83

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genres

وهنا يجدر القول إن حديث سقراط عن الحمير لم يعد مزحة. فالدفاع عن حقوق الحيوان قد شاع في البلدان الديمقراطية، رغم أن الحيوانات نفسها - في خيال سقراط - لا تسعى بفاعلية إلى تلك الحقوق (يقول أحد المعاصرين - من مناصري حقوق الحيوان - حول المظالم التي تتعرض لها الحيوانات في زمننا الراهن: إن جماعة الحيوان التي تتعرض للاستغلال لا تستطيع تنظيم احتجاج ضد المعاملة التي تلقاها). وإنه لمن المثير اكتشاف أصداء معاصرة لملامح المجتمع الليبرالي التي تحدث عنها سقراط، سواء في سيادة أنماط معينة من السلوك لفترات زمنية وجيزة، أو في الحساسية المفرطة المقترنة بالخطابات السياسية المتزنة، أو السخط «عند أبسط تلميح للاستعباد». ولكن بخصوص ما تنبأ به أفلاطون من رفض لمظاهر الحياة المعاصرة المذكورة آنفا، ففي هذا قول آخر.

هناك جزء في نبوءة أفلاطون يأمل الجميع أن يكون مخطئا، وهو أن الديمقراطية تؤدي إلى الفوضى المدمرة. يقول سقراط إن هذا ما سيحدث منطقيا في النهاية لأن الرغبة في الحرية بكل صورها لا يمكن إشباعها دائما في إطار القانون (وقد يصلح مثالا عصريا على ذلك ما يذهب إليه بعض المتطرفين ممن لا يمانعون المخاطرة بالحياة البشرية من أجل حرية فئران المعامل ). كما يقول إن الشخصية المؤمنة بالديمقراطية «لن تلتفت في النهاية إلى القوانين المكتوبة والأعراف غير المكتوبة؛ حيث إنه من الوارد ألا تخضع لسلطان تلك القوانين في مختلف المواقف.» إن عدم احترام القانون - إلى جانب بعض الخصائص الأخرى للحياة الديمقراطية - هو ما سيسمح للطغيان بالوصول إلى السلطة. حيث يرى سقراط أن الانتهازيين الفاسدين من أعضاء المجتمع سيقومون بتسلق المشهد ويشقون طريقهم إلى مواقع النفوذ؛ فلا شيء يمنعهم من ذلك في ظل ديمقراطية مكفولة للجميع. ثم يلبسون عباءة خادمي الأمة المخلصين كي يصادروا أموال الأثرياء ويحتفظوا بقسط منها لأنفسهم. عندئذ يعارض الأثرياء هذه المصادرات ويحاولون مواجهتها، ولكنهم يتهمون بمحاولة قلب نظام الحكم. عندئذ يظهر قائد ذو شخصية مؤثرة بوصفه الدرع الواقية لعامة الشعب ضد الأغنياء المتآمرين، ثم تتسارع وتيرة الأحداث. وهنا يتقدم هذا (الحارس) «بالعريضة الشهيرة للطغيان التي يطلب فيها من الجماهير إمداده بالغطاء اللازم لتأمين المدينة دفاعا عن الديمقراطية.» ثم تتلوث يداه - بمعاونة جيشه - بدماء من أعلنهم أعداء للدولة. وهنا يصبح التحول الخطير إلى الحكم الطغياني السفاح حتميا. وفي النهاية «سيخضع من يقاومون الاستسلام ... إلى قيود الطغيان والعبودية.»

ويفرد أفلاطون مساحة للحديث عن شخصية الطاغية أكثر من أي شخصية أخرى. فالطاغية يعيش الحياة التي نعتها ثراسيماخوس بالحياة المفضلة إبان حربه على الفضيلة. فما نوع السعادة التي يحسها مثل هذا الإنسان؟ يقول سقراط إن حياته العقلية كابوس بالمعنى الحرفي. وفيما يعد تنبؤا بنظرية فرويد، يتحدث سقراط عن نوع من الرغبات المكبوتة التي تثور ليلا في نفس الطاغية. «تبين أحلامنا أن هناك نوعا خطيرا ووحشيا من الرغبات بداخل كل فرد، وهو نوع لا يخضع لأي قانون»:

تنتاب هذه الرغبات الجميع حتى من يبدو معتدلا أو منضبطا تماما مثلنا. هذه الرغبات تنشط أثناء النوم عندما تغفل الروح - أي الجزء العاقل المعتدل الذي ينبغي أن يسيطر علينا - ولكن الجزء الوحشي البربري - الذي يغذيه الطعام والخمر - ينهض مقاوما النوم ويسعى لإشباع غرائزه الخاصة ... وفي هذه الحالة سيقدم على فعل أي شيء بعد أن تحرر من أي شعور بالخجل، بل من العقل برمته. فلا يتوانى عن ممارسة الرذيلة مع أم يتخيلها أو أي شخص آخر سواء أكان من البشر أو الآلهة أو البهائم، فهو مستعد لأي عمل قذر.

