يأمر وعلى الساعي أن يطيع، نعم، كتب صاحبنا ليجسد لقرائه في وطنه هذا المعنى، في كبش ذبيح تنظر إلى عينيه ودماؤه تتدفق من عنقه، فإذا هما عينان ناطقتان بالطمأنينة والرضى.
ولأمر ما وجد صاحبنا نفسه مشدودا إلى حق «الحرية» أكثر من سواها في قائمة حقوق الإنسان، بمعنى أنه شغل بالقراءة عنها في فراغه أكثر مما شغل بالقراءة عما عداها، وربما كان ذلك لأنه وجد فيها أصلا تتفرع منه الفروع، ولعل أهم ما يلفت النظر في الطريقة التي يغلب على صاحبنا أن ينتهجها في تفكيره، أيا ما كان موضوع التفكير، نزوعه نحو أن يرد الفروع إلى الأصول، فتسهل عليه رؤية الحقائق من مواضعها في شجرة أنسابها، ومن هنا أقول إنه ربما ارتأى صاحبنا عندئذ أن «الحرية» أصل، ومعظم حقوق الإنسان الأخرى فروعا لها، أو ربما نظر إلى التاريخ الثقافي الحديث في مصر، فوجد فكرة «الحرية» توشك أن تكون محورا أساسيا للحركة الثقافية كلها، منذ الطهطاوي فاتيا، حتى لقد كانت تتقطر من أقلام الكتاب قطرات تتوالى وتتراكم آثارها في صدور الناس خلال بضعة عقود من السنين، ثم تتفجر ثورة عاصفة، فبعد نحو أربعين سنة من نشر الطهطاوي لمؤلفاته ومترجماته، قامت ثورة أحمد عرابي، وبعد نحو أربعين سنة من ثورة عرابي اشتعلت ثورة سعد زغلول، وبعد نحو ثلاثين عاما تفجرت ثورة جمال عبد الناصر، وفيما بين الثورة والثورة التي تليها، لا تكف الأقلام عن الدعوة إلى ضروب منوعة من الحرية، وكلما تحقق منها شيء طالب الناس بمزيد.
وأيا ما كان الدافع الباطني، فقد أحس صاحبنا برغبة شديدة في أن يطيل القراءة والنظر حول فكرة «الحرية»، وهي قبل أن تكون «فكرة» يتناولها العقل بالتحليل والتدليل كانت منذ كان على الأرض إنسان، حنينا نحو أن يملك الإنسان قياد نفسه في اختيار هذا وترك ذاك، وفي إزالة ما عساه مصادفة في طريق الحياة من عوائق وعقبات، ولماذا نقصر أمر «الحرية» على الإنسان، اللهم إلا إذا أردنا بلورة طبيعتها في عبارة لغوية تصفها وتحددها؟ أما إذا كان المراد هو أن يكون في وضع الكائن الحر أن يسلك سلوكا يستحيل التنبؤ به قبل وقوعه؛ لأنه سلوك أبدعه الكائن بوحي من فطرته إبداعا غير مسبوق بأسباب معلومة، ولا بمقدمات يمكن الاستناد إليها في استدلال ما سوف يترتب عليها، فإن كل كائنات الكون، من الذرة فصاعدا إلى الشموس والنجوم، فإلى دنيا الأحياء نباتا وحيوانا وإنسانا، نعم، إن كل كائنات الكون لها أنصبة متفاوتة من الإبداع غير المسبوق بأسباب معلومة أو بمقدمات تنبئ عما يتولد عنها، فكهارب الذرة تقفز من مدار إلى مدار دون أن يكون في مستطاع العلم البشري أن يعرف عن تلك القفزات كيف تحدث، ومتى، ولماذا، وإذا أراد العلم صياغة قانون أو قوانين تحدد مساراتها، فليس أمامه سوى تقريبات إحصائية يمكن الاعتماد عليها في عمليات التنبؤ، إذن فالذرة حرة النشاط بمعنى من المعاني، وعلى هذا الأساس يمكن القول كذلك بشيء من حرية النشاط في سائر الكائنات، ما دامت كلها مؤلفة آخر الأمر من ذرات حرة الكهارب، حتى إذا ما ارتفعنا بالنظر إلى عالم الأحياء، ثم سمونا على سلم الحياة لنبلغ ذروته متمثلة في الإنسان، وجدنا تلك الحرية المحدودة قد نمت وتفرعت حتى تصبح عند الإنسان «إرادة» حرة تريد ما تريد لتفعل ما أرادت.
Unknown page