ويُستدلُّ على جودة الفرس في خُضْره بسموّ هاديه، وثبات رأسه، وأن لا يستعين بهما في جريه، وأن تجتمع قوائمه فلا تفترق، ويكون كأنّ يديه في قَرَن ورجليه كذلك. ويبسط ضَبْعيه ويمدّ كَشْحَه، حتى لا يجد مزيدًا قصوا عن يديه وقبضًا من رجليه. والقبض أن لا يمكَّن رجليه من الأرض وإنما يأخذ منهما بأطراف حوافره، ويكون بسرعة قبضه كأن حوافره دُفعا في رُفْغيه، يَمْلخ بيديه، ويضْرَح برجليه في اجتماع، كأنما يرفع بهما قائمة واحدة، ويضبح بصدره، ولا يختلط ولا يلهو عن حُضْره. فذلك هو الجواد الفائق، وفي مثله قال جرير:
وقد قُرِنوا حين جَدَّ الرِّهان ... بسامٍ إلى البلد الأبعدِ
يقطِّع بالجْرىِ أنفاسَهم ... بِثَنْيِ العِنان ولم يجهد
وتنظر إلى تطريح قوائمه في الأرض إذا أحضر، فإن كان ما بين آثار حوافره أثنى عشر قدمًا فهو) الذريع الكامل (، وأن زاد على ذلك فهو الذي لا غاية بعده، وإن كان قدر ذلك سبعة أقدام فهو بطئ، وبحَسَبِ ذلك يكون ما بينهما.
ولا يعتبر في الفرس كثرة حركته مع اختلاط قوائمه وتحريكه رأسه واستعانته به، وشدة مرِّه في مرأى الناظر، فيخيل بذلك أنه جواد. وربما رئي الجواد يمر لاهيًا بغير تكلف، كأنه في مرأى الناظر أبطأ منه، فإذا ضم إليه سَبَقه، وذلك لبعد قدر الجواد، واجتماع قوائمه، وسكون رأسه، وسمو عنقه، وقرب قدر المختلط مع انتشار قوائمه، واستعانته برأسه، وبُطء رَجْعِ قوائمه.
فصل
ومن الخيل ما هو ذريع صَبور؛ وصبور لا ذراعة له؛ وذريع لا صبر له؛ وما لا صبر له ولا ذراعة.
فالذَّريع الصَّبورُ هو التام الخَلق، الحسن الصفات، الشديد النفس، الرحب المتنفَّس.
والصبور لا ذراعة له هو الذي ليس بالسَّرح اليدين، ولا بالطويل العنق ولا الذراعين، ولم يكن له ضعف يخذله، ولا عَظُمَ فَخِذاهُ، ولا عَبِلَ ذراعاه، وهو مع ذلك مجتمع القوائم إذا أَحْضَرَ، شَنِجُ الأنْسَى، رحيب المتنفسَّ غير منتشر القوائم. فإن لانت معاطفه، وطالت قوائمه، وتمكنت وطالت عنقه وذراعاه، وعظمت فخذاه كان أذرع. وما زاد من هذه الصفات المشكورة صفةً زاد بقدرها جودةً وذراعةً.
وأَمْلَكُ الأشياء بالخيل الصبرُ، وأفضلها الذريع الصبور. فإنه يسبق الخيل بذراعته، ولا يُدْركُ لصبره.
وأما الذرَّيع الذي لا صبر له، فهو الذي طالت قواعه وعنُقه، ولانت معاطفه، وعَظُم فخذاه، ولم تساعده بقية خلْقه، وليس بشديد النفس، ولا رحب المتنفَّس؛ فيوشك أن يَرْبُوَ لضيق تنفسه إذا تَرادَّ نَفَسُه في جوفه، أو يكون غير شَنج الأَنْسىَ ولا شديد الكعبين، فأن طال جَرْيه استرخت رجلاه فلم يسرع قبضُهما ولا أشتد طَرْحُهما، فتسلمه قوائمه، ويخذله صبره.
وأما الذي لا صبر له ولا ذَراعة، فهو المنْشَال الخَلْق، القبيح الصفات، الساقط النفس، الضيق التنفس، الرخو الأَنْسى. فهذه الصفات لا تكون واحدةٌ منهن في فَرس إلا خذلته عن ذَراعته وصَبْرِه.
فصل
إذا اشتد نَفَس الفَرس ورحُب مَنْخِراه وجوفه مع كمال خَلْقه كان صبورًا، وإذا أشتد خَلْقه، واستحكمت فصوصه، واجتمعت قوائمه في حُصْره ولم تنتشر دل ذلك على قوته.
واستدل عمرو بن مَعْد يكَرب يوم القادسيَّة على شدة فرسه حين خاف من ضعفه، بأن وضع يديه على عُكْوته، وأخلد بها إلى الأرض، فلم يتخلخل ولا انخذل، فعلم شدته.
فإذا كان شديد الأَسْر، تامَّ الخَلْق، رحب المتنفَّس، ثم لم يصبر، فذلك من قطع أو علة في باطنه؛ ويعرف ذلك منه بسقوط نَفَسه، وفتور حركته، وكلال ضرسه، وانهدام جسمه، واختلاط قوائمه، في عَنَقه وخَبَبه. وربما أخذ في تقريبه أخذًا حسنًا، فإذا أَحْضَرَ صار لهذا الجري.
وأما إذا كان الغالب عليه رداءة الخلق، فربما أخذ في التقريب أخذًا حسنًا باجتماع قوائمه، وبسط ضَبْعيه، وسموَّ هاديه، وتكفُّت رجليه، فإذا أراد الإحضار خانته رداءة خلقه، وعاقته عن كثير من سرعته. فالإحضار هو مشوار هذا الضرب من الخيل.
وتقول العرب: الجودة في كل صورة، أو ربما أجادَ الأخذ في الجري وليس بجيَّد الخلق، غير أنه شديد النفس، رحب المتنفسَّ.
1 / 27