وبينما يسيطر الإنسان المتزن على هذه الرغبات في معظم الأحيان، يقع الطاغية تحت تأثيرها ليلا ونهارا؛ «فيصير سكيرا مختلا تملؤه الرغبة العارمة إما بسبب طبيعته الشخصية أو ظروف حياته أو كلتيهما.» كما يقوده حب المال إلى الجريمة، ويحاط بالمداهنين الذين يخشون سلطته. ويخالط الناس فقط ليحصل على ما يريد منهم؛ فالصداقة إحدى المتع التي لن يدركها. كما لن يدرك السكينة الحقيقية أو الحرية لأنه عندما يتعثر سينقلب عليه أصدقاؤه الزائفون. ومثل المدينة التي يحكمها، تمتلئ روح الطاغية «بالعبودية حيث تخضع الأجزاء الدنيا من نفسه لسيادة جزء صغير هو الأكثر جنونا وشرا.» ويستمر سقراط في طرح التشبيهات المفعمة بالإيحاءات والأمثلة المقبولة على نطاق واسع؛ فيصور روح الطاغية على أنها بالضرورة فقيرة خائفة مضطربة بائسة. حيث يقول سقراط:

إن الطاغية بعيد عن تحقيق أدنى إشباع لرغباته؛ فهو فقير بحق لأنه في حاجة مستمرة لمعظم اللذات. وذلك يتضح من مراقبة روح الطاغية من جوانبها كافة. وطوال حياته سيملؤه الرعب والاضطراب والألم، ما دام حاله في الحقيقة يشبه حال المدينة التي يحكمها.

إن مشكلة الطاغية الأساسية أن «فساده في صميم روحه»؛ فهو يخضع لحكم أسوأ جزء من نفسه، ومن ثم يصبح تعيسا تماما. أما الفئة الأسعد من البشر فهم على النقيض من ذلك تماما؛ حيث يحكمهم الجزء الأفضل في أنفسهم وهو العقل. وهكذا نصل إلى المفهوم الكامل للعدالة أو الصواب وهو الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول الحياة السليمة. فبالنسبة للأفراد يكمن الحل في تناغم أجزاء الروح؛ أي أنواع الرغبات. فالحرص على إخضاع الرغبة في الشرف والمال والجنس وغيرها لسيطرة العقل يمنح الإنسان حياة سعيدة وسليمة (على الأقل بالنسبة لمن تتوافر لديه شروط السعادة). وعلى صعيد المدن، تكمن العدالة والسعادة في التنظيم المتناغم بين قطاعات المجتمع الذي يحكمه العقل أيضا - وتتمثل تلك القطاعات في طالبي المال وطالبي الشرف وطالبي المعرفة وغيرهم - وهي قطاعات تقابل بدورها أجزاء الروح. ويمكننا الآن أن نقع على العيب في فساد ثراسيماخوس الأخلاقي وعدم التزامه بالقوانين عندما ننظر للأمر برمته. فنحن نرى ما يؤدي إليه سلوكه في النهاية وكيف أن أسلوب حياته أو نظام الحكم الذي يدافع عنه بعيد تماما عن أن يكون الأكثر تحقيقا للسعادة. لذا يحقق سقراط في النهاية انتصارا لم يحالفه في بداية «الجمهورية» عندما حاول الرد على أفكار ثراسيماخوس مباشرة.

ولكي يصل بفكرته الرئيسة إلى ذلك الانتصار، يضيف سقراط نقطتين أخريين في صالح أطروحته؛ أولا: ماذا يقال لطالب المال أو طالب الشرف أو حتى الطاغية الفاسد المنغمس في الملذات الذي ينكر وجود أي حياة أفضل من حياته؟ سيصر أرباب كل لذة على أنها الأكثر إشباعا لرغباتهم. وهنا يوضح سقراط أن الوحيد الذي يمكنه الحكم على المتع المختلفة هو من جربها كلها. وهذا الشخص - وفقا لسقراط - هو الملك الفيلسوف الذي خاض كل هذه الأمور ليصل إلى ما وصل إليه؛ فسيتذكر مثلا من طفولته الخضوع للرغبات الدنيا. كما أن تجربته في الحياة ستصقلها ملكة العقل. وستمنحه دراسة الحجاج أفضل موضع لتقييم البراهين. لذا فعندما يخبرنا الملك الفيلسوف أن المتع العقلية هي الفضلى، فعلينا أن نسلم بذلك.

أما النقطة الثانية فهي مسألة يؤسس بها سقراط حجته. فالمتع المستمدة من الأمور الدنيا لا يمكن أن تحقق الإشباع في النهاية لأنها غير ثابتة في جوهرها ومن ثم فهي وهمية. فهي «متع ممزوجة بالألم، وهي مجرد صور غير أصيلة وظلال للمتع الحقيقية»:

إن من تنقصهم الخبرة بالعقل والفضيلة، من ينشغلون بالولائم وغيرها لا يتذوقون أبدا أي متعة ثابتة أو نقية. فهم يحنون رءوسهم كالأنعام وينكبون على موائد الطعام ويسمنون ويزنون. ولكي يتفوقوا على الآخرين في تلك الأشياء فإنهم يناطحونهم ويركلونهم فيقتلون بعضهم البعض لأن رغباتهم لا يمكن إشباعها؛ فالأمر أشبه بملء وعاء مثقوب.

Unknown page